وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله نفسر آيات الله وكلنا رجاء في أن يتحقق لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده
وها نحن مع هذه الآيات الثلاث من سورة البقرة:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:174-176].
وذلك لأنهم وقعت بينهم جريمة القتل، فاتهمت كل قبيلة الأخرى وكادوا يقتتلون، فمن رحمة الله بهم وإنعامه عليهم أوحى إلى عبده موسى أن يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67]، أعوذ بالله! أنجاس أجلاف قساة جهلة، كيف يخاطبون رسول الله بهذا؟ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]؛ إذ لا يستهزئ إلا جاهل، أما العالم العارف بربه فحاشاه أن يستهزئ أو يسخر من مؤمن، وسوف تكشف هذه الآيات عن حالهم، والشاهد هنا أنها سورة البقرة.
نعم نزلت في أحبار اليهود: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ [البقرة:174]، والمراد مما كتموا صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونعوته المبينة له المظهرة له، كتموها جحدوها غطوها حتى لا يؤمنوا به ولا يتابعوه.
وهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويفسرون بغير مراد الله منه للإبقاء على المنصب من طاعة وإجلال ومال؛ ليعيشوا على حساب العوام الجهلة يكرمونهم يبجلونهم يطيعونهم يأتونهم باللبن والزبدة ويأتونهم بالطعام واللباس، فهم ساداتهم وأئمتهم ومشايخهم، وقد فعل هذا بين المسلمين، فعجب هذا القرآن!
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174] ويشترون بذلك الذي كتموه ثمناً قليلاً، فما قيمة ما يعطونه من عوامهم من الطعام أو اللباس أو المال أو التبجيل والتعظيم وتقبيل اليدين والرجلين، أي شيء هذا؟ ليس بشيء، هو ثمن قليل.
أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174]، فالبيض واللحم المشوي والبرتقال والموز، كل هذا هو عبارة عن نار في بطونهم، وسيئول هذا إلى نار يأكلونها عند موتهم، ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ومن سورة النساء قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] لمن هذه وفيمن نزلت؟ فينا أم لا؟ أيما مسلم يدعي الإسلام والإيمان ويصلي ويزكي ثم يأكل أموال اليتامى بدون حق ظلماً إما بالاختلاس أو بالسرقة أو بادعاءات فالويل له: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10] ثم وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] .
فلهذا كان أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب، وأكل ماله كالشرك وقتل النفس والسحر وعقوق الوالدين، يتيم فقد أباه امتحاناً من الله له ووكلك أنت بهذا الولد، سواء ابن أخيك أو ابن أختك أو عمك، فاحفظ ماله حتى يكبر ونمه وأنفق عليه في حدود ما يستطيع أن يعيش واحفظ له هذا المال، أما أن تستغله وتأكله ظلماً وعدواناً فهذا حرام، وأغلب الذين يتولون أمور اليتامى قبل هذه الإفاقة كانوا يأكلون أموال اليتامى إلا من رحم الله.
ولا عجب: فالذين يقتلون المسلمون تعجب منهم؟ الذين يتعاطون سحر المؤمنات تعجب منهم؟ الذين يتركون الصلاة تعجب منهم؟ لا عجب، فهو الجهل، المال بين يديه يوفر ماله ويأكل من مال اليتيم، وشاهدناهم ورأيناهم.
ما هي العلة؟ إنها الجهل؟ هل الجهل بالتقنية؟ بالسحر؟ إنه الجهل بالله تعالى وبمحابه ومساخطه وبما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، فالجاهل بهذه يفعل ما لا تتصور.
دلونا -يرحمكم الله- على طريقة نذهب بها هذا الجهل عن المسلمين ونبعده من ديارهم ليستنيروا ويعودوا إلى ربهم فتزدان الحياة بهم ويصبحون هداة الخلق وأئمة البشرية.
الطريق: أن يعرف المسلمون هذا الذي هبط بهم وسقط بهم من علياء كراماتهم إلى أسفل الأرض، فهذا الجهل يعرفونه أولاً كما عرفناه الآن، لا سعادة معه ولا كمال ولا هداية ولا طهر ولا صفاء ولا هدوء ولا استقرار أبداً، يعرفون هذا فيقولون: هيا نطلب العلم الذي هو معرفة الله ومعرفة محابه من عقائد من عبادات من أقوال، ومساخطه من ذلك، وما عنده وما لديه، فمعرفة هذا أيها المسلمون تتم لكم بأن تعترفوا أولاً بهذا، ثم تعزموا على ألا تغيب الشمس في دياركم إلا وأنتم في بيوت ربكم المساجد، النساء الأطفال الرجال، الأغنياء كالفقراء والمسئولون كغيرهم، الشمس غابت فأهل القرية كلهم في بيت ربهم، النساء وراء الستائر والأطفال دونهن والفحول أمامهم، والمعلم المربي أمامهم يتعلمون ليلة آية وأخرى حديثاً، وهذا هو الكتاب وهذه الحكمة، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفي كل القرى والمدن، المدن ذات المناطق، كل منطقة في المدينة أو كل حي كما يسمونه يوسعون مسجدهم حتى يتسع لأفراد الحي كلهم ذكوراً وإناثاً ويجلسون من المغرب إلى العشاء، يقف دولاب العمل فلا يبقى واحد في الشارع ولا في البيت، أين أهل الحي؟ في بيت ربهم، ماذا يريدون؟ يريدون رضاه، يريدون أن يحبهم يريدون أن يسعدهم ويكملهم يريدون أن يرفعهم وأن يعزهم بمعرفته التي توجد لهم حبه في قلوبهم أكثر من حبهم لأنفسهم، وتوجد لهم خوفاً في نفوسهم فترتعد فرائصهم إذا ذكر ربهم بين أيديهم، فضلاً أن يكفروا أو يكذبوا أو يفجروا، فهل فهم السامعون هذه اللغة؟ كم كررناها؟
بالله الذي لا إله غيره! لن يرتفع شعب ولا أهل إقليم ولا أهل بلدة ولا قرية ولا حي في العالم الإسلامي إلا من هذا المبدأ، اقبلوا أو لا تقبلوا، والبرهنة والتدليل كالشمس.
ثم نقول: لم لا نفعل هذا؟ اليهود والنصارى والكفار والمشركون إذا غابت الشمس ودقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، إلى أين يذهبون؟ إلى المقاهي والملاهي والمراقص إلى نصف الليل، ولا لوم؛ فهم بهائم على الأرض لا هم لهم إلا شهوة بطونهم وفروجهم، والمسلمون لم لا يذهبون إلى ربهم، لا إلى المقاهي والملاهي، يجلسون في بيت مولاهم يستمطرون رحماته ويضفي عليهم آلاءه وإنعامه ورضاه، سنة واحدة وهم كلهم أولياء الله، فاختفى الفقر والظلم والفسق وسوء الأدب وأصبحت القرية كأنهم ملائكة في السماء، فلم لا نعمل هذا؟ ما وجدنا لهذا جواباً إلا أن نقول: كتب الله هذا!
لكنهم جهلاء، وهل جهلاء وهم يقرءون ويكتبون؟ نقول: وهل القراءة والكتابة هي العلم؟
فعدنا من حيث بدأنا، فنقول: تعالوا نتعلم، قالوا: ما نستطيع، نحن مشغولون من طلوع الفجر إلى المغرب، مشغولون بالدنيا.
قال تعالى: وَلا يُزَكِّيهِمْ [البقرة:174] أيضاً، لا يكلمهم ولا يزكيهم، ومعنى: ولا يزكيهم: أي: ولا يطهرهم من ذنوبهم وأوضارها حتى يدخلهم دار السلام، لا يزكيهم، تبقى أدرانهم وأوساخهم وذنوبهم عليهم حتى يعيشوا في جهنم ولا يخرجون منها.
أهل النار ما هم كذباب مثلنا حتى تقول: ضربة واحدة تكفيه، إن ضرس أحدهم -والله- كجبل أحد، لأن عرض جسمه أخبر به أبو القاسم فقال صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر يوم القيامة في النار كما بين مكة وقديد )، ومكة وقديد بينهما مائة وخمسة وسبعون كيلو، هذا العرض فقط، لا تسأل عن الطول إذاً، فضرسه كجبل أحد، فلهذا يحترق ويعذب ملايين السنين فما يموت.
قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [البقرة:175] شروا العذاب بالمغفرة أم لا؟ كل من فسق فجر كفر فقد اشترى الضلالة بالهدى، واشترى العذاب بالمغفرة، بدل أن يتوب إلى الله ويرجع إليه بعدما لاحت أعلام الحق وظهرت الهداية؛ أعرض عنها، فكان كمن اشترى الضلال بالهدى والعذاب بالمغفرة.
وأخيراً: يقول تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175] ما أعظم صبرهم على النار! وإلا فكيف يقترفون هذه الذنوب، ويرتكبون هذه الجرائم ويعلمون أن مصيرهم هذا ويعرفونه، إذا:ً فصبرهم على النار عجب، فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175].
إذاً: فمصيرهم إلى جهنم حتماً.
تم ذلك ونفذ لأن الله أنزل الكتاب بالحق، والكتاب: اسم جنس، يدخل فيه القرآن والتوراة والإنجيل كما علمنا، وإن كان يراد به أولاً: التوراة، فنزل الكتاب بالحق ليبطل الباطل، فهم أعرضوا عن الحق وحرفوه وبدلوه، وأخذوا بالباطل، أما ينتقم الله منهم؟ ينزل كتابه ويعلمهم إياه ليهدوا به ويهتدوا به ويعاكسونه ثم يتركهم؟ لا بد من هذا العذاب، فهذا العذاب الشديد العظيم بسبب أنهم كتموا الحق الذي أنزل الله به كتابه.
كم بلغت فرق اليهود؟ إحدى وسبعين طائفة وملة، كم بلغت فرق النصارى؟ اثنتين وسبعين فرقة، كم بلغت فرق المسلمين؟ ثلاثاً وسبعين فرقة! ما سبب هذا؟ اختلافهم في الكتاب، يؤولون ويفسرون بحسب أهوائهم وأغراضهم الهابطة؛ فيحدثون الشقاق والخلاف ثم التناحر والدماء والقتال، ثم التعصب للمذهب وللطائفة وللقبيلة.
سأكشف الغطاء عن بعض الأشياء، الروافض يقولون: عثمان وأبو بكر وعمر تمالئوا وجحدوا سوراً من القرآن الكريم! قالوا: الآيات التي فيها الثناء على آل البيت وحقوق آل البيت كلها كتموها وجحدوها! فهل اختلفوا معنا أم لا؟ إذاً: هل نحن معهم على اتفاق أو شقاق؟ وشقاق بعيد أو قريب؟ بعيد كما بين الشرق والغرب.
فهذه آية واضحة، الذين يفسرون القرآن على أهوائهم إبقاء على مناصبهم، ويفسرون: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فيقولون: هذه عائشة!
والشاهد: ما من قوم اختلفوا في كتاب الله إلا انشقوا وانقسموا، وأصبح شقاقهم بعيداً، فلهذا يجب على المسلمين أن ينكبوا على دراسة كتابهم، وتفهم وفهم ما فيه، حتى تتحد عقائدهم وآدابهم وأخلاقهم وشرائعهم وأحكامهم، ويصبحوا الأمة الرفيعة ذات الشأن، أما أن نحرف كلام الله ونفسر كما يبدو لنا حتى تتم الفرقة والتعصب للمذهب؛ فهذا هو الذي توعدنا الله به.
اسمع: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176] فلهذا لا يحل لنا أن نختلف في كلمة واحدة في كتاب الله، ما عرفناه جهرنا به، وما لم نعرفه قلنا: آمنا بالله!
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ شرح الكلمات:
يكتمون: يجحدون ويخفون.
ما أنزل الله من الكتاب: الكتاب التوراة، وما أنزل فيه من صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به.
لا يكلمهم الله: لسخطه عليهم ولعنه لهم ]، هذه هي العلة.
[ ولا يزكيهم: لا يطهرهم من ذنوبهم؛ لعدم رضاه عنهم ]، فإذا زكاهم أدخلهم جنته.
[ الضلالة: العماية المانعة من الهداية للمطلوب.
الشقاق: التنازع والعداء؛ حتى يكون صاحبه في شق ومعاديه في شق آخر.
بعيد: يصعب إنهاؤه والوفاق بعده ]، إذا كان الشقاق بعيداً بين الاثنين فيصعب تلافيه.
[ معنى الآيات:
هذه الآيات الثلاث نزلت قطعاً في أحبار أهل الكتاب ] العلماء [ اليهود، تندد بصنيعهم، وتريهم جزاء كتمانهم الحق وبيعهم العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه، بيعهم له بعرض خسيس من الدنيا، يجحدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ودينه إرضاء للعوام؛ حتى لا يقطعوا هداياهم ومساعداتهم المالية، وحتى يبقى السلطان الروحي عليهم، فهذا معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174].
وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو النار، إذ هو مسببها، ومع النار غضب الجبار، فلا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
كما أخبر تعالى عنهم في الآية أنهم -وهم البعداء- اشتروا الضلالة بالهدى،. أي: الكفر بالإيمان، والعذاب بالمغفرة، أي: النار بالجنة، فما أجرأ هؤلاء على معاصي الله وعلى التقحم في النار! فلذا قال تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175].
وكل هذا الذي تم مما توعد الله به هؤلاء الكفرة لأن الله نزَّل الكتاب بالحق، مبيناً فيه سبيل الهداية، وما يحقق للسالك من النعيم المقيم، ومبيناً سبيل الغواية، وما يفضي بسالكه إلى غضب الله والعذاب الأليم.
وفي الآية الأخيرة أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب -أي: التوراة والإنجيل، وهم اليهود والنصارى- لفي عداء واختلاف بينهم بعيد، وصدق الله؛ فما زال اليهود والنصارى مختلفين متعادين إلى اليوم؛ ثمرة اختلافهم في الحق الذي أنزله الله وأمرهم بالأخذ به، فتركوه وأخذوا بالباطل، فأثمر لهم هذا الشقاق البعيد ].
قد يقول القائل: اليهود الآن متفقون مع النصارى؟
والجواب: متفقون فقط لأنهم سحروا النصارى، وجاءوهم بالمبدأ اللاديني اللائكي الفلسفي الأحمر؛ فأخرجوهم من عقيدة النصارى؛ فأصبحوا كالأبقار والحيوانات؛ فركبوهم واستولوا على أموالهم وبنوكهم، وأصبح النصارى خانعين خاضعين.
فالنصراني بحق ما يستطيع أن ينظر إلى يهودي بعينيه، بل كانوا يقلونهم كالسمك في الزيت، وقد بينت لكم فقلت: الذي قتل ربك وإلهك كيف تنظر إليه؟ ما أنت بالمؤمن إذاً! لكن سادوا بالمكر والحيل، ووجدوا النصارى حيوانات فركبوا ظهورهم، حتى إن بولس الثامن منذ حوالي سبع عشرة سنة أعلن أن اليهود برآء من دم السيد المسيح! فقامت الدنيا وقعدت، فقلنا لهم: نحن عرفنا هذا من ألف وأربعمائة سنة، أخبرنا الله بقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، والآن النصارى ترقوا فقالوا: اليهود ما قتلوا السيد المسيح.
فبالضغط والمال والسيطرة والسحر أعلن رئيس الكنيسة في العالم: أن اليهود برآء من دم السيد المسيح، وهم يعلقون الصليب في أعناقهم أم لا؟ فمن صلبه وقتله في نظرهم؟ إنهم اليهود.
كل آية تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية من أنزلها؟ هل نبتت بها شجرة؟ هل قالها إبراهيم أو عثمان؟ لا، ما هناك إلا أن الله الذي أنزلها، فالله موجود، وهذه الآية تحمل العلم أم لا؟ فالله عليم حكيم، وتحمل الهداية للخلق أم لا؟ إذاً: لا إله إلا الله.
والذي نزلت عليه من هو؟ محمد بن عبد الله، فهل هو رسول الله أم لا؟ والله! إنه لرسوله، كيف ينزل عليه كتابه وما هو برسوله؟ كيف يعطيه كتابه ليبلغه ويقول: ما أنت برسول؟! مستحيل هذا عقلاً، فكل آية تقرر معنى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فضلاً عما تحمل من آداب في الأخلاق وفي الأموال، وفي الحياة كلها.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات.
أولاً: حرمة كتمان الحق ].
الحرمة بمعنى: التحريم، لم سميت أمك حرمة؟ لأنها حرام عليك، فلا يحل لإنسان أن يكتم الحق، وما معنى: يكتمه؟ يجحده ويغطيه، ما يعترف به، لا سيما إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالاً أو رئاسة، فيكون أبشع، فكتم الحق من أجل ريال أو بقرة حرام، لكن هذا هين بالنسبة لمن يكتم الحق من أجل أن يغوي البشر أو يصرفهم عن الله، فبينهما فرق كبير، والذنوب تتفاوت، كتمان الحق محرم ولو في بيضة تجحدها وتكتمها، لكن كونه يكتم الحق من أجل أن يتوصل إلى منافع دنيوية مالاً أو رئاسة هذا أبشع، لأنه يصرف الناس عن الحق والعمل به والانقياد له.
[ ثانياً: تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب ]، لأن هذه الآيات وإن نزلت في علماء أهل الكتاب فهل نحن ما ننتفع بها؟ كل من يسلك سلوكهم هو منهم وإن كان هاشمياً قرشياً.
[ تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وإفتاء الناس بالباطل؛ للحصول على منافع مادية معينة ]، ولما هبطت أمتنا ظهر فيها علماء ومشايخ طرق وزوايا يفعلون صنيع علماء اليهود بالضبط، يجحدون الحق لتبقى لهم تلك المنزلة.
أعطيكم مثلاً عشناه: لما بدأت فترة التوحيد كانوا يقولون لأتباعهم: لا تستمعوا لهؤلاء، هؤلاء وهابيون؛ ليصرفوهم عن الحق، لأنهم إذا انصرفوا عنهم ذهب ذاك المنصب الذي كان لهم، هذا كان يأتي بدجاجة، وهذا يأتي بشاة، هذا يقبل رجليه، والآن من أين يأتي ذلك؟كلنا سواء.
ويوجد أيضاً علماء يفتون بالمال، ويحللون الحرام في الفتيا! وهذا انتشر في العالم الإسلامي فترة طويلة، ما يفتيك مجاناً أبداً، تسأل عن طلاق فيقول: هات ألف ريال ويفتيك، ويحل لك الحرام إذا أكثرت العطاء، ولا لوم ولا عتاب؛ لأنهم ما عرفوا، ما علموا، ما عرفوا ربهم معرفة أوجدت خشيته في قلوبهم ومحبتهم له، فلهذا يفعلون، علوم سطحية مادية فقط.
[ ثالثاً: التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم ]، أما حذرنا الله؟ الأولون اختلفوا في الكتاب فهم في شقاق بعيد، فإن اختلفنا نحن في القرآن فوالله! ليتمن هذا، وقد حصل، فهذه الطوئف: الإباضية، الزيدية، الجعفرية، والله! إنها للاختلاف في القرآن في تفسيره ومعانيه.
لو أقبلوا على الحق وأرادوه لانتهى الخلاف في سنة واحدة، لم نختلف؟ أم يجوز هذا؟ هو الذي هبط بأمة الإسلام إلى الأرض، وإلا فكان يجب أن يقال: هيا نستعرض آي القرآن ونحضر العلماء وتثبت القضية بيننا، واقبلها وطأطئ رأسك، وإن عاش أسلافك وأجدادك على الباطل فلا تبق أنت على الباطل، أنت تريد النجاة أم لا؟ تريد دار السلام أم لا؟ أم تريد فقط بقاء العصبية لقبيلتك أو لحزبك وجماعتك؟
[ التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين ]، وهو واقع ثابت من ألف ومائة سنة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر