أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.
وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [النحل:67-70].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه السورة عرفتم أنها تسمى سورة النحل؛ وذلك لذكر النحل فيها كما سمعتم أثناء ترتيل الآيات، وسميت كذلك بسورة النعم لكثرة ما ذكر تعالى من نعمه على عباده.
وكون هذا الطعام يتحول إلى لبن خالص سائغ للشاربين؛ يد من تفعل هذا؟ من يقدر على هذا؟ الزبل يتحول إلى لبن سائغ للشاربين، من يفعل هذا؟ الله، إذاً: لا إله إلا الله، والله الذي لا إله غيره لا يوجد من يستحق أن يعبد إلا الله؛ إذ هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، وإليه مصير ومرجع كل شيء، فلم يعرضون عنه ويتكبرون؟ ولا يركعون له ولا يسجدون؟ لم يجحدونه ويكذبون؟ لم يحاربون المؤمنين والمسلمين؟ والله ما ذلك إلا لضلالهم وفساد قلوبهم من جراء الشرك والكفر والعياذ بالله تعالى.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً تجتازون بها بحر الشرك والباطل إلى شاطئ التوحيد والحق، تأملوا فقط.
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا أي: خمراً وَرِزْقًا حَسَنًا أي: أن بعضها يؤكل رزقًا، وبعضها يصنع منه السكر أي: الخمر.
هذه نعمة من نعم الله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:67]، من خلق العنب يرحمكم الله؟ من أوجد فيه ذاك الحب وتلك الحلاوة وذلك الماء؟ أليس الله؟ هل هناك من يقول: اللات أو عيسى أو مريم ، أو عزير، أو فلان أو فلان؟ لا يقدر أحد أن يقول ذلك، فلم يبق إلا كلمة: الله خالق كل شيء، فيجب أن يُعبد هو ولا يعبد غيره، لم يعبدون الأولياء والقبور والصالحين؟ لم يعبدون عيسى بن مريم نبي الله ورسوله، وأمه العذراء البتول سيدة نساء العالم؟ يعبدونهما ويعلقون الصلبان في أعناقهم؛ لأنهم لا عقول لهم.
قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:67]، إن في ذلك الذي ذكرنا آية دالة على وجود الله وأنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا الذي نزل عليه هذا القرآن رسول الله، وأن البعث الآخر حق من أجل الجزاء على الكسب والعمل في هذه الحياة.
أول الآيات هي هذه المكية التي يمتن الله علينا فيها بهذه النعمة فيقول عز وجل: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ [النحل:67] أي: من التمر والعنب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا أي: خمراً، وَرِزْقًا حَسَنًا تأكلونه، هذا امتنان بنعمة من نعمه على عباده، فلنقل: الحمد لله ولا نعبد إلا الله.
ثم آية النساء وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، كان أحدهم إذا شرب الخمر وسكر يدخل يصلي فما يعرف كيف يصلي، فحرم الله عليهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، إذاً فلا بد أن يبتعدوا عنها في الأوقات التي فيها صلاة، فيشربون الخمر بعد صلاة الصبح، ويشربونها بعد العشاء، أما أوقات الصلاة فلا يجوز ذلك.
وبالطبع حدث كلام: كيف نصنع؟ كيف نشرب؟ كيف نترك؟ فنزلت آية البقرة؛ لأن التساؤلات كثرت، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] والمراد من الميسر: القمار؛ إذ كان أهل مكة أغنياء، وكانوا تجارًا يقضون أوقاتهم في القمار للهو، حتى اعتاده العرب هنا وهناك، فلما نزلت هذه الآية اضطربت لها نفوس المؤمنين، وكان عمر يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً؛ لأن هذه الآيات ما حرمتها تحريماً قطعياً، بل قالت: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219].
وأخيراً نزلت آية سورة المائدة، وفيها يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:90] يا من آمنتم بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً! اعلموا أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس، وسخ، قذر من عمل الشيطان، إذاً: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. ثم قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] قال عمر : انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا. ومن ثم أصبح من يشرب الخمر يجلد ثمانين جلدة، كحد القذف، فالذي يقذف مؤمناً أو مؤمنة ويقول: فعل فاحشة كذا، ولم يأت بأربعة شهداء؛ يجلد على ظهره ثمانين جلدة، حد حده الله عز وجل.
والشاهد عندنا: بيان العلة التي يريد الشيطان أن نقع فيها: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]؛ لأنه إذا اجتمع جماعة وشربوا الخمر وسكروا فممكن أن يتضاربوا، أو يقتل بعضهم بعضاً، والميسر كذلك؛ لأن كل واحد يحاول أن يربح ولا يخسر، فربما يضرب بعضهم بعضاً أو يقتل بعضهم بعضاً، أو على الأقل ينتشر بينهم الكره والبغض، فلا يحب أخٌ أخاه ولا ينظر إليه.
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91] أسألكم بالله: هل الجماعة التي تجتمع على القمار يسبحون الله تعالى؟ بالطبع لا؛ لأن هؤلاء يخرج وقت الصلاة وما يشعرون، تنتهي الصلاة وينتهي وقتها وهم مكبون على القمار واللعب، وأي شيء يصرف عن ذكر الله فهو حرام، أي شيء يصرفك عن ذكر الله وعن عبادته فهو ممنوع؛ لأنك خلقت للعبادة، وأي شيء يمنع عنها فهو باطل ومحرم.
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]، ثانياً: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] قالوا: انتهينا يا ربنا. والله إنهم أراقوا الخمر في الأزقة الضيقة -قبل هذا العمران- حتى جرت بالخمر، كانوا يدخرونها في القلال والقرب ويعتقونها، فلما فرض الله هذا وحرم الخمر والميسر جرت أزقة المدينة بالخمر.
ورضي الله عن عمر ، فقد قال: انتهينا.. انتهينا؛ لأنه قضى فترة وهو يقول: يا ربنا بين لنا في الخمر بياناً شافياً.. اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، يشفي صدورنا؛ لأن كوننا لا نقرب الصلاة ونحن سكارى نعم، لكن هذا فيه حرج وتعب.
هكذا يقول تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ أي: من ذلك الثمر سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا السكر: الخمر.
ولنعلم أن عمر وقف وخطب الناس، وقال: الخمر ليس مقصوراً على التمر والعنب، بل كل مادة توجد فيها هي محرمة، حتى لا يقول قائل: الخمر في التمر والعنب فقط، بل توجد في أشياء أخر، المهم أن كل مسكر حرام، هذه القاعدة العامة: كل مسكر حرام، حتى ولو كان الزبدة واللبن، أي شيء يفسد عقلك ويخبّله فتصبح وأنت تهرف بما لا تعرف فهو محرم؛ لأن كل مسكر حرام.
(أوحى) ليس المراد أنه بعث ملكاً يحمل النبوة والرسالة إلى النحل، ولكن بمعنى: ألهم أي: أوقع في نفسها وفهمها، فأصبحت تعمل بما وقع في نفسها، كما أوحى الله تعالى إلى أم موسى فهو من باب الإلهامات، لا أنه وحي النبوة والرسالة، إذاً فهذه نحلة ألهمها الله، وسبحان الله! النحلة حشرة من الحشرات، كيف يكون عندها فهم وإدراك ووعي؟! قولوا: لا إله إلا الله، ما هناك إلا الله فقط، لو اجتمعت أمريكا والصين واليابان ليصنعوا نحلة واحدة والله ما قدروا، لو جمعوا كل عتادهم الحربي وسلاحهم والله ما خلقوا نحلة، من الخالق إذاً؟ الله، فلم ينكرونه؟ لم يكذبون به؟ لم يتكبرون عنه؟ الجواب: هو أن الشيطان أعماهم وأصمهم وأفسد قلوبهم فأصبحوا كالبهائم، حياتهم موقوفة على الأكل والشرب والنكاح، فما يفكرون أبداً، هل هناك من رفع رأسه في النهار إلى الشمس وقال: من خلق هذا الكوكب؟ أمريكا أو الصين أو اليابان؟ من أوجده؟ فإن قالوا: يوجد شخص في الصين يعرف هذا؛ فليسافر إليه ليدلنا على من صنع هذا الكوكب، وبذلك يعرف الله، لكن ما يفكرون وما يرفعون رءوسهم أبداً كالبهائم.
وعندنا فذلكة بدوية من إخواننا البدو، أبو عبد العزيز هو الذي رواها لنا: وهي أنهم قالوا: لم النصراني واليهودي يعمل البرنيطة هكذا؟ قالوا: حتى لا يرفع رأسه إلى السماء ولا يقول: من خلقها؟ يضع البرنيطة هكذا حتى لا ينظر إلى السماء ويقول: سبحان من خلقها! فهو دائماً إلى الأرض، إلى الفرج، والطعام والشراب.
ومن العجيب أن يداً ماسونية يهودية امتدت إلينا في ديار الإسلام هذه في دولة القرآن توزع البرانيط مجاناً، فلما تشتري سلعة كبيرة يعطيك برنيطة أو برنيطتين، انتبهتم؟ هذا في أول مرة، ولما أخذها الناس وبدءوا يتساءلون عنها جعلوا لها قيمة، أربعة ريالات أو خمسة ريالات، وصرخنا في وجوه المبطلين ورفعنا أصواتنا، وقلنا: اللهم إن هذا باطل.. اللهم إن هذا منكر، اللهم إن هذا كيد اليهود فعليهم لعائن الله، وما زال الغافلون في غفلتهم، لا يحل لمؤمن يترك ولده يعمل برنيطة على رأسه، يتهود أو يتنصر من حيث لا يشعر، ما عرفوا القاعدة التي وضعها أبو القاسم: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، لو يجتمع علماء النفس، والطبيعة، والمنطق، والكون.. والله ما استطاعوا أن ينقضوا هذه الحقيقة: ( من تشبه بقوم ) أي: تكلف الشبه وأراد أن يكون مثلهم والله إنه لمثلهم، من تشبه بعاهرة لا بد أن يكون مثلها، من تشبه بمغن لا بد أن يكون مثله، من تشبه بكافر لا بد أن يكون مثله.. سنة الله ما تتبدل أبداً.
ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، أيقول هذا بدون علم؟! حاشاه، بل بالوحي الإلهي، والله لا ينقض هذا الذي قاله بحال من الأحوال، جئني بواحد يريد أن يكون كفلان ولا يكون مثله؟
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل:68] النحل سمي نحلاً لأن الله نحله العسل، من نحل النحل العسل؟ أليس الله؟ الله الذي نحله العسل.
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ماذا أوحى إليه؟ أَنِ اتَّخِذِي يا جماعات النحل مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ .
إذا التفت الأشجار يجعل النحل مكانه فيها ويبني بيته وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68] لها، أهل النحل يعرشون عرائش لينزل فيها النحل.
كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا [النحل:69] فاسلكي طرقًا مهدها الله لك، فاسلكيها طرقاً من مكان إلى مكان مذللة مسخرة.
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ [النحل:69] العسل يشرب أم لا؟ يشرب مع الماء شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ [النحل:69] أحمر، أصفر، يميل إلى الصفرة، يميل إلى السواد، بحسب ما ترعاه من أنواع الشجر، هذه وحدها منة من الله توجب على كل آدمي أن ينحني أمام الله ويركع؛ لأن هو الذي يخلق هذه الحشرات ويسخرها ويسهل أمرها فترعى ثم يتحول ما ترعاه في بطونها إلى عسل من ألذ أنواع الشراب.
( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن أخي استطلق بطنه ) ، تعرفون الإسهال من البطن، ( فقال: اسق أخاك عسلاً، فسقاه فازداد الإسهال، فعاد مرة ثانية، وفي المرة الثالثة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اسق أخاك العسل، صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فقام كأنه لم يصب بشيء ).
(فيه شفاء للناس)، فمن شربه بنية الشفاء شفاه الله، ومن شربه بنية أنه ليس للشفاء وإنما يستعمله مع مواد أخرى؛ فقد يشفى بواسطة المواد الثانية التي يمزجها معه ويخلطها به كالحبة السوداء وما إلى ذلك، هذه النعمة من أنعم بها؟ أليس الله؟ إذاً: كيف يجحده هؤلاء ويقولون: أين الله؟ وإذا قلت لأحدهم: لا إله إلا الله سخر وضحك! يا هذا! لا تلمهم؛ فإنهم ما عرفوا والله وما علموا، فالسر هو الجهل؛ لأن من لم يعرف الشيء كيف يقول به؟ ونحن -وللأسف- ما علمناهم، ما بينا لهم، ما هذبنا عقولهم ولا أخلاقهم، فلهذا حصل الذي حصل.
والمساكين من ورطهم في هذه الورطة؟ بنو عمنا اليهود، لماذا يفعل اليهود هذا؟ يريدون أن يسودوا وأن يحكموا العالم، كيف يصلون إلى تلك الغاية؟ إذاً: هيا نحول الإنسانية إلى بهائم، وحينئذ نركبها كما نشاء، وفعلوا ونجحوا.
خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [النحل:70] هناك من يقول: لا نموت. لا يتوفاني أحد، أنا أتوفى بنفسي؟ هيا تفضل مت، من يقول: أنا أموت بنفسي نقول له: مت. والله لا يستطيع، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [النحل:70] ما هناك من يقول: أنا أتوفى الناس وأميتهم.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا [النحل:70] ينسى كل ما كان يعلمه، وهنا أيضاً رحمة إلهية أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي: أن أهل القرآن الحافظين لكتاب الله العاملين به، الداعين إليه، القائمين بآيات الله، العاملين بما فيها من حلال وحرام، هؤلاء يحفظهم الله من الخرف، فيبلغ أحدهم مائة وعشرين سنة وعقله كما هو كرامة لهم، على شرط أن يحفظوه في صدورهم، ويتلوه بألسنتهم، ويعملوا بما فيه، فيحلون ما أحل ويحرمون ما حرم، ويعبدون الله وحده ولا يعبدون معه سواه.
قال: [ أولاً: بيان منة الله تعالى على العباد بذكر بعض أرزاقهم ليشكروا الله على نعمه ].
من هداية الآية الأولى: [ بيان منة الله] أي: نعمة الله على العباد بذكر بعض أرزاقهم، أما ذكر العسل؟ أما ذكر اللبن؟ [ بذكر بعض أرزاقهم ] من أجل ماذا؟ [ ليشكروا الله على نعمه ]، ورأس الشكر كلمة: الحمد لله، فمن لم يحمد الله ما شكر الله.
فلهذا إذا أكلنا، إذا شربنا، إذا لبسنا، إذا ركبنا نقول: الحمد لله.. الحمد لله، إذا سئلنا عن حالنا نقول: الحمد لله، هذه النعمة فازت بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا يعرفون في التوراة والإنجيل بالحمادين، من هم الحمادون؟ سيأتون في المستقبل، يبعث نبي وهم معه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الحمادون، ولهذا تجدهم يسألون: كيف حالكم؟ فيقولون: الحمد لله، لا تفارق ألسنتهم (الحمد لله)، واليهود والنصارى ما يسمعون كلمة (الحمد لله)، فهذه فضيلة عظيمة، ولهذا إذا أردت أن تركب الدابة أو الطيارة تقول: باسم الله، والحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. تلبس ثوبك فتقول: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ولو شاء لأعراني. فرغت من أكلك ووضعت الملعقة: الحمد لله، شربت ووضعت الإناء: الحمد لله، وهكذا حال الحمادين.
[ ثانياً: بيان آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته في خلق شراب الإنسان وغذائه ودوائه ].
عرفنا بالأمس اللبن، تشربه وأنت عطشان فيزول العطش، تشربه وأنت جوعان فيزول الجوع، وما عدا ذلك لا يذهب ظمأك أبداً ولا يزيل جوعك، إذاً: فاللبن إذا كان صافياً خالصاً فهو غذاء كامل.
[ ثالثاً: فضيلة العقل والتعقل والفكر والتفكر ].
العقل له قيمته والفكر له قيمته، ولكن صاحب العقل يجب أن يتعقل حتى يعي ويفهم ويدرك ويبصر، وصاحب الفكر يستعمل فكره حتى يهتدي إلى الخفي الذي لا يظهر فيفوز به.
[ رابعاً: تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر الدال عليه القدرة والعلم الإلهيين، إذ من خلق وأمات لا يستنكر منه أن يخلق مرة أخرى ولا يميت ]، كما قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [النحل:70]، الذي خلق وأمات أيعجز عن أن يعيد خلقًا جديدًا ولا يميته؟ من يقول: إنه يعجز؟ لا أحد؛ لأنه ما دام أن الله قد خلقنا وأماتنا فهو قادر على أن يعيد حياتنا ولا يميتنا، وهو الذي وقع والحمد لله.
الحياة الثانية هي العقيدة الراسخة في نفوس المؤمنين، هذه العقيدة هي المقومة للأخلاق والمهذبة للنفوس والمشاعر، من فقدها هلك وأصبح كالبهيمة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر