وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عهدنا مع تفسير كتاب الله عز وجل في مثل هذه الليلة.
والآيات المباركة التي ندرسها معاً إن شاء الله هي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:240-242].
أذكركم بالموعود على لسان سيد كل مولود؛ لتستبشروا خيراً، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله أن جعلنا من أهل هذا الموعود على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشاهد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ [البقرة:240]، أي: يموتون، ولكن من يتوفاهم ويوفي آجالهم وأعمارهم؟ الله عز وجل، قال تعالى: مِنْكُمْ [البقرة:240] يا معشر المؤمنين لا من غيركم من الكافرين والمشركين، هؤلاء ما هم بأهل للتشريع والبيان؛ لأنهم كفروا الله وجحدوه، وكفروا رسوله وأنكروه، وكذبوا بكتابه ورفضوه، ما هم بأهل لهذا، مِنْكُمْ [البقرة:240] معشر المؤمنين، فالحمد لله أن كنا أهل شأن عند الله، ينزل كتابه علينا ويبين لنا الطريق ويهدينا السبيل؛ لنكمل ونسعد، فالحمد لله.
قال تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240]، يوصون وصية لأزواجهم، قبل أن يموت يوصي أبناءه، إخوانه، أعمامه، أقاربه: إن فلانة تبقى في البيت سنة كاملة إن رغبت في ذلك، لا تزعجوها، لا تقلقوها، هي زوجي وأنا زوجها، أوصيكم أن تبقى بعدي أربعة أشهر وعشرة أيام أو تبقى فوقها سبعة أشهر وعشرين يوماً، إلا إذا أحبت أن تخرج فمع السلامة.
وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، وتأكل وتشرب كما كانت، وتنام، هذا إحسان عظيم، فهل عرفه الناس؟ تعتد بأربعة أشهر وعشر ليال، وتكمل السنة في بيت زوجها مع أولاده، مع بناته، مع أولادها، لا تزعجوها سنة، وإذا أرادت أن تخرج قبل السنة إذا أكملت أربعة أشهر وعشر ليال فشأنها، لكن من باب مراعاة الإحسان الذي يعيشه المسلمون، وهو شعارهم، فدعوها في بيت زوجها حتى تكمل السنة ثم مع السلامة.
والذي ذهب إليه إمام المفسرين ابن جرير الطبري أن الآية ليست منسوخة، وتوجيهها كما علمت، ورجح هذا ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يفصح ابن القيم تلميذه.
إذاً: لا بأس أيضاً أن تنزل آية ثم تنزل أخرى، والأولى تنسخ الثانية؛ لأن كتابتها يأذن جبريل فيها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول له: اكتب الآية الفلانية في الموضع الفلاني، وتنزل الآية وتبقى سنة وسنتين ثم تنزل الآية الأخرى وتكتب معها بعدها، إلى أن نزلت آخر آية من كتاب الله: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] هي آخر آية من كتاب الله، وآخر سورة نزلت هي سورة النصر.
إذاً: نعود إلى السياق الكريم، وتهيئوا لتعملوا إن شاء الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً [البقرة:240]، يوصون لزوجاتهم، ويمتعونهن بهذا الوصية متاعاً، بحيث تبقى المرأة مع أولادها، أو أولاد زوجها من زوجة أخرى، أو مع أبيه حتى تكمل أربعة أشهر وعشر ليال، ولا تخرج أبداً من البيت إلا لضرورة، ولا تبيت إلا في بيتها؛ مراعاة لمصيبة أهلها، هم حزينون متألمون، وهي تخرج وتتعرض للزواج؟! لا يتلاقى هذا أبداً مع المروآت والكمالات، وإنما تمكث أربعة أشهر وعشر ليال وهي في بيت زوجها مع أولادها إن كان له أولاد، فإن انتهت الأربعة أشهر والعشر فلا بأس بأن تكتحل، أن تتجمل، أن تقبل من يخطبها للزواج.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:240]، لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهذا التبيين أثره، فالله تعالى عزيز قوي، لا يمانع في شيء يريده، حكيم يضع كل شيء في موضعه.
إذاً قوله تعالى: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، أي: إلى العام، غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، أي: لا تخرجوهن، فإذا انتهت السنة فإن شئتم أخرجتموها، وإن شاءت خرجت هي.
وقوله: فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة:240]، هذا القيد دائم، أذن لها في أن تتحسن، وتتزين، لكن في حدود معقولة، لا تخرج إلى الشوارع وهي متطيبة لتفتن الناس، بل بالمعروف، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:240].
فهذه الآية الأولى اعلموا أن القول الراجح فيها أنها ليست منسوخة، لا بآيات المواريث ولا بالآية التي تقدمت، وإنما هي محكمة.
ومعنى هذا: إذا أوشك الفحل أن يموت فإنه يوصي أبناءه أو إخوانه: فلانة أتركوها معكم سنة، لا تزعجوها، وإذا أرادت أن تخرج فلتخرج، فهل هذا يتنافى مع الأدب؟ مع العلم؟ مع الرحمة؟ مع الحكمة؟ هذا مظهر من مظاهر الدعوة الإسلامية ومنهجها السليم.
واسمعوا الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] في الأربعة الأشهر والعشر الليالي، هذه فريضة واجبة من أنكرها كفر، ومن أهملها يؤدب حتى يتوب، لكن في الزيادة على أربعة أشهر وعشر ليال، أراد الله تعالى للمؤمنين أن يعيشوا على المعروف والإحسان، إذ قد توجد امرأة غريبة، جاءت من ديار بعيدة فمات زوجها وما عندها أولاد، فيقول إخوان الزوج أو أعمامه: عودي إلى بلادك، فهنا يقول الهدي القرآني: ارحموها، لتجلس سبعة أشهر أخرى وعشرين ليلة حتى يفرج الله عنها، فإن أكملت السنة فلكم ذلك، وقبله تأكل وتشرب معكم، أما كانت مع أخيكم أو أبيكم؟ فلم تطردونها إذاً؟ وإن هي آثرت ورغبت في الخروج فلا بأس، فالآية -إذاً- محكمة، وأدت فضيلة عظيمة.
المطلقة الأولى: هي التي لم يبن بها الفحل، أي: الرجل، عقد عليها وما أعطاها المهر بعد ولا سماه، وشاء الله أن يطلقها قبل الدخول عليها وقبل البناء بها، حيث ندم، أو هي غضبت وصاحت على أبيها أنها ما تريد أن تتزوج، يحدث هذا، ونحن -كما تعرفون- نعيش على البر والإحسان، فما دامت قد صرخت وقالت: دعني يا أبي، لن أتزوج، طلقني، فيقول: يا فلان! هذه البنت متأثرة، حزينة، ستؤلمك، فطلقها، فيقول الزوج: مرحباً، ويطلقها، وذو الإحسان والبر يفرح، يقول: كيف نزعج هذه المؤمنة؟! ما دام أنها ما أرادتني وكرهتني فإني أطلقها، فإن طلقها قبل البناء، ولم يكن قد سمى لها مهراً ولا أعطاها، إذاً: ما لها إلا المتعة، يجب أن يمتعها بسيارة، طيارة، فلة، ثياب، خاتم من ذهب، سوار، متعة واجبة، والشارع حكيم، إذاً: لا حق لي أن أقول: لم؟ لأن الله تعالى هو العليم الحكيم، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49]، جربوا هذا يا معشر المؤمنين.
فهذه المتعة بالمعروف لا بد منها هنا؛ لأنها طلقت وما أخذت مهراً ولا نصفه، ولا عدة عليها، لا شهر، ولا حيضة، ولا ثلاثة أقراء؛ لأن العدة خشية أن يكون في رحمها جنين، وهذه ما مسها الزوج، فتعتد لماذا؟ هذه الآية من سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:49] بالعقد، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، من قبل أن يطأها ويجامعها، وعبر بالمسيس عن الجماع لأن الآداب الرفيعة تأبى ذلك، تأبى أن يقول: من قبل أن تجامعوهن. لا ينبغي هذا، وفي الحديث: ( الحياء كله خير )، ( الحياء من الإيمان )، لا خير فيمن لا حياء له، إذا رحل الحياء رحل الإيمان، فقووا الحياء ونموه في أبنائكم وبناتكم، وابدءوا بأنفسكم فإنه لا خير فيمن لا حياء له.
والذين يجلسون أمام شاشة التلفاز وعاهرة تغني، وقرينها شيطان يقبلها ويحتضنها، وأهل البيت يضحكون هل يبقى فيهم حياء؟ أعوذ بالله! يرحل الحياء ويتبعه الإيمان، انظر إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم لشدة حيائه رأى رجلاً أمامه يدعو: يا رب .. يا رب .. يا رب، بدون أن يتوسل إلى الله بحمده والثناء عليه وتمجيده والصلاة على نبيه، يقول مباشرة: رب أعطني كأنه هو السيد، فاستحى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: يا عبد الله لا تقل هكذا، افعل كذا وكذا، غلبه الحياء، فالتفت إلى أصحابه عن يمينه أو عن شماله وقال: ( لقد عجل هذا ) يعني: استعجل، ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه جل وعز والثناء عليه ثم يصلى على النبى صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء )، أما أن يقول مباشرة: رب أعطني؛ فهذا سوء أدب.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغه شيء عن أصحابه يرقى المنبر ويخطب الناس ويقول: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا )، أما نحن فنقول: يا كذاب! يا كذا! ولا لوم ولا عتاب؛ فما ربينا في حجور الصالحين، ما تربينا في بيوت الله، تربينا في بيوت الشياطين المقاهي والأسواق والملاهي والسينما، فماذا ترجو منا؟ لا تلمنا يا هذا، ولكن نبكي لحالنا.
والمهم أن ذلك هو حكم المطلقة قبل البناء، لا عدة تجب عليها، لا يوم ولا عشرة، من يومها تتزوج، ويجب لها المتعة بحسب يساره وإعساره، ولا بد من المتعة لهذه المطلقة.
هذه لها نصف المهر، ولا متعة لها، يكفيها أنها أخذت عشرة آلاف ريال وما مسها الزوج، ولا عدة؛ لأنه ما بنى بها، فمن عقد عليها الرجل وأمهرها مهراً وسماه أو أعطاها إياه، وأراد الله ألا يتزوجها فطالبت بالطلاق، أو طلق هو لأسباب، فما الحكم؟ يعطيها نصف المهر، إلا أن تتنازل وتقول: هو لك بكامله يا فحل، أو يقول: هو لك يا فلانة، وهذا يقع من المؤمنين والمؤمنات ممن يعيشون على هذه الكمالات، لا يزعجها، لا سيما إذا كان هو ما رغب فيها، إذا لم يرغب في هذه المؤمنة فمن الأدب ألا يسترد منها شيئاً، وكذلك هي من أدبها إذا كانت هي التي رغبت عنه أن ترد إليه ما أعطاها، فسبحان الله! آمنا بالله، فهذا تشريع من؟ هل تشريع نابليون ؟ هذا تشريع الله.
والمسلمون اليوم يدرسون القوانين الكافرة الملحدة البلشفية، ولا يدرسون كتاب الله، فكيف نسمو؟ كيف نرقى؟ كيف نخرج من ذلنا وهواننا ودوننا؟ ونحن مفارقون تمام المفارقة لأصول الكمال وسلالمه، لم لا يعرف المسلمون هذا؟
قال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، اللهم إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، وقد فتح الله علينا الآن بما لم يفتح به على غيرنا، وقلنا: إذا كان هو الذي رغب عنها وما أرادها؛ فهو الذي يقول: المهر لك كاملاً، وإذا كانت هي التي رغبت عنه وما أرادته، بكت أمام أبيها وأمها تقول: ما أريده يا أبي؛ إذاً نقول لها: تنازلي عن نصف المهر له.
هذه المطلقة حين تنتهي عدتها يمتعها بخادم كما يقولون، أو بثياب جديدة، بشيء من الذهب، بشيء من الفلوس حسب حاله، ومع السلامة يا فلانة، ونلتقي إن شاء الله في الجنة.
كلا. بل حالنا: يا فاعلة! يا كذا! ونحوه من السب والشتم والتعيير، فلا إله إلا الله! أين نحن؟ هبطنا وقد كنا في علياء السماء، أيام كان نور الله يغمرنا، وحكمة محمد تقودنا سدنا وارتفعنا، وحين تخلينا عن الكتاب والسنة هبطنا، فمن يرفعنا؟ وهل القرآن يرفع؟
اسمعوا الآية التي فيها الرافعة، الرافعة عندنا الآن هذه ترفع الصخور والسيارات من الباخرة، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175] يا رسولنا نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]، هل تعرفون الحية حين تنسلخ من جلدها، تتركه أبيض نقياً وتخرج منه بزفرتها وسمومها.
إذاً: الانسلاخ من القرآن وضعه على الرفوف فقط، أما المحاكم فلا يوجد فيها مصحف، فهل هذا انسلاخ أو لا؟ تركناه وراءنا.
فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]، أي: من الآيات، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175]، لم؟ لأن المناعة زالت، كان في صيانة وحصانة بكتاب الله ووحيه، ولما تركه وراءه سهل على الشيطان أن يجري وراءه ويمسكه.
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]، عبارة عجيبة هذه! فهل تعرفون الغي والغواية؟ إنها أوساخ، فكان من الوسخين في أرواحهم ونفوسهم وسلوكهم.
قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176]، بالآيات؛ إذ هي الرافعة، وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]، لصق بها، ما يرفع رأسه إلى السماء، كحالنا الآن: الدولة الإسلامية فيها عشر وزارات كلها تتكلم عن الدنيا، ما هناك من يتكلم عن الآخرة أبداً، فهذا خلود إلى الأرض أو لا؟ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176]، وهل الهوى يتبع؟ إنما يتبع هواه الهالك، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] هذا كلام الله، هذا قرآن من سورة الأعراف: كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176]، في ماذا؟ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ [الأعراف:176] وتجري وراءه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]، الماء في الحوض، والظل ظل الشجرة، والكلب تحته وهو يلهث.
فمنذ انسلخ المسلمون من كتاب الله بمكر أعدائهم وكيدهم وتركوه وهم يلهثون، والله! لن يستريحوا، فقولوا: صدق الله العظيم، قولوا: آمنا بالله!
إذاً: المطلقة الثالثة: هي التي يكون قد بنى بها زوجها وطلقها، هذه لها مهرها كاملاً؛ وإن بقي منه شيء فلا بد منه وجوباً، ويمتعها بحدود سعته وضيقه، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].
وإن كان صعلوكاً فقال لها: اذهبي عنا، وما أعطاها، فماذا تعمل؟ لا تحاكمه عند القاضي؛ لأن هذه من السنن والآداب، لا يحاكم عليها الشخص، لكن المتقين والمحسنين يوبخون فقط، يلقاه مؤمن فيقول له: كيف تخرج فلانة بيديها عارية، حتى الكسوة ما كسوتها؟ فيذوب من الحرج، فمثل هذا يعلم ويعطي المتعة.
المتقون: هم الذين آمنوا بالله إيماناً يقينياً؛ حتى أثمر لهم ذلك الإيمان حبه تعالى في قلوبهم فأصبحوا يحبون الله أكثر مما يحبون أنفسهم وأموالهم وأهليهم والناس أجمعين، وأثمر لهم شيئاً آخر وهو الخوف منه، أنتج لهم الخوف منه فلا يستطيعون أن يعصوه ولا أن يخرجوا عن طاعته، بل إذا ذكر الله تعالى بين أيديهم اضطربت نفوسهم وتحركت قلوبهم، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج:35]، هؤلاء المؤمنون الذين آمنوا إيماناً حقيقاً يقينياً صادقا، من شأن هذا الإيمان أن ينتج لهم الخوف والحب، ومعنى هذا: أن المؤمن الصادق الإيمان ليحب الله أكثر من كل شيء، ووالله! إنه ليخاف الله، حتى الكلمة يخاف أن يقولها وهي تغضب الله، لقوة الإيمان.
ثانياً: التقوى: هي معرفة محاب الله ما هي من الاعتقادات والأقوال والأعمال، يبقى طول حياته يسأل: ماذا يحب ربي؟ حتى يعرف محاب الله من أجل أن يفعلها له ويقدمها له، ثم يسأل عن مكاره الله: ماذا يكره ربي؟ فيقال: يكره كذا، كذا، كذا فيعرف ما يكره، ولا يأتيه إلا مكرهاً، ذلكم المتقي، وهؤلاء هم المتقون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم أولياء الله تعالى.
حجبوا الولاية عن الأحياء حتى يزني بعضهم بنساء بعض، ويأكلوا أموال بعضهم، ويضربوا وجوه بعضهم، ويغش بعضهم بعضاً كأنهم غير مسلمين، في حين أنه إذا وقف على قبر يرتعد، ويا ويحك إذا قلت: الولي الفلاني كذا، يبجلون ويعظمون الأموات تعظيماً عجيباً، حسبك أنهم ينقلون إليهم المرضى، ويعكفون حولهم بالزيارات كأنهم آلهة، وأما المؤمنون منهم فمن استطاع أن يذبح جاء يذبح من أجل الريالات.
ثم قالوا -كما في حاشية الحطاب على خليل -: من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة، إذاً: قل: أنا عدو الله لتسلم! أعوذ بالله، أعوذ بالله! إذاً: ماذا نقول يا شيخنا؟ قل: أنا عدو الله، فمن لم يكن ولياً فماذا يكون؟ يكون عدواً.
فكل المؤمنين أولياء ولكن بينهم تفاوت كبير، وعندنا مثال حي، وهو الرتب العسكرية، فهي كثيرة، فأول ذلك الجندي، ومنها عريف، ملازم، ملازم ثان، كذا كذا.. إلى جنرال، فكذلك أولياء الله بقدر حبهم لله وخشيتهم منه يتفاوتون، والمثل الواقع: أبو بكر الصديق سيد الأولياء على الإطلاق، والناس من دونه واحداً بعد واحد إلينا، فمستوانا ليس بواحد، ونحن في الحلقة لسنا كلنا على رتبة واحد، بل نتفاوت، هذا يصوم الخميس والإثنين، ونحن نصوم ثلاثة أيام من الشهر مثلاً، هذا يزكي فقط، وهذا كل يوم يده في الريالات يوزع، فهل هم على مرتبة واحدة؟ هذا يصلي ثلاثين ركعة في اليوم، هذا يصلي سبعين ركعة، يتفاوتون، لكن اسم الولاية حق، فكل مؤمن تقي هو لله ولي.
فلهذا ما نستطيع أن نسب مؤمناً أو نشتمه أو نغشه أو نخدعه أو نأخذ ماله بحيلة أو بقوة أو نضربه، لأننا أولياء الله، كيف نزني بابنته ونفسدها عليه؟! ولكن المسلمين ما عرفوا، ما بلغهم قول الله تعالى: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، لو عرف المسلمون هذه لسادهم الطهر والصفاء، وعمتهم المودة والإخاء والمحبة والولاء، وأصبحوا حقاً أولياء الله كجسم واحد، فمن يبلغهم هذا؟ أين العلماء؟ أين طلاب العلم، أين المسئولون والحكام والبصراء؟ هيا بالمؤمنين إلى سعادتهم.
هذا هو الطريق، والله! لا طريق سوى هذا إن أردنا أن نكمل وأن نعود إلى كمالاتنا، أما سائر الأنظمة والقوانين والتوجيهات فهراء لا تنفع.
قد تقول: يا شيخ! كيف عرفت هذا؟ فأقول: أنا قرأت ما دعا به إبراهيم وإسماعيل ربهما وهما يبنيان البيت: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، واستجاب الله، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، فالذين تخرجوا على هذه الدراسة أمثال الصديق والفاروق وذي النورين وفلان وفلان لم تكتحل عين وجود برجال مثلهم من عهد آدم إلا من كان من الأنبياء والمرسلين، فاقرأ كمالاتهم وانظر إليها كيف هي.
فأين العلماء؟ أين الدعاة؟ أين المبلغون؟ لقد كتبوا وقالوا: هذا هراء، كيف نجتمع من المغرب إلى العشاء؟ فقلت: لم يجتمع اليهود والنصارى من المغرب إلى نصف الليل في المقاهي والملاهي ودور الباطل والمنكر، وأنتم ما تستطيعون أن تجلسوا ساعة ونصفاً؟
ثم قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [البقرة:242]، أي: كهذا التبيين، فهل هناك أعظم من هذا؟ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:242]، تنمو عقولكم وتصبحون أهلاً لأن تعرفوا عن الله عز وجل، يوماً فيوماً حتى نصبح نعرف أحكام الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر