أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. جعلنا الله تعالى منهم، واحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. اللهم آمين.
هذه النداءات المباركة الكريمة هي نداءات الله عز وجل لنا معشر المؤمنين والمؤمنات، وهو ينادينا لأننا أولياؤه، وينادينا ليأمرنا حتى نكمل ونسعد، وينادينا لينهانا عما من شأنه أن يردينا ويشقينا، وينادينا ليبشرنا حتى تطمئن قلوبنا وتسكن نفوسنا، وينادينا لينذرنا ويحذرنا من عواقب السوء، وينادينا ليعلمنا. وربنا تعالى لا ينادينا في كتابه إلا لواحدة من هذه. وهو ينادينا لأننا أولياؤه، وهو ولينا؛ إذ كل مؤمن تقي هو لله ولي، وقد قال تعالى في أوليائه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. وكأن سائلاً يسأل: من هم أولياؤك يا رب؟! فكان الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: يتقون الله بطاعته وطاعة رسوله. والله لا يتقى بالحصون ولا بالجيوش الجرارة، وإنما يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله، فمن أطاع الله ورسوله فقد اتقى أنواع العذاب والبلاء والشقاء في الدنيا ولآخرة معاً.
وليس هناك مانع من أن تُحفظ هذه النداءات، وأن يُفهم مراد الله منها، وأن تُجاهد النفوس، حتى نطيع الله فيما يأمرنا فيها، وفيما ينهانا فيها، وليس هناك مانع إلا الشيطان إبليس عدو الرحمن، فهو الذي لا يسمح لنا بذلك، ولا يريد أن نكمل ولا أن نسعد، ولا يريدنا أن نحقق ولايتنا لربنا لنعز ونكمل ونسعد؛ وذلك حتى لا يذل هو ويشقى ويخسر. فهيا نحارب هذا العدو، ومحاربته لا تحتاج إلى مدفع ولا رشاش، ولا صاروخ ولا هيدروجين، وإنما فقط بكلمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في غضب، فإنه يهرب منك بسرعة عجب، فإذا شعرت به فاستعذ منه، وشعورك به هو أن يزين لك قبيحاً، أو أن يحسن لك باطلاً، أو أن يحاول دفعك إلى ارتكاب جريمة، فإذا شعرت بذلك فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنه يرحل، على شرط أن يكون رادارك سليماً صحيحاً، والرادار كلمة عصرية، وجهاز يتصيد الطائرات في الهواء، حتى لا ترمي المدن التي فيها الناس بالقنابل، فهو يشعر بحركتها. وهذا الرادار يوجد في قلب كل مؤمن ومؤمنة، فإن حافظا على نظافته وسلامته فما إن يحوم حول القلب إلا تفطن له وطرده، وإن كان الرادار قد تهشم وتحطم أو علته أكوام الذنوب والآثام فإن العدو يأتي، ويدخل ويخرج ويفعل ما يشاء؛ لأنه قد مات. والدليل على وجود هذا الرادار في قلب كل مسلم من كلام ربنا في سورة الأعراف، التي بين الأنعام والأنفال، فاسمعوا الله تعالى يقول فيها، وقوله الحق: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]. وهم ليسوا بنو تميم، ولا الأشراف، وليسوا الأحباش ولا العرب، ولا الأتراك ولا العجم، فهؤلاء كلهم عباد الله، وإنما يشمل هذا كل مؤمن ومؤمنة أبيض كان أو أسود.
ابن أم عبد
! اقرأ علي شيئاً من القرآن ). فيعجب الرجل ويقول: ( أعليك أنزل، وعليك أقرأ؟! قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري ). ووالله لو كان إخواننا عندما يجتمعون في البيت أو في أي مكان يقولون لأحدهم: اقرأ علينا شيئاً من القرآن، فيقرأ ويبكون لما ارتكبت معصية في ذلك المكان، ولما عصي الله، بل لكانت هذه القراءة وقاية وحماية له.( وقرأ عبد الله
وإبراهيم وإسماعيل منذ ستة آلاف سنة أو أكثر كانا يبنيان البيت بعد أن أمر إبراهيم ربه تعالى بأن يبني له بيتاً في الوادي الأمين، وكان إسماعيل قد أصبح غلاماً زكياً، يساعد والده ويناوله الحجارة والطين، وكانا وهما يبنيان البيت يدعوان ربهم ويسألانه بكلمات طيبات: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]. هذه دعوة إبراهيم الخليل مع إسماعيل عليهما السلام. فهما يسألان الله تعالى في هذا الدعاء أن يبعث في أولاد إسماعيل نبياً منهم يتلوا عليهم الآيات، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، أي: القرآن والسنة، وليس الرقص ولعب الشطرنج. وَيُزَكِّيهِمْ . لا أن يعلمهم علماً جافاً، بل علم مع طهارة النفس وتزكيتها، حتى يصبحوا وليس بينهم خيانة، ولا سب ولا شتم، ولا حسد ولا كبر، ولا شره ولا طمع، ولا تكالب على الدنيا ولا بغضاء، ولا غير ذلك، وإنما طهر وصفاء. هذه هي التزكية. وهي تأتي بطريق الكتاب والسنة. وقد هجر المسلمون كتاب الله، وهجروا سنة رسول الله، وعاشوا على المدائح والأغاني، والضحك والباطل إلا من رحم الله. وهذه نداءات الرحمن فاطلبوها، واطبعوها ووزعوها بين النساء والرجال، وليضع كل مؤمن عند رأسه هذه النداءات، ولا ينام حتى يستمع إلى الله في ندائه ما يقول له فيه.
ونحن لا نستطيع ولا نقدر على هذا؛ لأننا مكبلون ومقيدون بقيود الأهواء والشهوات، والأطماع والأمراض القلبية، وفوق ذلك كله فنحن لم نعرف الله معرفة حقيقة تنتج لنا حبه والخوف منه، ومن فقد حب الله فلن يعمل صالحاً، ومن فقد الخوف من الله فلن يترك ذنباً ولا معصية. فلنتعلم.
وأهل القرية قد يمضي عليهم عام ولا يجتمعون على آية ولا على حديث، أو يجتمع منهم خمسة من خمسة آلاف، أو عشرة من عشرة آلاف شخص، وهؤلاء الذين يجتمعون يكونون من الشيوخ والعجائز، ثم نريد أن نرقى إلى السماء، وأن نخترق السبع السماوات؛ لننزل دار السلام. ولو بذلنا مهجنا ودماءنا وعرقنا وأموالنا وأرواحنا في سبيل الوصول إلى ذلك المكان الأقدس لكان هيناً، والله لم يطلب منا هذا، وإنما طلب منا فقط أن نجلس في بيت الرب، ونبكي بين يديه، ونتعلم هداه، ونحن لا نستطيع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:6]! فلنقل: لبيك اللهم لبيك! إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ [الحجرات:6]. فيجب على كل مؤمن يأتي إليه فاسق من فساقنا بخبر ألا يقبله وألا يقره، وألا يقوله ولا يثق فيه حتى يفحصه ويتدبره ويتأمله، فإذا تبين أنه حق قبله؛ لأن الفتنة تقع من الباطل. وهذا نظام حياتنا. وإذا قيل: الشيخ الفلاني عميل وذنب وتابع للحكومة فيجب أن ندرس هذا الكلام، وأن نتثبت من حقيقته، ومن مظاهر الذنبية، ومظاهر التبعية والذيلية، ولنرى ماذا فعل، وآثار ذلك، فإذا تبين لك بعد الفحص والتدقيق والتبيين في يومين أو ثلاث أو أسبوع فحينئذ قل، وإذا لم يتبين لك ذلك فاسكت، ولا تصدر حكمك وأنت لا تعلم، ولو أخذ المسلمون بهذا الأدب فقط لنقص ثلثي الظلم والشر والفساد، ولا يبق إلا الثلث.
ولو نجعل أمام كل بيت جندياً في يده رشاش فوالله ما نفعنا هذا، ولن يحقق لنا أمناً ولا طهراً كما يحققه كلمة كهذه. وقد عرف العدو هذا ولم نعرفه نحن، فصرف هذه الأمة عن كمالاتها التي في كتاب ربها وهدي نبيها.
ثم قال تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]؛ لأنكم مؤمنون. ولو وجدت نفسك قد اغتبت فلاناً وسببته وشتمته وعيرته فإن كنت مؤمناً فستحزن حتى تبكي أو تمرض؛ لأنك آذيت مؤمناً وأنت لا تدري. فلا تستعجل في قبول الخبر، أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
قال: [ وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7] أي: الذين فعل بهم ما فعل من تحبيب الإيمان، وتكريه الكفر والفسوق والعصيان إليهم أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7]، أي: السالكون سبيل الرشاد، وهم قطعاً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم. وكل من حبب الله تعالى إليه الإيمان من هذه الأمة، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فهم من الراشدين، أي: السالكين سبيل الرشد المفضي بصاحبه -أي: سالكه- إلى الطهر والصفاء، والعز والكرامة في الدنيا، وإلى الجنة ورضا الله في الدار الآخرة ] فرضي الله عن أصحاب رسول الله وأرضاهم. وأما نحن فواجبنا - كما علمتم- ألا نقبل خبر من أحد، لاسيما إذا كان فيه طعن أو لمز أو إعلان عن فاحشة أو منكر، فلا نقبله أبداً إلا بعد أن يثبت كما تثبت الشمس أمامنا؛ حتى لا نؤذي مؤمناً أو مؤمنة، ونمزق عرضه ونهلكه، فإذا فعلنا ذلك ثم عرفنا أننا أخطأنا فلو بكينا الدهر لما كفانا، كما قال تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
قال: [ الآية (11) من سورة الحجرات
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] ] فإذا طبق أهل القرية هذا لوجدت أهلها يعيشون أربعين أو خمسين عاماً ولا تسمع أحد يطعن في أحد، ولا تسمع أحدهم يلقب أخاه بلقب السخرية والاحتقار أبداً؛ لأنهم عرفوا، والذين لم يبلغهم هذا ولم يعرفوه فإنهم لا يرتاحون إلا باللمز والهمز والطعن والله. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]. والعياذ بالله.
[ الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم! والمستمع المستفيد! أن هذا النداء والثلاثة قبله، والآتي بعده، هذه النداءات الخمسة من سورة الحجرات المباركة كلها في تربية المؤمنين والمؤمنات وتهذيب أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، والسمو بآدابهم، وهم لذلك أهل بإيمانهم بالله ولقائه، والقرآن وأحكامه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الكريم، وهديه وسنته، لذا يتعين على المؤمنين قراءة هذه النداءات بعناية، والتدبر فيها، وفهم معانيها، والعمل بها؛ رجاء كمالهم وسعادتهم، حقق الله تعالى لنا ذلك ولهم. آمين ] وهذه النداءات من سورة الحجرات المفروض على كل مؤمن ومؤمنة أن يقرأها ويعرفها، وأن يعمل بها.
وقوله تعالى: عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ [الحجرات:11] أي: عند الله تعالى ] فقد تسخر من فلان، وهو عند الله من أفضل الناس، ويا ويلك! وقد تسخر من بني فلان لفقرهم أو جهلهم، وهم أرفع منزلة عند الله منك، وأنت لا تعلم.
قال: [ والعبرة بما عند الله لا بما عند الناس، فلذا من القبح والسوء سخرية مؤمن بمؤمن بازدرائه واحتقاره، وهو لا يدري، قد يكون من ازدراه وسخر منه خيراً عند الله، وأحب إلى الله منه ] والازدراء والسخرية كأن تقول له: يا أعمش! .. يا بدوي! .. يا فقير! ونحن لا نحفظ هذه؛ لأنا لم نتعلمها، ولكن لو أتى خبير فإنه يفصلها تفصيلاً.
وقد انتهى الوقت ولم نشعر به؛ لأننا في غمرة النور الإلهي، ولو بقينا إلى الصبح لما شعرنا. والحمد لله. ونكمل يوم غد. وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر