وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في دراسة كتاب الله في هذه الليلة؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الرجاء، فأنت ربنا وولينا، ولا رب لنا ولا ولي لنا سواك.
وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:243-245].
إذاً: فأماتهم الله عز وجل موتة واحدة، ثم سأله عبده ونبيه حزقيل إحياءهم فأحياهم أجمعين، حادثة من أحداث التاريخ، والله! لكما تسمعون: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243]، خرجوا حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ [البقرة:243] بأمر التكوين: مُوتُوا [البقرة:243]، فماتوا عن آخرهم، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243].
وهذه الآية نزلت أيام كان المؤمنون يدعون إلى الجهاد، حيث أعلنت الحرب على الإسلام والمسلمين من كل جهات الدنيا، ولا بد من أن يقاتلوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ ليعلمهم ما ينبغي أن يكونوا عليه، ألا وهو الصبر والجهاد، فإن الفرار من الموت لا يقي من الموت، يفرون منه وهو ملاقيهم، فر الرجل من الموت هارباً وإذا الموت يلاقيه في طريقه، فلم إذاً؟
أولاً: وهبهم حياتهم، وأوجد وجودهم.
ثانياً: أوجد لهم هذا الكون بكامله، ومقومات الحياة من الهواء والغذاء والماء، ثم يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يعز ويذل، هذه العطايا الإلهية لم لا تشكر؟
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243] فضل عظيم، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، ولم لا يشكرون؟ لأن الشياطين تمنعهم من أن يشكروا، تصرف قلوبهم وألسنتهم وجوارحهم عن طاعة الله عز وجل، وشكر الله كما يكون باللسان بأن نقول: الحمد لله معترفين بنعمه علينا؛ نشكره أيضاً بطاعته بفعل ما يأمرنا بفعله، وترك ما يأمرنا بتركه، ويكون أيضاً بصرف النعمة فيما من أجله أنعم الله تعالى بها على العبد، صرف النعم فيما وهبها الله لعبده أن تصرف فيه، هذا هو الشكر.
ولهذا تقرر وبيننا وعلمنا أن الشكر أولاً يكون بالاعتراف بالقلب، اعترف بالنعمة لله عز وجل، ثم ترجم ذلك بلسانك، وقل: الحمد لله، ثم اصرف تلك النعمة فيما من أجله أنعم الله تعالى بها عليك، وإياك أن تصرفها فيما يغضبه ولا يرضيه عنك.
إذاً: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض وأنتم لستم بها فلا تقدموا عليها )، وهذا ما يعرف الآن بالحجر الصحي، أي: المنع الصحي؛ حتى لا ينتشر الوباء، هكذا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عن الطاعون: إنه بقية مرض أو رجس أصاب طائفة من بني إسرائيل بذنوبهم عقوبة من الله تعالى لهم.
وبناء على هذا أيها المؤمنون: إذا نزل هذا الوباء في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه، فقد خرج هؤلاء فأماتهم الله، خرجوا هاربين، إذاً: فأنزل الله بهم الموت فماتوا، ثم أحياهم للعظة والعبرة، وإذا نزل ببلاد وأنتم خارجها فلا تدخلوا عليهم.
فمن هنا قال تعالى: وَقَاتِلُوا [البقرة:244] أيها المؤمنون، قاتلوا الكافرين، المشركين، والظالمين، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244]، ما هي سبيل الله؟ نقاتل من أجل إعلاء كلمة الله، أي: من أجل أن يعبد الله تعالى وحده، فالقتال الشرعي الواجب المفروض فرض كفاية أو عين هو ما كان لإعلاء كلمة الله، وهذا يظهر في أن يعبد الله تعالى وحده، وأن يرفع الظلم عن المظلومين، فالمظلومون إذا كانوا مؤمنين أولياء لله عز وجل فعلى إمام المسلمين أن يقاتل الظالمين حتى يخلص المؤمنين من اضطهادهم وعذابهم.
ويشهد لهذا قول الله تعالى من سورة الأنفال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، قاتلوا المشركين الكافرين، وليستمر قتالكم لهم إلى غاية، وهي ألا يبقى فتنة، أي: لا يبقى من يفتن في دينه وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ [الأنفال:39].
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]، سميع لأقوالكم، عليم بأحوالكم، فلا يخفى عليه أمركم، فمن جبن أو خاف أو تأخر فلا يظن أن الله لا يعلمه، فهو يعلم حاله، ومن قال كلمة تثبط عن الجهاد، أو توجد فشلاً في المجاهدين فالله سميع لقوله، عليم بحاله، أي: فراقبوا الله عز وجل؛ راقبوه حتى تتمكنوا من طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، هذه تعاليم علمها الله المؤمنين، فعملوا وفازوا وسادوا وطهروا وكملوا، وهم كذلك إلى اليوم وإلى يوم القيامة، متى وجد مؤمنون صادقون في إيمانهم فهذه الآية تتلى عليهم فينتفعون بها، وترفع من شأنهم، وتعلي من مكانتهم.
فالخطوة الأولى: هي الجهاد بالمال، ولهذا يقول تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، الحسنة هنا بسبعمائة، الدرهم بسبعمائة درهم، بخلاف الصدقات الأخرى فهي بعشر حسنات، لكن درهم الجهاد بسبعمائة، ومن هذه السورة في آخرها جاء قول الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، أي: إلى ألف ألف.
إذاً: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ [البقرة:245] تعالى لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وقد بينها في آية في هذه السورة، ضرب لذلك مثلاً ليفهم ويفهمه الكبير والصغير: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261]، حبة بر غرزها في الأرض فأنبتت سبع سنابل، كل سنبلة فيها مائة حبة، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
إذاً: هنا تعالى يقول بعدما حذر من الخور والجبن والتخلف عن الجهاد بما بين للرسول بقوله تعالى: ألم ينته إلى علمك حادثة كذا وكذا المتعلقة بأولئك الذين هربوا فارين من الموت فأنزله الله بهم؟
فلذا لنعلم أنه ما أصاب عبداً فقر وقلة ذات يد إلا وقد ابتلي هل يصبر أو لا يصبر، فإن هو لم يصبر فسرق، وفجر، وكذب؛ فهذا في عداد الهالكين الهابطين، فإن هو صبر وثبت على عقيدته وإيمانه وصلاح نفسه وخلقه وآدابه؛ فسوف يفرج الله ما به بعد عام أو أعوام، وعد الله لا يتخلف، المهم أنها فترة يبتلى فيها هل يصبر على قضاء الله وحكمه أو يسخط ويضجر ويخرج عن آدابه وعن دينه وعقيدته.
ومن أعطاه ووسع عليه رزقه وماله فوالله! إنه لممتحن هل يشكر أو يكفر؟ فإن اعترف بالنعمة للمنعم، وحمده وأثنى عليه وواصل ذلك، وأنفق المال في مرضاته ولم ينفقه ضده ولا في معصيته؛ فهذا نجح وفاز، وإن هو -والعياذ بالله- كفر تلك النعمة وصرفها ضد الله عز وجل وما شكر الله فإنه يسلبها إن شاء ويعذبه في الدنيا والأخرى.
هذه قاعدة لا تتخلف: ما رأيت فقيراً إلا علمت أنه مبتلى هل يصبر أو يفجر ويسخط، فهو تحت الامتحان، فإما أن ينجح في هذه المحنة، وإما أن يخسر خسراناً كاملاً، وما رأيت غنياً ذا مال وسعة في رزقه وإلا علمت -وإن شئت أقسمت بالله- أنه متحن أيشكر المنعم فيزيده أو يكفر فيسلبه ويعذبه، وقد تدوم مدة الامتحان والابتلاء، ليست يوماً أو أسابيع، قد تدوم سنوات.
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]، العودة إلى الله، إذاً: فيا لخيبة عبد يبتلى فلا يصبر، يا لخيبة عبد يمتحن فلا يشكر وهو عائد إلى الله، فالصابر والضجر، والشاكر والكافر، الكل عائدون إلى الله بعد موتهم، هذه الآيات التي رفع الله بها قدر المؤمنين والمؤمنات أيام كانوا يدرسونها ويعملون بما فيها.
ولا ننس أن سبعين رجلاً من بني إسرائيل خرجوا مع موسى إلى جبل الطور؛ ليعلنوا عن توبتهم للمصيبة التي فعلوها، وهي شركهم -والعياذ بالله تعالى- وعبادة العجل، فأماتهم الله عن آخرهم وهم في الجبل، وبكى موسى فأحياهم الله عز وجل، والذي يميت السبعين يميت الآلاف، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
إذاً: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243]، عرفنا فضله في إحيائنا وإماتتنا، في إيجادنا وإعدامنا، ما منا إلا وهو يعيش في نعمة الله، فكيف ننسى هذا الفضل وننكره ونتنكر لخالقه وواهبه ومعطيه؟! فلو ذكر هؤلاء هذه الفضائل والإنعامات لما كانوا يفرون من القتال، ولما كانوا يهربون من الوباء، بل كانوا سيصبرون.
فالقتال في سبيل الله، لا في سبيل الوطن والمال والدنيا والتراب والمنصب والجاه والمراكب والسفن، لا يقاتل المؤمنون إلا من أجل أن يعبد الله تعالى وحده، وأن يرفع الظلم عن أوليائه، فإذا ظلم أولياء الله واعتدي عليهم فعلى المسلمين أن يقاتلوا الظلمة المعتدين من أجل تخليص إخوانهم أولياء الله من عذاب الكافرين والمشركين.
ثم معاشر المؤمنين! هذا القتال يجب أن يكون تحت إمرة إمام بايعه المؤمنون، وأعطوه زمامهم وقادهم، هو الذي يدير هذه المعارك ويقود إليها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان خلفاؤه خليفة بعد خليفة، ينبغي ألا يكون القتال فوضى كل جماعة تقاتل وتدعي أنها تقاتل لإعلاء كلمة الله، أو لرفع الظلم، هذا لا يرضاه الله عز وجل؛ لأن نتاجه وثماره ما هو إلا خسران، لم لا يبايع المسلمون إمامهم على طاعة الله وطاعة رسوله؟ وحينئذٍ يجب عليه إذا أتيحت الفرصة وتهيأ الظرف للقتال أن يقاتل بهم في سبيل الله، ومن تأخر تليت عليه هذه الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243] خرجوا حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:243]، الوباء والطاعون أنزله الله بهم عقوبة لهم ففروا، ابتلاهم بالطاعون؛ لأنهم دعوا إلى الجهاد فجبنوا وخافوا، وأبوا أن يقاتلوا مع رسولهم ونبيهم، فلما أصابهم الله بالوباء هربوا خارجين، ظنوا أنهم ينجون من ذلك، فأماتهم الله، آية من آياته لعباده، ثم أحياهم بعد ذلك، وهذا من فضل الله وإنعامه عليهم، وإلا لكان يميتهم ولا يحييهم.
ومن هنا قال تعالى للمسلمين المحمديين: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]، كيف تحاولون أن تهربوا من الجهاد وتتكلموا بضده أو تفكروا في غيره وهو سميع لأقوالكم، عليم بأحوالكم؟
أما أن تخرج جماعة في أقاليمنا التي لا تحكم بالإسلام ويكفروا الحكام ثم يدخلوا في معارك فيقتل المؤمن المؤمن والمسلم المسلم؛ فهذا -والله- ما أذن الله فيه ولا هو بجهاد أبداً.
الجهاد: أن نبايع إماماً بيعة شرعية على أن يسوسنا بشرع الله، ويقودنا بكتاب الله وسنة رسوله، هذه الإمام هو الذي يجاهد برجاله إن كانت الفرص متاحة، إذا رأى نفسه قادراً على أن يجاهد في سبيل الله زحف بسفنه أو دباباته أو سياراته، ويطالب أهل الإقليم المجاور لهم أن يدخلوا في الإسلام أو يدخلوا في ذمة المسلمين؛ لينشر الإسلام بينهم، أو يقاتلوا، والآية المبينة لهذه من سورة التوبة من آخر ما نزل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، هذا نظام الإسلام الرباني، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، وهكذا في ظرف خمس وعشرين سنة بلغ الإسلام إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب تحت هذا النظام.
أما جماعة تقوم على الحاكم بعد أن تعلن عن كفره وما بايعت إماماً ولا التفت الأمة حولها، ولا وافق عليها أهل الإقليم؛ فهذه هي الفتن بعينها.
فالمفروض: أن نطالب الحكام بتحكيم الشريعة بالموعظة والكلمة الطيبة الحسنة، من باب تنبيههم، تعليمهم، أما أن نعلن الحرب ولا إمام ولا قيادة، ويقتل المؤمنون بعضهم بعضاً؛ فهذا ظلم وفسق وخروج عن طاعة الله ورسوله، وعواقبه لا تساوي إلا الدمار والخراب.
يقول تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، أي: قاتل بعضهم بعضاً؛ فما هو موقف المسلمين؟ بينه الله تعالى فقال: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، على إمام المسلمين أن يتدخل في هذا القتال بين طائفتين، فإن كانت إحداهما ظالمة قاتلها حتى ترجع إلى الصواب وتعود إليه بالمفاوضات وبيان الحق، وبيان الهدى، وإذا كانت مظلومة رفع الظلم، وإذا كانت مضطهدة رفع اضطهادها، فإن أبت طائفة إلا القتال فليقاتلها المسلمون مجتمعين؛ حتى ترجع إلى الحق وتقول به.
وأخيراً سأتلو هذه الآية الكريمة وتأملوها: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] بعد أن ماتوا، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، وَقَاتِلُوا [البقرة:244] أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244] أي: من أجل أن يعبد الله تعالى وحده، ولا يعبد معه سواه، ومن أجل رفع الظلم عن المظلومين، إذا أمة ظلمت واعتدت فعلى المسلمين أن يرفعوا هذا الظلم بقتالها، وهو في سبيل الله؛ لأن المظلومين من المؤمنين المتقين أولياء الله، فكيف يسكت المؤمنون ويرضون بالعدو الكافر أن يضطهدهم أو يعذبهم، والظالمون أنفسهم لا نرضى بظلمهم، بل نرفعه.
ودعا الله تعالى المؤمنين إلى البذل والعطاء، إلى الإنفاق لأجل إعداد العدة وتسيير السرايا التي تقاتل في سبيل الله، فقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، والله! ما هو في حاجة إلى أموالنا، ولكن هذه الأموال من أجل إعلاء كلمة الله ورفع الظلم عن المظلومين.
فالمؤمنون يبذلون أموالهم وينفقونها، وقد يخرج أحدهم من ماله كاملاً ولا حرج، وقد يخرج من نصف ماله؛ لأن الله يعوضه ويضاعف له أضعافاً كبيرة، وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].
أولاً: معتدة تحيض، فعدتها ثلاثة قروء، سواء قلنا بالأطهار أو بالحيض، الكل خير، إلا أن الاعتداد بالأطهار أخف على المعتدة، فزمنها أقل، حتى تستريح وتتزوج، لكن الاعتداد بالحيض في صالح الزوج أيضاً، تبقى المدة أمامه طويلة عله يراجع، ففي ذلك فائدة لهذا ولهذا؛ ولهذا لا فرق بين أن نقول: بالأطهار أو بالحيض. هذه واحدة.
الثانية: التي لا تحيض لكبر أو صغر، إما عجوز فوق الخمسين ما تحيض، أو صغيرة بنت تسع أو عشر سنوات ما تحيض، فعدتها ثلاثة أشهر: وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، تسعون يوماً، ثم هي حرة تتزوج بمن شاءت إذا ما راجعها زوجها فيها.
الثالثة: المتوفى عنها زوجها، تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، بعدها لها أن تلبس الحرير وتكتحل وتتعرض للخطبة والزواج، لكن في الأربعة أشهر وعشرة أيام تلزم بيتها لا تخرج منه إلا من ضرورة قصوى.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، هذه الآية من أهل العلم من قال بنسخها، وأنها منسوخة بآية سبقت: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، وآثرنا القول بعدم النسخ، وقد رغب فيه كثير من الصحابة والتابعين والأئمة، فقلنا: لبثها في بيت الزوج أربعة أشهر وعشر ليال هذا هو الواجب، وبعدها يستحب لأهل الميت أن يبقوا هذه المؤمنة التي مات زوجها تأكل وتشرب حتى تكمل السنة إذا أرادوا أن يحسنوا ويعملوا بهذه الوصية الإحسانية: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، فتزيد سبعة أشهر وعشرين يوماً وهي في بيت زوجها الذي توفي، فإذا انتهت السنة تخرج حيث شاءت، وإن أرادت أن تخرج بعد الأربعة أشهر وعشر ليال فلها ذلك، لكن إن قالت: أنا ألفت هذا المنزل وهؤلاء أبنائي أو إخواني سنبقى معكم حتى يفرج الله، فيقال حينئذ: أكملوا لها السنة، وتبقى الآية ليست منسوخة بل محكمة، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، تبقى في بيتها أربعة أشهر وعشر ليال لا تختضب ولا تكتحل ولا تتعرض للزواج أبداً، وإن فعلت فهي آثمة وفاسقة ويجب عليها أن تتوب؛ لأن الله قال: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234].
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234] من التعرض للزواج أو التزوج، لكن تبقى مدة إكمال السنة من باب الإحسان، فإذا ما رغبت أن تخرج من هذا البيت، وقالت: سأبقى معكم حتى تكتمل السنة وبعد ذلك يفرج الله عني؛ فمن الإحسان أن نبقيها، تأكل مع الأسرة وتشرب وتنام حتى تكمل السنة، فهذا إحسان أمر الله به ووصى به: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:240]، ما دامت قد أكملت أربعة أشهر وعشرة أيام فلها أن تخرج، لكن إن قالت: سأبقى معكم حتى أكمل سنة ويفرج الله عني، أليس من الإحسان والرحمة والمودة أن تبقى هذه؟ فالآية -إذاً- محكمة وليس بمنسوخة.
المعتدة الرابعة: المرتابة، من الريب، هذه ليست كبيرة في السن، وما هي بصغيرة، ولكن مع الأسف ما حاضت.
قال أهل العلم: تتربص وتنتظر تسعة أشهر، فإن كان هناك حمل فبها ونعمت؛ لأن عدم الحيض سببه الحمل، فإذا ما حاضت في الشهر الأول، ولا في الشهر الثاني، ولا في الثالث ولا في الرابع فلعله حمل، فإن مضت تسعة أشهر وما حملت فلا حيض ولا حمل، إذاً: حين تستوفي تسعة أشهر مدة الحمل تعتد بثلاثة أشهر، فتكمل سنة وبعد ذلك تتزوج، هذه المرتابة الشاكة، انقطع حيضها لأي شيء، أو لعلها حبلى في بطنها جنين ماكث، فما تحيض مع الجنين أبداً، وقد يتأخر الجنين سنتين، يستقر وما ينمو ويبقى في الرحم.
إذاً: قالت الفقهاء -رحمة الله عليهم-: هذه هي المرتابة الشاكة، عدتها سنة، تمكث تسعة أشهر عسى أن تكون حاملاً في بطنها جنين، وبعد تسعة أشهر إذا ظهر أنه ما هناك حمل فإنها تأخذ في العدة، تعتد بثلاثة أشهر كالآيس من الحيض، فهنا أربع معتدات.
أولاً: المطلقة إذا طلقت قبل المسيس، قبل أن يمسها زوجها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49]، إذا تزوج الرجل المرأة وطلق قبل الدخول عليها فلا عدة عليها، فإن لم يسم لها صداقاً فلا صداق لها؛ لأنه ما سمى لها شيئاً، إذاً: فماذا تعطى؟ تعطى المتعة، يمتعها الزوج الذي طلقها بحسب حاله فقراً وغنى، إعساراً ويساراً.
ثانياً: مطلقة طلقها قبل أن يمسها وقد سمى لها مهراً، فلها نصف المهر، إلا أن تتنازل عنه كله، أو يتنازل هو عنه كله، وقد ذكرنا اللطيفة أمس: وهي أنه إذا كانت هي التي طالبت بالطلاق فمن الخير أن تقول: تنازلنا عنه، ما دمت أنا نجوت بنفسي، فمن الخير أن تكون هي التي تعفو، وإذا كان الزوج هو الذي أراد طلاقها وما رغب وأخزاها وأذلها بين النساء فمن الخير أن يترك المهر كله لها، أما الآية فالله تعالى يقول: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ففتح الله علينا وقلنا: يعفو الرجل إذا كان هو الذي رغب في طلاقها، أليست هي تشعر بمهانة؟ يعقد عليها وقبل أن يدخل بها يطلقها، فمن الخير أن يتنازل عن النصف، وإذا كانت هي كرهته وما أرادت أن تتزوج، وهو يكرب لهذا ويحزن؛ فمن الخير أن تتنازل هي عن النصف.
ثالثاً: مطلقة كان قد بنى بها ودخل عليها وطلقها، فهذه إن سمى لها مهراً فلها مهرها كاملاً، وإن لم يسمّ لها مهراً فلها مهر مثيلاتها من الشريفات والوضيعات والغنيات والفقيرات، هذه تزوجها وما سمى لها المهر لا مليون ولا ألف، ثم طلقها بعد الدخول بها والبناء حتى بعد الولادة، فما الحكم؟ تعطى مهر مثيلاتها، القاضي ينظر إلى هذه الأسرة: هل هي أسرة فقيرة، أو غنية شريفة، أو وضيعة، فيعطيها مهر مثيلاتها من جنسها، هذه هي الرابعة.
فهذه خلاصة هذه الآيات، وهذا فقهها، والله تعالى أسأل أن يحفظنا وإياكم وأن يراعانا وإياكم ما حيينا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر