أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة إبراهيم الخليل عليه السلام، والسورة مكية، أي: نزلت بمكة، وقد علمتم أن السور القرآنية التي نزلت بمكة تعالج العقيدة بأعظم أركانها: التوحيد والنبوة والبعث الآخر، وسوف تشاهدون هذا من خلال الآيات:
أولاً: إثبات أنه لا إله إلا الله، أي: لا يوجد في الكون من يستحق أن يعبد إلا واحد، ألا وهو الله؛ فيجب أن يعبد، فمن عبده نجا، ومن أعرض عن عبادته هلك في الدنيا والآخرة.
ثانياً: إثبات النبوة لمحمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، وأنه رسول الله حقاً وصدقاً، والآيات نزلت عليه، فكيف لا يكون رسولاً صلى الله عليه وسلم؟!
ثالثاً: إثبات البعث والحياة الثانية؛ لأنها ضرورية من أجل أن يتلقّى الناس جزاء عملهم في هذه الحياة، فهم يعملون ما بين كافر ومؤمن، وصالح وفاسد، وطاهر وخبيث، والجزاء ليس هنا أبداً، الجزاء في الدار الآخرة، فهذه دار عمل وتلك دار جزاء، فهي -إذاً- ضرورة لا بد منها، وهي موجودة، الجنة شاهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووطئها بأقدامه، والنار عرضت عليه في هذا المحراب، فشاهدها كعرض تلفاز، ولكنه أعظم؛ إذ لمَّا شاهد النار التهبت، فأشاح بوجهه هكذا، قبل أن يعرف الناس التلفاز والشاشة، شاهدها -والله العظيم- في ذاك المحراب وهو يصلي، عرضت عليه الجنة حتى هم أن يأخذ قطفاً من عنب، ثم عرضت عليه النار فأشاح بوجهه من لهبها، فقولوا: آمنا بالله.
الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:1-5].
الأمر الأول: أن يصرخ في وسط قومه وبين أقاربه وأباعده وأهل بلاده، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويبطل عبادة الأوثان، ويندد بها، ويسخر منها، وهذا الموقف، من يقفه سوى إبراهيم؟ وصدر حكم الدولة الكافرة في أرض بابل بإحراقه بالنار، صدر أمر الدولة الكافرة المضادة للتوحيد المحاربة له بأن يقتل إبراهيم إحراقاً في النار.
وبالفعل جمعوا الحطب وأججوا النار أربعين يوماً، ثم وضعوه في منجنيق، ورموه به من بعيد؛ لأنهم لا يستطيعون القرب من هذه النار الملتهبة.
واللطيفة هنا: أنه عرض له جبريل وهو في تلك المسافة ما بين المنجنيق والنار: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ قال: أما إليك فلا. ومن ثم صدر أمر الله عز وجل إلى النار، والنار مخلوقة تنطق وتفهم عن الله عز وجل، فقال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فامتثلت وبردت، وكلمة (سلاماً) ملاحظة، فلو قال لها: كوني برداً لتحولت إلى ثلوج يموت بها إبراهيم، لكن بقيد السلامة، فكان جبينه يتفصد عرقاً، وما أحرقت النار إلا الكتاف الذي في يديه ورجليه فقط، أما جسمه فما مسته، هذه الكلمة الأولى.
الثانية: هجرته وخروجه بزوجه وابن أخيه من تلك الديار، إلى أين يذهبون؟ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فاتجه غرباً نحو الشام وفلسطين ومصر، فهذه الهجرة من أفضل الأعمال وأعظمها إلى اليوم، ما رضي أن يبقى مع الكفر والكافرين يمنعونه أن يعبد ربه، فاضطر إلى الهجرة فهاجر، فكانت هجرته أول هجرة في التاريخ البشري، هجرة إبراهيم من بلاد الكفر إلى أرض النجاة هي أول هجرة عرفتها البشرية، هذه كلمة من أروع الكلمات.
الثالثة: أمر الله تعالى له بأن يبني له بيتاً في واد من أودية الأرض ليس به إنسان ولا جان، يصدر أمر الله لإبراهيم أن يبني لله بيتاً، القبيلة كاملة تتعاون على بناء البيت في شركة منظمة، وإبراهيم يمشي إلى صحراء قاحلة في مكة ليس بها إنسان أبداً ويبني البيت! فبنى البيت.
الرابعة: ابتلاؤه بذبح إسماعيل، فهذه الابتلاءات بسببها فاز بلقب الإمامة، إذ قال الله تعالى عنه في هذا الشأن: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]؛ لأنه أب رحيم، فأراد أن يدخل أولاده معه في هذه الصفة الجليلة الجميلة.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، لا نعطيك عهداً بأن نجعل أبناءك أئمة مثلك؛ لأنهم سيظلمون، ويوجد فيهم الظالمون، فلا يستحقون الإمامة وهم ظالمون مشركون.
هذا إبراهيم الخليل عليه السلام، تعرفون أننا ما نصلي فريضة إلا ونصلي عليه، فنقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ما معنى: الر [إبراهيم:1]، الم [البقرة:1]، حم [غافر:1]، طس [النمل:1]، طسم [الشعراء:1] ؟
القول الذي يجب أن تعلمه وتثبت عليه: هو تفويض أمر معناها إلى الله، فتقول: الله أعلم بمراده من ذلك، هو أنزلها ويعلم لماذا أنزلها؟ يس [يس:1] ، طه [طه:1] ، ص [ص:1] ، الله أعلم بمراده بذلك؛ لأن هذا من المتشابه، والمتشابه يفوض أمر فهمه إلى الله عز وجل: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، وهذه الآية من سورة آل عمران يا أهل القرآن: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ [آل عمران:7] أي: من الكتاب، ومن القرآن آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].
فهذه الحروف إذا سئلت عن معناها فقل: الله أعلم بمراده، أو تعجز عن هذه الكلمة؟ ما معنى حم * عسق [الشورى:2]؟ ماذا تقول؟ الله أعلم بمراده، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فسرها لنا، ولا قال: معناها كذا وكذا، ولكن التفاسير محشوة بالأباطيل، فيها من يفسر اللام بكذا، والميم بكذا إلى أبعد الحدود، ولا قيمة لتلك التفاسير أبداً، والحق أن نقول: الله أعلم بمراده.
هذا الكتاب المعجز بالسورة مركب من هذه الحروف، ما هو من حروف سريانية أو بابلية أو فارسية فيقولوا: ما نستطيع؛ لأن هذه الحروف ليست حروف كلامنا! بل هي من كلامكم: المر [الرعد:1]، الم [البقرة:1]، و حم * عسق [الشورى:1-2]، هذه الحروف تنطقون بها، ومع هذا عجزتم، فقولوا: آمنا بالله ورسوله، فهو مركب -والله- من هذه الحروف، أوامر ونواه، قصص وأخبار، كلها بهذه الحروف العربية الهجائية التي يتكون منها القرآن، عجزتم فقولوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قولوا: آمنا بالله.
السر الثاني أو الحكمة الثانية: أنه صدر أمر من حاكم مكة في ذاك الوقت أبي سفيان -رضي الله عنه؛ إذ إنه أسلم وحسن إسلامه- مفاد هذا الأمر: أنه لا يسمح لمواطن أن يسمع القرآن، ومن ضبط يستمع إلى قراءة عمر أو أبي بكر أو محمد فإنه يضرب ويسجن ويعذب؛ لماذا؟ قالوا: من باب حماية معتقد الأمة حتى لا يفسد، وحتى لا يتمزق شملنا وننقسم إذاً: فممنوع سماع القرآن! كما قال تعالى عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، إذا قرأ القارئ بأعلى صوت، فصيحوا أنتم وضجوا بألفاظ متعددة؛ حتى ما يفهم كلامه، من باب الوقاية!
فكان من حكمة الله: أن أنزل قرابة ثمان وعشرين سورة مفتتحة بهذه الحروف التي ما علموا معناها أبداً، فكان أحدهم إذا سمع طسم [الشعراء:1] لأول مرة يسمع هذا الصوت فيصغي بأذنيه ويسمع: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الشعراء:2]. الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1]، فغلبوا، بل وكانوا يأتون بالليل في الظلام ليستمعوا القرآن من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته! مع أنهم أصدروا أمر المنع، ولكن ما صبروا، إذاً: هذا السر في هذه الحروف، وأما معناها فالله أعلم بمراده بها.
ولو درسنا القرآن وتتبعناه ما خرجت حادثة من حوادث الكون عن القرآن أبداً إلا وهي مذكورة مرموز إليها مشار إليها، كتاب عظيم، أهله الحافظون له، التالون له، العاملون بما فيه من أحكام وشرائع وعقائد هم أفضل الناس، بل هم أهل الله، أهل القرآن أهل الله!
فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم نساء ورجالاً يتنافسون في حفظ القرآن حتى حفظوه، والقرآن نور، والقرآن روح، وهل توجد هداية بدون نور؟ أسألكم بالله: هل الذي يمشي في الظلام يهتدي إلى مراده وحاجته؟ لا بد من الضوء ومن النور، القرآن نور، فوالله ما يهتدي السالكون إلى رضا الله وجنته وولايته إلا بالقرآن، فإن كفروا به وأعرضوا عنه وكذبوا به وتركوه؛ فوالله ما اهتدوا ولو بذلوا المستحيل في سوى ذلك.
ثانياً: القرآن روح، وهل تتم حياة بدون روح؟ أو هل توجد حياة بدون روح؟ لا في إنسان ولا حيوان أبداً، فمن هنا كان الكافرون بالقرآن المكذبون له أمواتاً وليسوا بأحياء، لا قيمة لحياتهم البهيمية عندهم، أموات ما حيوا، إذا آمنوا بكتاب الله وأقبلوا عليه وطبقوا ما فيه حيوا، ودليل هذا من كتاب الله، إذ جاء في سورة الشورى قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] سماه: روحا أم لا؟ لماذا؟ لأنه لا حياة بدونه، العرب قبل أن ينزل القرآن بينهم ويؤمنوا به، هل كانوا شيئاً؟ كانوا أذلاء مستعمَرين للشرق والغرب والجنوب والشمال، لا قيمة لهم ولا وزن، السفه والظلم والخبث والشرك والباطل والفساد والظلم غمرهم، وعم ديارهم، أموات، ما إن نزل القرآن، وآمنوا حتى أصبحوا سادة العالم، وفازوا بكمال وعزة ما عرفتها البشرية، هل القرآن يفعل هذا أم لا؟
وقد عرف هذا اليهود بنو عمنا عليهم لعائن الله، عرفوا أن القرآن روح ولا حياة بدونه، وأن القرآن نور ولا هداية بدونه، وشاهدوا ذلك بأعينهم في حياة أمة الإسلام ورفعتها وسيادتها ثلاثمائة سنة، قالوا: إذاً: هيا نعمل على إبعاد القرآن عن المسلمين؛ حتى يموتوا ويضلوا ولا يهتدوا، وتعاونوا وفعلوا، فإن قلت: ما الدليل يا شيخ؟! فاسأل كبار السن من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، فالقرآن لا يجتمعون عليه إلا على الميت، وأجيبوني: هل في بلادكم ثلاثة أو أربعة أو خمسة من الرجال والنساء يجتمعون على آية يدرسونها؟ الجواب: لا أبداً، قالوا: (تفسير القرآن صوابه خطأ)، إن فسرت وأصبت فأنت مخطئ آثم، (وخطؤه كفر)! إذا فسرت آية وأخطأت فأنت كافر، فألجموا المسلمين لا يتكلمون بالقرآن، هل فهمتم هذا معاشر المؤمنين؟!
وإلى الآن من هم الذين يجتمعون على سماع القرآن لتدبره وتأمله واستنباط الهداية منه والنور؟ ما عرفنا هذا بيننا إلا نادراً، ولكن على الميت نعم، يجتمعون على قراءة القرآن للموتى إلى الآن! هل أفاق المسلمون؟ ما أفاقوا؛ لأن السحر اليهودي مسيطر على العيون والقلوب!
إذ -والله- لو اجتمع أهل كل قرية وحي في بيوت ربهم من المغرب إلى العشاء فقط، يقرءون كتاب الله ويتدارسونه لتغيرت حال المسلمين بالكلية، وعادوا كما كانوا سادة الدنيا، ولا تسأل: كيف يتم ذلك؟! بمجرد أن يحيوا ويعلموا ويعرفوا الطريق لا تسأل كيف يصبحون قادة الدنيا وكيف يقهرون العالم!
اليهود يعرفون هذا، يكفينا الشاشات التلفازية والفيديو والعبث والصحف والأغاني، هذا هو وضع العالم الإسلامي حتى يبقى هكذا أو يموت نهائياً.
من الناس؟ ذرية آدم أبيضهم وأصفرهم، أولهم وآخرهم، هم الناس، لتخرج الناس من أين؟ أهم في قعر الأرض؟ في زوايا وسراديب؟ في سجون؟ لتخرج الناس من الظلمات، والظلمات: جمع ظلمة، وهي هنا متعددة: ظلمة الكفر، ظلمة الفسوق، ظلمة الفجور، ظلمة الاعتداء والظلم، ظلمة الشرك، ظلمة الباطل، ظلمة الخبث، ظلمة الفساد، كل هذه ظلمات والله العظيم! ولا يخرج منها أحد إلا بهذا النور الإلهي، وانظر، افتح عينيك على الكرة الأرضية على بلايين البشر فيها، انظر في أي بلد، في برلين أو في بلد آخر، أليس الظلم والخبث والشر والفساد والجهل والظلام مخيم عليهم ومغطيهم؟ من يخرجهم سوى القرآن الكريم؟ كفروا به وكذبوا وقالوا: ما نؤمن به فهلكوا وصاروا في ظلامهم.
والمسلمون من إندونيسيا إلى موريتانيا أعرضوا عن القرآن وما حكموه، وما اجتمعوا عليه ولا طبقوه، فهم في الظلم والخبث والشر والفساد، من ينكر هذا! أنصدق الناس ونكذب الله؟
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إبراهيم:1] ما هو استقلالاً بالقرآن أو بالرسول، لا بد أن يأذن الله، وقد أذن، ما أنزل القرآن ولا بعث الرسول إلا وهو إذن صريح في هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
والصراط: الطريق المعبد، وهو عن يمينه الأوامر، وعن شماله النواهي، فإذا استطعت أن تمشي مستقيماً لا تترك واجباً ولا تغشى محرماً؛ فطريقك هذا يصل بك إلى الجنة، أما الطرق والاختلافات والديانات المختلفة فهي سبل تدعو إلى الظلمة والجهل والنار، والعياذ بالله تعالى.
أيما قبيلة، أيما جماعة أرادوا أن يخرجوا من الظلمات إلى النور، فاستعملوا القرآن الكريم علماً وفهماً وعملاً، فوالله ليخرجن من الظلمات إلى النور، إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1] أي: إلى طريق العزيز، العزيز معناه: الغالب الذي لا يمانَع في شيء يريده، وهو الله، من هو الغالب الذي غلب كل المخلوقات وقهرها؟ الله. هو العزيز الذي لا يمانع في شيء يريده أبداً ولا يحول حائل دون مراده، الحميد لأفعاله الطيبة ورحماته العامة، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، مع العزة والقهر والغلبة والرحمة، وهذا هو الكمال والجلال.
إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [إبراهيم:1-2]، من يقول لنا: الإقليم الفلاني أو الكوكب الفلاني أو البحر الفلاني أو بني فلان شركاء مع الله شركاء، خلقوا وأوجدوا؟ من يرد على الله؟ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ [إبراهيم:2] من كائنات وموجودات وَمَا فِي الأَرْضِ [إبراهيم:2] من كائنات وموجودات، إذ هو خالقها، فكيف لا يكون مالكها؟ ما دام أنه خالقها فلم لا يكون مالكها؟ يملكها من خلقها، ما دام أنه مدبرها ومسيرها والقائم عليها فكيف لا يكون مالكها؟
من هم الكافرون؟ المكذبون. قالوا: ما نعترف بالقرآن أنه كلام الله، ما نعترف بأن محمداً رسول الله، ما نعترف بأن الإسلام دين كمال وسعادة نطبقه في حياتنا، وهم عامة الكافرين والمشركين، البيض كالسود على حد سواء، والكل مصيرهم -إذا لم ينقذهم الله بالإيمان الصحيح والدخول في الإسلام- مصيرهم عالم شقاء يخلدون فيه أبداً، والله ما يخرجون، يعذبون بأنواع العذاب الذي تقشعر منه الجلود، وتذرف العيون الدموع، كما قال تعالى: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:48-49]، طعامهم الزقوم، شرابهم الحميم، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50]، أجسامهم كالجبال الرفيعة العالية تأكلها النار وتحرقها، ما تفنى أبداً: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
ويل للكافرين بالقرآن ومن نزل عليه، بالإسلام وما يهدي إليه، ويل لهم من عذاب شديد، عذاب قاس قوي شديد ألا وهو عذاب الآخرة، أما عذاب الدنيا وإن كان قتلاً وإن كان جوعاً، وإن كان وإن كان؛ فما هو بشيء؛ لأن له مدة محدودة وينتهي، لكن العذاب الشديد هو عذاب العالم الثاني الدار الآخرة.
وأنتم تعرفون أن القبر هو الخطوة الأولى، بمجرد ما يقبر الآدمي ينتقل إلى عالم الشقاء أو إلى عالم السعادة، القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [إبراهيم:3] يستحبون الدنيا والمال والوظيفة والمنصب والسيارة والأكل، هذه مهمتهم، أليس كذلك؟ ما معنى استحباب الحياة الدنيا؟ استحبوها: طلبوها أحبوها، يعملون ليل نهار من أجل الحياة الدنيا، والآخرة ناسون لها، غافلون عنها، معرضون تمام الإعراض، يعملون الليل والنهار في المصانع في المكاتب في السماء في الأرض، لا هم لهم إلا الحياة الدنيا، استحبوها وأحبوها.
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [إبراهيم:3]، لو عدلت بين الدنيا والآخرة فعملت أربع ساعات للدنيا، وأربع ساعات للآخرة فأنت عادل، والمفروض أن تعمل كل ما تعمل للآخرة؛ لبقائها وخلدها، ولفناء هذه وزوالها، لكن كونك كلما تسأل وكلما تتكلم وكلما تأكل وكلما تأتي وتذهب من أجل الدنيا تكون بذلك قد استحببتها وغفلت عن الآخرة نهائياً ولم تفكر فيها، فهذه الآية قد تتناولنا واحداً واحداً إلا من نجى الله وسلم.
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [إبراهيم:3] أولاً.
ثانياً: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [إبراهيم:3] أنفسهم، فلا يريدونها أن تعبد الله ولا تستقيم، فلا تحل ما أحل الله ولا تحرم ما حرم الله، ويصدون غيرهم أيضاً إما بالحديد والنار، أو بالكذب والدعاوى والأباطيل باللسان.
ثالثاً: وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا [إبراهيم:3] يبغون سبيل الله معوجة، تحل لهم الربا والزنا والقمار واللهو والباطل، تحل لهم حلق لحاهم، تحل لهم كشف وجوه نسائهم، يريدون أن تكون سبيل الله حسب هواهم.
وَيَبْغُونَهَا [إبراهيم:3] معوجة كحالهم، لو فرض حاكم من الحكام الحجاب على النساء يصرخون ويصيحون: كيف؟ أليس هذا أمر الله؟! يقولون: ما نريد الحجاب، إذاً: ما تريدون إسلاماً في وضوح وصراحة!
نصدر حكماً بتطبيق أحكام الله القضائية على السارق والزاني، فيصيحون ويضجون ويكتبون في الصحف يريدون الإسلام أن يكون كما يشتهون! أواقع هذا أم لا؟ ما سبب وقوعه؟ سبب وقوعه الجهل، ما عرفوا الإسلام ولا تعلموه، ولا جلسوا في مجالس أهله، عاشوا على الباطل ودرسوا في الباطل، وتخرجوا من العلم الباطل، فهم هكذا يفهمون، وهكذا يقولون، من إندونيسيا إلى موريتانيا، إلا من رحم الله.
أولاً: لا نستحب الحياة الدنيا، بل نستحب الآخرة، نصوم ونقوم ونتصدق ونذكر الله ونبكي، ولا نبالي بأوساخ هذه الدنيا، نستحب الآخرة على الدنيا، أما أن نأكل ونشرب وننام ونستريح ونرفه أنفسنا ونروح عليها فقط، ونترك الآخرة فما نعمل لها عملاً؛ فوالله لقد استحببنا الدنيا على الآخرة.
ثانياً: لا نصد أنفسنا أبداً عن طاعة الله، تريد النفس أن تحملك على أن تشرب خمراً فقل لها: والله لا نشرب، تحملك على أن تتعامل بالربا فقل: والله لن نتعامل به، تحملك على أن تعق والديك فقل: والله لأبرنهما، تحملك على أن تجلس بعيداً عن الصالحين فقل: والله لا أجلس إلا معهم، تحملك على أن تجلس مع الفساق والفجار فقل: والله لا نجلس، وهكذا لا تسمح لها أن تصدك أنت عن سبيل الله.
ثانياً: لا تصد عن سبيل الله غيرك، أيما مؤمن على طاعة الله وعبادة الله لا تحاول أن تصرفه بالغش والخداع، وتنقله إلى الباطل وتفرض عليه الباطل، فإنك إن فعلت حينئذ فقد صددت عن سبيل الله.
ثالثاً: لا تبغي دين الله على هواك ومستواك، تريد أن يعوج كما تريد أنت، ما أحله الله فهو الحلال، وما حرمه الله فهو الحرام، ما أوجبه الله فهو الواجب، وما نهى عنه الله فهو المنهي عنه، لا قيمة للآداب والأخلاق ولا للنفسيات ولا للعلوم والمعارف.
وبذلك ننجو من الضلال البعيد الذي صاحبه لا يرجع إلى الهداية، الضلال يكون بعيداً ويكون قريباً، مثلنا لهذا غير ما مرة، أنت تريد أن تذهب إلى دمشق، فغلطت فاتجهت جنوباً، مشيت يومين أو ثلاثة أو أربعة ووصلت إلى جدة، قلت: أنا ذاهب إلى الشام! فقيل لك: أخطأت؛ الشام وراءك، فإن كانت المسافة سهلة فإنك ترجع وتستطيع، وإذا وصلت إلى البحر الهندي فكيف سترجع، ضلال بعيد، صاحبه لا يهتدي أبداً!
الضلال القريب كأن زلت القدم، فقلت باطلاً، فعلت محرماً، وتبت إلى الله من قريب، لكن إذا توغل في الزنا والربا والفجور والباطل والشرك والكفر فكيف يرجع؟ أنى له أن يرجع؟ لأن الضلال بعيد.
معاشر المستمعين! هيا ندعو الله تعالى أن يتوب علينا وعلى إخواننا المؤمنين والمؤمنات: اللهم تب علينا وعليهم، اللهم تب علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة، واهدنا وإياهم صراطك المستقيم، وأبعد عن ديارنا وبلادنا الظلمة والفسقة والفاجرين يا رب العالمين، واشف مرضانا ومرضى المؤمنين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر