وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.
وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:45-50].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنين! يقول ربنا جل ذكره: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل:45]، من أمنهم؟ من أعطاهم صكاً أن الله لا يعذبهم؟
سبحان الله! كيف يفسقون عن أمر الله ويخرجون عن طاعته ويعبدون غيره من مخلوقاته ويأمنون، ولا يخافون عذاب الله عز وجل؟
ما الذي يؤمنهم وهم مربوبون مخلوقون؟
ما الذي يؤمنهم وقد علموا -بما سمعوا أو شاهدوا- عذاب الله في الأمم والشعوب والأفراد والجماعات، فكيف يأمنون مكر الله ويفعلون السيئات؟
أولاً: مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، إذ تآمروا على قتله وبعثوا رجالهم إلى منزله وطوقوه ليلاً ونهاراً ليقتلوه، ووضعوا فوق ظهره سلا جزور وهو يصلي حول الكعبة، فجاء عقبة بن أبي معيط -عليه لعائن الله- بسلا بعير من عند الصفا فوضعه بين كتفي رسول الله وهو ساجد، وجاءت الزهراء رضي الله عنها وهي طفلة صغيرة فأزالته عن كتف والدها.
وعذبوا بلالاً ، عذبوا عماراً ، عذبوا صهيباً ، عذبوا سمية ، وشردوا وطردوا.
والاستفهام في قوله تعالى: أَفَأَمِنَ للتهديد والوعيد. أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ [النحل:45] تتزلزل، وتدور أجسامهم تحت الأرض حتى يستقروا فيها، فمن يمنعهم؟ من يدفع عنهم؟ من يقوى على أن يصرف عنهم الخسف لو أراده الله بهم؟
دائماً نقول: الحيوانات على اختلاف أنواعها فيها الطيب وفيها الخبيث، فيها الصالح وفيها الفاسد، ولكن المشركين والكافرين شر من تلك الحيوانات الخبيثة، وذلك لقول الله تعالى في سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:6] يعني: اليهود والنصارى والمشركين من العرب وغيرهم.
فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] من المخبر؟ أليس الله الذي أخبر بأنهم شر الخليقة؟
الجواب: بلى. والبرية والبريئة: الخليقة.
أيخلقك ويرزقك ويحفظك ويخلق الحياة هذه كلها من أجلك ثم تعرض عنه وتدبر ولا تلتفت إليه، بل وتقف ضد دعوته تحاربها وتصرف الناس عنها حتى لا يعبد الله؟!
أية جريمة أعظم من هذه الجريمة؟ فالآيات تحمل تهديداً ووعيداً.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النحل:46] أيعجزون الله عز وجل؟ أيغلبونه؟ مستحيل.
فالآيات تحمل تهديداً ووعيداً عجباً، ولهذا زلزلت قلوب عدد من المشركين فآمنوا بالله ودخلوا في دينه الإسلام؛ لأنهم كانوا يفهمون القرآن لا كما يفهمه العجم، لأن لسانهم ينطق به.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ [النحل:48] ذليلون حقيرون. فالكافر حين يمشي يكون ظله في الصباح من الشرق وفي المساء من الغرب، فظله ساجد في الأرض أحب أم كره.
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15] تسجد لله تعالى. فلم التكبر إذاً؟ ظلك ساجد خاضع وأنت تتكبر أن تسجد لله بين يديه قائلاً: الله أكبر؟!
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ [النحل:49] كل ما دب على الأرض هو دابة، سواء كان من ذوات الأربع أو الرجلين أو الطير، كل الخليقة تسجد لله.
وَالْمَلائِكَةُ [النحل:49] الأطهار الأصفياء، الذين في الأرض يسجدون والذين في السماء يسجدون لله عز وجل وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل:49]، الملائكة لا يستكبرون أبداً، جبريل على عظمته يخر ساجداً بين يدي الله، جبريل له ستمائة جناح، جبريل سد بجناحه الأفق بكامله، جبريل قلب مدينة سدوم وعمورة فجعل عاليها سافلها، ومع ذلك يسجد لله، وأنت أيها المسكين تتكبر؟ تأبى أن تدخل في الإسلام حتى لا تركع ولا تسجد! هذه الحقيقة: رفضوا الإسلام تكبراً حتى لا يركعوا ولا يسجدوا.
وفي جلسة كهذه في الروضة اهتزت الأرض تحت الجالسين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجرٌ رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار حتى انتهى الآن إلى قعرها )، وقال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط ) تأرجحت من الثقل، لم يا رسول الله؟ قال: ( لا يوجد فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد ).
هذا الخلق العظيم يسجد وأنت يا حامل الأوساخ في بطنك تتكبر ولا تسجد لله ولا تركع!
ما زال السياق في تخويف المشركين وتذكيرهم لعلهم يرجعون بالتوبة من الشرك والجحود للنبوة والبعث والجزاء.
قال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا [النحل:45] المكرات السَّيِّئَاتِ [النحل:45] من محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم والشرك والتكذيب بالنبوة والبعث وظلم المؤمنين وتعذيب بعضهم، أفأمنوا أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ [النحل:45] من تحتهم فيقرون في أعماقها.
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل:45] ولا يتوقعون من ريح عاصف تعصف بهم، أو وباء يشملهم، أو قحط يذهب بما لهم.
وقوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ [النحل:46] أي: في تجارتهم وأسفارهم ذاهبين أو آيبين من بلدٍ إلى بلد. فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النحل:46] له تعالى لو أراد أخذهم وإهلاكهم.
وقوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ [النحل:47] أي: تنقص بأن يهلكهم واحداً بعد واحد أو جماعة بعد جماعة حتى لا يبقى منهم أحداً، وقد أخذ منهم في بدر من أخذ وفي أحد من أخذ.
وقوله تعالى: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:47] تذكير لهم برأفته ورحمته؛ إذ لولاهما لأنزل بهم نقمته وأذاقهم عذابه بدون إنظار لتوبة أو إمهال لرجوع إلى الحق.
وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [النحل:48] من شجرٍ وجبل وإنسانٍ وحيوان، يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ [النحل:48] بالصباح والمساء عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [النحل:48] جمع شمال.
سُجَّدًا لِلَّهِ [النحل:48] خضعاً بظلالهم وَهُمْ دَاخِرُونَ [النحل:48] أي: صاغرون ذليلون.
أما يكفيهم ذلك دلالة على خضوعهم لله وذلتهم بين يديه، فيؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه فينجوا من عذابه ويفوزوا برحمته؟
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ [النحل:49] أي: ولله لا لغيره (يسجد) بمعنى: يخضع وينقاد لما يريده الله تعالى من إحياء أو إماتة أو صحة أو مرض أو خير أو غيره.
مِنْ دَابَّةٍ [النحل:49] أي: من كل ما يدب من الكائنات على هذه الأرض.
وَالْمَلائِكَةُ [النحل:49] على شرفهم يسجدون، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل:49] عن عبادة ربهم.
و يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] إذ هو العلي الأعلى وكل الخلق تحته.
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] فلا يعصون ربهم ما أمرهم.
إذا كان هذا حال الملائكة فما بال هؤلاء المشركين يلجون في الفساد والاستكبار والجحود والمكابرة وهم أحقر المخلوقات، وشر البريات إن بقوا على كفرهم وشركهم ] والعياذ بالله.
من هداية الآيات:
أولاً: حرمة الأمن من مكر الله ] لا يحل لمؤمن أن يعصي الله ويقول: أنا آمن من عذاب الله، فالله عز وجل قد يمهلك ولكن لا يهملك، فلا يأمن المؤمن العاقل مكر الله أبداً، إذ الأمن من مكره تعالى حرام ولا يحل، أما قال: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99] يوبخهم ويهددهم؟
[ ثانياً: كل شيء ساجد لله، أي: خاضع لما يريده منهم، إلا أن السجود الطوعي الاختياري هو الذي يثاب عليه العبد، أما الطاعة اللاإرادية فلا ثواب فيها ولا عقاب ].
قد يقول الكافر: أنا ظلي يسجد طول النهار، إذاً: أثاب على هذا. فيقال له: هذا السجود لا ثواب فيه؛ لأنه ليس بإرادي ولا اختياري ولكنه اضطراري.
[ ثالثاً: فضل السجود الطوعي الاختياري ] نعم. ما هناك أفضل من سجدة تسجدها لله، ما هناك عبادة أفضل من عبادة السجود.
[ رابعاً: مشروعية السجود عند هذه الآية، إذا قرأ القارئ أو سمع المستمع: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] عليه أن يسجد إن كان متطهراً إلى القبلة إن أمكن، ويسبح في السجود، ويكبر في الخفض والرفع ولا يسلم، ولا يسجد عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ].
فهنا: [ مشروعية السجود عند هذه الآية ] والآيات التي فيها السجود. [ إذا قرأ القارئ أو سمع المستمع ] الذي يستمع يسجد، أما السامع فقط فلا. إذا قرأ [ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] عليه أن يسجد إن كان متطهراً ] أي: على وضوء. [ إلى القبلة إن أمكن ] وإن لم يمكن فإلى غير القبلة. [ ويسبح في السجود، ويكبر في الخفض ] الله أكبر، [ والرفع : الله أكبر، [ ولا يسلم ، ولا يسجد عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ].
قال ابن جرير الطبري : المدينة تسمى طابة، وتسمى طيبة، وتسمى المسكينة، وتسمى حسنة أيضاً بنص كتاب الله عز وجل.
ففي ذلك الوقت ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الخروج لا على سبيل الإلزام، من أراد أن يخرج مع رسول الله فليخرج، إذ بلغه بصحة وصدق أن عير قريش خرجت من الشام متجهة إلى مكة تحمل سلعاً وبضائع عجيبة، وتجارة عظيمة، وقد كان المؤمنون في المدينة المهاجرون تركوا أموالهم بمكة وكل ما يملكون وجاءوا بأيديهم، من أخذ أموالهم وتسلط عليها؟ المشركون أصحاب هذه القافلة، إذاً: يجوز شرعاً أن نأخذ أموالنا من هذه القافلة، وجزاء سيئة سيئة، ما دام أنهم طردوهم من مكة وأخذوا أموالهم وقد أمكنهم الله من أن يأخذوا مالهم في رحلة كهذه فلا بأس.
ومن ثَمَّ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وخرج هو ورجاله، لكن لا على سبيل الإلزام، من شاء أن يخرج فليخرج، ومن شاء أن يقعد فليقعد، ومن هنا استنبط أن المندوب والمستحب في العبادات لا يأثم من تركه، وإن فعله أجر؛ لأنه مندوب فقط، ما هو بواجب، أما الواجب فإذا لم يستجب يعذب ويعاقب، والمستحب والمندوب ليس كذلك، دل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من شاء خرج، ومن شاء لم يخرج، فما خرج إلا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والمدينة فيها ألوف.
فمشوا ليلة سبع عشرة، هذه الليلة كانت ليلة المعركة، والأيام التي قبلها كان فيها تدابير تمت على أحسن ما يكون، ونزلوا بمكان أنزلهم الله به، وفي صبيحة يوم سبعة عشر التقى الجيشان.
ومن اللطائف أيضاً: أن أحد الأصحاب كان يأكل تمراً في يده، وقد خطبهم الرسول فقال: من يصبر على قتال هؤلاء ويثبت ولا يرجع ويموت يدخل الجنة، من يصبر على قتالهم ويثبت ولا يرجع ويتقهقر حتى يموت يدخل الجنة، هذا الصاحب قال: إلى متى أنتظر حتى أفرغ من أكل هذه التمرات؟ فرمى بها ودخل المعركة واستشهد ودخل الجنة.
وقصة صاحب العصا عكاشة بن محصن ، سيفه انقطع، فجاء يطلب سيفًا فما وجد إلا عصا، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم له ولعصاه بالبركة، ودخل يقاتل بها وانقلبت -والله- سيفاً، وتوارثه المؤمنون فترة من الزمن، هكذا كانت قصة عكاشة بن محصن .
ومن أحداث هذه الغزوة: التورية، لما كان الرسول مع رجاله ذاهبين إلى بدر لقوا أعرابيًا فسألوه: هل رأيت كذا وكذا؟ يسألونه عن العير وعن رجالها. فقال: أخبركم وتخبرونني، ممن أنتم؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( نحن من ماء ) فظن أول ما سمع أنها قبيلة اسمها ماء. وهو صلى الله عليه وسلم يعني: أصلنا من الماء، من المني، فهذه تورية محمودة؛ إذ لو قال: نحن من كذا فممكن أن يعلم قريشًا بأنه صلى الله عليه وسلم وجيشه يريدونهم.
من هذه اللطائف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ) وهو قائم رافع يديه إلى السماء يدعو الله عز وجل، يستغيث به ويستنجده حتى سقط رداؤه من على ظهره، فجاء أبو بكر فرده إليه وقال له: سينجزك الله ما وعدك. خفف عن نفسك يا رسول الله، سينجزك الله ما وعدك.
وما زال كذلك حتى قال صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر : ( هذا جبريل عليه السلام آخذ بعنان فرسه على ثناياه النقع ). واستجاب الله عز وجل له، وبعث معهم ألف ملك في صورة إنسان على فرسه يقاتلون معهم، قال تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:5-9] فاستغاثوا الله واستغاث لهم رسول الله فأيدهم بألف من الملائكة، إذ جيش المشركين كان ما بين الألف والتسعمائة بلا خلاف، وجيش الرسول والمؤمنين كان ثلاثمائة وأربعة عشر على عدة قوم طالوت الذين هزموا جالوت وجنوده.
إذاً: فنصرهم الله عز وجل، وقتل من المشركين سبعون صنديداً، وأسر منهم سبعون صنديداً.
ومن لطائف هذه الغزوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما التحمت الصفوف أخذ حفنة من الحصى وقال: شاهت الوجوه، ورماها فيهم، فما بقي منهم واحد إلا ودخل في عينه التراب، فأنزل الله تعالى بعد ذلك قوله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:17].
ومن أراد أن يعرف عن غزوة بدر فعليه بسورة الأنفال، الأنفال التي هي غنائم كسبوها في معركة بدر، فإن فيها الغزوة مفصلة مبينة من أولها إلى آخرها، والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم بما ندرس ونسمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر