أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع فاتحة سورة إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد درسنا البارحة آية أو آيتين، والليلة -إن شاء الله- نكمل هذه المقطوعة من هذه الآيات، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله نسأل أن يفتح علينا، وأن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:1-5].
مِنَ الظُّلُمَاتِ [إبراهيم:1] أي: ظلمات الكفر والشرك والمعاصي. إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1]: الإيمان والتوحيد، وعبادة الله بما شرع.
وقوله تعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إبراهيم:1] إذ ليس في استطاعة الرسول أن يخرج أحداً من ظلمات الكفر إلى الإيمان؛ لأنه لا يملك ذلك، وإنما هو مأمور بالبلاغ، بالتذكير، بالدعوة، أما الأمر فيرجع إلى الله، هو الذي يخرج من يشاء من ظلمات الكفر والشرك إلى أنوار الإيمان والتوحيد، وهذا مبني على حكمة عالية، فالله أعلم بمن هو متهيئ مستعد لأن يدخل في الإسلام، وبمن هو متمرد بعيد يكفر ويجحد، ففيه التفويض إلى الله عز وجل.
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1]،الصراط: الطريق، وصراط من هذا؟ صِرَاطِ الْعَزِيزِ [إبراهيم:1]، من هو العزيز؟ أليس الله؟ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1]، من هو المحمود؟ أليس الله؟
فإن قال لك قائل: ما هذا الصراط؟ فقل له: إنه الإسلام، من سلك هذا الطريق نجا من عذاب النار، وفاز بدخول الجنة دار الأبرار، وقد أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى هذا الطريق في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ألا وهو الإسلام، فالإسلام دين الله الحق، لا يقبل الله ديناً سواه.
فإن قلت: لم؟ فالجواب: أما قال: ويل للكافرين أم لا؟ فالكافرون غير المؤمنين، فالكافرون نفوسهم خبيثة منتنة عفنة؛ لأنها تأثرت بأوضار الشرك والكفر والمعاصي.
إذاً: أرواحهم خبيثة لا يتلاءم معها دخول الجنة أبداً، أما أرواح المؤمنين والمؤمنات الطيبة الطاهرة الزكية فقد تزكت وطابت وطهرت بالإيمان وصالح الأعمال، مع بعدها عن الشرك والمعاصي والضلال، فهذه الأرواح الزكية هي التي تدخل الجنة.
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [إبراهيم:3] عرفنا هذه وتأثرنا غاية التأثر، وقلنا: يجب أن نعمل ما استطعنا ألا نحب الدنيا، وألا نتكالب عليها، وألا نبيع ديننا من أجلها، وألا نبيع شرفنا ومروءتنا من أجلها؛ إذ ذم تعالى -بل توعد بالنار والعذاب الشديد- الذين يستحبون الحياة الدنيا، فهذا الاستحباب للحياة الدنيا يغفلهم تمام الإغفال عن الآخرة، فما يطلبون الطريق إليها، ولا يسألون عن الوسائل المؤدية إليها؛ لانشغال قلوبهم بالدنيا.
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [إبراهيم:3] قل له: الخمر حرام بيعها. يقول: أيش فيه لأجل المادة! تقول: الربا حرام. يقول: أيش فيه حرام هذا؟! حلاق يحلق لحى الرجال تقول له: لا يجوز لك يا عم أن تحلق وجوه الفحول. فيقول: أيش فيه؟! هذه مظاهر استحباب الحياة الدنيا أم لا؟ ما يريد الآخرة ولا يبحث عن الطريق الموصل إليها.
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [إبراهيم:3]، لو أحبوا الآخرة لأصبحوا يبحثون عن كل قول أو عمل يوصل إليها، ويسألون العلماء، ويرحلون من بلد إلى بلد: ما الطريق الموصل إلى الجنة؟ كيف نصل إليها؟ ما هي العوامل؟ ما هي الأسباب؟ فيقولون لهم: آمنوا واعملوا الصالحات، وتخلوا وابتعدوا عن الشرك والمعاصي.
وسر ذلك أن الإيمان والعمل الصالح يزكيان النفس ويطهرانها، والشرك والمعاصي يخبثان النفس ويلوثانها، الماء والصابون تطهر بهما الأبدان والثياب أم لا؟ القيح والوسخ والبول تتنجس بها الثياب أم لا؟ هذه الحقيقة: الإيمان والعمل الصالح لأجل تطهير القلوب وتزكية النفوس، والشرك والمعاصي من أجل تخبيث النفوس وتلويثها، كالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، سنة الله التي لا تتبدل.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]، والمراد من اللسان: المنطق والكلام الذي يتكلمون به.
لماذا يا رب؟! قال: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، ليبين لهم الطريق الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، والطريق المشقي المخسر للدنيا والآخرة، هذه مهمته أم لا؟ ما مهمة هذا الرسول؟ لماذا جاء؟ ما المراد من مجيئه؟ من أجل أن يبين للناس طريق سعادتهم وطريق شقائهم، ويحثهم ويحضهم على سلوك طريق السعادة، وينهاهم ويحذرهم من طريق الشقاوة والخسران.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، وبعد ذلك فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم:4]، لا يوجد من يملك لنفسه الهداية أو يملك الكفر والضلال، سلطة الله وسلطانه فوق كل سلطة وسلطان، ولكنها الأسباب، فأنت إذا رغبت في الخير وسلكت طريقه فزت به، وهذا رغب عن طريق الخير ورغب في طريق الشر وسلكه ينتهي به إلى الشر، والمدبر الله.
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم:4] إضلاله، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم:4] هدايته، والسؤال: من هو الذي يشاء الله هدايته؟ أمي أم أبي؟! الجواب: من أراد الهداية وقرع بابها وطلبها هو الذي يشاء الله هدايته، ومن أراد الضلال ورغب فيه ومشى في طريقه وأعرض عن الإيمان والعمل الصالح فهذا الذي يشاء الله إضلاله، اعلم هذا هكذا يقيناً.
فقال تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ [إبراهيم:4] والقوي والقاهر والقادر على كل شيء يريده من هداية أو ضلال، وهو الْحَكِيمُ [إبراهيم:4]، من هو الحكيم؟ بيننا حكماء أم لا؟ كلنا نريد أن نكون حكماء، الحكيم: هو الذي يضع الشيء في موضعه، وغيره أحمق وجاهل وضال، هذا المجلس مجلس طلب العلم، فلو أدخلت أصبعك في أذنك تغني فهل هذا وضع الشيء في موضعه؟ خطأ، هذا موضع لطلب العلم، تتزحزح هكذا وتقول: دعوني أنام، وضعت النوم في غير موضعه، الشارع العمومي والخصوصي لممر الناس تجلس أنت فيه وتفرش فراشك وتبقى والناس يمرون! هل هذا مكان جلوس؟ ما أنت بحكيم.
إذاً: وأعلى من ذلك أنك أوتيت سمعاً وهبك الله إياه، فمن الحكمة ألا تسمع به إلا ما يرضي الله؛ فلهذا لا نسمع أغاني الباطل، ولا كلام السوء، ولا المنكر، ولا الفواحش أبداً، ولا غيبة ونميمة؛ لأننا مأمورون بأن نسمع ما يرضي ربنا، لا نسمع ما هو ساخط عليه.
وقل هذا في بصرك: نعمة الله عليك، هل تصرفها في مساخطه؟ تتعمد النظر إلى النساء للفاحشة؟ إذاً: خنت الله أم لا؟ هل أعطاك البصر لهذا الغرض؟ لا والله! بل لتبصر الطريق ولتبصر الكتاب، ولتعرف الله عز وجل بآياته في الكون، وهكذا يدك ورجلك وفرجك.
فالحكيم عندنا: من يضع الشيء في موضعه، فالله جل جلاله الحكيم، يدخل النار من هم أهل لها، ويدخل الجنة من هم أهل لها، يدخل الجنة أهل الإيمان وصالح الأعمال، ويدخل النار أهل الكفر والشرك وسيء الأعمال، أليس هو الحكيم؟ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم:4].
فإن قالوا: نشك أن يكون رسولاً، قلنا: تعالوا نريكم، آياته أكثر وضوحاً من الشمس على أنه رسول الله، وأعظمها كتاب الله، على من أنزله؟ على فاطمة ؟ على خديجة ؟ على من أنزله؟ دلونا، والله ما يستطيعون أن يقولوا: على فلان إلا على محمد، إذاً: هو رسول الله! فكيف لا يكون رسول الله؟
وهذه سنته تعالى في خلقه، يرسل الرسول إلى القوم ليعلمهم ما ينفعهم وما يضرهم، ويدعوهم بالترغيب والترهيب إلى فعل ما ينفع وترك ما يضر؛ فقط لأنهم عبيده عز وجل، وهو العزيز الحكيم، يريد أن يسعدهم بالأسباب التي وضعها للسعادة.
الجواب: علم الله عز وجل أنه سيكون ولد من هذه المؤمنة رسولاً، وهي أم موسى، وكان فرعون ورجال دولته اتخذوا قراراً عجباً، ما هذا القرار؟ أن كل امرأة من بني إسرائيل تلد ذكراً يجب أن يذبح، وإن ولدت أنثى لا تذبح، اتركوها للعمل والخدمة! فلماذا هذا القرار القاسي؟
إن رجال السحر والتدجيل أو السياسة المادية الهابطة قالوا له: إن ملكك -يا فرعون- سيزول على أيدي بني إسرائيل، فقال: إذاً: هيا بنا نقضي عليهم، لن نقتلهم وهم ستمائة ألف، ولكن نتخذ الحيطة من الآن، فإذا ولد ذكر يذبح، يا أطباء مستشفى الولادة! ليكن عندكم علم، ويجب على كل مواطن أن يبلغ رسمياً في البلدية أن امرأته حبلى، وتاريخ ولادتها كذا وكذا، فمضت سنوات وهو يذبح، فقام رجال الدنيا والسياسة فقالوا: هذه الطريق تفقدنا اليد العاملة، والبلاد تعيش على العمل، زراعة وفلاحة وصناعة، فماذا نصنع؟ قالوا: نذبح سنة ونبقي سنة، وشاء الله المدبر الحكيم أن السنة التي لا يقتل فيها الأولاد ولد فيها هارون أخو موسى، ولد في سنة العفو التي لا ذبح للأولاد فيها، فالسنة التي فيها الذبح كانت تحمل موسى، فأوحى الله تعالى إليها، أي: علمها بما شاء أن يعلمها، ألقي في روعها وهتف بها هاتف أنها إذا ولدته تجعله في صندوق، وتلقيه في اليم في النيل، وبالفعل أعدوا الصندوق خفية، ما إن وضعت ولدها وخرج من بطنها حتى وضعوه في الصندوق، وقالت لأخته: ارميه في النيل، وأصبح يتقلب في النيل، حتى انتهى إلى حديقة بنات فرعون أو أزواجه، فعثروا عليه، فأخذوه، ما إن فتحوه وشاهدوا وجهه حتى امتلأت قلوبهم بحبه، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39]، ما إن ينظر إليه الرجل أو المرأة حتى يكاد يدخله في قلبه، من فعل هذا؟ الله جل جلاله.
وكان في أسبوعه الأول ويومه الأول، فقالوا: من يرضعه؟ يأتون بنساء الأغنياء النظيفات المتطيبات فما يقبل ثدي امرأة! يصرخ فقط ويبكي.
والدته عليها السلام قالت لأخته: تتبعي آثار أخيك لعلك تعثرين عليه، من باب الخفية والسرية الكاملة، فسمعتهم يقولون: من هي المرضع التي يمكن أن ترضع هذا الولد؟ فقالت أخته: أنا أدلكم على من يرضعه لكم، سبحان الله؟! فجاءوا بأمه، ما إن رآها حتى علق بثديها، فقالت: اجعلوا لنا مقابلَ كذا في الشهر، فأكرمها الله بولدها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
الشاهد في قولهم: موشي، أي: موسى، (مو) أي: الماء، (شي): الشجر، وسمي بذلك موسى فصيحاً بالعربية موسى، وباللغة العبرية: موشي.
هذه الآيات وهبها الله موسى وهي تسع آيات، كل واحدة تقول: لا إله إلا الله، موسى رسول الله، كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ [الأعراف:133] أصابهم الله بفيضان كاد يغرقهم هم ومزارعهم وأعمالهم، هيا توبوا ليرفع الله هذا البلاء، قالوا: تبنا، رفع الله الطوفان، وبعد مدة يطالبهم موسى بأن يرسلوا معه بني إسرائيل بنسائهم وأطفالهم ليذهب بهم إلى أرض بيت المقدس ولا يبقوا في دار الكفر والشرك، فقال: هيا أرسلوا معي بني إسرائيل؟ قالوا: لا! إذاً: الجراد، فما ترك الجراد عندهم ورقة من شجرة ولا ثمرة، أعظم آية! هيا توبوا، قالوا: نتوب، ورفع الله هذا البلاء، ومضت مدة، ثم مضى فطلب أن يرسلوا بني إسرائيل وإذا بهم يقولون: لا! كيف نرسل معك بني إسرائيل؟ هات آية.
فابتلاهم الله تعالى بالقمل في شعر أعينهم، في آذانهم، في صدورهم، في كل أجسامهم كالنمل، فبكوا وقالوا: يا موسى! ادع ربك يرفع عنا هذا. قال: وتؤمنون وتستجيبون؟ قالوا: نعم، فدفع الله عنهم القمل.
ثم بعد مدة سلط عليهم الضفادع، هذه الضفادع -كما تعرفونها- كانت تزحف في بلادهم في ديارهم في أموالهم، على رءوسهم، فقالوا: تبنا، فرفع الله ذلك عنهم.
ثم سلط عليهم الدم، ثبت أن المرأة القبطية كانت تقول للإسرائيلية: صبي الماء من فمك إلى فمي، فحين تفرغه في فمها ينقلب إلى دم، كيف يعيشون على الدم؟ فبكوا وصرخوا: تبنا، فرفع الله عز وجل ذلك عنهم.
ثم كان الطمس، طمس الله على أموالهم فتحولت إلى حجارة، لا ذهب ولا فضة، فما استجابوا، وأعظم هذه الآيات: العصا واليد، عصا موسى، وهذه العصا لها تاريخ، قيل: إنها من عهد آدم، والزمان ما هو بطويل كثير، كانت تتنقل من يد رسول إلى رسول، هذه العصا حين يجتمع الحفل بكامله وموسى ومن معه هنا والباقي من الأقباط الكفار يلقي موسى عصاه بين أيديهم، فتتحول إلى عفريت إلى جان تهتز، وهي عصا! تتحول إلى ثعبان وحية تهتز كأنها جان، فيصرخ الناس ويفرون، وما استجابوا.
وكذلك اليد، يدخل موسى يده في جيبه في الحفل العظيم؛ لأنها مناظرات بين الخصوم، فيخرجها بيضاء -والله- كفلقة قمر، هذه الآيات كلها وما استجابوا، إلا من رحم الله تعالى.
إذا:ً فأراد الله أن يعودوا إلى ديارهم ديار بيت المقدس، فطالب موسى فرعون بأن يرسلهم معه، قال: هات الآيات. فأعطاه الآيات فما استجاب، وأعظم آية هي الغرق، إذ خرج فرعون بمائة ألف فارس فغرقوا أجمعين في بحر ضربه موسى بعصاه فانفلق فلقتين، أرض يابسة لأول مرة في التاريخ تشاهدها الشمس! فمشى بنو إسرائيل الستمائة ألف من نساء وأطفال ورجال، وبهائم وما عندهم، فلما تجاوزوا البحر جاء فرعون بجيشه ودخل، لما توغلوا في وسطه وأصبحوا لا يستطيعون الهروب إلى الوراء ولا التقدم إلى الأمام أطبق الله عليهم البحر فغرقوا أجمعين، آية من أعظم الآيات.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا [إبراهيم:5] لماذا؟ من أجل ماذا؟ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ [إبراهيم:5] يا موسى مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:5]، أي: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، من ظلمات الفقر والخزي إلى أنوار العلم والمعرفة والسيادة والكمال.
أصبحنا الآن نعرف الفرق بين النور والظلمة، كل كفر ظلم، كل المعاصي والذنوب ظلم، كل عمل صالح نور.
وهذا يتناولنا واحداً واحداً، يجب على كل منا أن يذكر أيام الله عليه، من كان في خير وراحة وسعادة ثم انقلبت إلى تعب وشقاء يذكر هذا، من كان في شقاء وتعاسة وتعب فانتقل إلى خير وسعادة يجب أن يذكر هذه الأيام؛ لماذا؟ لأنه إذا ذكر شكر، وإذا ذكر صبر، أما أن نعيش كالبهائم ما نفكر، فنعوذ بالله من تلك الحال، لا بد أن نتذكر أيامنا وما أصابنا فيها، فنرد ذلك إلى الله، إما أن نشكر وإما أن نصبر.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5]، الصبار: كثير الصبر، والشكور: كثير الشكر، ما يكفيك الصبر الخفيف، ولا الشكر القليل، كن صباراً شكوراً، والصبر له مواطن ثلاثة:
الموطن الأول: صبر على طاعة الله، أي: بفعل ما أمر الله بفعله، وقول ما أمر الله بقوله، فعل الطاعات.
الموطن الثاني: صبر عن المعاصي والآثام والذنوب، صبر عنها: ما أتاها ولا غشيها ولا ارتكبها، مع أن نفسه تدفعه، والعوامل تطارده بذلك الحرام وهو صابر.
الموطن الثالث: الصبر على البلاء، إذا أراد الله أن يمتحنك، الآن تعرفون امتحان الطلاب واختبارهم فهم يستعدون، فما منا -والله- أحد إلا يختبر ويبتلى، فحينئذ إذا ابتلاه بالنعمة يجب أن يشكر الله الليل والنهار، ينفق في سبيل الله، يبذل جهده في سبيل الله، حتى نعمة السمع يعمل بها لوجه الله.
وإذا ابتلاه بالفقر بالمرض هنا يجب أن يصبر ولا يجزع ولا يغضب ولا يسخط، ولا يقل: الله أصابني بكذا أبداً، بل يقول دائماً: الحمد لله، أنا بخير. فأهل هاتين الصفتين هم أهل الخير أهل السعادة والكمال: الصبر والشكر.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ [إبراهيم:5] لمن؟ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5]، أما من كان غير صبار وغير شكور فما يشاهد آية ولا يعرف شيئاً.
معاشر المستمعين والمستمعات! نحن مبتلون، أحياناً بلاء بالشر وأحياناً بلاء بالخير، يجب إذا كان الشر أن نصبر، لا نظهر الجزع ولا السخط على الله أبداً، وإذا كانت البلية خيراً ونعمة وصحة وعافية فيجب أن نشكر الله عز وجل، ويتجلى الشكر في قولنا، في عملنا، في تفكيرنا، في كل حياتنا، وهذا سبيل النجاة والفوز: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5]، أما من ليس بصبار فما يشاهد شيئاً، ولا يعرف آية مما سمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر