إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (56)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من فضل الله على هذه الأمة أن بعث فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أفضل كتبه القرآن الكريم، فكان صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم، فأتى عباد الله عز وجل يتلو عليهم آياته، ويعلمهم معاني الكتاب وهي الحكمة المحمدية، ليعرفوا الحلال والحرام، والحق والباطل، والخير والشر، وهذا هو ما دعت إليه ملة إبراهيم عليه السلام، ولا يرغب عنها إلا من جهل ما تحتاج إليه نفسه من الطهر والصفاء، الذي يقود إلى الفوز والفلاح.

    1.   

    تابع تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياتك ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:129-132]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، اذكروا أن هذه دعوة إبراهيم الخليل مع ولده إسماعيل عليهما السلام، سألا وطلبا ربهما وهما يبنيان البيت العتيق، الذي هو سرة هذا الكون، يسألان الله عز وجل أن يبعث في ذريتهما رسولاً يبعثه من ذريتهما لا من غيرهما: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، أي: من جنسهم، ومهمة هذا الرسول ما هي؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].

    يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، أي: يقرؤها، وهي آيات القرآن الكريم.

    أثر تلاوة الآيات القرآنية على المؤمنين

    وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فلنتأمل هذا المطلب الغالي السامي الرفيع، وهو طلب إبراهيم وإسماعيل أن يكون هذا الرسول الذي يبعث في ذريتهما مهمته أن يتلو عليهم آياتك يا رب، ومعنى هذا: أن تلاوة القرآن على المؤمنين والمؤمنات تزيد في نورهم، وطاقة إيمانهم، تعلمهم وتعرفهم وترفع مستواهم إلى أن يصبحوا أولياء لله ربانيين، ومعنى هذا: أن المؤمنين إذا لم يتل عليهم كلام ربهم، ولم يسمعوا، ولم يصغوا إليه طول حياتهم؛ معنى هذا أنهم يجفون، ييبسون، قد يحترقون، فلهذه التلاوة آثارها، وإلا لما سألا ربهما هذا.

    ومما يدل على هذه الحقيقة، وهي أن المؤمنين والمؤمنات إذا كان يتلى عليهم كتاب الله ويصغون إليه ويستمعون ويتفكرون ويتدبرون، فهذه الحال تجعل إيمانهم ينمو ويزيد، وعلومهم ومعارفهم أيضاً تقوى وتزيد، وإذا حرموا من هذا تعرضوا للهلاك والموت، مما يدل على هذه الحقيقة قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وصدق الله العظيم، إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] من اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وقد تجلت هذه الحقيقة، والمطلوب هو: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101]، قد يتعثر المؤمن، ولكن يستحيل أن يرتد مؤمن عن دين والله وينتكس ويرتمي في أحضان الكفر والشرك والباطل وهو يسمع آيات الله تقرأ عليه طول حياته.

    فمتى ما أصبحت آيات الله تتلى على المؤمن والمؤمنة فسوف يترتب على ذلك قساوة القلب والجمود، والبعد عن نور الله، ومن ثم يصبح أهلاً لأن ينتكس ويعود إلى الوراء.

    زيادة الإيمان وتحصيل المعرفة والمناعة بتلاوة القرآن الكريم

    أعيد إلى السامعين والسامعات قول الخليلين: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، ما المراد من هذا؟ هل أن يقرأ عليهم القرآن كما يقرأ على الموتى؟ مع أن تلاوة القرآن على المؤمنين والمؤمنات تحفظ عليهم إيمانهم، تزيد في طاقة إيمانهم، ترفع مستوياتهم العقلية، يزدادون فهما وعلماً، تطهر نفوسهم، على الأقل يحتفظون بكمالهم لا يفقدونه، والبرهنة القطعية والدليل القاطع هو قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]، من أين يأتي الكفر؟ كيف يحصل لكم الردة، كيف تنتكسون وأنتم تتلى عليكم آيات الله؟

    ومن يوم أن فقد المؤمنون تلاوة آيات الله عليهم، ومنذ أكثر من ثمانمائة سنة وهم هابطون إلى الحضيض، إذ ما أصبح المؤمنون من قرون تتلى عليهم آيات الله صباحاً ومساء، أي: يجتمعون في بيوت ربهم أو بيوتهم ويتلى عليهم كتاب الله وهم مصغون متدبرون متأملون، الذي عرفناه -وهو الواقع- أنهم لا يجتمعون إلا على قراءة القرآن على الميت، سواء في المقبرة أو في بيت الهالك.

    أما أن يجتمع اثنان وثلاثة وأربعة تحت ظل شجرة، تحت ظل جدار، في منزل، في بيت الله ويقول أحدهم: اقرأ علينا كتاب الله، أسمعونا آيات الله، فتطأطأ رءوسهم وهو يبكون ويتأملون؛ فهل هذا واقع؟ فمن هنا أتينا.

    وسبحان الله! إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في ضراعتهما ودعائهما يقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة:129] لِم؟ ما مهمته؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، يقرأ عليهم القرآن، أما كانا عليهما السلام واعيين بصيرين عالمين، ما المقصود من أن يقرأ عليهم القرآن؟ هل على الموتى حتى يثابوا على ذلك وينقذوا من النار كما نفهم نحن؟ لِمَ يتلو عليهم آيات الله؟

    أولاً: لزيادة الإيمان.

    ثانياً: للعلم والمعرفة.

    ثالثاً: للحصانة والمناعة حتى لا يتسرب إليهم دخان وظلمة الكفر من حولهم؛ لأن تلاوة القرآن مانع من أعظم الموانع عن الفسق والفجور والردة والكفر، والدليل القاطع قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وصدق الله العظيم، والله! ما أطاع مؤمن كافراً من هذا النوع، من هذه الطائفة التي تريد محو الإسلام وإزالة آثاره واستجاب لها وأطاعها إلا ارتد؛ لأن الذي يخبر بهذا هو خالق الغرائز وطابعها، هو العالم بالنفوس، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، أحببتم أم أبيتم.

    وقوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101]، من أين يأتيكم الكفر؟ سبحان الله! كيف ترتدون والحال أن آيات الله تتلى عليكم وفيكم رسوله؟

    والجواب: يا رب! ما تليت علينا آيات الله قروناً، ما رأينا من يقول: تعالوا أسمعكم كلام الله، لا في البيت ولا في السوق ولا في المصنع، وإنما القرآن يتلى على الموتى لا على الأحياء، وسبحان الله! متى نفيق؟

    ما زلنا وإلى الآن نقول: هل فرغ أحد من عمل في مصنع أو في متجر أو في مكان وقال: من يقرأ علينا شيئاً من القرآن حتى نخشع ونبكي ونتدبر، هل أهل بيت من بيوتكم بعد الفراغ من الطعام أو كذا يقول أحدهم: من يسمعنا شيئاً من كلام ربنا فيقرأ عليهم؟ هل جماعة يعملون في دائرة من الدوائر الحكومية، وفي ساعة الاستراحة يقول أحدهم: يا جماعة! من يسمعنا شيئاً من كلام ربنا؟ هل هذا واقع؟ لا وجود له، إذاً: هل يحصل المخوف أم لا؟ ممكن أن تفسد القلوب، وقد فسدت، وهل نحن في خير؟

    إن الحسد والبغض والكبر والنفاق وأمراض القلوب من الغش والخداع كلها أكلت قلوبنا، ما هناك أبداً ما يدفعها أو يصرفها، لِم؟ لأننا لا نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، حتى يفهموا لغته ولسانه، ويعرفوا طبيعته وما هو عليه: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، لم يتلو عليهم الآيات؟ يقرأ عليهم القرآن لأي شيء؟ لأن المناعة كل المناعة في سماع كلام الله، أيسمع كلام الله طول عمره وينفذ الشيطان إلى قلبه ويرتد ويكفر ويخرج من دينه؟ والله! ما كان.

    دور المساجد في تعليم الكتاب والحكمة بعد التلاوة القرآنية

    يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ [البقرة:129] بعد ذلك الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، أولاً: التلاوة الدائمة؛ لأنها الغذاء أو الطاقة التي لا بد منها، تزداد يومياً، ثم يعلمهم ما يحمله الكتاب من بيان أحكام وشرائع وقوانين وآداب وأخلاق، ويزيد بعد ذلك الحكمة التي هي بيان رسول الله، تفسير رسول الله؛ لأن الرسول هو الذي يبين ويفسر ويعلم، فيحفظون إيمانهم، ويزدادون علماً بمعرفة الكتاب والسنة.

    أيها المؤمنون! هل نستطيع أن نأخذ في هذا المسلك من الليلة؟ أم أننا مكبلون؟ حين تجلس مع إخوانك في البيت، مع أخيك مع أبيك قل: اسمع يا أبي، سأقرأ عليك شيئاً من القرآن. أو يقول هو: يا بني! أسمعني شيئاً من القرآن، أو جلست مجلساً ما في مكان ما، استرحتم، فتقول: من يسمعنا شيئاً من القرآن؟ لِم؟ لأن هذا السماع يقوي إيماننا، يحفظ ما عندنا، إن لم يزد الإيمان فإنه يحفظه.

    ثم بعد ذلك هذه المجالس الضرورية في بيوت الله، بين المغرب والعشاء على الأقل، وقت -والله- مناسب وملائم، وصالح وينفع ولا يضر، إذ كل الناس إذا تركوا العمل وفرغوا منه وغسلوا أيديهم وغيروا ملابسهم يذهبون إلى الراحة، اليهود والنصارى والمشركون يذهبون إلى اللهو إلى الباطل إلى اللعب

    ونحن إلى أين نذهب؟ يجب أن نذهب إلى بيوت ربنا، وهي موجودة في قرانا، في مدننا، في أحيائنا والحمد لله متوافرة، لِم لا نحمل نساءنا وأطفالنا ونذهب إلى بيوت ربنا نبكي بين يديه، نستمطر رحماته، نتعلم هداه؟ كيف تكون حالنا يومئذٍ، إذا أصبحنا كل ليلة طول العام نتعلم الكتاب والحكمة؟ كيف لا نصبح علماء ربانيين حكماء لا نضع شيئاً إلا في موضعه؟

    هكذا الآيات تتلو هذه المعاني وتكررها والمسلمون في غفلة كاملة، هل بلغكم في بلد ما في الشرق في الغرب في الوسط في الشمال أو الجنوب أن أهل البلد أخذوا على أنفسهم العمل بهذا الهدي الإلهي والهدى الرباني، وأصبحوا يجتمعون بنسائهم وأطفالهم في بيوت الله يتلقون الكتاب والحكمة كل يوم؟

    هل بلغنا الكمال في معارفنا وآدابنا وأخلاقنا؟ الجواب: لا، ضاع كل شيء، لو تطلع على عوراتنا وتنكشف أمامك سوآتنا فشاهدت بغضنا وحسدنا وأمراضنا لقلت: هؤلاء ما هم بمؤمنين! هذا هو الواقع، كيف نستقيم، كيف نصفو، كيف نطهر ونحن لا نتعلم؟ نطالب بالمحال.

    دور المربي في التعليم والتزكية

    قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، أولاً: يتلو علينا آيات الله.

    ثانياً: يعلمنا المعلم الكتاب ومعاني الكتاب وهي الحكمة المحمدية، وبذلك نعرف الحلال والحرام والحق والباطل، والخير والشر، وما يسمو بالعبد وما يهبط به.

    وزيادة: أن هذا المربي يزكينا، وما معنى أنه يزكينا؟ هل يعطينا شهادات تزكية أننا ربانيون، فيشهد بالباطل؟ ما معنى أنه (يزكينا)؟

    اقرءوا قول الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، خذ من أموال المؤمنين صدقة من شأنها: أنها تطهرهم وتزكيهم، فالتزكية هي: تطهير النفس، وهل النفس فيها نجاسات قاذورات؟ إي والله لهي أفظع من الخرء والبول والقيء والدم، والله! لأفظع وأشد ضرراً.

    إذاً: (يزكيهم): يطهر تلك النفوس مما يلي:

    أولاً: من أوضار وأوساخ الشرك والعياذ بالله، والشرك ما هو؟ الالتفات إلى غير الله، النظر إلى غير الله، الغفلة والإعراض عن الله، ووضع الرأس والنفس والهم على هذه الحياة، من يزيل هذا الأذى أو القذر إن لم يكن المربي بالكتاب والحكمة؟

    الغفلة عن الله تودي بحياة العبد، ومن يزكيك هو الذي يزيل تلك الأوساخ والقاذورات، من أعظمها الالتفات إلى غير الله، وهو الشرك بمظاهره الخفيفة والجلية.

    ثانياً: يطهرها من أمراض أخرى، كالنفاق في النفس، كيف يزال وبِم يعالج؟ يعالجه هذا الحكيم الذي نجلس بين يديه يزكينا.

    الأمراض التي نشكو منها: الحسد، البغض، الغيرة، العداء، حب الذات، حب النفس، الكبر، هذه الأمراض كيف تعالج؟ والله! ما تعالج ولا يشفى منها العبد إلا بالمربي الحكيم الذي يتلو آيات الله ويعلم الكتاب والحكمة، هذا الذي يقوى ويقدر على تزكية النفوس.

    وهذا -يا معشر المستمعين- لا يتم في اجتماع كهذا، بل أهل كل حي في مسجدهم طول العام، بنسائهم وأطفالهم، بذلك تزكو النفوس وتطيب الأرواح وتطهر وتتأهل للكمال الأخروي والدنيوي.

    الحاجة إلى التربية في بلاط الصالحين

    وشيء آخر أكرره: ألسنا نشكو من المقاطعات والعداء والتباعد عن بعضها، وقلة الرحمة وانعدام الأخوة، والكل يعمل لنفسه غير مبالٍ بجاره ولا بأخيه، لا بقريب ولا ببعيد، هذه كيف تزال؟ كيف نصبح كأننا نفس واحدة؟

    وهذا هوا لمطلوب، وهذا هو المفروض فينا: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ( المسلم أخو المسلم ).

    هل يوجد بين المسلمين زنا أم لا؟ أنا محتار وأنا في كرب، وأنا في هم: كيف يزني المؤمن بامرأة أخيه المؤمن أو بابنته أو أخته؟ كيف يحطم كرامته ويقضي على شرفه ويدوس وجوده بيديه ورجليه؟ أهذا موجود أم لا؟ أتوجد سرقات وتلصص وخيانة وإجرام؟ والله! لقد وخمت الدنيا بهذا بين المؤمنين، وسلوا المسئولين عن السجون في العالم وما يجري بين المسلمين، ما سبب هذا؟

    سببه أننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما تعلمنا الكتاب والحكمة، ولا تليت علينا آيات القرآن ليل نهار، وطول عمرنا وامتداد حياتنا نعيش كما تعيش الحيوانات، ورثنا كلمة مؤمن ومسلم أو الصلاة فقط، مع وجود إيمان هزيل ما هو بالقوي، ما هو بالقادر على أن يرفعنا ويطهرنا، ماذا ننتظر وكل يوم نتأخر مسيرة جديدة؟ فما الطريق، ما السر؟ ماذا نفعل؟

    قد يقول القائل: يوم توجد الخلافة، وأنا قلت غير ما مرة: لو يسود عمر رضي الله عنه ويحكم فلن يستطيع أن يفعل شيئاً إلا من طريق واحد، وهو أن نسلم لله قلوبنا ووجوهنا، ونحقق أننا مسلمون حقاً وصدقاً.

    فعدنا من حيث بدأ إبراهيم وإسماعيل، لا بد أن نصغي ونسمع لكلام الله طول عمرنا، الليل والنهار والآيات تتلى علينا، فلم يبق ملهى ولا ملعب ولا ممسخ، فهذه أمة تريد السماء، إذاً: لتعش في بيوت الله، تقضي ساعاتها في المزارع والمصانع والمتاجر، تعمل بجد وصدق، ولكن لا بد من ساعات تتلقى فيها نور الله ورحمة الله، لتخرج من ورطة الجهل الذي يحمل على الحسد والبغض والعداوة وسائر المفاسد والشرور.

    فنساؤنا كأطفالنا كرجالنا، الكل تتلى عليهم آيات الله ويعلمون الكتاب وما يحويه من هدى، والحكمة وما تفصل وما تبين من المعارف التي تضمنها كتاب الله، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولادهم وأتباعهم في ثلاثة قرون.

    تحصيل الطهارة بتلاوة القرآن وتعليم الكتاب والحكمة

    ماذا نفهم من هذه الآية العظيمة؟ إبراهيم وإسماعيل يبنيان البيت ويسألان الله تعالى أن يجعل في ذريتهما نبياً رسولاً منهم مهمته: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129] أولاً، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] ثانياً، وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] يطهرهم، ترتفع هممهم ومروءاتهم وكمالاتهم الآدمية البشرية، فيصبحون ككواكب في السماء ينيرون الأرض، وهل تحقق هذا؟ والله! تحقق طيلة ثلاثمائة سنة، ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أعدل ولا أرحم، ولا أشد إخاء ولا صفاء من تلك الأمة، ومن يوم أن أبعدوا القرآن عنهم وحولوه إلى الموتى، وأصبح ما يسمع به المرء ولا يتلى عليه من حينها أخذنا الظلام حتى لصقنا بالأرض.

    هل تذكرون أن القرآن في العالم ما يقرأ إلا على الموتى؟ من يتحداني؟ أروني من جلس مع أخيه وقال لوجه الله: أسمعني شيئاً من كلام ربي؟ وإن وجد واحد أو عشرة فهل يكفي في إصلاح ألف مليون؟

    ماذا نصنع بهذه الآية: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]؟ معناها: إذا لم نسمع آيات الله ولم تتل علينا ولم تقرأ فإنه يجف إيماننا وييبس، ما نستطيع أن ننمو، بل يتسلط علينا الشياطين فنهبط؛ لأن المناعة كل المناعة في تلاوة القرآن عليكم، وفي سماع كلام نبيكم.

    أهمية إرسال المعلم المربي مع الطلاب المبتعثين إلى الغرب

    هيا نعيد الآية مرة أخرى، اسمعوا هذا البلاغ الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100]، لبيك اللهم لبيك، مر نسمع ونطع. إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100]، من هذا الفريق؟ الأساتذة الذين جلسنا بين أيديهم في الشرق والغرب نتعلم العلم والمعرفة، وتخرجنا نحمل الشهادات وتولينا المناصب والكراسي، أهذا هو واقع هذه الأمة أم لا؟ والله! إنه لهو، ونشكو ونتألم: كيف لا نرجع إلى ديننا، كيف لا نعود إلى كتاب ربنا؟ لِم لا نحكم شرع الله؟ لم نبعد هذه الشريعة ونعتاض عنها بالقوانين؟ ونسينا العلة ما هي.

    لقد أتينا من قبل قوله تعالى: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100]، أولاً: من أهل الكتاب، ما هم بجهال، بل علماء اليهود والنصارى المتخصصون في إفساد قلوب المؤمنين وإبطال نور الإيمان بينهم، جلسنا بين أيديهم وبعثنا أولادنا، قرءوا وتعلموا وتخرجوا من أكثر من خمسين سنة، أليس ذلك هو الواقع.

    فالله ماذا يقول؟ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، من يقول: لا يستطيعون؟

    ثم ماذا قال بعد ذلك؟ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، وهذا تعجب، فمن لم تتل عليه آيات الله صباح مساء طول عمره، وابتعد عنها لا يسمعها فوالله! ليرتدن.

    وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، لو كنا بصراء وعرفنا هذه الآية من خمسين سنة فهل كنا سنبتعث أولادنا هكذا؟ أولادنا حين نبعث بهم إلى روسيا إلى بلغاريا إلى يوغسلافيا، إلى أيطاليا، أسبانيا، أمريكا؛ لأننا وجدنا أنفسنا غير متعلمين، نحتاج إلى العلم الصناعي لننهض به، حين نبعث البعثة من خمسين طالباً إلى ألمانيا، فألمانيا قالت: تفضلوا فنحن نقبل أبناءكم ليتعلموا الطب أو الكيمياء أو الهندسة أو الطيران، حين نبعث هذه البعثة نبعث معها إماماً من أئمة الهدى والقرآن والبصيرة، ونتخذ لهم سكناً خاصاً، ومن ذلك السكن غرفة لأداء الصلوات الخمس، والإمام يصلي بهم، ويتلو عليهم القرآن الكريم صباح مساء.

    فيدخلون فيجلسون بين يدي الكافر، قد يلوك بلسانه فيرمي كلمات ولكن المناعة موجودة، يسمعون وقلوبهم لا تثق فيما يقول، ويتعلمون المادية التي يتعلمونها ولا دخل أبداً لذلك في القلوب، فيذهبون ويعودون علماء صناعة، وفي نفس الوقت أنوارهم تغمرهم.

    أما كيف فعل المسلمون ذلك في الواقع؟ كيف بعثوا أولادهم؟

    فالجواب: من ساعة أن يدخل ينغمس في أوضار الباطل والشر والخبث والفساد، يأكلون الحرام، يشربون الحرام، يشاهدون الحرام، ما تمضي عليهم سنوات إلا وقد عموا، وفقدوا إيمانهم، حتى إذا عادوا يعودون منافقين، إذا وجدوا الأمة أو الدولة مسلمة يراوغون وينافقون وقلوبهم مظلمة، فكيف بهؤلاء يسوسون ويسودون؟ هل عرف السامعون هذه الحقيقة؟

    والله! لكما تسمعون، هذا كلام الله، هذا نور الله وهدايته، وإلى الآن هل تفطنوا؟ ما تفطنوا، العمال الذين يعملون في بلاد الكفر الآن جاءهم جماعات من الدعاة عوام، واستطاعوا أن يردوهم إلى الإسلام، أصبحوا يصلون ويتركون الخمر والفجور على الأقل.

    يقول تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، كيف يتلو عليهم؟ يقرأ عليهم، هل مرة واحدة تكفي؟ بل دائماً، فهذا النور إذا انقطع متنا.

    يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، يشرح لهم القرآن ويبين لهم السنة حتى يصبحوا علماء رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، وفوق ذلك يزكيهم، لا بد من عالم رباني في مسجد الحي، أو مسجد القرية، عالم ذي بصيرة يعالج ما في القلوب، لا يوصل المعاني فقط، يوجهها إلى النفوس، يزكي هذا من بخله، هذا من حسده، هذا من كبريائه، هذا من مرض كذا وكذا، يوماً بعد يوم حتى تصفو النفوس وتطيب، أما أن نعيش هكذا فالواقع شاهد ما يحتاج إلى برهنة.

    معنى قوله تعالى: (إنك أنت العزيز الحكيم)

    ثم قال الله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، هذه وسيلة، كما توسلا بالأمس فقالا: أنت السميع العليم، فحقق طلبنا. والعزيز: الغالب الذي لا يغلب، العزيز الذي لا يمانع في شيء أراده أبداً، القاهر الذي لا يعجزه شيء، والحكيم: الذي يضع الشيء في موضعه، والعوام قديماً يسمون الطبيب: الحكيم، لِم؟ لأنه يضع الدواء موضع الداء، وإذا كانت الدمامل في يده ويضع الدواء في رأسه أو في رجله فهل هذا حكيم؟ هذا أحمق.

    إذاً: الحكيم منا هو الذي يضع الشيء في موضعه، مثلاً: الآن في مجلس الذكر والعلم لو يدخل أحدهم إصبعيه في أذنيه ويقوم يؤذن فهذا أحمق أم حكيم؟ أو وقف يغني، فهل هذا وضع الأمر في موضعه؟ هذا حكيم أم أحمق؟ وعلى هذا فقيسوا، من كان يضع الشيء في موضعه هو الحكيم، يضع الطهارة في موضع الطهارة، والصدق في موضع الصدق، والوفاء في موضع الوفاء، والصدقة في موضع الصدقة أيضاً، ذاك هو الحكيم.

    فهما يقولان: فبما أنك عزيز حكيم لا يعجزك شيء، وتضع الشيء في موضعه، إذاً: فابعث فيهم رسولاً من أنفسهم مهمته كذا وكذا؛ لأنك القادر على كل شيء، فتوسلا إلى الله بصفتين عظيمتين تدلان على المطلوب وتحققانه، وهذا من حكمتهما في دعائهما، ما قالا: (إنك أنت الغفور الرحيم)، فهنا لا يتلاءم هذا، قالا: (العزيز) القادر على كل شيء، الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه.

    فهذه الحصيلة لا بد أن تبقى -إن شاء الله- في أذهانكم، فإذا جلستم بعد الأكل تقولون: من يقرأ علينا شيئاً من القرآن لنسمع ونبكي، ثم نقول: من يفسر لنا هذه الجملة من كلام ربنا، ما المقصود منها؟ ما المراد منا؟ ما المطلوب؟ فيقال: المطلوب كذا وكذا، كيف عرفت هذا؟ لأنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فجمعنا الكتاب والحكمة.

    سبق لي أن قلت وكتبت: إنه لما فقدنا المربين هبطنا، وقلت: من الجائز أن اثنين يقول أحدهما للآخر: يا فلان! أنا أخوك في الله، أسألك بالله العظيم أن تلاحظ سلوكي ..مشيتي.. كلامي.. منطقي.. أكلي.. حركاتي، ولا ترى خللاً أو ضعفاً يتنافى مع هدي الله ورسوله إلا نبهتني إليه وذكرته لي.

    والآخر يقول: وأنا أسألك بالله أن تكون مثلي، إذا رأيت في خللاً في عقيدتي، في خلقي، في سلوكي، في حركتي إلا نبهتني لذلك. ثم يسيران على هذا المنوال شهرين، أو عامين، فكيف سيكونان؟ والله! لطهرا تمام الطهر، وتهذبا، وصفت قلوبهما بهذه المناعة والرعاية، هذا إذا لم نجد، فكيف إذا وجدنا من يجلس بين أيدينا كل ليلة طول حياتنا، ويزكينا، ويطهرنا، من أين يأتي الخبث أو النجس أو الضعف والعجز؟

    هل يمكن طهر وصفاء بدون هذا الطريق؟ والله! ما كان ولن يكون، لو كان لذكر إبراهيم هذا، ما هناك إلا هذا فقط: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، يقول المربي: أنت يا بني أما حفظت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه )؟ لماذا إذاً لا تحب لأخيك كذا، لماذا غضبت أو كرهت وحسدته؟ وهكذا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ...)

    وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130] لا أحد، هل فيكم من يرغب عن ملة إبراهيم؟ أعوذ بالله!

    إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، اللهم إلا من سفه نفسه، أرأيتم ملاءمة الآيات؟

    ملة إبراهيم شرحت لنا وبينت، وهي في تلاوة آيات الله، فإبراهيم كان يتلوها، وفي تعليم أبنائه الكتاب والحكمة، في تزكية أبنائه وأسرته، هذه هي طريقة إبراهيم، فمن يرغب عنها؟ الجواب: لا أحد، اللهم إلا من سفه نفسه.

    وما معنى (سفه نفسه)؟ جهل نفسه وما عرف نفسه، أما من عرف نفسه وأنها في حاجة إلى الطهر والصفاء، إلى السعادة والكمال، هذه النفس البشرية الزكية الطاهرة إذا جهلها يبحث عن عوامل تزكيتها، تطهيرهاً، تربيتها، تنميتها، متى تحل المكان الأعلى والمقام الأسمى، فهو معني بها، أما الذي هو جاهل نفسه ما عرفها فيصب عليها أطنان الذنوب في كل يوم ولا يبالي، يقول الباطل، يفعل الباطل، يعتقد الباطل؛ لأنه ما عرف نفسه؛ لأنه ما سمع حكم الله في هذه النفس، ونحن قد عرفناه ولكنها العوائق والمعطلات.

    أما سمعت حكم الله أنه قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من دسى نفسه؟

    اسمع إلى هذا الحكم الإلهي: أقسم الله عليه بأحد عشر قسماً، ما رأينا لله في كتابه أقساماً أعظم من هذه وأكثر، وجواب القسم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] ما هي هذه؟ النفس؛ لأنه سبق في الكلام: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، متهيئة للفجور وللتقوى مستعدة، زكها تزك، وأخبثها تخبث، هذه سنة الله فيها، ما هي معصومة كأرواح الملائكة، ولا خبيثة كأرواح الشياطين لا يدخلها هدى ولا نور، هذه قابلة للتزكية والتطهير وللتلويث وللتخبيث.

    إذاً: قد أفلح من زكى نفسه، فكيف نزكيها، بم نزكيها؟ ارحل إلى العالم الفلاني واجلس بين يديه حتى تتعلم كيف تزكي نفسك، فأدوات التزكية كثيرة، فكيف تستعملها؟ ما هي أوقاتها ما هي ظروفها؟ لا بد من هذا.

    قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، معنى (أفلح): فاز بالمناصب العالية، الآن يقال: فلان أفلح، فاز، نجح، حصل له ماجستير أو دكتوراه في كذا، ونتبادل التهاني، يا فلان! أنا نجحت، وفلانة نجحت والحمد لله، فهي في فرح كبير، كيف؟! لأنها حصلت على شهادة فغداً ستصبح موظفة.

    وهذا في الذكور لا بأس به، لكن في الإناث هل نترك الديار والمنازل والبيوت ونعمرها بالشياطين، ونترك البنات والنساء يشتغلن كاليهوديات والنصرانيات مع الفحول؟ هذه وحدها ضربة من الضربات القاسية بأيدي الذين تعلمنا على أيديهم وأطعناهم.

    حقيقة ملة إبراهيم ودعامتها

    فمن يرغب عن ملة إبراهيم القائمة على لا إله إلا الله؟

    وهل تعرفون دعامة هذه الملة؟ لا يرهب، لا يخاف، لا يحب، لا يكره إلا ما يرضي الله، كل شيء تحت هذا النظام، أنت مؤمن تحب ما أحب ربك، وتكره ما كره ربك من كل أسباب وألوان الحياة، هذا معنى لا إله إلا الله، أما أن يحب ربك شيئاً وتكرهه، أو يكره الشيء وتحبه؛ فقد عاديت الله، خرجت من طاعته، أعلنت الحرب عليه، ومن يفلح من هذا النوع؟ لا أحد.

    فملة إبراهيم: هي أن يعبد الله بما شرع، ما هي ملة إبراهيم التي كان يعيش عليها ودعا البشرية إليها؟

    أن تعبد الله وحده بما شرع، فإن أنت قسمت قلبك ووزعت نفسك تعبد مع الله فلاناً وفلاناً انهار البناء وسقط كل شيء، تعبد الله بهواك وبما تمليه الشياطين وتقول: أنا راكع ساجد عابد فذلك لا ينفع، لا بد أن تعبده بما أحب أن يعبد به من الكلمة إلى الحركة.

    فما هي ملة إبراهيم؟ هي معنى: لا إله إلا الله، أي: لا معبود يعبد بحق إلا الله، ويعبد من طريق رسول الله، فهو الذي يبين لنا كيف نستعمل العبادات، كيف نغتسل، كيف نصلي، كيف نحج، كيف نصف في الصلاة والجهاد، كيف نتصدق، كيف نمنع، كيف نحب، كيف نكره، لا بد من رسول الله، فلاحظ أن الملة كاملة تحت: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    وبالعقل إذا قلت لكافر: أتشهد أن لا إله إلا الله، فيقول: كيف أشهد؟ فإنك تقول: من خلقك؟ من خلق أمك وأباك؟ من رفع السماء؟ من أنار الحياة؟ من أوجد هذه الأغذية؟ فإنه يقول: ما أدري! فتقول له: الله. وهل هناك من يستحق أن يعبد مع الله؟ الجواب: لا؛ إذ هو وحده الخالق الرازق المدبر، إذاً: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، إذاً: هيا اعبده. ما دمت علمت أنه لا معبود إلا هو فاعبده، يقول لك: دلني كيف نعبده، لا بد أن تعلمني كيف أعبده، وبِم أعبده؟

    فحينئذ تضطر إلى أن تأتي بكلمة: (وأن محمداً رسول الله)، إذ هو الذي يعلمك كيف تعبد الله، وبم تعبده، وهذه هي ملة إبراهيم: أن نعبد الله وحده بما شرع لنا من أنواع العبادات، وهي قلبية وجارحية كما علمتم، وبذلك نكمل ونسعد.

    وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، ما معنى (سفه)؟ جهلها، ما أعطى لها قيمة، ما عرف نفسه، ككل الكافرين والظالمين يعيشون بدون نفوس، لو عرف نفسه لأعزها وأكرمها، لا يهينها ويمزقها.

    معنى قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)

    وقوله تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، بشراك يا إبراهيم، أولاد المؤمنين من بنين وبنات من الأطفال الصغار كلهم الآن حول إبراهيم، هو راعيهم، يحفظهم إلى يوم القيامة، له منزلة في دار السلام، كل أولاد المؤمنين والمؤمنات يؤتى بأرواحهم عند إبراهيم الخليل، وكيف شكل هذه الأرواح؟ هل في أشكال في صور في هياكل؟ الله يعلمها.

    أما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في ولده إبراهيم: إن له مرضعاً خاصة عند إبراهيم؟ وفي دعائنا للأطفال نقول: (اللهم وألحقهم بسلف الصالحين في كفالة أبيهم إبراهيم)، هذا إبراهيم الأب الرحيم، ماذا يقول تعالى عنه: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ [البقرة:130] ما معنى اصطفيناه؟ اصطفى الشيء: أخذ صفوته، كما تصطفي العسل أو الطعام الصالح، اختيار الشيء وأخذ وسطه، اصطفاه الله عز وجل من ملايين البشر على عهده من أهل الشرك والباطل والكفر، اختاره هو وحمله أمانته، وهذا الاصطفاء عظيم؛ حيث اختاره من البشرية كلها في ضلالها: اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، فأصبح أفضل كائن على وجه الأرض، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] منهم فقط.

    ومن هم الصالحون؟ هل كلنا منهم؟ اسمع آية المواكب في دار السلام: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] من أبيض أو أحمر أو أسود، وعربي وعجمي، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، إبراهيم مع الصالحين.

    ومن هم الصالحون؟ هل سيدي عبد القادر، مولاي إدريس، سيدي عيدروس؟ ما كنا نعرف الصالحين -والله- إلا الذين ماتوا ودفنوهم وبنوا عليهم القباب الخضراء والبيضاء ووضعوا الستائر، هؤلاء هم الصالحون، أما أهل البلاد فكلهم فاسدون!

    وهنا لطيفة كررناها، قلنا: قبل أربعين أو خمسين سنة، قبل أن تنتشر هذه الدعوة، والله العظيم! لو دخلت القاهرة المعزية ذات الملايين ولقيت أول مصري قاهري فقلت: أنا غريب عن هذه الدار وجئت من بلاد بعيدة، فدلني على ولي من أولياء هذه البلاد، فوالله! ما يأتي بك إلا إلى قبر! فلا إله إلا الله.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765795746