وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا ذلك يا رب العالمين.
وقد كنا مع هذه الآية العظيمة الجليلة وما استوفيناها شرحاً ولا تفسيراً.
يصح -معشر المستمعين والمستمعات- أن نقول: هذا عرض للمؤمنين الصادقين، شاشة بيضاء من نور الله عز وجل، إن شئت أن ترى نفسك في هذه المواكب السعيدة فانظر: فإن وجدت نفسك فيهم وبينهم ومعهم فاحمد الله وأكثر من حمده وشكره، وإن وجدت نفسك غير موجود فابك على نفسك، واقرع باب الله فإنه يفتحه لك، وادخل في رحمته.
وإن وجدت نفسك تظهر في معرض وتغيب في آخر فجد في عزمك من جديد، وأصلح حالك، وحدد وجهة نظرك في مسيرتك، وادخل مع مواكب الإيمان والإسلام قبل أن تفوت الفرصة، والله! إنها لضيقة.
هذه الشائعة أبطلها الله عز وجل بقوله: لَيْسَ الْبِرَّ [البقرة:177] وفي قراءة: ( ليس البرُّ ) أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، ما هي قضية قبلة وصلاة فقط، وهذه الآية أيضاً تهز قلوب الذين لا هم لهم من الإسلام إلا الصلاة، فإذا صلى ظن أنه بلغ الكمال في إسلامه!
ليس البر تولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب، أي: للصلاة، ولكن البر الحق والبرور والصدق والبار بالحق هذا الذي آمن بالله حق الإيمان أولاً، وهل هناك إيمان غير صحيح غير حق؟ نعم. إنه إيمان المنافقين بألسنتهم، ولا دخل له في قلوبهم، وكم من مدعي الإيمان وما هو بمؤمن، فإيمانه كاذب وليس بصادق.
أولاً: آمن بالله، أي: رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، هذا الإيمان الحق إن وجد أثمر لصاحبه ثمرتين عجيبتين:
الأولى: حب الله، فيصبح يحب الله أكثر من نفسه وأهله والناس أجمعين.
ثانياً: يثمر له خشية الله، الخوف من الله، يصبح إذا ذكر الله ترتعد فرائصه ويوجل قلبه، فأيما دعوة للإيمان وصاحبها لا يحب الله ولا يخشاه فهي دعوى باطلة ما هي بحق.
ثانياً: وآمن باليوم الآخر، أي: آمن بالله وبلقائه، ولقاء الله متى يتم؟ يوم القيامة في اليوم الآخر حيث البشرية كلها في صعيد واحد في ساحة واحدة تسمى ساحة فصل القضاء، وانظر إلى هذا المنظر: قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:67-71] ثم قال تعالى بعدها: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر:73]، وانتهى كل شيء، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، فاستقر أهل النعيم في نعيمهم وأهل العذاب في عذابهم.
فالإيمان بلقاء الله والإيمان باليوم الآخر قوة دافعة للعبد على أن يطيع الله ورسوله، إذا قويت هذه العقيدة في النفس وأصبح لا يفارق قلبه ذكر الدار الآخرة فهذا يجد العصمة الكاملة، وقد أثنى الله على بعض عباده الصالحين وقال: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] الآخرة، من نسي يوماً واحداً الموت والفناء والبلاء ثم الوقوف بين يدي رب الأرض والسماء أكلته المعاصي واجتاحته، فلهذا من الحكمة أن تجعل الموت نصب عينيك.
والإيمان باليوم الآخر -معاشر المستمعين والمستمعات- معناه: الإيمان بالبعث والحساب والجزاء، ليس مجرد لقاء.
ثم الإيمان بالملائكة، وقد عرفنا عنهم ما شاء الله، ومن ذلك أنهم لا يحصي عددهم إلا الله، وأنهم موكلون بوظائف وأعمال يقومون بها، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأن من أعظمهم المقربين، ثم الكروبيين، ثم حملة العرش الأربعة الذين يعززون يوم القيامة بأربعة فيصبحون ثمانية، إذ قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وأن منهم الموكلين بالجنة ونعيمها، ومنهم موكلون بالنار وعذابها، وقد عرفنا الزبانية التسعة عشر، وعرفنا مدى قوة هؤلاء الملائكة، فجبريل تجلى وظهر بمكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيام البعثة الأولى وقد سد الأفق كله بستمائة جناح، وعرفنا قوته في سدوم وعمورة مدن قوم لوط؛ جعل عاليها سافلها، ونفخة إسرافيل في البوق في الصور نفخة واحدة تتزلزل الكائنات وتبددها، وقد عرفنا عددهم، فإذا كان كل واحد منا له عشرة: ثمانية حراس واثنان يكتبان أعماله، فكم عددهم إذاً؟
وعرفنا الإيمان بالكتب، وهي جمع كتاب، والمراد من الكتب ما أنزل الله تعالى على رسله، وأعظم الكتب أربعة: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وهناك صحف شيث عليه السلام ستون صحيفة، وصحف إبراهيم عليه السلام، وما لم نعلمه أكثر، والذي جاء في كتاب الله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن نعرفه وأن نؤمن به.
ثم الإيمان بالنبيين: جمع نبي، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فما كان رسول إلا وهو نبي، ثم أرسل فهو رسول، وأما النبي فقد يكون نبياً وليس برسول.
وقلنا: الفرق بينهما: أن الرسول يحمل الرسالة يبلغها أهل إقليم من الأقاليم أو بلاد من البلدان، والنبي لا رسالة له، يعلمه الله ويخبره ويوحي إليه ولكن هو يعيش على شريعة ورسالة من سبقه، هذا الفرق.
فلهذا فعلماء المسلمين شبيهون بالأنبياء، إذا صاموا وصلوا، إذا صدقوا واستقاموا وبلغوا رسالة الله فهم كالأنبياء في بني إسرائيل، لم يوح إليهم بشرع والشرع موجود وهم يدعون إليه.
وعرفنا أن عدد المرسلين ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، على عدة قوم طالوت وعلى عدة أهل بدر، وأما الأنبياء فقد ورد في الحديث أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، ويدلك على كثرتهم ما أخبر به أبو القاسم صلى الله عليه وسلم من أن اليهود لما هبطوا هبوطنا هذا كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم ويقيمون أسواقهم في المساء. إذاً: ذلك الذي درسناه من الآية وهو بعضها.
فهذا البار المؤمن الصادق صاحب البر: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] أي: على شدة حبه له وضنه به أعطاه، وإن شئت أيضاً فقل: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] أي: من أجل حبه الله تعالى أنفق فيما أمره أن ينفق، والكل صحيح، والقرآن حمال الوجوه، ولولا حب الله ما أنفق ماله، ولكن الظاهر هو الأول: أنفق المال مع حبه له ورغبته فيه، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177] ذوي بمعنى: أصحاب، ذو المال: صاحب المال، ذو الجاه: صاحب الجاه، والجمع ذوو مرفوع وذوي منصوب.
(ذوي القربى) أي: القرابات الأقرب فالأقرب، كما قال عمر رضي الله عنه: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فأنت لا تستطيع أن تصل كل رحم وهم ألف نسمة أو أكثر، لكن الأقرب فالأقرب، الابن قبل ابن الابن، والبنت قبل بنت البنت، والأخ قبل ابن الأخ.. وهكذا في حدود طاقتك وما تتسع له.
وَآتَى الْمَالَ [البقرة:177] أعطاه، يحمله بيده ويضعه في يد الآخر.
وقوله تعالى: وَالْيَتَامَى [البقرة:177] الذين فقدوا الآباء قبل بلوغهم واستكمال حياتهم، فهؤلاء اليتامى من يقيتهم؟ من يعيشهم؟ لا بد من مؤمنين صادقين ينفقون عليهم.
وقوله تعالى: وَالْمَسَاكِينَ [البقرة:177] جمع مسكين، من أسكنته الحاجة وأذلته وقعدت به، فمن لهذا المسكين؟ المؤمنون الصادقون في إيمانهم ذوو البر والتقوى هم الذين ينفقون.
وَابْنَ السَّبِيلِ [البقرة:177] وهل السبيل تلد؟ ما السبيل يا هذا؟ هي الطريق، فالسبيل لا تلد ولداً ورجلاً، لا، ولكن الذي جاء معها ودخل بلادنا ولا يعرف فيها أحداً هو ابن السبيل، لا تعرف أباه ولا أمه فتقول: هذا ابن عثمان ولا ابن زيد، هذا ابن السبيل، فهذا إذا نزل بالقرية كما في الزمن الأول لا فندق ولا مطعم، فمن له؟ وإن كان من أغنى الأغنياء في دياره، لكن انقطع، جاء على راحلته أو على رجليه بينه وبين بلاده آلاف الأميال وإن كان غنياً، فماذا يصنع؟ فالمؤمنون الصادقون هم الذين ينفقون عليه حتى يعود.
وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177] أي: وينفقون على السائلين الذين تدفعهم الحاجة إلى أن يقولوا: يا فلان! سد حاجتي، جعت.
فهذه مشاريع وأبواب الإنفاق: أولاً: (ذوو القربى)، ثانياً: (اليتامى)، ثالثاً: (المساكين)، رابعاً: (ابن السبيل)، خامساً: (السائلون)، سادساً: (في الرقاب)، أي بيان أعظم من هذا البيان؟ بيان من هذا؟ هذا بيان الله، فلهذا أمة حرمت القرآن أمة ضلت وهلكت.
ثم بعد هذا بين وجوه الإنفاق بالمال الذي يحبه، أما إذا كان يكره المال وما له فيه حاجة فما يكون هذا مظهراً من المظاهر كما لهذا الفحل، لكن ما حاجته إليه؟
ورد في السنة النبوية أن أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت قوي شحيح، أما إذا مرضت وتخاف الموت فالصدقة هينة، أو كنت سخياً طبعت على السخاء تنفق الليل والنهار، لكن أعظم الصدقة أجراً ومثوبة وأنت قوي شحيح تحب الدنيا والمال.
وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]، هل عرفتم إقام الصلاة، ما قال: وصلى، كلا، قال: وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]، وورد: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4]، فرق بين (صلى) وبين (أقام الصلاة)، فذاك صلى صلاة لا تنتج له الطاقة النورانية، لا تولِّد له الحسنات، أيما صلاة لا تستوفي شرائطها وأركانها وسننها وواجباتها فهذه عملية فاشلة، ما تولد النور، وقد علمنا -زادنا الله علماً- أنه لا عبادة أكثر توليداً للحسنات من الصلاة، شاهد هذا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فما من مؤمن يقيم الصلاة إلا وينتهي انتهاء كلياً عن القول أو الفعل الفاحش أو الفعل الباطل والمنكر، وكل من ترك الصلاة فهو عرضة لغشيان الذنوب والآثام، وكل من صلى ولم يقم الصلاة لا يسلم من السقوط في الجرائم والموبقات.
وهنا كلمة رددناها مئات المرات ولكن ما استجاب أحد، حيث قلت: إذا كنتم تريدون أن تتأكدوا فاذهبوا إلى محافظ المدينة أي مدينة، وقولوا: يا سيد! أعطنا قائمة بالمجرمين في هذا الشهر، وهم كثيرون، هذا سرق.. هذا كذب.. هذا عق أباه.. هذا سب فلاناً، فأقول: أنا أقسم بالله! لن تجدوا نسبة أكثر من خمسة في المائة من المقيمين الصلاة وخمسة وتسعون من تاركي الصلاة ومن المصلين، وأحياناً أقول: اذبحوني إذا ما صدقت، وفي أي بلد في العالم الإسلامي.
فالذي يناجي ربه في الليل والنهار لا يفارق محاربه هل هذا ينغمس في المعاصي والذنوب والآثام؟ ما يستطيع، النور يمنعه، أما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فكل المخالفات نتيجة ترك الصلاة أو التهاون بها وعدم إقامتها.
والآن أسألكم: لم يقول تعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]ولم يقل: صلى؟
لأن هذه عبادة إذا أديت على ما وضعها الله عليه تنتج النور للقلب، فإذا امتلأ القلب نوراً فاض على سمعه فلا يسمع باطلاً، فاض على لسانه فلا ينطق بسوء، فاض على عينيه فلا ينظر حراماً، غطاه النور، والذي يعيش في الظلمة أما يقع في الهاوية؟
ومن لم يوف فهو مريض بالنفاق، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وأعطى رجاله أمارة، وما كان عندهم شرطة ولا مخابرات ولا أمن، كل مؤمن شرطي وخبير بالمخابرات وحام وحارس للبلاد والعباد، ولماذا نعمل نحن الآن المخابرات والشرط؟ لأننا هبطنا، فكل مؤمن يجب أن يكون في القرية حارساً أميناً يرعى الحق والفضيلة، وكم كان للرسول من شرطي؟ فكل مؤمن شرطي، أتمر بجريمة وتسكت؟ أتمر بفساد أو شر وتسكت؟ غيِّره فأنت المسئول، لكن قلدنا الغرب من جهة؛ لأن الغرب كفار لا يخافون الله، إذا جاع أكل أمه، لكن المؤمن إذا جاع يحتسب جوعته لله، ما يأكل مال أخيه، لكن لما هبطنا وأصبحنا لا نأمر بمعروف ولا ننهى عن منكر، بل نتآمر ونكون عصابات للشر، إذاً: لا بد من الشرطة والمخابرات والآلات، فاللهم سلم سلم، أو تريدون أن نقول لكم: اتركوا هذا؟ أسلموا يوماً واحداً فقط، هيا نسلم، والله! لتبيتن أبوابكم مفتوحة، أما وقد أعرضنا وما أسلمنا لله شيئاً فكيف إذاً يتحقق الأمن؟ هل لكوننا كنا مؤمنين؟
يقول صلى الله عليه وسلم: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان )، إذا ضبطتم الرجل في القرية هكذا فألقوا القبض عليه فإنه منافق، ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، والعياذ بالله.
والله! لا علة إلا الجهل، قد يقال: كيف تقول: الجهل، والكليات والجامعات والمدارس من موريتانيا إلى إندونيسيا، أي جهل هذا الذي تعني؟ تريد منا أن نجعل في كل بيت مدرسة؟
فأقول: الجهل بالله جل جلاله وعظم سلطانه، الجهل بمحابه تعالى ومكارهه، الجهل بما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، وهذه شريعته كائنة ما كانت، فالذي ما عرف الله بأسمائه وصفاته فما أحبه ولا خافه، فمثل هذا تأمنه؟ يفجر ويأكل ويسخط.
إذاً: هيا نتعلم، وما الطريق؟ سوف أموت وتبقى هذه الكلمة مسجلة ولم تطبق، لم؟ أمة هبطت، كيف نطهر قلوبنا ونزكي أرواحنا؟ كيف نبعد ظلمة الجهل عن نفوسنا؟ المدارس كثيرة ووسائل التعليم لا حد لها ولكن ما نفعت؛ لأننا ما طلبنا العلم لله، ما وضعنا وسائله لله.
الطريق الوحيد -اللهم اشهد- أن نراجع تاريخ الحبيب صلى الله عليه وسلم، وحينئذ نجد أنفسنا كما كان رسول الله وأصحابه.
إذا مالت الشمس للغروب في الساعة السادسة وقف دولاب العمل، الفلاح يرمي بالمسحاة ويوقف العمل، والتاجر يغلق باب المتجر، والعامل، حتى الكناس يلقي المكنسة، أهل البيت يحملون أطفالهم ويخرجون إلى بيت ربهم، ما إن يؤذن المغرب إلا وأهل القرية كلهم في المسجد، ما بقي أحد خارج المسجد إلا مريض أو من في حكم المريض، أهل الحي من المدينة ذات الأحياء إذا أذن المغرب لا يبقي من هو خارج المسجد، كلهم في بيت ربهم، النساء وراء ستارة ومكبرات الصوت تبلغهن الكلام، والأطفال صفوف كأنهم ملائكة دون النساء، والفحول مثلكم أمامهم، ويجلس لهم مرب يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وذلك كل ليلة، فليلة آية وأخرى حديثاً، وهم ينمون ويرتقون ويتعلمون ويعملون، وبعد سنة فقط لن تعثر على معصية في تلك القرية، فلم يبق شح ولا بخل ولا حسد ولا رياء ولا كبر ولا نفاق ولا زناً ولا سرقة ولا خلف العهد ولا كذب، كل ذلك يزول؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع والماء يروي والنار تحرق والكتاب والسنة يزكيان النفس ويطهرانها، سنة الله تعالى لن تتخلف أبداً، ومن مرض أو اشتد مرضه فليرحل ولا يقيم في الحي ولا في القرية، فلان رحل وما أطاق أن يعيش على نور الله، هذا هو الذي يزول به الجهل، لا المدارس والمكاتب والكليات، هذا هو الطريق، والمدارس افتحوها وتعلموا أنواع الصناعات فيها وتفوقوا، ما عندنا مانع، افتحوها ليتخرج علماء الكتاب والسنة والشريعة، أما التعليم الرباني الروحي المزكي للنفس الذي تظهر نتائجه في أول ساعة فهو في بيوت الله عز وجل، بـ(قال الله قال رسوله)، فتنتهي الفرقة والمذهبية نهائياً، أهل بيت الله يتعلمون كتاب الله وسنة رسول الله، لا إباضي ولا زيدي ولا رافضي، ولا مذهبي، هم مسلمون، والذي ما يطيق هذا النور فهو كالشيطان فليرحل، والله! ما يبقى في القرية أبداً ولا يبقى في الحي، يذهب إلى من هم على صفاته، فهذا هو الطريق.
ولا غير هذا أبداً، وقلنا لهم: جربوا، ونحن سنزورهم، والله! لو أن أهل قرية التزموا بهذا المبدأ المحمدي وعاشوا سنة لذهبنا إلى دارهم لنشاهد كمالاتهم، ولكن ما وجدنا، كم مرة ونحن نعيد هذا الكلام، فأين العلماء؟ أين الأمراء؟ أين الأذكياء؟ أين الأغنياء؟ أين البصراء؟ خيم علينا ظلام المستقبل، فلا إله إلا الله!
وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177] أي: وقت الحرب والشدة، البأس هنا القتال، إذا اندفعت كتائب الله تجاهد لا يتزعزعون والموت يتخطفهم، أولئك العالون السامون أين هم؟ في الملكوت الأعلى.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] هؤلاء هم المتقون لسخط الله وغضبه وعذابه ونقمه، هؤلاء هم المتقون لغضب الله فلا يغضب عليهم، ولسخطه فلا يسخط عليهم، ولعذاب الله فلا يعذبهم، لا يخزيهم ولا يذلهم لا في دنياهم ولا في أخراهم، لما هم عليه من هذه المناعة الكاملة: إيمان وعمل صالح، فاللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم.
[ معنى الآية الكريمة:
في الآيات الثلاث السابقة لهذه الآية ندد الله تبارك وتعالى بأحبار أهل الكتاب وذكر ما توعدهم به من غضبه وأليم عقابه يوم القيامة، كما تضمن ذلك تخويف علماء الإسلام من أن يكتموا العلم على الناس طلباً لحظوظ الدنيا الفانية.
وفي هذه الآية رد الله تعالى على أهل الكتاب أيضاً تبجحهم بالقبلة، وادعاءهم الإيمان والكمال فيه؛ لمجرد أنهم يصلون إلى قبلتهم بيت المقدس بالمغرب أو طلوع الشمس بالمشرق؛ إذ الأولى قبلة اليهود والثانية قبلة النصارى، فقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ [البقرة:177] كل البر أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، وفي هذا تنبيه عظيم للمسلم الذي يقصر إسلامه على الصلاة ولا يبالي بعدها ما ترك من واجبات وما ارتكب من منهيات.
بين تعالى لهم البار الحق في دعوى الإيمان والإسلام والإحسان فقال: وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177] أي: ذا البر أو البار بحق هو مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:177]، وذكر أركان الإيمان إلا السادس منها: القضاء والقدر، وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177] وهما من أعظم أركان الإسلام، وأنفق المال في سبيل الله مع حبه له وضنه به على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فهو ينفق ماله على من لا يرجو منه جزاء ولا مدحاً ولا ثناء؛ كالمساكين وأبناء السبيل والسائلين من ذوي الخصاصة والمسغبة، وفي تحرير الأرقاء وفكاك الأسرى، وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]] أي: [ أدامها على الوجه الأكمل في أدائها، وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177] المستحقين لها، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من أعظم قواعد الإسلام، وذكر من صفاتهم الوفاء بالعهود والصبر في أصعب الظروف وأشد الأحوال، فقال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]، وهذا هو مبدأ الإحسان وهو مراقبة الله تعالى والنظر إليه وهو يزاول عبادته.
ومن هنا قرر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في دعوى الإيمان والإسلام، وهم المتقون بحق غضب الله وأليم عذابه، جعلنا الله منهم، فقال تعالى مشيراً لهم بلام البعد وكاف الخطاب لبعد مكانتهم وارتفاع درجاتهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] ]. هذا معنى الآية.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
أولاً: الاكتفاء ببعض أمور الدين دون القيام ببعض لا يعتبر صاحبه مؤمناً ولا ناجياً ]، فالذي يكتفي ببعض العبادات أو بعض التكاليف عن الأخرى ما آمن ولا هو بناج.
[ ثانياً: أركان الإيمان هي المذكورة في هذه الآية، والمراد بالكتاب في الآية: الكتب.
ثالثاً: بيان وجوه الإنفاق المرجو ثوابه يوم القيامة، وهو ذوو القربى... إلخ ] إلى آخر ما ذكر تعالى.
[ رابعاً: بيان عظم شأن الصلاة والزكاة ]، ولو أن أهل إقليم أقاموا الصلاة فقط فوالله! لانتفت مظاهر الباطل كلها، ما بقي شيء اسمه جريمة، تقام الصلاة فقط، فإذا تركت الصلاة أو أهملت الصلاة تجلى الفسق والظلم والفجور في أعظم صوره.
وقد استقل العالم الإسلامي من بريطانيا وفرنسا ومن إيطاليا، وما استطاعت دولة أن تأمر بالصلاة، فأنا في حيرة من هذا، فمن إندونيسيا إلى بريطانيا تستقل الحكومة عن الحكومة الغاصبة والمستعمرة ولا يصدر أمر بإقام الصلاة، ما السر في هذا؟
العدو عرف قبل أن نعرف، فمن ثم نزع هذا من قلوب من ولاهم وسلطهم، عرفوا لو أن الصلاة أقيمت فإنه ينتهي الفقر والبلاء والذل والهون والجرائم كلها، تمسح مسحاً كاملاً إذا أقيمت الصلاة، لم؟
أما قال الله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؟ فالكذب والخيانة وخلف الوعد كل هذه المصائب من ترك الصلاة وعدم إقامتها.
[ خامساً: وجوب الوفاء بالعهود.
سادساً: وجوب الصبر وخاصة عند القتال ]؛ لقوله تعالى: وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177].
[ سابعاً: التقوى هي ملاك الأمر والغاية التي ما بعدها غاية للعاملين ].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر