أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.
هذا هو [ النداء الثالث والثمانون ] وفحواه ومحتواه ومضمونه [ في عرض بضاعة أغلى بضاعة ] والله العظيم [ إذ هي الجنة ] دار السلام [ وبيان الثمن المحصل لها، وهو الإيمان والجهاد ]
وهيا بنا نتغنى بهذا النداء بعض الوقت؛ رجاء أن نحفظه، أو نقارب حفظه، ثم نأخذ في شرحه وبيان ما جاء فيه.
ألفت النظر إلى أن هذه النداءات تسعون نداءً، وعلى المسلمين أن يترجموا هذه النداءات إلى لغات، وعليهم أن يصغوا ويسمعوا لربهم وهو يناديهم بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمنين أحياء، فإذا نودوا سمعوا، وإذا أمروا فعلوا، وإذا نهوا تركوا، وإذا بشروا فرحوا، وإذا أنذروا حذروا وانتبهوا، وإذا عُلِّموا تعلموا. والسر في ذلك: هو أنهم أحياء غير أموات؛ لأن الإيمان الصحيح بمثابة الروح، والروح إذا سرت في الجسم حيي، وأصبح صاحبه يسمع ويبصر ويعقل، ويأخذ ويعطي؛ وذلك لكمال حياته. وإذا فقد الجسم الروح مات. وروح الإيمان أعظم من روح الإنسان، فكم من إنسان فيه الروح ولا يسمع والله، ولا يبصر ولا يعقل، ولا يفهم ولا يعي كالبهائم. ومن أجل ذلك نادانا ربنا بعنوان الإيمان، باعتبار أننا أحياء نسمع نداء ربنا.
وهذا النداء من سورة الصف، فهيا بنا نتغنى به بعض الوقت.
قال: [ الآيات (10-11-12)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف:10-13] ] والذي نادانا بهذا -يرحمكم الله- هو الله، وقد نادانا لأننا أولياؤه، فهو يريد إسعادنا وإكمالنا. وكذلك نادانا ليعرض علينا أغلى بضاعة، ألا وهي الجنة دار السلام. وأعلمنا الثمن الذي جعله ثمن هذه البضاعة. ومع أن الله هو الذي خلقك، والمال الذي معك هو الذي أعطاك إياه فإنه مع هذا يشتري منك هذه البضاعة بجنة، وهي دار السلام. ولا يفعل هذا أحد غير الله، فهو الذي خلقك ووهب لك المال، ثم قال لك: عندنا بضاعة غالية، فاشترها، فتدفع الثمن الذي أعطاك، وتأخذ الجنة دار السلام، ولا يوجد من يفعل هذا سوى الله.
لأن المسجد النبوي فيه آفاقيون من أنحاء المملكة والبلاد الإسلامية فإننا لا نتمكن من إطالة القراءة حتى تحفظ الآيات، ولكن مساجد القرى والأحياء الثابتة أهلها لا يتغيرون، ولا ينقصون ولا يزيدون، والمفروض أن الآية تكرر في الدرس في هذه المساجد حتى تحفظ، ولما تحفظ تشرح وتفسر، ويبين مراد الله منها، وحينئذ يضع المربي أيدينا على المطلوب، فإن كان معتقداً اعتقدناه، وإن كان واجباً عرفناه، وعزمنا على أدائه، وإن كان محرماً اجتنبناه بعدما عرفناه، وإن كان أدباً تحلينا به، وإن كان خلقاً تخلقنا به. وهكذا يوماً بعد يوم، ولن يمضي زمن إلا وأهل القرية وأهل الحي في المدينة كلهم أولياء الله، ومن آذاهم أعلن الله الحرب عليه، ومن أعلن الله الحرب عليه فمستحيل أن ينتصر.
وهذا هو الطريق، ولا طريق إلى النجاة والفوز برضا الله وسكنى دار السلام في الملكوت الأعلى إلا بأن نعود إلى الله، ودعونا من الأوهام والأحلام والخيالات.
وإن لله سنناً لا تتبدل ولا تتغير، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، ولم يتبدل هذا، ولم يصح الطعام في ظرف لا يشبع، لا في القرن العشرين، لن يكون كذلك في الألفين، بل هذا مستحيل، وكذلك لم يصبح الماء لا يروي، ولا النار لا تحرق، بحيث ترمي فيها ثيابك ولا تحرقها أبداً. فالسنن لا تبدل، وإن لله سنناً لا تتبدل، وهو القائل: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43].
وحتى تكون كذلك فأفرغ عليها يومياً الزكاة والطهر، وكن على أتم الاستعداد لذلك، وحينئذ بمجرد ما تؤخذ منك تصل إلى الملكوت الأعلى تحت عرش الرحمن؛ وذلك لقضاء الله تعالى وحكمه، فقد قال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]. فلا يوجد استئناف في قضاء الله أبداً.
وإذا صدر حكم الله علينا وسمعناه لم نحفظه ولم نتحدث به؛ لأننا ما زلنا كالقرون الماضية نسمع ولا نبالي، ولا نحفظه ولا نفرح به، بل نفرح بالفرنك والفلس والجنيه، وأما الحكمة والعلم والمعرفة فنحن مشغولون عنها. وقد مضى على هذه الأمة قرون لم يكن المسلمون فيها يبالون أسمعوا أم يسمعوا.
والبرهان والدليل على هذا: لو وضعت أمامك خارطة للعالم الإسلامي ولملايين المساجد فلن تجد عشر أهل القرية في بيت ربهم، وهؤلاء إذا صلوا وقام من يعظ أو يتكلم لم يجلس منهم ولا (5%)، بل الكل يهربون من العلم، ولا يريدون المعرفة، ولن نسموا ونحن هكذا، ولن نعلوا أو نطهر أو نصفوا.
وبلغوا حكم الله في هذه القضية للأبيض والأسود، وللعربي والعجمي، وللأوربي والإفريقي، ولكل البشرية، فقد صدر حكم الله من الملكوت الأعلى على أهل الأرض، واسمع الأيمان الإلهية فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]. وهذا يمين. وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:2-8]. فهذه كلها أيمان وأقسام يحلف بها الله على أمر عظيم، وهو حكمٌ حكم به على البشرية كلها والجن معهم، وهذ الحكم هو الحكم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فهذا نص الحكم، وهو أنه قد أفلح من زكى نفسه، أي: طيبها وطهرها، وقد خاب وخسر من دساها، وأفرغ عليها أطنان الذنوب والآثام، حتى اختفت نفسه فيها، ولم يبق لها وجود.
واعلم يا سامع! أنك أنت تقرر مصيرك بنفسك اليوم لا غداً، فأنت هنا تقرر المصير، لا يوم القيامة. وأنتم تعرفون معنى تقرير المصير في الأمم المتحدة للشعب الفلاني. وهنا تقرير المصير للآدمي في الدنيا قبل الموت، فإن هو زكى نفسه، وطيبها وطهرها فإنها تصبح كأرواح الملائكة، فيقبلها الله في الملكوت الأعلى، وإذا دساها ولوثها وعفنها بأوساخ الذنوب والمعاصي فإنها تصبح منتنة عفنة والله، وأقسم بالله أنها لا تقبل في الملكوت الأعلى، ولو كان صاحبها ابن رسول الله أو أباه. وكثير من الأمة غافلون، فهم ينكرون على من يقول: إن والد الرسول لا يدخل الجنة، ولم يعلموا أن الله عز وجل لم يستثن أحداً من حكمه الذي قال فيه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فلم يستثن أباً لنبي، ولا ولداً لرسول، بل البشرية كلها بالنسبة إلى الله واحدة، فهم خلقه وعبيده، فمن طهر قبله، ومن تلوث رماه وتركه.
وإذا أردتم أن تتأكدوا فهذا سيد المرسلين وسيد العالمين محمد أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع يأتي من مكة إلى المدينة، وفي طريقه مر بقبر والدته آمنة بنت وهب بمكان يقال له: أبواء، قريب من رابغ - وقد وزرناه، وأصبح الآن تابعاً للمدينة- فلما مر بقبر والدته بكى طويلاً، فسأله أصحابه عن بكائه وسببه، فقال لهم: ( لقد استأذنت ربي - أي: طلبت منه إذناً- أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ).
واسمع يا من تفهم عن الله! ففي سورة التوبة -تاب الله علينا أجمعين-: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]. ولا يقدر أحد أن يرد على الله في هذا. وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].
ولا يغرنك ويضلك أحد يا عبد الله! واعمل على تزكية نفسك، وقرر مصيرك بنفسك.
ومما يزيد هذا الأمر وضوحاً: أن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم استعرض مع أصحابه ما يحدث في عرصات القيامة، فقال: ( فيقف إبراهيم ويقول: أي رب! لقد وعدتني)، أي: في الحياة الدنيا في ما أوحيت إلي من صحف (ألا تخزيني يوم يبعثون)، أي: يوم القيامة. ( وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي ) يا الله؟! فأبو إبراهيم في جهنم. ( فيقال له: انظر يا إبراهيم! تحت قدميك ). فقد كان رافعاً رأسه يشتكي ويبكي. (فينظر وإذا بوالده آزر في صورة ضبع)، أي: في صورة ذكر الضباع، وهو أبشع صورة ( وملطخ بالدماء والقيوح ). وما إن ينظر إليه حتى تنقبض نفسه ( فيقول: سحقاً سحقاً! فيؤخذ من قوائمه ) الأربع؛ لأن للضبع أربع قوائم كالحمار والذئب ( ويلقى في جهنم ). فتطيب نفس إبراهيم ، فلا يذكر والده أبداً.
وهناك من يقول: هذا ليس أبي إبراهيم، وإنما هذا عمه. وحتى الجلال السيوطي يذكر هذا في تفسيره، فالله يقول: أبوه، وهو يقول عمه. وهذا تمويه، مع أنه لا فرق بين الأب والعم، فكلاهما عبدين لله.
ومع أنه لا يوجد من هو أقرب إلى رسول الله من أمه وأبيه إلا أنه لما جاءه في المسجد رجل يتحذلق مثلي ويقول: ( أين أبي يا رسول الله؟! -وقد مات مشركاً- قال: في النار. فتململ الرجل وأعرض وهو غير راض، فقال: تعال، أبي وأبوك في النار ). ولا تبك، فيوم القيامة لا يبقى نسب يا عرب! فقد قال تعالى: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:101-104].
وكل هذا يدور على حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فكن ابن من شئت، أو أب من شئت، فالعبرة بزكاة النفس وطهارتها، أو بخبثها ونتنها فقط. وقد حلف الله لنا بأعظم حلف، فحلف عشرة أيمان على أنه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فمن كان ذا عقل وقد بلغ سن التكليف فليعلم أن سعادته متوقفة على زكاة نفسه، وأن خسرانه وشقاءه متوقف على خبث نفسه. ومن فهم هذا فلو قيل له: إن نفسك تزكو وتطيب بأن تذبح سبعين مرة والله لرضي أن يذبح سبعين مرة، من أجل أن تزكو نفسه، ولو قيل له: إن نفسك تخبث أو تتدسى بالأكل والشرب لقال: والله لا آكل ولا أشرب حتى الموت؛ لعلمه ومعرفته أنه يكون بهذا عاصياً. في حين أن تزكية النفس لا تتطلب ذبحاً ولا بقراً ولا شيئاً من هذا، ولا تتطلب إلا أن تؤمن، بأن تقول: آمنت بالله، ولا ترد على الله ولا على رسوله خبراً من الأخبار.
ولما كان عليه الصلاة والسلام هنالك في تلك الروضة النورانية يحدث رجاله أمامه، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وصله في تلك اللحظة من الملكوت الأعلى باللاسلكي خبراً مفاجئاً، فقال: ( لقد أعلمت أنه كان فيمن كان قبلنا رجل يركب بقرة، فرفعت البقرة رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت ). فاهبط، فأنا خلقت للحلب والحرث، لا للركوب، فالركوب على الخيول والبغال والحمير والإبل. فهذه البقرة الحيوان المعروف المستأنس تنطق بلغة عربية فصيحة، وتقول له: ( ما لهذا خلقت ). والرسول ما كان أعجمياً. ( فيمسك رسول الله بلحيته ويقول: آمنت به، آمنت به، آمنت به )، أي: بهذا العجب وهذا الخبر الوارد الآن، وهو: أنه كان فيمن كان قبلنا -وقد يكون بسبعة آلاف سنة أو بخمسة آلاف- رجل يركب بقرة، فنطقت البقرة بصوت فصيح وقالت له: ما لهذا خلقت، ( فيقول: آمنت به ). ولا تقل: هذا غير معقول، فالبقرة لا تنطق، ولو قال هذا أحد لكفر، ولا يبقى مؤمناً أبداً.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( وآمن به
ومن هبوط أمتنا أنه يوجد من المتعنترين المثقفين السامين المتعالين من يلعن أبا بكر وعمر ، ويظن أنه يتقرب بذلك إلى الله، في حين إنه لا يتقرب بذلك إلا إلى إبليس، وإلا فالرسول يقول: ( وآمن به
فاعرفوا أن الله قد حكم فينا، ونحن الذين نقرر مصيرنا الآن في الدنيا. وهذا الحكم الذي صدر علينا هو: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].
ولو تحدثنا عن بيع وشراء لا يبقى أحد لم يفهم، ولا بدوياً ولا فلاحاً ولا صعلوكاً مثلي، بل الكل يفهم. ولنفهم أيضاً هذه القضية. فيا أمة الله! لقد صدر حكم عليك، وهو: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فإن زكيت نفسك وطيبتها طهرتها بالإيمان والعمل الصالح كنت أهلاً لدخول الجنة، وإن لوثتها وخبثتها بأنواع الشرك والمعاصي فهيهات هيهات أن تفتح لها أبواب السماء! أو أن تدخل الجنة! فلنعلم هذا. ولا تظنوا أن هذا ليس واقعاً.
والبرهان والدليل الآخر على هذا: كلام ربكم القاضي عليكم، فقد قال في سورة الأعراف - التي بين الأنعام والأنفال-: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. ولا يمكن أن يرد أحد على الله. لأن الذين كذبوا بآيات الله الحاوية لشرائعه لم يصوموا ولم يصلوا، ولم يجاهدوا ولم يؤمنوا، وهم وإن لم يكذِّبوا لكن الكبر حملهم على ألا يقولوا كلمة حق، وعلى ألا يركعوا ركعة، أو يعفروا وجوههم في التراب، فقد منعهم الكبر، ولذلك ماتوا وأرواحهم خبيثة منتنة عفنة، فلا تفتح لهم أبواب السماء، ومستحيل أن تفتح لهم. وأنتم تعرفون المستحيل، فهو الذي لا يمكن أن يقع، وهذا مثل: إدخال جمل أو بعير كبير لي في عين الإبرة، فلو اجتمعت الإنس والجن ومعهم السحرة لم يمكنهم أن يدخلوا بعيراً في عين إبرة، فنحن ندخل الخيط فيها بشق النفس، وأما البعير فمستحيل. ومن مات على الشرك والمعاصي روحه منتنة، والروح المنتنة الخبيثة يستحيل أن تفتح لها أبواب السماء، أو أن تدخل الجنة. ولو أن آباءنا وأجدادنا علموا هذا. وقد مضى علينا ألف سنة والذين يعرفون هذا (5%) فقط، والباقي لا علم لهم ولا معرفة، وإلى الآن.
فهيا نغير وضعنا، ولا تقولوا: لا نستطيع، فأنتم تستطيعون، ويستطيع أهل القرية في الجبل أو في سفحه أن يتعاهدوا بألا يتخلف بعد اليوم رجل ولا امرأة ولا طفل في قريتهم عن المسجد. وإذا أردنا أن نسكن السماء فعلينا أن نبذل هذه الساعة والنصف، وفيها يرمي الفلاح مسحاته، ويرمي الكاتب قلمه، ويغلق التاجر باب متجره، وينادي كل زوج زوجته أن تتوضأ وتحمل أطفالها إلى المسجد بيت مولانا في القرية، وإن كان صغيراً وسعناه، وفرشناه ولو بالحصر أو بالتراب؛ لنجتمع فيه لتلقي الكتاب والحكمة، ولنتعلم أدوات التزكية والتطهير، ونعرف كيف نستعملها؛ لتنتج لنا الزكاة والطهر لأرواحنا. ولا تقولوا: لا نستطيع أن نفعل هذا يا شيخ! وهذا القول معناه: أننا راضون ببقائنا في عالم الشقاء، وفي هذا الضعف والهون والهبوط. ونحن نراك تستطيع المشي إلى المقهى، بل وتسرع جرياً إليه، مع أنك لست مسحوراً ولا مجنوناً، ولكن السبب: أنك لم تتعلم، ولم تسمع بهذا الكلام حتى اليوم. والآن قد سمعته.
وشيء آخر: والله لئن تعقدوا بين شعيرتين في السماء فهذا أسهل لكم وأهون من أن تكملوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة بدون تزكية أنفسكم وتطهيرها، ووالله إنه لمن المستحيل أن تظفروا بالدنيا والطمأنينة، والأمن والرخاء، والحب والولاء، والطهر والصفاء بدون هذا المسلك، فهذا والله ما كان ولن يكون، وهو مستحيل، ولن يكون إلا الشقاء والدمار والخراب والآلام النفسية، فهذا حاسد، وهذا مبغض، وهذا مكره، وهذا كاذب، وهذا كذا، وتنتشر بينهم الحماقة والقتال والدماء وغير ذلك حتى النهاية. والساسة والسياسيون خريجوا كليات السياسة في العالم لم يزرعوا لأممهم ويحصدوا إلا الخلاف والتناحر، والبغضاء والفقر، والبلاء والشقاء، وغيرها. وهذه هي النتائج. ومن لا يعرف هذا يقول: لعل الشيخ مجنون. وقد سمعنا الله يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. ويقول في مثال ضربه: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]. ويقول: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]. وهذا العلم المقصود في الآيات ليس علم الذرة ولا الهيدروجين، ولا علم الكيمياء ولا الهندسة، ولا علم السرقات والتلصص، ولا علم السياسة، وإنما هذا العلم هو العلم بالله، ومعرفة الله بجلاله وجماله، وبأسمائه وصفاته، وبمحابه ومكارهه، وكيفية فعل تلك المحاب وتقديمها له، وكيفية تجنب تلك المكاره والابتعاد عنها لأجله، وهذا العلم مصدره قال الله وقال رسوله، وليس العقل ولا الذكاء ولا الدهاء، وإنما فقط قال الله في كتابه، وقال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن شاء الله إذا أتاني في العام المقبل شخص ووجدني على هذا الكرسي حياً وقال: يا شيخ! لقد ترجمت كتابك وطبعته فسأملأ جيبه بالريالات، أحشوه حشواً.
وقد صرخنا بهذا الكلام سنة كاملة لترجمة كتاب المسجد وبيت المسلم، وجلسنا سنة كاملة نعلم كيف يتلقى أهل القرية والحي العلم، وأن يتعلموا ليلة آية وليلة حديثاً، وقد اشتمل الكتاب على ثلاثمائة وستين آية وحديثاً، وقلنا: ترجموه إلى اللغة الأردية والإنجليزية والبربرية، وإلى جميع لغاتكم، واجتمعوا على تدارسه في بيوت ربكم أنتم وأطفالكم ونساؤكم. وليس هناك من يكره لكم ذلك أو يطردكم أبداً إذا أنتم لازمتم السكينة والوقار والآداب. وإلى الآن ما بلغنا شيء من هذا.
وقد جاءني هندي قال: أنا فعلت، فقلت له: ائتني بشهادة على أنك ترجمت الكتاب، وأنه يدرس في خمسين مسجداً وفي خمسين بيتاً، وسأعطيك ثلاثين ألف روبية، وإلى الآن لم يعد.
وهذا لتعرفوا أننا مازلنا لاصقين بالأرض، ولن يرفعنا أحد غير الله.
وحتى تعرفوا واقعنا: أيام السلطان عبد الحميد العثماني تغمده الله برحمته تمت مناظرة بين عالم رباني هندي وبين قس بريطاني، وحضرها الألوف، فقد كانت مناظرة عجباً، وعندنا صورتها في كتاب، ما إن بلغت إلى السلطان عبد الحميد حتى ترجمها والله إلى تسع لغات وطبعها. ونحن نبكي طول العام، ولا يقول أحد: أنا أترجمها.
ثم قال تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:175-176]. والله أكبر! فكلام الله هذا ينطبق على العالم الإسلامي حرفياً إلا من رحم الله، فقد أعطانا الله كتابه ونوره فانسلخنا منه، وضعناه على الرفوف، واتبعنا الهوى، وتركنا عقولنا، ولذلك كان مثلنا ليس كمثل الأسد، وإنما كمثل الكلب، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]. ولن ينتهي لهثه. ونحن إن استقللنا لهثنا، وإن استعمرنا لهثنا، وإن استغنينا لهثنا، وإن افتقرنا لهثنا، ولن ينتهي اللهث أبداً حتى نحتضن كتاب الله؛ إذ هو الرافع لنا، ولا رافع لنا سواه.
والله أكبر! فقد رفع هذا الكتاب هذه الجزيرة بعد ما كانت أهبط جزيرة في الأرض، فقد كان سائداً فيها الوثنية والشرك، والغارات والبلاء والكروب، ثم في خمسة وعشرين سنة رفعها إلى السماء، وفتحوا عاصمة الفرس وعاصمة الروم، ودانت الدنيا لهم، ولم يكن هذا بالفلسفة ولا بالحيل، وإنما كان هذا والله بهذا القرآن فقط.
واليوم أصبحنا كما قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]. كما ينسلخ الرجل من مشلحه أو لباسه، وكما تنسلخ الحية من ثوبها، وتتركه وتمشي. فقد انسلخ المسلمون من القرآن والسنة، ولا أستثني منهم إلا هذا البلد وهذه المملكة. ولا وجود اليوم للمحاكم التي يحكم فيها الكتاب والسنة، وهذا انسلاخ واضح. ولما ينسلخ الإنسان من الكتاب والسنة يصبح كما قال تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175]. لأن الشيطان يخاف من نور الله، ومن نور الكتاب، ومن نور السنة، ولا يتقدم، ولكن إذا انسلخ الإنسان جاءه الشيطان واحتضنه؛ لأن الشيطان لم يعد يخاف من شيء، ويصبح هذا المنسلخ كما قال تعالى: فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]، أي: الفاسدين بعد ما انسلخ من كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]. وهذا كما نضع نحن عشرين وزارة كلها تبحث عن المال والصناعة وغيرها، ولا نضع وزارة لله. وهذا واضح هذا كالسماء التي نشاهدها. وليس هناك أبداً من يقول قال الله وقال رسوله، ولا هم للحاكم والحكومة والشعب إلا الدينار والدرهم. وهذا هو الخلود إلى الأرض، وليس هناك تطلع للسماء، ولا البحث عن الملكوت الأعلى، بل كما قال تعالى: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176]. ولو اتبع عقله لكان في الأمر سعة، ولكنه اتبع الهوى والميل الدنيوي والشهوة، أي: شهوة الطعام والنكاح والظهور. ولذلك شبهه تعالى بقوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]. ولن ينتهي لهث العرب والمسلمين إلا إذا عادوا إلى الكتاب والسنة.
ونريد أن نسعد مع النداء الكريم دقائق.
بعد هذا الترغيب بين لهم ما يدفعونه من مال ليتسلموا البضاعة، فقال في بيان الثمن المطلوب للحصول على السلعة الغالية: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الصف:11] ] أي: آمنوا بالله. والذي آمن بالله لو قال له ربه: صم الدهر كاملاً صام، ولو قال له: لا تنطق شهراً ما نطق؛ لأنه آمن وعرف الله وجلاله وكماله، ولم يؤمن به بلسانه، ولم يخدعه ويغشه في كل لفتة ونظرة. هذا هو الإيمان الحقيقي.
فقوله: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الصف:11] [ أي: بألوهيته ] وأنه الإله الحق الذي لا يعبد إلا هو [ ولقائه ] يوم القيامة، وبعد الموت أيضاً [ ووعده ووعيده، وتؤمنون برسوله، وما جاء به، ويدعو إليه صلى الله عليه وسلم ] من العبادات والآداب والأحكام [ وَتُجَاهِدُونَ [الصف:11]، أي: أعداء الله تعالى وأعداءكم، وهم كل مشرك وكافر يعلن الحرب عليكم، ويعاديكم ويعادي ربكم سبحانه وتعالى، بأن يعبد غيره، ويتبع سبيلاً غير سبيله.
وقوله تعالى: بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11] قدم جهاد المال على جهاد النفس؛ لأن العدة مقدمة على من يحملها في هذا الباب ] فأولاً أعد العدة، ثم اطلب من يحملها في هذا الباب [ فالمال لإعداد عدة الحرب، والعدة: سلاح على اختلافه، وطعام وشراب ومركوب للغزاة المجاهدين. وثنى بجهاد النفس وهو بذل أقصى الجهد والطاقة البدنية.
وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف:11] وقدمه على المال والنفس، إذ قال تعالى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11] لأن الجهاد إذا لم يرد به إعلاء كلمة الله، فهو لغير الله، وهو باطل مذموم ] وأعطيكم مثالاً على هذا: جاهدت إندونيسيا وجاهد العرب بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واستقلوا طردوا الكفر، ثم لم يقيموا دولة الله؛ لأنهم لم يعرفوا الله، ولم يجاهدوا من أجله. ووالله لقد سمعت بهذه الأذن طالب علم وافداً من العراق في طريقه إلى الجزائر ونحن في الصحراء على سيارة والله العظيم يقول: نحن نثير فقط العوام بكلمة الجهاد في سبيل الله؛ ليبذلوا المال، ويبذلوا النفس. ولا نحتاج إلى أن نحلف؛ لأننا لم نشاهد أي جماعة طردت الكافرين من ديارها من أجل الله، بل إنها بمجرد ما تخرجه تعيش على الباطل والشر والفساد، وتعرض عن الله وذكره. ومستحيل أن تخرجه من أجل الله.
وأحلف لكم: أيما بلد قام بالجهاد في سبيل الله ثم لم يقم دولة الله ولم يأمر بعبادة الله فهو كاذب، ولا يعرف الله، ولا جاهد لأجله. وقد لا تصدقون هذا؛ لأنكم لم تتعودوا على هذا الكلام، ولكن سيأتي يوم تذكرونه. فما كان لله لن يكون لغير الله، وما كان لغير الله فلن يكون لله.
قال: [ والمراد من إعلاء كلمة الله: أن يعبد الله وحده، ويحكم شرعه في عباده، ويرفع الظلم عن أوليائه، وهم المؤمنون المتقون ].
ولا تقولوا: الذي يقول هذا هم العوام سامحهم الله. وأقول: حتى العلماء والعارفون وأرباب الشهادات والأذكياء هكذا، وهم لا يبكون كبكائنا هذا أبداً، بل يسخرون، ويقولون: هذا الشيخ خيالي، وهذا الكلام خيال. وهم يقولون هكذا لأن الهبوط ما زال ملازماً لنا.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر