أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. اللهم آمين.
هذه النداءات هي نداءات الله جل جلاله التي وجهها إلى عباده المؤمنين، وهي في كتابه القرآن العظيم، وعددها تسعون نداء، وقد احتوت واشتملت على كل ما يهم المرء المسلم في هذه الحياة.
وإن واجب كل مؤمن ومؤمنة أن يقرأها ويستمع إليها، وأن يوطن نفسه على أن يستجيب لنداءات الله، فإن كان أمراً فعله، وإن كان نهياً تركه، وإن كان بشرى فرح بها، وإن كان تحذيراً حذر، وإن كان إنذاراً انتذر. وهذا هو شأن المؤمن إزاء هذه النداءات الإلهية.
وكان نداء أمس -وهو النداء السبعون- في وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من أجل ألا يتعرض المؤمن لبطلان عمله، فيهلك والعياذ بالله تعالى.
وسنعيد تلاوة هذا النداء الذي درسناه أمس؛ علنا نذكر ما احتواه وما جاء فيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:2-3]. جعلنا الله منهم، وكنا قد قرأنا شرح هذا النداء.
وهكذا أهل الإيمان، فقد شعر بأن صوته يرتفع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهم أنه حبط عمله، فلازم البيت يبكي ويقول: أنا من أهل النار، فتفقده الحبيب صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقالوا: قصته كذا وكذا، وأنه يقول: أنه من أهل النار، فقال: ( لا )، بل ( هو من أهل الجنة ). ثم مات وقتل شهيداً في سبيل الله، فكان أنس رضي الله عنه يقول: إذا مر بنا ثابت بن قيس نقول: هذا من أهل الجنة، كالعشرة المبشرين بالجنة.
فقوله تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] هذه الجملة علة لمنع رفع الصوت، أي: خشية أن يحبط عملك وتهلك [ مخافة أن يغضب رسول الله ] صلى الله عليه وسلم [ فيغضب الله تعالى لغضبه ] فمن أغضب رسول الله فقد أغضب الله عليه، فهو يغضب لغضب رسوله [ فيعذب من لم يتأدب مع رسول الله ] صلى الله عليه وسلم [ وكون العمل يبطل ] ويحبط [ دال على أن من تعمد إساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ] أي: عالماً بذلك مريداً له [ يكفر بذلك ] ويكون كافراً إلا أن يتوب [ ولذا يحبط عمله؛ إذ العمل ] الصالح [ لا يحبط ] ويبطل [ إلا بالشرك والكفر ] وقد قال تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [الحجرات:2]. وإساءة الأدب مع الرسول، معناه: الإساءة مع العلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا كفر؛ إذ لا يبطل العمل إلا بالكفر [ لقول الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] ... الآية. ألا ] وهي في القرآن بمعنى ألو. والمؤمنون والمؤمنات لم يفهموا ألو هذه فهماً جيداً، بل بمجرد ما يفتح أحدهم التلفون يقول: ألو، وإذا قيل: ألا لا يفهمون. فافهموا هذه، فهي فائدة عظيمة. وقد قال تعالى في القرآن: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].
وألا في لغة القرآن معناها: انتبه أيها السامع! وأنت حاضر القلب والشعور حتى ألقي إليك الخبر، وأما النصارى واليهود والمشركين فإنهم لم يعرفوا معنى ألو، ولما سألناهم عن معناها قالوا: لا ندري، فهي هكذا وجدت مع التلفون، فقلنا لهم: لقد سبقكم القرآن بألف وأربعمائة سنة.
قال الشارح: [ فلنحذر إساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تكلمنا عنه أو حدثنا بحديثه يجب أن نكون على غاية من الأدب والاحترام ] لا بالضحك والسخرية ورفع الصوت. وإن شاء الله نأخذ بهذا.
اللهم اجعلنا من أهلها، وارزقنا الأدب مع رسول الله. اللهم آمين ].
ويمكننا أن نحصل على هذا الأدب عندما نجلس كل ليلة مع المربي؛ لأنه يشاهدنا ويرانا ويسمع كلامنا، فإن رأى فينا عنفاً أو شدة أو غلظة أدبنا، ولا نزال نتأدب حتى نكمل في آدابنا وأخلاقنا. وأما نعيش في الدكاكين والمقاهي والبيوت فلن نتعلم، ولن نتأدب، والله يقول: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، أي: آداباً وأخلاقاً.
وإن شاء الله نجتمع في بيوتنا وفي مساجدنا كل ليلة على كتاب المسجد وبيت المسلم، وعلى نداءات الرحمن لأهل الإيمان؛ حتى نصبح علماء ربانيين ذوي آداب وأخلاق، لا يسمو إليها غيرنا، ولا يصل إليها سوانا؛ لأننا احتوينا العلوم الإلهية والمعارف الربانية التي جاء بها كتاب الله، وجاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم. فقولوا: إن شاء الله [ وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
كما أن من مضمون هذا النداء [ وفي بيان أفضلية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ] على الخلق أجمعين دون الأنبياء، فلم يوجد على الأرض أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ولنعترف لهم بهذا، والقرآن شاهد على هذا، وقد نادانا الله ليبين لنا هذا، فمن كفرهم أو لعنهم أو سخر منهم فهو كافر إلى جهنم.
وهيا نتغنى بهذا النداء مع طوله.
قاله: [ الآيات (6 - 8) من سورة الحجرات
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:6-8] ] ولا يوجد كلام أعز من هذا الكلام، ولا أسمى ولا أطهر منه. وإن لم تعرفوا الله يا عباد الله! فهذا كلامه، فاعرفوا جلاله وكماله بواسطة كلامه؛ إذ لا أحد يقوى على أن يقول مثل هذا القول.
واسمعوا شرحاً موجزاً لهذا النداء: نادانا ربنا بعنوان الإيمان لأننا أحياء، نسمع النداء ونجيب، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ [الحجرات:6]. والفاسق هو: الذي خرج عن طاعة الله أو طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا قد فسق كما تفسق الفأرة التي تخرج من جحرها؛ لأنه خرج عن الطاعة وفسق، فهو فاسق. وقوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات:6] أي: خبر عظيم ذو شأن فلا تقبلوه وتصدقوه وتذيعوه في الناس، بل تثبتوا اليوم واليومين والثلاثة، وتبينوا حقيقة وصحة ذلك الخبر، وانتبهوا.
ثم قال: أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6]. فتسبون أو تشتمون أو تقتلون أو تعرضون للأذى من ليس أهلاً له؛ نتيجة أنكم لم تتثبتوا ولم تتبينوا القول، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]. والمؤمن يندم إذا وجد نفسه أخطأ، وإذا لم يندم فهو ليس بمؤمن، بل كافر، وأيما مؤمن يجد نفسه أنه أخطأ في سب فلان أو اتهام فلان أو شتم فلان فإنه لما يعرف الحق والله يندم حتى يكاد يأكل أصابعه، والذي أخبر بهذا هو خالقنا وخالق غرائزنا، فقد قال: أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]. ومعنى هذا: إذا أخبرتك فلانة أو أخبرك فلان بخبر، وأن فلاناً فعل أو فلانة فعلت فإياك أن تصدق، حتى تتأكد بوسائط العلم والمعرفة، فإذا علمت يقيناً قلت؛ وذلك خشية أن تقول الباطل في مؤمن، ثم يتبين أنه بريء لم يفعل هذا، فتعض أصابع الندم وتكرب وتحزن؛ لأنك آذيت مؤمناً. هذا أولاً.
وثانياً: قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ [الحجرات:7]، أي: بينكم. لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات:7]، أي: وقعتم في المشقة والتعب. وهذا صحيح، فلو كان كل من يقول قولاً للرسول يأخذ به فوالله لوقع الناس في المهالك؛ لأن هذا النداء له سبب نزل فيه.
ومعنى هذه الآية: واعلموا أيها المؤمنون! أن فيكم رسول الله، لو يطيعكم في كثير من الأخبار والأوامر لهلكتم، ولوقعتم في العنت والمشقة التي لا تطاق. والله لا يريد لكم المشقة والعنت والتعب. وَلَكِنَّ اللَّهَ [الحجرات:7] وهذه بشرى. وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]. ولذلك فأنتم الراشدون. وهو لم يقل: فأنتم الراشدون، وإنما رفعهم إلى مستوى آخر، فقال: أُوْلَئِكَ [الحجرات:7] أي: هذا النوع هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7]. لا غيرهم. والراشد ضد السفيه، فهم أهل رشد وكمال، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله، ولهذا لم يكونوا يكثرون من أمر رسول الله والطلب منه كذا وكذا، وإنما هم بعيدون من هذا؛ لما منحهم الله وأعطاهم. هذا هو معنى هذا النداء.
قال: [ وهو المرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، والنبأ هو الخبر ذو الشأن. فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، أي: تثبتوا قبل أن تقولوا أو تفعلوا أو تحكموا ] كما بينا [ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6]، أي: خشية إصابة قوم بجهالة منكم. فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]، أي: فتصبحوا على فعلكم الخاطئ نادمين متأسفين ] متحسرين.
وقوله تعالى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات:7]، أي: لوقعتم في المشقة الشديدة والإثم أحياناً.
وقوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]. فوقاكم بذلك من أن تكذبوا على رسولكم، أو تقترحوا عليه، أو تفرضوا آراءكم فتؤذوه بذلك. وهذا الله تعالى بتحبيبه الإيمان إلى قلوبكم، وتكريهه إليكم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلكم من الراشدين كفاكم بذلك خواطر السوء ورغبات الباطل، فلم يبق مجالاً للاقتراحات التي قد تسيء إليكم، وإلى جناب نبيكم صلى الله عليه وسلم ] وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر