الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. اللهم آمين.
بعض ما ينتقض به الوضوء
سبق في النداء الذي قبل السابق أن ذكرنا موجبات الوضوء، أو نواقض الوضوء، وعقبنا في الدرس بعده على ناقض نسيناه، ألا وهو أكل لحم الجزور، وقد نبهنا عليه وبينا، وقلنا: بغض الطرف عن الخلاف فالأحوط لدين العبد أن يتوضأ؛ لثبوت الحديث النبوي الشريف، ومن قال بنسخه وثبت النسخ عنده فشأنه، ونحن نأخذ بالحيطة لديننا، فمن أكل لحم بعير فليتوضأ.
وقد ذكرنا العلة المستلزمة لذلك، وهي: كثرة الزهومة في لحمه، وخلايا الجسم تتأثر بالدهن، والمصلي يناجي ربه، فينبغي أن يكون أخف ما يكون، وأسرع ما يكون؛ فلهذا يكره الشبع والتخمة.
جاءني أحد الصالحين في اليوم الثاني وقال لي: ومس الذكر ناقض للوضوء، فقلت: بلى، ولكننا نسينا؛ إذ الكتاب لم يحو ذلك، وإنما فسرنا الآية بما ظهر لنا منها، وما أحطنا بالعلم كله، فعليه فمن أفضى بكفه إلى ذكره بدون حائل من ثياب أو سروال وجب عليه الوضوء؛ للحديث الصحيح: ( من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ ). فمس الذكر ناقض للوضوء؛ لأن الذكر محط الشهوة والغريزة، فمن مس ذكره فغالباً ما ينتعش باطنه، وللحيطة قال الرسول الكريم: ( من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ ). فلنتوضأ. وهذا التعقيب ضروري؛ لأننا نخطئ وننسى ونجهل.
الأمر بذكر النعم لشكرها وتقوى الله عز وجل والتوكل عليه سبحانه
درس أمس ونداء أمس نداء حار، ونسبة المؤمنين والمؤمنات الذين بلغهم واحد إلى مليون أو إلى خمسة ملايين. وهم لن يشكروا الله إذا لم يبلغهم.
والنداء الكريم بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]. وقد قررنا وعلمنا على علم أن هذه النعمة يجب أن يشكرها كل مؤمن ومؤمنة طوال الحياة؛ لأن الله تعالى دفع عن نبينا كيد الكائدين ومكر الماكرين واغتيال المغتالين، ولو قتلوه لما اجتمعنا في هذه الليلة، ولا بلغتنا دعوة الله ولا رسالته. فحفظ الله لنبيه نعمة من أجل النعم، وليس الرسول وحده هو الذي يشكر الله عليها، بل كل مؤمن ومؤمنة يجب أن يذكر هذه النعمة ليشكرها، وقد علمتم يقيناً أن التذكير بالنعمة المراد والمقصود منه: أن يشكر المنعم، فلا يكفي أن تقول: رزقني الله، بل قل: الحمد لله، ولا تقل: عافاني الله، بل قل: الحمد لله.
ذكرت لكم آيات الكتاب في بني إسرائيل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]. وهو لا يريدهم أن يقولوها فقط، وليس هذا المطلوب، بل المطلوب أن يقولوها ليشكروا الله عز وجل، والله لا يشكر بالتصفيق والشطح والرقص، وإنما يشكر الله بطاعته والذوبان فيه؛ لأن طاعته تعالى معراج وسلم الرقي إلى الملكوت الأعلى؛ لما علمنا يقيناً أن تلك الطاعة - وهي فعل الأمر المزكي للنفس وترك النهي المخبث للنفس، وهذه هي التزكية والبعد عن التخبيث- تتم الطهارة، ويصبح العبد أهلاً للملكوت الأعلى. وأما شكر النعمة بغير الطاعة فهو خيالات وضلالات؛ إذ الشكر: صرف النعمة فيما خلقت لها، وفيما من أجله وهبتها. وهذا يتمثل في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نعمة الله بإفشال مؤامرات الماسونية وجمعيات التنصير في بلاد الحرمين
عرضت لي نعمة أخرى، وضاق الوقت، وما هدأت النفس، ولا بد من التذكير بها، وخاصة أننا نحن أهل هذه النعمة، وبعض الساسة وبعض العقلاء وبعض العلماء وغيرهم لا يريدون هذا، وأما أنا فأقولها، إلا إذا منعت من أن أقول، وسدوا فمي وأغلقوه، أو أشهروا العصا؛ لأني مبين مذكر، فالله يذكرنا بنعمة مضى عليها 1400سنة، ونحن عندنا نعمة لها أربع سنوات ما نذكرها، وهي فشل تلك المؤامرة التي نسجت خيوطها محافل الماسونية وجمعيات التنصير لإطفاء نور الله، والقضاء على هذه البقية الباقية في هذا البلاد، ووالله لولا أن الله أوقفهم حيارى مشدوهين في الشمال والجنوب والشرق والغرب لما اجتمعنا هذه الليلة في هذا الدرس، ولمزقت راية لا إله إلا الله وبالوا عليها، ولبالوا على القرآن والمصاحف وانتهى الإسلام. فهذه نعمة يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يذكرها ويشكر الله تعالى عليها، وبخاصة إخواننا وأبناؤنا في هذه الديار، فلنشكر الله على هذه النعمة، فهي نعمة من أجل النعم، نعمة حياة وموت.
شكر النعمة لا يكون بالمعصية
جاءني الآن طالب بمجلة، وهي أخبث مجلة تصدر في لبنان، وتباع بعشرة ريالات، وفيها أخبث أنواع الباطل والكذب والنفاق والخداع والضلال، وتباع في مدينة الرسول بعشرة ريالات، فنحن لم نشكرنا الله بهذا، بل مجلات الخلاعة والدعارة والعري نبيعها من أجل الفلوس ومن أجل الريالات، وكأننا ما آمنا بالله ولا عرفنا الله. فمن أنعم الله عليه بنعمة فيجب أن يشكر الله المنعم عليها بالانكسار بين يديه والاطراح، والبعد عن معاصيه، والخروج عن طاعته، وطاعة رسوله، لا أن ننجو من الفتنة الليلة وغداً نغني ونرقص، فهذه المجلات لا يجوز أن تباع في المدينة، ولكن المفلسون يهربونها، والعجب أن تشتهى، ويقرأها أبناء
فاطمة وأبناء
أبي بكر الصديق ، فيقرءون الخبث الباطل في مدينة الرسول.
فلنعرف هذا الواقع والمر، وقد قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]. ووالله إن لم نعد عودة صادقة ربانية لما أخطأتنا سنة الله، ونحن نشاهد هذا في كل أصقاع وبقاع الأرض، وإن الله سنناً لن تتخلف، فإما أن نشكر الله بالانقياد والطاعة له، والحب فيه والبغض فيه، وموالاة أوليائه، وإما أن نتعرض لغضبه، وإذا غضب الجبار فالعالم كله يشاهد المحنة ويعيش فيها.
كيفية الوصول إلى الشكر
أخيراً: كيفية الوصول إلى الشكر - وعدنا من حيث بدأنا-: وقد قلت لكم: لم يسمع هذا النداء ولا واحد في المليون، وأمة الإسلام لن تشكر ربها وهي ما عرفته، ولا عرفت كيف تشكره، والمسئولية مسئولية العلماء إن وجدوا، فالعلماء يجب أن يجمعوا المسلمين في بيوت ربهم، لا أقول: لتثقيفهم، وإنما لتزكية نفوسهم وتطهير أرواحهم، وتعليمهم ما أراد الله أن يتعلموه، فيربونهم على أن يستقيموا على منهج الحق، ويزكون أنفسهم ويطهرونها من أدران العجب والكبر والغش والحسد والشرك والباطل، ومستحيل أن تجتمع أمة بل أهل قرية اجتماعاً ربانياً إذا لم يعودوا في صدق إلى الإسلام وإلى بيت الله؛ إذ بهذا تنتهي الفوارق، وتنتهي النزعات، وتنتهي العصبيات، وتنتهي المذاهب والحزبيات والقبليات، وصفتنا نحن عباد الله في بيته أن نعبده بما شرع، ومعنا كتابه، ومعنا رسول الله كأنه لم يمت بعد، فهذه أحاديثه وبيانه وهداياته ماثلة بين أيدينا، فلنقبل على الله، ولا نرضى بهذا التمزق وهذا الهبوط حتى تأتي علينا سنة الله، ونندم حيث لا ينفع الندم. فلنعرض عن شراء هذه المجلات وعن بيعها، ولا نعرضها على مؤمن أو مؤمنة، فليس فيها إلا السم والخبث وطمس البصيرة وإعماء القلب وإنهاء الروح الإيماني، ولكن كل هذا وقع من حب الريال، وقد مات أسلافك جوعاً وعطشاً ولم يعرضوا دينهم على الباطل ولا ارتدوا عن الإسلام،. ولكن علة المسلمين اليوم هي: أنه لم يبلغهم درس أمس، وليس عندهم علم، فتأتي أحدهم المجلات فيبيعها ويستفيد ريالاً أو ريالين، وهذا الذي يأتي بها ويدخلها كذلك ميت القلب والضمير، ولم يعرف ما هي المدينة أبداً، ولا نور له ولا بصيرة، بل يأكل ويشرب كالبهيمة، ولا يعرف شيئاً، وهو لم يجلس بين الصالحين يتعلم، فنقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولنصبر على قضاء الله وحكمه، ونصرخ وليسمع أولوا البصائر والنهى: لابد من العودة إلى الله في صدق، لا باستهزاء واستخفاف وباطل، بل عودة صادقة، فنعرف أن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، ولا بد من إنابة صادقة، ومودة وإخاء، وولاء وطهر وصفاء، وذكر الله، وأما أن نحلم بدار السلام بمجرد ركعتين أو بانتسابنا إلى الإسلام فهذه أوهام.
والطريق هو كتاب المسجد وبيت المسلم فقط، ولا مدفع ولا رشاش ولا سحر، فإذا كنت مؤمناً فالزم بيت الله تتعلم الهدى، وطبق ونفذ، وطهر بيتك وقلبك ومشاعرك وأحاسيسك، وليكن همك السماء والملكوت الأعلى، وليس أوساخ الدنيا وأباطيلها، وهي ذاهبة يومياً. واسمحوا لي إن بكيت عليكم ومعكم. وهذا هو الواجب.
هذا هو [ النداء الثالث والثلاثون ] وهو يرحمكم الله نداء الله، وسبحان الله! فربنا ينادينا، فالله أكبر! ما أعزنا وما أشرفنا وما أكرمنا! فرب السماوات والأرض وما بينهما الذي يحيي ويميت ينادينا والحمد لله، فهو لا يريد منا مالاً، ولا ينادينا لنغني ونرقص، بل ينادينا ليأمرنا بأوامر ضرورية لسمونا وطهرنا وعزنا وكمالنا، ولينهانا عن الموبقات والمهلكات والمدمرات، والممزقات للأعراض والدنيا والدين؛ حتى نتجنبها ونبتعد عنها، وهو كذلك ينادينا ليشرح صدورنا، ويطيب خواطر نفوسنا ببشريات يزفها إلينا بوصفنا أولياءه، كما قال تعالى:
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] كل مغاضب الله ومساخطه.
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]. وهو ينادينا لينذرنا عواقب السلوك المنحرف، وعواقب التصور الباطل، وعواقب العقيدة الهابطة، وعواقب الجهل المظلم، فكل هذه طوام تأكلنا وتأتي على وجودنا، وهو ينادينا هكذا لأننا أولياءه، آمنا به وبلقائه، فحيينا بعد الموت، فأصبحنا أهلاً لأن يعزنا ويكرمنا، وهذا النداء هو [ في الأمر بتقوى الله عز وجل، وطلب الوسيلة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيله عز وجل ].
وآية هذا النداء هي [ الآية (35) من سورة المائدة ] وقصة المائدة هي: أن جماعة من المسيحيين أنصار عيسى الحواريين، قالوا: يا عيسى! ادع الله لنا لينزل علينا مائدة من السماء وأكلة نأكلها، وهؤلاء بهاليل. ولهذا كثيراً ما نقول: يوجد عند اليهود مواقف دراويش وبهاليل، ومواقف شياطين وإلى الآن. وسبحان الله العظيم!
وأول موقف أساء فيه هؤلاء أنهم قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة:112]. فهم يشكون في قدرة الله، وهذا عدم البصيرة والهبوط الإيماني والجهل، والشاهد عندنا: فسأل الله فأنزل المائدة، فأكلوا، ثم توعد الله عز وجل أن من كفر بعدها أن يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من الخلق أبداً، فقال: أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115]. ولهذا سميت السورة بسورة المائدة التي سأل الله عيسى ربه، وأنزلها وأكلوا الخبز واللحم، والآن النصارى يحتفلون بها، ونحن قلدناهم أيضاً، فهم يخرجون في الربيع، ويسمونها كذا، وسورة المائدة فيها نداءات ربانية لنا، ومن بين هذه النداءات هذا النداء، وإليكموه.
[ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35] ] وهذا النداء سمعه أصحاب رسول الله وأبناؤهم وأحفادهم، وقد فعلوا ما طلب منهم ففازوا، وسمعه المسلمون من قرون ولم يتحرك ولا واحد في المليون للعمل به.
سر نداء الله لعباده المؤمنين بعنوان الإيمان
إليكم [ الشرح ] لهذا النداء الكريم: [ هل تذكر أيها القارئ الكريم! سر نداء الله للمؤمنين بعنوان الإيمان؟ وهو أن المؤمن حيي بإيمانه، يسمع ] ويبصر [ ويعقل ] ويفهم [ ويقدر على الفعل والترك بخلاف الكافر فإنه في حكم الميت ] والبرهنة على أنه ميت: أنك إذا قلت له: قم اغتسل من الجنابة لا يقوم، وإذا سمع الأذان لا يتوضأ ويذهب إلى بيت الرب، ولا يمشي ولا يسمع؛ لأنه ميت [ إذ هو لا يسمع نداء الله عز وجل، ولا يجيب ولا يعقل ولا يفهم ] عن الله، ودائماً نقول: إن أهل الذمة عندنا لا نكلفهم بصلاة ولا صيام، ولا زكاة ولا جهاد، ولا حج ولا عمرة، ولا وضوء ولا غسل؛ لأنه أموات، فإذا حييوا ونفخنا فيهم روح الإيمان فسرت في أجسامهم فقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله فيومها لا كلفة، فإذا شهد فهو قادر على أن يحمل الأعباء، وقادر على أن يموت في سبيل الله، وأما وهو ميت فلن يقوم بالتكليف. وهذا الكلام معقول، وليس هراءً، فإذا وجد يهودي أو نصراني معنا في البلاد الإسلامية فإننا لا نقول له: توضأ وصل، فهذا عبث؛ لأنه ميت، فأحيه أولاً، وهو لا يحيا بالماء والصابون، بل يحيا بالإيمان، فعرفه أنه مربوب، وأنه عبد مخلوق، وهو سيسأل عن خالقه، ويقرأ كتبه حتى يؤمن به، فإذا آمن فكلفه فلن يعجز، وإن ضعف الإيمان فانفخ فيه طاقة جديدة حتى يقوى وينهض على التكاليف.
سبب نداء الله عز وجل لعباده المؤمنين دون غيرهم
قال: [ وهل تذكر ] أيها القارئ أو المستمع! [ أن الله تعالى لا ينادي المؤمنين إلا ليأمرهم أو ينهاهم أو يبشرهم أو ينذرهم ] وهذا هو الذي نكرره، وحاشا لله أن ينادي عباده لا لشيء، وتعالى الله عن اللهو والعبث واللعب، والعقلاء منا لا يتكلمون بهذا، فالعاقل لا يقول ما لا معنى له ولا فائدة منه، والتعاليم ماضية فينا، وفي الحديث: (
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ). و(
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ). وأما هراؤنا وصياحنا وضجيجنا فهو ناجم عن جهلنا وبعدنا عن الصراط المستقيم، ولم يأذن فيه الإسلام.
قال: [ إذ في الأمر فعل ما يزكي نفوسهم، وفي النهي ما يبعدهم عما يدسيها ويخبثها، وفي البشارة ما يرغبهم في الصالحات، وفي النذارة ما يبعدهم عن مقارفة الذنوب المدسية للنفس ].
الأمر بتقوى الله عز وجل وفائدة ذلك
قال: [ وها هو ذا ] سبحانه و[ تعالى في هذا النداء يأمرهم بتقواه؛ إذ قال عز ] وجل [ من قائل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:35] ] ومن قال: لا أتقيه كفر واحترق، فما على عبد الله المؤمن أو أمته إلا أن يقول: سمعاً وطاعة، ويتحرك في حدود طاقته وقدرته، وإذا رفض رُفض، وهذا أمر جازم، وليس فيه تردد [ أي: خافوه خوفاً يحملكم على طاعته؛ إذ بطاعته تكون الوقاية من غضبه تعالى، وعقابه في الدنيا وفي الآخرة ].
الأمر بالتقرب إلى الله تعالى والتوسل إليه بصالح الأعمال
قال: [ وكما أمرهم بتقواه لينجوا من عذابه أمرهم بما يرفع درجاتهم ويعلي منازلهم ومقاماتهم في الدنيا والآخرة، ألا وهو التقرب إليه ] تعالى والتوسل؛ لأن الأمر بالتقوى هو فعل الواجبات وترك المحرمات، وطريقة أخرى لتصبح وليه ومحبوباً عنده، وإذا سألته أعطاك، وإذا استعذت به أعاذك، وهو التملق إليه والتزلف المعبر عنه بالتوسل، ونحن لسنا في مستوى واحد في هذا، وبقدر ما تتملقه يرفعك ويدنيك، وقد عرفنا أن أصحاب رسول الله كانوا متفاوتين كالكواكب الزهر في السماء، وكان هذا أفضل من هذا، فلهذا أمر بالتقوى لنحفظ الولاية، وأما الأمر بالتوسل إليه فهو تملق، فمنا من يواصل صوم الدهر، ولا تعقب وتقول: (
لا صام من صام الدهر ). فإن الذي يكثر الصيام كأنما صام الدهر، بل الذي يصوم ثلاثة أيام في كل شهر فهو في عداد من صام الدهر، ومنا من يقوم العمر كله في طاعته، والتقرب إلى الله يكون [ بنوافل العبادات، كنوافل الصلاة والصيام والصدقات والحج والعمرة والذكر والدعاء، وما إلى ذلك من نوافل العبادات، فقال تعالى:
وَابْتَغُوا [المائدة:35] ] أي: اطلبوا [
إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، أي: اطلبوا العمل الصالح متوسلين به إليه تعالى، وهو سائر القرب ] التي تصل بكم إلى حبه ورضاه ورضوانه، وابحثوا عما يحب وافعلوه، وقد بلغنا أن الله عز وجل يحب كلمتين، فلنتملقه بهما، وهما: سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، ولنغن بهما في الشوارع. فلنتقرب إلى الله بسائر القرب حتى كناسة المسجد وكناسة الشوارع التي يمر بها المؤمنون والمؤمنات، وابحث عما يحب الله عز وجل فقله إن كان قولاً، واعمله إن كان عملاً، واسكت إن كان سكوتاً، ونم إن كان نوماً، وابحث دائماً عن ذلك، فإنك لا تزال تتقرب وتتوسل حتى تحظى بأعظم منزلة، وقد تكون دون
أبي بكر الصديق ، وأفضل من
عبد القادر ، وليس منا اليوم ولا واحد في المليون الذين يتملقون الله ويتقربون إليه، والسبب أنهم ما عرفوا، وما تربوا في حجور الصالحين، ولم يعلمهم أحد، والعلماء هائجون من قرون، ولا يعرفون إلا الأكل والشرب والباطل في كل مكان.
الوسيلة .. بين المعنى الحقيقي والمعنى الشائع
قال: [ واذكر أيها القارئ الكريم! والمستمع ] للنداءات [ المستفيد ] ونقول: المستمع لأن هذه النداءات من كان يحسن القراءة فيجب أن يقرأها، ويسمع ما يقول فيها الرب، ويعمل في حدود طاقته، والذي لا يحسن القراءة فينبغي أن يستمع إليها، وأن يقول لابنه أو أخيه أو حتى امرأته إن كانت تقرأ: أسمعيني نداء ربي؛ لأننا نريد أن نجتاز هذا العالم إلى الملكوت الأعلى، فلا تلمنا فنحن نريد أن نجتاز مسافة سبعة آلاف وخمسمائة سنة في الطيران عندما نلفظ أنفاسنا، حتى تكون الروح تحت العرش ساجدة للرب، ولن يتم هذا إذا لم تكن الروح طيبة طاهرة كأرواح ملائكة السماء، وهذا الكلام سمعناه في قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ *
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41]. ولا أحد يرد على الله. فالذي لن يزكي نفسه بهذه العبادات المقننة تقنين الكيمياويات فلن يعرج إلى السماء، ولن يدخل أبوابها، وهذا الكلام ليس أحلاماً ولا أوهاماً ولا منامات [ أنه شاع بين المسلمين أنواع من الشرك سموها ] وأطلقوا عليها لفظة [ وسيلة ] وهي والله شرك، لكنهم لم يعرفوا، ولم يعلمهم أحد، ومن لم يعرف السم يحتسيه، ومن لم يعرف العسل يصبه في المزبلة [ وذلك لغلبة الجهل في الأمة الإسلامية؛ إذ العدو الكافر ] المعروف عندنا بالثالوث الأسود؛ المجوس واليهود والنصارى [ أبعدهم عن مصدر العلم والمعرفة، وهو الكتاب والسنة، فأصبح القرآن يقرأ على الموتى فقط ] من إندونيسيا إلى موريتانيا مدة سبعمائة سنة [ والسنة تقرأ للبركة لا غير ] وقد قرءوها في رمضان هذه السنة، وهم يتغيظون على هذا الشيخ المنتن، ولن نسكت حتى يصدر أمر بالسكوت، فالسنة تقرأ عندهم للبركة، و[ لا ] تقرأ [ لا لاستنباط الأحكام الشرعية والآداب والأخلاق الإسلامية ] واستخراج الهدايات النبوية؛ من أجل الطهر والحياة السعيدة، وهم يريدون قراءتها للبركة؛ حتى تبقى المذهبية هي الضاربة أطنابها، هذا مالكي وهذا حنبلي وهذا زيدي، وغير ذلك، ويمزقون المسلمين، وإلا فأنا مسلم قل لي قال الله وقال رسوله، وإلى الآن ما أفاقوا بعد، فالسنة لا تقرأ للبركة، وأما القرآن فلا بأس أن يقرأ للبركة الحرف بعشر حسنات، وأما السنة فتعاليم شرائع، فلا تقرأ للبركة، وقد ورثنا هذا عن مشايخنا سامحهم الله، وهذا ليس عذراً، وقد بلغكم أن هذا لا ينبغي، فاجتمعوا على السنة، وعلموا الناس الهدى.
وأعود فأقول: دلوني على واحد في الشرق .. في الغرب .. في المدينة .. في مكة .. في أي مكان يجلس في بيته ويقول: يا فلان! تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن، ولم يبلغنا أن أحداً فعل ذلك، وأنا لا أعرف إلا واحداً فقط، وقد مات رحمة الله عليه، فقد كان يأتيني ويقول لي: أسمعني يا أبا بكر! شيئاً من القرآن، وكان قد سمع شيخاً يقول هذا من قبل خمسين أو ستين سنة، فعرف فطبقها، وأنت طول العام وطول عمرك لا تقول: دعنا نسمع ما يريد الله منا، اللهم إلا ما كان من بعض المشايخ كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وأطال في عمره، فقد كان إذا جلس في مجلس يقول: من يقرأ علينا شيئاً من القرآن، وأنا أريدك أنت في بيتك أن تقول: يا ولدي! اقرأ علي، وأنت تتأمل وتتدبر وتتفكر، فإذا علق بذهنك شيء سألت عنه وعن المراد منه، وماذا يريد الله منك؟ وهذه النداءات الآن تمضي هكذا كالسحب، ولا يجتمع عليها اثنان إلا أن يشاء الله؛ لأننا مكتوب علينا الهبوط، ولن يرفعنا أحد.
بعض المظاهر الشركية التي أُطلق عليها لفظ الوسيلة
قال: [ ومن الأمور الشركية التي أطلقوا عليها اسم الوسيلة ووقع فيها الجهال وغيرهم ] ما يلي:
[ أولاً: دعاء الأموات والاستغاثة بهم، كأن يقول: يا سيدي فلان! أنا بك وبالله ] وهذه اللهجة مصرية، أو أنا دخيلك، وهذه يقولونها في المغرب [ ادع الله لي، سل الله لي قضاء حاجتي ... إلخ ] وينسى الله الحي القيوم السميع البصير، ويقبل على قبر قد يناديه، وهذا مجنون، وليس عاقل، فهذا قد مات، وقد دفنوه من قبل ألف سنة، ولا إله إلا الله! ففي أقصى المغرب يدعون: يا سيدي عبد القادر ! يا راعي الحمراء! يا مولى بغداد! فقلت لهم: أنتم قرأتم على الشيخ عبد القادر ؟! فقالوا: لا، فقلت: إن بينكم وبينه ألف سنة، وهو الآن هو في بغداد، فكيف تنادونه؟ وكيف يسمعكم؟ فقالوا: ما نعرف، وإنما هكذا قالوا، ولا تلومهم؛ لأننا ما علمناهم، ولا جمعناهم في بيوت ربهم، ولا ذكرناهم، ولا زكيناهم، وإنما أهملناهم من قرون، فهيا نعود، فالكتب متوفرة، والطائرات موجودة، والعالم كأنه بيت واحد، فيجتمع المؤمنون في بيوت ربهم نساء وأطفالاً ورجالاً من المغرب إلى العشاء طول الحياة، ويتعلمون قال الله وقال رسوله، وهذه ليست مستحيلة ولا صعبة ولا كأداء مهلكة، وليس فيها شيء، ولكننا ما عرفنا، ونحن نريد أن ينتهي الخلاف والفرقة والصراع والتكفير والدماء والباطل والشح والبخل والإسراف وغير ذلك، والله لن ينتهي هذا إلا بالعودة إلى الله، ولست واهماً في هذا، فها هو العالم كله بين أيديكم يتخبط، ولو جاء عمر الآن فلن يستطيع إنقاذهم، بل لا بد وأن يسلموا إسلاماً حقيقاً.
[ ثانياً: الذبح للأولياء، كأن يذبح الشاة على الضريح ] أي: [ القبر، ويقول: هذه على روح سيدي فلان ] وسيدك فلان مادمت تؤمن وتعتقد أنه ولي الله وفي الجنة فهو ليس في حاجة إلى صدقتك حتى تتقرب إليه وتذبح له، بل أنت الذي في حاجة إلى الصدقة، أو أبوك أو أمك، فلا تقل: هذه على روح سيدي البدوي ، فـالبدوي ليس في حاجة إلى صدقتك، وهو ليس عمك أو أبوك، وإذا كنت تعتقد أنه من أهل الجنة فلا تتصدق عليه، وليس هناك جنون أعظم من هذا، وتصدق على والدك الذي مات أو على أمك، وقل: هذه على روح والدي، فتقبلها اللهم مني، فاغفر له وارحمه، لا على سيدي البدوي ولا العيدروس ولا عبد القادر ، وهناك ملايين القبور والأولياء في العالم الإسلامي بلا حساب، وفي بعض البلاد كل جبل عليه قبة، وكل تل عليه قبة، وولي بالأوهام.
[ ثالثاً: النذر للأولياء، كأن يقول: يا سيدي فلان! إذا قضى الله حاجتي ذبحت لك شاة، أو أنرت ضريحك بشمع ونحوه، أو وضعت ستائر حريرية أو توابيت خشبية ] ويتملقون الأولياء بهذا، وهذا التوسل فيه بعض الشيء، فهم يقولون: يا سيدي عبد القادر ! إذا حصل لي كذا وكذا فعلت كذا، ولا يذكرون الله، وهذا فيه توقف، ولا إله إلا الله! ولولا هذا ما سلط الجبار علينا بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا فأهانونا وأذلونا، ومسخونا وكفرونا، وإنما وقع هذا بعدما هبطنا وانقطعت صلتنا بربنا، وأصبحنا مشركين وثنيين، وإلا فالله لا يسلط على أوليائه من يؤذيهم ويهينهم، وحاشا لله، وقد قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. ولكن لما عبدوا الأصنام والأهواء وانتهت صلتهم بالرحمة الإلهية أذلهم الله تربية وتأديباً.
[ رابعاً: الحلف بالأولياء، نحو: وحق سيدي فلان، أو رأس سيدي فلان ] وقد حلفوا حتى بالطعام والملح الذي بيننا، ولم يتركوا شيئاً إلا ألهوه، إلا الله لا يحلفون به، وأما الملح والطعام وسيدي فلان وغير ذلك فيحلفون بهم، هذه أمة القرآن، وعلة هذا الجهل، فهم لم يعرفوا، ونحن ما علمناهم، وهم لم يجلسوا بين أيدينا قروناً عديدة.
[ خامساً: نقل المرضى إلى أضرحتهم للتبرك بهم، والتمرغ على تربتهم، ودعائهم، وطلب الشفاء منهم ] ولو ذهبت إلى ضريح سيدي فلان لوجدت مجموعات المرضى والمشلولين يتمسحون ويستغيثون بسيدي فلان، ووالله إن اليهود والنصارى يضحكون علينا عندما ننقل مرضانا إلى الموتى لا إلى المستشفى، ووالله العظيم لولا حماية الله لكانت هذه الحجرة كلها نساء مرضى ورجال، إلا أن الله حماها بهذه الدولة أطال الله بقاءها، ورغم أنف أعدائها ولعنهم إلى يوم الدين؛ إذ ليس هناك فرق بين الجهل هنا وهناك، فكله واحد، والجهل هو الجهل وكفى.
قال: [ كل هذا الشرك يسمونه توسلاً إلى الله تعالى بعباده الصالحين ] ويؤلفون التآليف والكتب، والآن في مكة كتبوا يردون هذه الدعوة، ويدعون إلى التبرك بالصالحين.
كيفية التوسل إلى الله عز وجل
[ فاذكر هذا ] يا عبد الله القارئ! [ واحذره، واعلم أن التوسل إلى الله عز وجل يكون بفعل الخيرات، والإكثار من الطاعات؛ من أجل رفع الدرجات، والظفر بالرغائب والمحبوبات ] عنده تعالى. ولكنهم احتالوا علينا وصرفونا عن كل وسيلة نافعة، وتركوا لنا: بحق سيدي فلان، وجاه فلان، وقد تجد قرية كاملة لا يوجد فيها من يقوم في الليل يتوضأ ويبكي بين يدي الله، ويسأله قضاء حاجته أبداً، ولا يعرفون إلا أسألك بحق فلان، وأسألك بجاه فلان، ويجادلون على ما في ذلك.