وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل.
وقد سبق لنا أن درسنا قول الله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231].
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]، ولا تمسكوهن لأجل الإضرار بهن لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]: كان أحدهم في الجاهلية يطلقها حتى إذا أوشكت العدة أن تنتهي يراجعها لينكل بها وينغص حياتها، ثم يطلقها وهي في عدتها، فإذا أوشكت أن تنتهي العدة يراجعها، فأبطل الله هذا القانون الجاهلي، فأنزل هذه الآية فيصلاً في القضية.
اسمع: يقول الله جل جلاله مخاطباً عباده المؤمنين والمؤمنات: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231] أيها الفحول فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231] أي: أشرفن على نهاية العدة؛ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]، لا تمسكها لتنكل بها وتضايقها وتؤذيها وهي في عصمتك، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]: لا سب ولا شتم ولا أخذ لحق من حقوقها.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231] أي: تعرض لنقمة الله وعذابه، وقد عرفنا أن الله لا يرضى أن يؤذى عبده ولا يرضى أن تؤذى أمته كذلك.
وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231] وسخرية وضحكاً ولعباً، فلا تطبقوها ولا تنفذوها في حياتكم، هذا موقف لا يقفه إلا من تعرض لنقم الله وسخطه.
يقول الحكماء: نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، بعدما كنا في عز وطهر وصفاء نصبح أذلة مهانين مساقين كالأنعام، أما سلط علينا أوروبا؟
وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ [البقرة:231] المراد بالحكمة السنة. يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231] آمراً وناهياً، وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:231] قبل كل شيء، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231] اتقوه، التزموا ما أمركم بالتزامه، أحلوا ما أحل وحرموا ما حرم، أدوا ما أوجب واتركوا ما نهى عنه، بهذا يتقى، لا يتقى بالسلاح ولا بالرجال، وَاعْلَمُوا [البقرة:231] زيادة على ذلك أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231].
يا من يريد أن يحتال على هذه المؤمنة ويراجعها لينكل بها ويضر بها! لا تحسبن أنك وحدك، إن الله معك، يراك ويعلم حالك ظاهرك وباطنك، فهذه توجد المهابة في قلب المؤمنين والمؤمنة، ولهذا أهل الإيمان والتقوى هم أقرب الناس إلى الله عز وجل.
فنزلت هذه الآية فيصلاً، فربنا يسمع ويعلم ويرى حادثة وقعت في ظلام هذه الدنيا بين رجل وامرأة، يعلم وهو فوق السماوات السبع، فوق العرش، فوق الملكوت كله، كأنه معهم؟! آمنا بالله، نزلت هذه الآية لتحل هذا المشكلة وأمثالها مما قد يحدث في أمة الإسلام، فنزل قوله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:232] انتهت العدة، فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232]، العضل: المنع، أمسكها بعضلته لئلا تتزوج، فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232].
ففي الآية السابقة أراد المطلق أن يراجعها لينكل بها، يتركها حتى تكاد العدة تنتهي ثم يراجعها؛ ليبقى يسب ويشتم وينكل بها، فهذه حرمها الله.
ولكن هنا على خلاف تلك، فهنا تزوج الرجل هذه المؤمنة وشاء الله أن طلقها، وقبل أن تنتهي العدة راجعها، عاش معها زمناً ثم طلقها، وانتهت عدتها، فرغب أن يعود إليها ورغبت أن تعود إليه، فأخوها معقل بن يسار قال: لن يكون هذا، ما نرضى بمثل هذا الشخص يطلق مرتين ويراجع، فقال لأخته: وجهي من وجهك حرام إن تزوجته، فمن يفصل الآن؟ الله تعالى، فنزل قوله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:232] وانتهت العدة، فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] تمنعوهن أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، إذا كانت هي راضية وكان هو راضياً وبالإحسان والمعروف لا بالحيل والمكر.
فماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم لـمعقل بن يسار ؟ قال له: ( إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح أبي البداح
لأن هذه أخت معقل ومنعها لأنه ولي، ففي هذه الآية دليل على شرطية الولاية في النكاح، فولي المرأة أبوها، فإن مات أبوها فأخوها الراشد الرشيد، فإن مات أخوها فابن أخيها الرشيد، فعمها، فابن عمها، فإن لم يكن ولي فالقاضي وليها؛ القاضي ولي من لا ولي له، فإن عدم القاضي أفتانا عمر فقال: فوليها ذو الرأي من عشيرتها، فعشيرتها وقبيلتها إذا كان فيهم رجل فحل ذو رأي وبصيرة ووعي فهو الذي يتولى عقد نكاحها؛ فإذا كانت قرى ما فيها قضاة أبداً، فماذا يصنعون؟ هل يسافرون على الجمال عشرة أيام؟ ذو الرأي من عشيرتها يتولى عقد نكاحها.
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] عن أي شيء؟ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] بشرط أو بدون شرط؟ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، ذَلِكَ [البقرة:232] هذا الحكم المذكور يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232] فماذا قال معقل ؟ قال: آمنت بالله. ورد أخته إلى زوجها، أما الذي لا يؤمن بالله ولقائه فهو ميت، سبحان الله! فهيا نعمل على تقوية إيماننا بالله ولقائه.
من شر الخليقة؟ الكفار والمشركون، ما وجه كونهم شر الخلق؟ لأن سيدهم أوجدهم خلقهم جملهم حسنهم، خلق كل شيء من أجلهم، فصاروا يكفرونه ويعبدون غيره؟ والله! إنهم لشر الخليقة بقضائك العقلي.
مثاله: كريم من الكرماء يعالجك يا مريض فتشفى، ويكسوك فتجمل بكسوتك، وينزلك في قصرٍ، ويرسل لك خدماً يخدمونك يقدمون الطعام والشراب ليل نهار طول عمرك، ثم لا تقول: جزاه الله خيراً؟! هذا شر الخلق.
صدق الله العظيم: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، يقولون: لم نحن شر البرية؟ فبصرهم فقل: أيخلقكم الله جل جلاله، ويخلق أمهاتكم وآباءكم، ويخلق الأرض والسماء لكم، وكل المخلوقات من أجلكم، ثم لا تعترفون به، وتعبدون أصناماً وأوثاناً أو فروجاً وشهوات، أي عقول عندكم؟ فإن قالوا: مع الأسف: ما عرفنا؟ فقل: لم ما تسألون عنه وتعرفونه؟ ولهذا فعذابهم أبدي لا ينتهي أبداً.
قال تعالى: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ [البقرة:232] أيها المؤمنون يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232] يصدق بوجود الله رباً وإلهاً، ذا جلال وكمال، لا إله إلا هو ولا رب سواه، ويؤمن بلقائه بعد باليوم الآخر من أيام الدنيا التي سوف تنتهي، ذلك هو اليوم الآخر، وننتقل إلى اليوم الخالد الأبدي.
إذا تزوجت ابنتك وطلقها زوجها وبعد سنة أو سنوات ردها، ثم طلقها، فلا تقل: والله! لا ترجع، بل انظر هل هي راغبة في الرجوع؟ وهل هو راغب أيضاً؟ هل استوت الرغبتان؟ هل صلحت حالهما؟ هل تعاهدا بالطهر والصفا، فإن تم ذلك فزوجها، ردها عليه بعقد جديد قطعاً.
اسمع هذا النداء الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، من يرد على الله؟ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] خاصة من اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وقد نبهنا وبكينا وصرخنا، وقلنا: نبعث بفلذات أكبادنا، بأعضادنا وسواعدنا ونضعهم بين يدي المعلمين من اليهود والنصارى في بلاد الكفر والشرك والباطل، فيتخرجون يحبون أساتذتهم ومربيهم ومعلميهم، ويأتوننا وقلوبهم ممسوحة، لا إيمان بالله ولا بلقائه، ثم نوليهم مناصب البلاد ومراكزها، فكيف نأمنهم؟ ويا من يريدون البرهنة والتدليل بالعقل! لقد استقلت ديارنا إقليماً بعد إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا، ما استطاع إقليم واحد وقد قامت فيه دولة البلاد الوطنية أن يفرضوا الصلاة فقط على الأمة، مع أن الصلاة هي عمود الدين، لو أقاموا الصلاة فوالله الذي لا إله غيره! لكان نصف البلاء كله يختفي بإقامة الصلاة، لم ما أقاموا الصلاة؟ هل طالبوا بالزكاة وفرضوا على مواطنيهم وجبوها برجالهم؟ لا، إذاً: أليسوا في حاجة إلى المال؟ هم في حاجة، ولكن استبدلوا بها الضرائب، وقالوا: لا تقولوا الزكاة فتحيوا في قلوبهم الإيمان والإسلام، قولوا: الضريبة! هل وجد في بلد من تلك البلاد من أسند إليه أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمشي في الشوارع إذا رأى منكراً يغيره، وإن رأى معروفاً ضاع أمر به؟ والله! ما كان، فقط البوليس بالكرباج والصفارة، يسمع هذا يسب الله ورسوله فما يبالي، ما سر هذا؟
لأن الذين أسندت إليهم قيادة البلاد والأمة ما تخرجوا من مثل هذه المجالس، درسوا وتخرجوا من تحت أساتذة روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا ووليناهم، فكيف يقودوننا؟ ولا نلومهم؛ فقد أعموهم أصموهم قلبوا عقولهم وقلوبهم، جاءوا إلى بلدة وجدوها منتكسة، فلا من يغضب لله ولا لرسوله، فحصل هذا الذي حصل، وأيام الاستعمار كثير من البلاد -والله- أفضل منها اليوم.
من القائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]؟ الله. ثم قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] من أين يأتيكم الكفر وتأتونه والمناعة قائمة والحصانة ثابتة، وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟
نريد علماء النفس يكونون حاضرين معنا، علماء السياسة، علماء الكون والحياة، هل ينقضون هذه؟ والله! لأن يعقدوا بين شعيرتين أيسر من أن يقضوها، والله! لمن السهل أن يبنوا قصراً بين السماء والأرض، ولن يستطيعوا أن ينقضوا كلام الله.
وأين بيت القصيد؟ في قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فلو كان المسلمون منذ أن كانوا ومن اليوم إلى غد يجتمعون بنسائهم ورجالهم وأطفالهم كل ليلة في بيوت ربهم اجتماعنا هذا، يتلقون الكتاب والحكمة، فوالله! ما طرأ الذي طرأ، ولا حصل الذي حصل؛ لأن هذا الشاب ترعرع في أنوار الله ورسوله، لما بعثناه إلى بريطانيا يدرس وقد تجاوز العشرين أو الخامسة والعشرين فهو سيهديهم، ولا يضلونه، هو سيؤثر عليهم، وقلنا لهم: إن أردتم أن تبتعثوا بعثة فاختاروا الطلبة الصالحين، لا الحشاشين ولا المدخنين، اختاروا الأذكياء الأبرار من آباء وأمهات طيبين صالحين، وألزموهم بلباسهم الذي يلبسونه، وابعثوا إماماً ومربياً، واتخذوا لهم فندقاً خاصاً أو شقة، فيدرسون دراستهم ويعودون إلى مسجدهم وبيت ربهم يتلقون الكتاب والحكمة ويقيمون الصلاة، أمثال هؤلاء هل يؤثر فيهم؟ والله! ما يستطيعون، هم الذين يؤثرون، أما أن نسلخهم فنجعلهم كالبريطانيين، نقول له: احلق وجوهك فحلقه، واعمل الكرفتات واعمل كذا وكن بريطانياً، وندمجه في أسرة بنسائها العواهر وأطفالها؛ فهل سيرجع مسلماً؟ مستحيل، إلا أن يشاء الله.
يقول تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]، أما الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر فما يمكن أن ينهض بتكاليف كهذه أو يرغب فيها؛ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:232].
لا إله إلا الله! هل هذا القرآن يقرأ على الموتى فيتوبون ويستغفرون الله؟ ماذا يصنعون؟ مضت قرون والمسلمون لا يقرءون القرآن هكذا أبداً، ولا يجتمعون عليه إلا ليلة الموت فقط لسماعه.
قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ [البقرة:233] جمع والدة، وهي المرأة التي تلد، ويقال فيها: والدة.
يُرْضِعْنَ [البقرة:233] الإرضاع معروف، ذاك اللبن الأبيض الحلو الذي تحول برحمة الله التي أوجدت عاطفة أم هذا الولد، يتحول من حمرة الدم إلى بياض اللبن وعسله، يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة:233] كم؟ حَوْلَيْنِ [البقرة:233] ما الحول؟ العام، من حال يحول: إذا تبدل، حال الحول: رجع هذا اليوم في ذاته، هذا الحول.
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233] لا تقل: عاماً وعشرة أشهر، أو سنة وأحد عشر شهراً، حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233] هذا لمن؟ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، فإذا أراد يكتفي بعام، أو بعام ونصف فشأنه.
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ [البقرة:233] هذه الأمة من إماء الله ولدت لك أنت إبراهيم، أنت زرعت وحصدت وهي جزاها الله خيراً.
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] هذا إذا كانت ما طلقت فلا بد من كسوتها وإطعامها بالمعروف، لا يكلف ما لا يطيق، فلا يقال: لا بد من البقلاوة والدجاج المقلي! بل حسب حالته، بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] لا ما يخالف العرف.
وإن كانت مطلقة وولدت فمن يرضع هذا الولد؟ ترضعه هي إذا اتفقت مع زوجها حولين، وبعد الحولين ما بقي شيء: ( لا رضاع بعد الحولين، ولا يتم بعد الاحتلام ).
إذاً: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] إذا كان ولدت وهي مطلقة قد انتهت عدتها بالوضع، فالمطلقة إذا كانت حبلى تنتهي عدتها إذا وضعت، واقرءوا لذلك قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فلما وضعت حملها بانت من زوجها، إن شاء قال: أعطني ولدي، لكن لا بد أن ترضعه اللبأ، لا يسمح لها الشرع بأن تعطيه لأول ساعة، فإنه ما يعيش، لا بد من اللبأ يرضعه من ثديها، وبعد ذلك إذا اختصما وما اتفقا فليرضعه عند من شاء، وإن اتفقا وأرضعته فعليه كسوتها وإطعامها ونفقتها بالمعروف.
اسمع كيف يسوي بينهم: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [البقرة:233]، لا يضر الوالدة بولدها فيلزمها أن ترضعه مجاناً وهي عاجزة، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233] ولا هي تقول: أعطنا خمسة آلاف وإلا فلن نرضعه، لا هي تتأذى ولا هو يتأذى، والمولى هو الحاكم.
لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233] فهو مولود له أو لا؟ ولهذا ما نقول: سليمان بن فاطمة، بل سليمان بن داود؛ لأنها هي ولدت له لا لها هي، سبحان الله!
الوارث يتناول الورثة الذين مات والدهم، أبناؤه الكبار، إخوانه، أعمامه ورثة أو لا؟ هم الذين يعطون هذه المرضعة المطلقة نفقتها.
والوارث الطفل نفسه، فهو وارث، أصبح له مال، عنده الربع أو النصف في التركة، أو كل التركة له، إذاً: ينفق على المرضع من ماله هو، لأنه هو الوارث.
إذاً: حق هذه المرضعة المسكينة ما دامت ترضعه عامين أو عاماً ونصفاً يؤخذ من هذا المال الصغير؛ لأنه وارث، فإن لم يكن له مال فحينئذ ينفق عليها الأقرباء الورثة لأصالتهم، وإن لم يكن ترك الميت مالاً، والكل يدل عليه قوله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233].
فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ [البقرة:233] لا تستبد برأيها وتفطمه، وهو كذلك لا يقل: يكفي، فقد آذانا، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة:233] أذن المولى لهما، لا تضييق ولا حرج ولا إثم، سبحان الله!
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [البقرة:233] عند نساء أخريات غير أمهات الأولاد فلا جناح عليكم، لا إثم ولا حرج، بشرط إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] أعطها حقها الذي لها وخذ الولد، هي أرضعته خمسة أشهر وما أعطيتها ريالاً، والآن تقول: أعطيني ولدي ورديه إلي يا فلانة، فأد حقها أولاً، سبحان الله! وإن كانت أمه هي، لكن أرضعته بمقابل وهو ماطلها وما أعطاها، ثم لما كثر الحق عليه قال: أعطينا ولدنا، وجدنا عمته ترضعه، يقول تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:233] بشرط إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] لا بالمماطلة، إذا سلمتم ما وجب عليكم أداؤه للمرضعة وبالمعروف؛ لأن بعض الصعاليك -كما تعرفون- يقولون: يا عمياء .. يا كذا! أعطينا ولدنا؛ لأنهم ما تربوا في حجور الصالحين، يقولون البذاءة والباطل، فلهذا قال: بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] لا بالمنكر.
معاشر المستمعين! قد نعود إلى الآية إن شاء الله مرة أخرى، لكن اسمعوا: والله الذي لا إله غيره! لن نكمُل ولن نسعد، ولن نطيب ولن نطهر، ولن نسود ولن نقود البشرية إلا إذا عدنا إلى كتاب الله وحكمة رسوله.
والطريقة سهلة ميسرة، وقد بلغنا وصحنا وأنتم ما بلغتم، وخاصة طلبة العلم، بل ينتقدون.
أقول: أي مانع من أن نغير وضعنا بفجأة، يا أهل المسجد! يقول إمامكم: من الآن إن شاء الله إذا مالت الشمس إلى الغروب نأتي بأطفالنا ونسائنا إلى بيت ربنا، ونجلس بعد صلاة المغرب نتعلم الكتاب والحكمة، ونزكي أنفسنا، ونهذب أرواحنا، ونسموا بآدابنا، ومصدر الآداب هو قال الله وقال رسوله.
تأتي القرية أو الحي بعد آذان المغرب فلا تجد أحداً، أين ذهب الناس؟ في بيت ربهم، أسألكم بالله: هل الذي يجلس في بيت مولاه مؤمناً موقناً يتلقى الكتاب والحكمة يفسق أو يفجر، أو يسيء إلى الناس أو يؤذيهم، هل يبخل أو يضن بما عنده وهم في حاجة إليه؟ والله! ما كان.
أما اشتراكية، ديمقراطية، علمانية فخبط وهبوط، والله! ما يرفعكم إلا هذا الطريق السهل الميسر بلا صعوبة ولا كلفة، فقط نعلن لله أنا رجعنا إليك وتبنا إليك، وها نحن بين يديك كل ليلة نبكي. فهل عرفتم هذه؟ وستذكرونها إن شاء الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر