فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإنا مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:26-27] أعاذنا الله وإياكم من الخسران.
إذاً: عرفنا الإيمان وهو التصديق الحق المشتمل على التصديق بوجود الله تعالى، وعلمه، وقدرته، ورحمته، وحكمته، كما هو التصديق بكتبه، ورسله، وبلقائه يوم القيامة، وما يوجد في ذلك اليوم من الحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم.
وهذا الإيمان عرفتم وأيقنتم أنه بمثابة الطاقة الدافعة، فإذا قوي دفع عبد الله أو أمة الله على أن يتقحم أصعب المشاق وأشدها، فمن ذلك أنه يجوع ولا يسرق، ويعيش أربعين سنة على العزوبية ولا يفكر أبداً في أن يقدم على الفجور فيزني، والعياذ بالله.
وهذا الإيمان يحمل صاحبه على أن يهاجر في الله وفي سبيل الله، ويترك أهله وماله وولده، ويصبح غريباً في بلد ما؛ كما حصل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإيمان الذي يحمل صاحبه على ألا ينطق بسوء أو ينظر إلى محرم .. هذا الإيمان هو الذي يثمر العمل الصالح.
وعندما نعلم أنه مشروع مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن نراعي في أدائه.. في فعله:
أولاً: الإخلاص فيه لله، فلا نلتفت بقلوبنا ولا بوجوهنا إلى غير الله ونحن نؤدي ذلك العمل؛ لأن العمل إذا خالطه الشرك والالتفات إلى غير الله فيه بطل مفعوله، لا ينتج الطاقة المطلوبة منه.
ثانياً: ينبغي أن نفعله .. أن نؤديه .. أن نقوم به على النحو الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا زيادة ولا نقص، ولا تقديم ولا تأخير، فإن زدنا أو نقصنا، أو قدمنا أو أخرنا بطل مفعوله.
ومن الأمثلة القريبة التي لا ينكرها أي عاقل أن صلاة المغرب شرعت ثلاث ركعات، فمن زاد فيها ركعة تقرباً إلى الله ورغبة في الأجر بطلت عليه، ولم يستفد منها.
وكذلك صلاة الظهر شرعت أربع ركعات فلو أراد أن ينقص منها ركعة بل سجدة بإجماع أهل العلم أن صلاته باطلة فليعدها، لم؟ لأنها لا تولد الطاقة.
تفهمون الطاقة، أتعرفونها في الكهرباء؟ نور أو لا؟ هذه الكهرباء من يولدها؟ أليست المكائن! فأنت لما تقول: الله أكبر مستقبلاً القبلة متطهراً، وتدخل في هذه المناجاة، هذه عملية -والله- لأشد إنتاجاً من طاقة الحديد، ولكن إذا اختلت بطل مفعولها كمكائن توليد الكهرباء إذا اختلت هل تولد .. تنتج الكهرباء؟ بالإجماع لا، أليس كذلك؟
ومن شك أو ما عرف كم وكم وكم من مصلٍ يخرج من المسجد ليعصي الله ورسوله، فما السر؟ دلوني، هل هو كافر؟ لا والله، لم إذاً؟ لأن الصلاة ما أداها أداءً صحيحاً، وما ولَّدت له النور الذي به يعرف الحق والباطل والخير والشر، والطيب والخبيث، والمعصية والطاعة، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لو قلت: لم يا ألله؟ كان الجواب: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ) يخبر بالواقع، والواقع أن الصلاة شرعت لتمنع عبد الله من غشيان الذنوب وارتكاب الآثام، فلما ما فعلت ما السر؟ إذاً ما صحت، سببها ما أخلص فيها، وما أداها خاشعاً، وما أدى أركانها، أنقص ونقص، وحصل الذي حصل.
إذاً: لا بد للعمل الصالح أن يكون مما شرع الله ورسوله، فكل بدعة على الإطلاق اضرب بها عرض الحائط، ولا تضيع وقتك ولا قدرتك وطاقتك فيها، فإنها -والله- ما تولد لك نوراً ولا حسنة.
والعامل بالبدعة كالذي يأكل التراب والحصى ليشبع أو ليسمن وليحفظ قوته، مستحيل.
ومن هنا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) بمعنى: مردود، مصدر أريد به اسم المفعول: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ) ما وقعنا عليه فهو مردود، أي: لا يولد الطاقة والحسنة.
ويقول: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، وقد أحببت أن أذكركم لأننا -لضيق الوقت بالأمس- ما تعرضنا للعمل الصالح.
ولو يجتمع العلماء كلهم على إيجاد كلمة يضعونها للمسلمين إذا قالها المؤمن أنتجت له الحسنة والله ما قدروا ولا استطاعوا. كلمة فقط، أما عمل يقوم به المرء الساعة والساعتين فذلك مستحيل أن يوجد، ومن يوجده غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ما هو العمل الصالح؟ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25] ما هذه الصالحات التي يبشر صاحبها بالنعيم المقيم في دار السلام؟
إنها عبادات قننها الله، مركبة تركيب الكيماويات، ويضرها الزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، وإذا كان لها وقت لو أديتها في غيره ما نفعت، ولو عين لها الشارع مكاناً فأديتها في غيره -والله- ما نفعت، ما معنى ما نفعت؟ ما ولدت الحسنة، إذ الجنة يا معاشر المستمعين والمستمعات! لا يدخلها إلا ذو النفس الزكية، ما معنى الزكية؟ الطيبة الطاهرة، والنفس تزكو بماذا؟ باللبن والحليب؟ بالماء والصابون؟!
ما هي أدوات التزكية للنفس البشرية؟
إنها هذه العبادات التي شرعها رب الأرض والسماوات لعباده المؤمنين والمؤمنات من أجل تزكية نفوسهم حتى يقبلهم في جواره في الملكوت الأعلى. هل فيكم من يشك؟ ما هو القضاء لله في هذه القضية؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. هذا حكم الله.
اسمع هذا الخبر العظيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26]. قرئ: (يستحي) و(يستحيي) بياءين وبياء واحدة وهي لغة بني تميم، فيجوز أن تقرأ: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً)، أو تقرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا [البقرة:26].
مر النبي صلى الله عليه وسلم برجلين من أهل المدينة في أزقة المدينة الضيقة وهو يعظ أخاه في الحياء: لا تستحي، أنت امرأة، ضاعت حقوقك، قال: ( دعه؛ فإن الحياء من الإيمان )، تريد أن تمسح الإيمان من قلبه؟! دعه في حيائه.
وأعظم ما يكون الحياء تأثيراً في المرأة، فإذا فقدت المرأة الحياء انمسخت، ولم يبق فيها ما يصلح، ولكن الأساتذة والدكاترة وعلماء الدنيا يشجعونها على قلة الحياء: اكشفي وجهك .. شمري عن ساعديك .. افعلي .. زاحمي. موجود هذا أو لا؟ نعم، في العالم بأسره.
يقول الحكماء: أجمل ما في الرجل الشجاعة. لا سواد العين، ولا القد، ولا الأنف.
فأجمل ما في الذكر الشجاعة، وأجمل ما في المرأة الحياء، فإن كانت وقحة معربدة -والله- ولو كانت أجمل نساء العالم فإن المؤمن لا يحبها، ولا يرغب فيها.
فلهذا أقول دائماً للمؤمنات لما تقول: الشعر في حاجبي، الشعر في كذا، أُلون شعري أصفر .. أبيض. أقول: يا هذه! إذا كان زوجكِ مؤمناً؛ براً؛ تقياً فإنه لا ينظر إلى جمال وجهك، ولكن ينظر إلى جمال نفسكِ، وإن كان مادياً هابطاً -والله- ما تسدين حاجته، اصبغي بالأصفر يحب الأبيض، بيضي يحب الأسود، جملي وجهكِ يحب كذا، وما ينفع!
إذاً: اصبري فأنت مؤمنة، ولا تغيري شعرك أبداً، ولا تكوني كعواهر ألمانيا كل يوم تصبغ شعرها، والمؤمنة إذا جاء الشيب، وابيض شعرها ينبغي أن تصبغه بالحناء والكتم، أما أن تشاهد عاهرة في التلفاز ترقص وشعرها أصفر أو أبيض فتحاول أن تكون مثلها، هي مثلها، ( من تشبه بقوم فهو منهم ).
ولو تجتمع البشرية بفلاسفتها وعلمائها وحكمائها على أن ينقضوا هذه الكلمة المحمدية -والله- ما قدروا، وأنى لهم ذلك، فأين علماء النفس؟
( من تشبه بقوم فهو منهم ) وإذا أرادت المرأة أن تتشبه بهؤلاء العواهر في الفيديو والتلفاز فلا تزال تتشبه حتى تكون مثلهن، وهذه سنة الله؛ من أراد أن يتشبه بماجن أو فاسد، وأخذ يتشبه بمشيته، ومنطقه، ولباسه لم يلبث أن يكون هو، ومن أراد أن يتشبه بـابن أبي طالب في شجاعته، وعلمه، وبطولته لا يزال يتشبه به حتى كأنه علي بن أبي طالب .
( من تشبه بقوم فهو منهم ). وكلمة (تشبه) بمعنى تعمد ذلك وطلبه وحاول الوصول إليه، فلا بد من هذه الصيغة: ( من تشبه ).
إذاً: الحياء كله خير، إلا أن الحياء لا يحملك على ألا تسأل أهل العلم وتتعلم، ولهذا يقولون: (لا ينال العلم مستح ولا متكبر). وهذه كلمة قالها أهل العلم وهي حكمة: (لا ينال العلم مستح ولا مستكبر) فالمستحي إذا لم يسأل فكيف يعرف! لا بد وأن يسأل: كيف أستنجي؟ كيف الغسل؟ كيف كذا، لا بد حتى يتعلم، والمتكبر هو الذي لا يريد أن يذل ويهون أمام المعلم ويسأله وهذا -والله- ما يتعلم، يتعلم في المنام! ألا إن ( الحياء كله خير ).
وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حيي كريم يستحي أن يرفع إليه عبده يديه أو كفيه فيردهما صفراً ). حيي، اسأل أهل الحياء لا يحرمونك، ولا يستطيعون، فالحياء خلق عظيم يمنعهم من أن يبخلوا أو يضنوا بشيء في أيديهم.
والحياء يمنع صاحبه أن يتبجح أو يقول الباطل وينطق بالبذاء، فلا يقدر أبداً.
إذاً: حياء الله يستحيل أن يكون كحياء عباده للفرق بين الخالق والمخلوق، فهل ذات الله كذوات المخلوقات؟ مستحيل، كيف وهو خالق الذوات! فحياؤه يتفق مع ذاته ومع صفاته، ولما نقول: لله تعالى يدان: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ [المائدة:64]، (بَلْ يَدَاهُ) تثنية يد، فلا تقل: لا لا، يد الله بمعنى قدرته فقط، أنت تكذب على الله؟ الله يقول: يداه، والرسول يقول كذلك، وأنت تقول: لا .. لا، ما قصد ذلك، لأنك توهمت أن يد الله كيد المخلوقات، إيه! هذا جهل عظيم، وضلال لا حد له، فالله ليس كمثله شيء، إذ كل شيء هو خالقه، فكيف يكون مثله؟! مستحيل.
فآمن بصفات الله، واقرأها وارفع صوتك، ولا تخف، ولا ترتعد: ( إن الله حيي كريم، يستحي أن يرفع إليه عبده كفيه) سائلاً ضارعاً: يا رب! يا رب! ( ويردهما صفراً ) خاليتين.
ولهذا ما من مؤمن يرفع كفيه إلى الله ضارعاً، سائلاً إلا أجابه ما لم يكن هناك موانع، فلا تسأل الله وأنت مملوء بالحرام فالمال في جيبك من حرام، أو خاتم الذهب في يديك وأنت تتحداه، فهذه الشروط لا بد منها، ولا تسأله وأنت غير موقن بالإجابة، ولا تسأله وأنت غافل ولاهٍ ساه، فمن توفرت له شروط القبول لن يرده الله تعالى، وهو بين واحدة من ثلاث: إن كان ما طلبه وسأله صالحاً له لا يضره؛ نافعاً له أعطاه، وإن كان الذي سأله لا ينفعه أيعطيه ويغشه؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وعلى سبيل المثال: شخص أراد أن يخطب فتاة، وظل يسأل الله طول الليل: يا رب زوجنيها، يا رب أعطنيها، يا رب يسرها لي. والله يعلم أنه لو تزوجها لفضحته، ولفعلت فيه الأعاجيب، فهل يغشه سيده ومولاه؟ والله لا يصح هذا. فتقف العقبات والحوائل: اذهب، لا نزوجك يا صعلوك. فلا يصل إليها. عرفتم؟
إذاً ماذا يُصنع بدعائه؟ يعوض واحدة من اثنتين: إما يدفع عنه من البلاء مقابل دعائه، وإما يرفع درجات في دار السلام ما كان ليصل إليها إلا بهذا الدعاء، وفي هذا يقول تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] يكذبكم؟ أعوذ بالله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] أعطكم طلبكم.
والشاهد عندنا: في هذا رد على مزاعم المبطلين من المنافقين وإخوانهم من اليهود، فإنه لما ضرب الله لهم مثلين احتاروا فجن جنونهم وتاهوا، وأصبحوا يكذبون ويقولون، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [البقرة:26] لأن ضرب الأمثال من أجل تقريب المعاني للأذهان، وضرب المثل معناه إيجاد صورة تشابه من أجل أن يفهم السامع معنى مراد الله وكلامه، ولغة العرب مليئة بهذا، فلا عجب ولا غرابة، ولكن المنافقين مرضى، واليهود المتفقين معهم هذا شأنهم يشيعون الشائعات والأباطيل، فيبطلها الله ويجتثها، وينتزعها من أذهانهم.
الناس أمام الأمثلة التي يضربها الله في كتابه الكريم صنفان:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:26] وعرفوا وأيقنوا، آمنوا إيماناً أصبح وصفاً لازماً لهم، وليس إيمان المنافقين، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:26] بحق وصدق، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:26] أي: هذا المثل الذي نزل به كتاب الله حق ثابت وجوباً يستحيل أن يتخلف من الله عز وجل، فيؤمنون، ويزدادون إيماناً ويقيناً.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:26] سواء كانوا يهوداً أو عرباً أو نصارى، كفروا بآيات الله .. برسوله .. بلقاء الله فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26] يقولون باستهزاء، وسخرية، وتهكم في بيوتهم .. في مجتمعاتهم، أمام المؤمنين الضعاف حتى يؤذوهم، أما لو قالوا أمام عمر لفقأ أعينهم، لكن في خلواتهم مع شياطينهم: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26].
قال تعالى مبيناً مراده: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26]، المثل كالمطر، فهذا ينبت له الزرع والشجر والزيتون، وهذا يخرب بيته، ويعطل طريقه، فالله يضرب المثل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:26] فيزداد إيمانهم ويقينهم، وتقوى معارفهم وتكثر. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26]؛ لأن المثل كان فيهم ومضروباً لهم؛ ليتقيهم المؤمنون، وليعرفوا واقعهم الهابط السافل.
مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26]، قال تعالى: الجواب عند الله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26] من الناس وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26].
نعم، أصحاب القلوب الصافية، والنفوس الطاهرة كلما تنزل آية يرتفع منسوب إيمانهم، وعلومهم،وآدابهم وأخلاقهم، والكافر المنكر المكذب كلما ينزل نور يزيده ظلمة، فيتألم ويهبط.
وهذا تشاهده في الناس في مسائل دنياهم وآخرتهم، أحدهم كلما ظهر الحق ارتفع إيمانه وفرح، وآخر كلما ظهر الحق انكمش وانكسر.
أضرب لكم مثلاً:
أيما حاكم يعلن عن منع بيع الخمر، وعن إغلاق الحانات، وعن تصدير الخمر وصناعتها، كيف يكون ذلك المجتمع؟ فأما الذين آمنوا فيزدادون إيماناً، وأما الآخرون: ماذا أراد الحاكم بهذا؟ يريد أن يعطل! يريد أن يوقعنا في فقر، يريد كذا. ويكربون ويحزنون، والله العظيم؛ لأن القضية قضية حياة وموت، مؤمن حي، يدرك ويعلم، ويعي ويفهم، وميت هابط، هذا شأنه.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:26] ويسلمون، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26] يضرب المثل ليضل به كثير من الناس، ويهتدي به كثير من الناس؛ لأن الله حكيم، وكتابه حكيم، وتصرفاته كلها حكيمة، فلا يضرب المثال لا لشيء، بل لابد لتحقيق شيء، فالمؤمنون يزيدهم إيماناً، ويقيناً، وبصيرة، ونشاطاً، وانطلاقاً، وعملاً، والكافرون يهبطون به أيضاً هبوطاً عجباً، فاسمع: المؤمنون يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، والآخرون يستهزئون ويسخرون: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26].
وكلمة (الفاسقين) دائماً نقول: هم المتوغلون في الفسق، فلهذا لو أن شخصاً شرب خمراً لا نقول: هذا الفاسق، إلا إذا شربها وأعادها وكررها، وانمحى الحياء من وجهه وتركه فهذا (الفاسق).
أما من ارتكب المعصية لا تقول فيه: الفاسق، بل تقول: فاسق، أما ذاك الذي ضرب في هذا الطريق، وتوغل في هذه المعاصي فأصبح (الفاسق)، (أل) لكمال الوصف وقوته، ولا يجوز أن تقول في المؤمن: فلان الفاسق، بل تقول: فلان فاسق. لكن إذا انغمس في كل معصية، وارتكب كل كبيرة، تقول فيه: الفاسق فلان بن فلان.
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26]، ما معنى (الفاسقين) يا شيخ؟
هذا مأخوذ من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، أحياناً لما ينزل المطر تخرج الرطبة من القشرة.
ومأخوذ أيضاً: من فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، فلهذا تسمى بـ(الفويسقة). ما هي فاسقة كبيرة، بل فويسقة، وهي الفأرة التي تخرج من جحرها لتفسد علينا طعامنا أو سمننا.
إذاً: هذا طريق الله الذي يسلكه أولياؤه ليصلوا به إلى رضاه، وإلى جواره، ومن خرج عنه فسق، فهو فاسق.
إذاً: الفاسق هو الذي يترك الواجبات، ويرتكب المنهيات المحرمات.
ألم تذكروا أنا نقول: إن الطريق هو عبارة عن فعل واجب وترك محرم، فافعل واجباً واترك محرماً، وامشِ إلى ساعة الوفاة، وأنت واصل إلى باب دار السلام، فمن ترك الواجبات وارتكب المحرمات فسق أو لا؟ خرج عن الطريق أو لا؟ كما تفسق الفأرة، وكما تخرج الرطبة، لكن إن تاب وعاد فهذا أمر طبيعي، لكن إذا فسق وواصل الفسق أصبح (الفاسق)، وهذا الفاسق يضله الله بهذا المثل، فيضل به الفاسقين، ويزدادون حيرة، وقلقاً، وعناداً، ومكابرة، وتكذيباً لله ولرسوله، وبعداً عن المؤمنين. انظر: كيف خرج؟ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26].
معاشر المستمعين والمستمعات! تعرفون الفسق أو لا؟ فتاة مؤمنة كانت متحجبة، فقيل لها: ما هذا الحجاب، انزعيه عن وجهك، أظهري جمالك، لهذا خلقه الله. فنزعت الحجاب عن وجهها فسقت أو لا؟ فسقت كما تفسق الرطبة والفأرة.
إذاً: من هم الذين يصابون بالضلال، ويزدادون ضلالاً إذا نزلت آية تحمل مثلاً؟ هم الكافرون .. الفاسقون.
ثم هناك عهد وميثاق أخذ علينا ونحن في ظهر أبينا آدم، واقرءوا لذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173].
في أرض عرفات كان الوالد هناك عليه السلام، عرفتم عرفات أو لا؟ تعارف فيها الزوج وزوجه، حيث نزلا من الملكوت الأعلى، حواء نزلت في مكان ما ندري أين هو، وآدم كذلك، واجتمعا بتدبير الله في عرفة وتعارفا، وهل النزول من السماء سهل؟
ثم مسح الله ظهر آدم واستخرج منه ذريته كلهم، ما تعجب! الآن يقول العلماء: لو جمعنا الحيوانات المنوية كلها والله ما تملأ كأساً ولا فنجاناً، فهذا الطب الجديد يقول: لو جمعنا الحيوانات المنوية التي في المني ومنها يتكون الإنسان لو جمعناها ما تملأ كأساً. آمنا بالله، ونحن عرفنا هذا قبل أن يعرفوا، فإن الله مسح ظهر آدم واستخرج ذريته، واستنطقهم فنطقوا، واستشهدهم فشهدوا، وأخذ عليهم العهد والميثاق. فكل كافر نقض عهد الله وميثاقه، وكل مشرك نقض عهده مع الله وميثاقه.
أعيد الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ أي: اذكر إذ أخذ ربك: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173]، حجج باطلة.
إذاً: هذا عهد أيضاً.
ثم أيضاً بالنسبة إلى اليهود والنصارى .. إلى أهل الكتاب بالذات، أخذت عليهم العهود والمواثيق: إذا ظهر نبي آخر الزمان آمنوا به كلكم وامشوا وراءه، نقضوا هذا أو لا؟ وأعلنوا الحرب عليه، والذي حملهم وقواهم وشجعهم على هذا فسقهم، فالعلة هي الفسق.
اذهب إلى شخص ما توغل في الجرائم والفسق والفجور، واعرض عليه معصية يتمعر وجهه، يقول: لا، أنا أتحداك؟ فالذي ما توغل في الشر والفساد وإن عصى أو فسق يوماً تعرض عليه ما يقبل، فيه النور والإيمان، لكن الذي أصبح عربيداً فاسقاً ما ترك جريمة إلا غشيها، أيتردد إذا قلت له: من فضلك لا تشرب هذا الكأس؟ مستحيل.
سبقنا إخواننا الجن وعرفوا هذه الحقيقة وجهلناها، واقرءوا قول الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا ماذا؟ قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، ونحن ما عرفناه عجب، عجب: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:2] رضي الله عنهم، هؤلاء صحابة الرسول من الجن، فقط وجدوه يصلي في بطن نخلة، بل في مكة والطائف، وهم تائهون، وجدوا الصفوف والرسول يقرأ فأصغوا واستمعوا، وعادوا رسلاً إلى قومهم: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:30-31]، ومن سجل لنا هذا الكلام؟ الله، والرسول صلى الله عليه وسلم ما سمع، وأصحابه في الصلاة ما عرفوا، لكن إخواننا نزلوا. الشاهد عندنا في أنهم عادوا إلى قومهم منذرين.
ثانياً: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27]، أرأيتم ما ينتج عن الفسق؟ نحن -يا شيخ- ما نعرف هذا.
أما محتالو النصارى والماسونية واليهود فوالله إنهم ليعرفون أكثر من شيخكم، فلهذا يبدءون بتفسيق الأمة وتفجيرها بأنواع الفسق .. بكل وسيلة.
المهم أن هذا الشعب أو أصحاب هذا الإقليم يفسقون، وإذا فسقوا فهنيئاً لهم.
أو ما فهمتم، أعيد القول:
خصومنا من اليهود والنصارى عرفوا هذا، ودرسوا، وفهموا: أن الشعب أو الأمة إذا أردت أن تستغلها أو تذلها أو تستعمرها أو تتخذها عمدة لك وسلاحاً يساعدك ففسَّقها. ما فهمتم هذه؟! هذه سياسة عجب! فسقهم فقط يجرون وراءك كالأغنام، يصبحون -والله- لكما تسمعون.
كيف يفسقونهم؟ بالتدريج، ولو بعد خمسين سنة .. مائتي سنة، وبالتدريج: احلقوا وجوههم، اكشفوا وجوه نسائهم، أشيعوا بينهم المحرمات كالربا، ودور البغاء، والخمر وصناعته وإنتاجه، لا تؤاخذوا في القوانين الحكومية على أنه ترك الصلاة، أو أنه زنى، أو أنه كذا، مهدوا لهم الطريق، ونسوهم ذكر الله، وأبعدوهم عنه، افتحوا الحانات، افتحوا المراقص والسينمات، افتحوا كذا، ألهوهم عن ذكر الله، أبعدوهم عن المساجد .. قبحوا لهم سلوك العلماء، وقولوا: عملاء، وأذناب، وذيول، قولوا كذا ..كذا؛ حتى يفسق الشعب ويهبط، وحينئذٍ نركب على ظهورهم. هل فهمتم هذه؟ والله لكما قلنا.
من أين هذا الكلام يا شيخ؟ فتح الرحمن؛ رب العالمين، ما نحن مع قول الله تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:26-27]، لو عرف حكام المسلمين هذا اجتمعوا من الغد على طاعة الله ورسوله، وكيف نبلغهم بأن خصومكم وأعداءكم يعملون الليل والنهار على تفسيق شعوبكم؟ أي: بإبعادهم عن ذكر الله وطاعته، والاستقامة على منهجه؛ لأنهم يريدون استعماركم واستغلالكم، والتحكم فيكم، إذاً: كيف يصلون إلى ذلك؟ بالدماء، ما هو ممكن دائماً، إذاً فسقوهم، فإذا فسق الشعب انتهى.
والواقع شاهد أو لا؟ من إندونيسيا إلى موريتانيا غرباً واقع شاهد أو أننا نكذب عليكم؟ عوامل الفسق قائمة أو لا؟ في الصحيفة، في المجلة، في الفيديو، في توريد الحشيشة، كل هذه المضار ما تشاهدونها؟ آمنت بالله، آمنت بالله.
الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة:27]، ثلاثة مواثيق عرفناها أو لا؟
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27]، ما الذي يريد الله أن يوصل وهم قطعوه؟ الإسلام، الإسلام دين الله منذ آدم إلى يوم القيامة، والخصوم من اليهود والنصارى يريدون قطعه، نعم، يكيدون للإسلام والمسلمين، يريدون أن يقطعوا دين الله.
وللحديث بقية، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر