أما بعد:
وقد انتهى بنا الدرس إلى حادي عشر أحداث السنة الثامنة من الهجرة النبوية وهي: [غزوة الفتح (فتح مكة)] ومكة كانت تدار من قبل المشركين، هم حكامها وأهلها، وهم المناوئون المخاصمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وها نحن مع فتحها على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وألفت النظر إلى أننا سنقضي هذه الساعة مع الحبيب صلى الله عليه وسلم ليزداد حبنا فيه وولاؤنا له، واتباعنا له، والله نسأل أن يسجل أسماءنا مع محبيه صلى الله عليه وسلم.
قال: [لقد ورد في اتفاقية الحديبية] والحديبية هي: المكان المعروف الذي يبعد عن مكة عشرين كيلو متر، جرت فيه اتفاقية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وبين كفار مكة ورجالها على صلح مدته عشر سنوات ينتقل فيها المسلمون حيث شاءوا، ويتنقل كذلك الكافرون حيث شاءوا، وتصبح البلاد آمنة سالمة، فمن رغب في الخير وجده وسهل عليه، ومن أصر على الشرك والكفر فله ذلك، المهم: أن تخف الضغوط التي كانت على المؤمنين، وهذا من حكمة الحبيب صلى الله عليه وسلم وحسن سياسته، وكيف لا، وهو يتلقى علومه ومعارفه من ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه!
قال: [إن خزاعة دخلت في عقد الرسول صلى الله عليه وسلم وبكر دخلت في عقد قريش] وخزاعة قبيلة معروفة تسكن حول مكة شرقاً وغرباً، وبكر كذلك، ولكن بكر كانت مع قريش، وخزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فخزاعة حالفت رسول الله والمؤمنين، وبكر حالفت قريشاً والكافرين.
[وشاء الله عز وجل] والله يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير، ولكن مشيئته تابعة لحكمته وعلمه وقدرته ورحمته [أن رجلاً من خزاعة] التي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حلفه ضد المشركين [سمع رجلاً من بكر ينشد شعراً في هجاء النبي صلى الله عليه وسلم] سواء أنشده بعد حفظه أو من نفسه، المهم أن هذا الشعر يحمل هجاءً ونقداً وسباً للنبي صلى الله عليه وسلم [فضربه الخزاعي فشجه فهاج الشر بينهم] الخزاعي ما تمالك نفسه وغضب لرسول الله، وكيف يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعاهدة قامت على أساس أن لا اعتداء، فهاج الشر بين بني بكر وبين خزاعة.
[وثارت بكر على خزاعة حتى بيتوهم بالوتير] الوتير: مكان بين مكة والمدينة [وأعانت قريش بني بكر بالسلاح والدواب] الخيل والبغال والإبل [وقاتل معهم جماعة من قريش مختفين] قريش ساعدت حليفتها قبيلة بكر بالمال، والدواب، وأيضاً بعض رجال قريش اختفوا ودخلوا في جيش بكر وقاتلوا خزاعة.
قال: [ومنهم] من هؤلاء المختفين من قريش في جيش بني بكر [صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ] وهو الذي كتب الوثيقة، وكان يمثل قريش يومها، ولم يسمح لـعلي بن أبي طالب أن يكتب -وهو الكاتب-: (بسم الله الرحمن الرحيم) وقال: لا أعرف (الرحمن الرحيم) ولكن اكتب: (باسمك اللهم) فقط، وعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب: (هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لا، لو عرفناك رسول الله ما قاتلناك؟! ولكن اكتب: (هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله)، وها هو اليوم يختفي مع العدو ويقتل ويقاتل ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم -ومع هذا تاب الله عليهم، وأصبحوا من أهل الجنة-.
[فانحازت خزاعة إلى الحرم لائذة به] اضطرت إلى أن تدخل الحرم؛ للاحتماء به، والمفروض أن من دخل الحرم لا يؤذى، فلا يقتل ولا يقاتل [إلا أن بكراً لم تحترم الحرم، وقاتلت خزاعة به وقتلت منهم] وهذه هي أسباب فتح مكة.
قال: [إذ أعانت بني بكر على خزاعة أحلاف النبي صلى الله عليه وسلم، وعندئذٍ خرج عمرو بن سالم الخزاعي ] من دياره [حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوقف عليه] أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى الرسول جالس وهو واقف أمامه [ثم قال: منشداً قصيدة مطلعها:
اللهم إني ناشد محمداً حلف أبيه وأبينا الأتلدا] يذكر بحلف قديم كان بين عبد المطلب وخزاعة.
[فوالداً كنا وكنت ولداً ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
إلى أن قال:
هم بيتونا بالوتير هجّداً فقتلونا ركعاً وسجداً] أي: قتلتهم بنو بكر بالوتير، وهو واد بين مكة وعرفة. وهذا يهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فأحلافهم قتلوا وهم يركعون ويسجدون!
[فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قد نصرت يا
[وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لأصحابه: ( كأني بـ
ينبغي أن يكونوا ربانيين، أي: أولياء لله، إذا سألوا الله أعطاهم، وإذا استعانوا أعانوهم، وإذا طلبوا البيان بيّن لهم الهداية وهداهم، عليهم أن يتوبوا إلى الله فيبيتون ركعاً وسجداً، ويظلون صائمين ذاكرين شاكرين حتى تتصل أرواحهم بالملكوت الأعلى فتستنير قلوبهم، ويومها فقط ينظرون فيعرفون حركات أعدائهم من أهل الشرك والكفر والشر والفساد. ووالله لهذا الحق! فلكي يهديك الله ويرشدك ويوجهك إلى ما فيه نصرك وانتصارك وسعادتك يجب أن تكون صلتك به متينة قوية.
ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يبيت قائماً راكعاً ساجداً -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- لما جاء وفد خزاعة وذكر له ما تم، قال: ( كأني بـ
قال: [ومضى بديل في طريقه، وإذا بـأبي سفيان في عسفان في طريقه إلى المدينة] ولم تخطئ نظرية رسول الله! [وصدقت فراسة الحبيب صلى الله عليه وسلم] هذا هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا يحبه حيوان من شر الحيوانات، ولا أعرف أن هناك من يكره رسول الله، سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو مشركاً؛ لأن الكره إنما يأتي من صفاته، وهو كله جمال وكمال فلِم يُكره؟ ونأسف ونحزن لهذا، ونذكر ونبين أن من أهل الجهل والغفلة بيننا من يقول: فلان لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم! أيكفّر مؤمناً ولا يشعر؟! فيكفر وهو لا يدري؛ لأنه من كفر مؤمناً فقد كفر .
ومن أهل الغفلة والجهل من يقول أيضاً: فلان يكره النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقيم الموالد، أو لا يحضرها!! كيف يقال هذا الكلام؟! لأنهم ما عرفوا الطريق إلى الله، إي والله. إنه الجهل محنتنا وسبب فتنتنا، أما من عرف، استقام على منهج الله، وسلكه، ولكن الجهل هو المانع.
قال: [فقال أبو سفيان لـبديل : من أين أقبلتَ؟ قال: من خزاعة في الساحل] من جهة جدة أو ينبع [وبطن هذا الوادي، قال: أو ما أتيتَ محمداً؟ قال: لا] وكذب لأن ( الحرب خدعة ) [فقال أبو سفيان لأصحابه] ورفقته [لما راح بديل : انظروا بعر ناقته، فإن جاء المدينة] ونزل بها [لقد علف النواء] يعني: الناقة [فنظروا بعر الناقة فرأوا فيه النوى] وهذه سياسة أيضاً من أبي سفيان ، وأبو سفيان يزن العرب اليوم كلهم في سياسته رضي الله عنه وأرضاه، ماذا قال لرفاقه بعد أن سأل بديل : هل كنت في المدينة وأجابه بـ(لا)؟! قال لرجاله: انظروا إلى بعر ناقته، فإذا وجدتم فيه نوى، فقد كان بالمدينة؛ لأن المدينة يعلفون فيها الإبل بالنوى، والنواة عظم التمر الذي يجمع.
وأيام الحرب العالمية الأخيرة لما انقطعت القهوة، كان يجمع نوى التمر ويحرق ويشرب كالقهوة، وهو فيه لذة القهوة، فبعد أن يشوونه ويحرقونه يدقونه فيصبح كأنه بُن، والعرب كانوا يعلفون إبلهم وأغنامهم به، أما المعز فإلى الآن تعلف به.
[فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس] أما قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]؟ [فلم أحب أن تجلس عليه، فقال: لقد أصابك بعدي شر!] أي: تغيرت عما كنت معنا، وأصابك شر!. ووالله ما أصابها إلا الخير، لكنها رؤية الكافر، فهو يرى -مثلاً-أن الصلاة عبث.
[ثم خرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يردّ عليه شيئاً] كان غضبان! [ثم أتى أبا بكر ] الوزير الأول. عندما لم يستفد من الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى وزيره الأول وخليله [فكلمه ليكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل] يعني: لا أكلمه لك [ثم أتى عمر] الوزير والحبيب الثاني [فكلمه فقال: ما أنا بشافع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به] يعني: فوق هذا أزيدكم: لو ما وجدت إلا الذر لقاتلتكم به، ليس البشر فقط [ثم خرج حتى أتى علياً ] ابن أبي طالب صهر الحبيب صلى الله عليه وسلم وابن عمه [فكلمه في ذلك] وكان أبو سفيان سياسياً ماهراً فما أيس، ولو كنا نحن لاكتفينا بالذهاب إلى الرسول فقط، وقلنا: ما دام الرسول رفض فليس من يلزمه، ولكنه أتى أبا بكر ثم عمر ثم علي .
ماذا قال علي : [فقال له: والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر لا نستطيع أن نكلمه فيه] أقسم له بالله على أن النبي قد عزم على أمر لا يكلمه فيه أحد، وقد عزم صلى الله عليه وسلم على قتالهم، فقد نقضوا العهد واستوجبوا القتال [فنادى فاطمة قائلاً] ما ملّ بعد! ونادى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان مع علي وبينهما ستارة فقط، فقال: [يا بنت محمد] لم يقل: يا بنت رسول الله؛ لأنه لم يسلم بعد [هل لك أن تأمري ابنك هذا -يشير إلى الحسن وهو يومها غلام- أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب؟] حيلة سياسية -لا إله إلا الله!- قال: مري طفلك هذا الصغير يعلن أنكم أجرتم العرب نيابة عن رسول الله [فقالت: ما بلغ ابني أن يجير بين الناس] يعني: ما بلغ الحلم فكيف هذا؟! واعتذرت بالواقع [وما يجير على رسول الله أحد، ثم التفت إلى علي ] من الذي التفت؟ أبو سفيان [وقال: أرى الأمور قد اشتدت عليّ فانصحني، قال: إنك سيد كنانة فقم فأجر بين الناس، والتحق بأرضك] بعد أن طلب من علي الخلاص قال له: أنت سيد كنانة فأجر بين الناس، والتحق بأرضك في مكة، وهذا الحل الوحيد.
[فقام أبو سفيان في المسجد وقال: أيها الناس! قد أجرت بين الناس ثم ركب بعيره، وقدم مكة وأخبر قريشاً بما جرى له وما أشار به علي عليه، فقالوا: والله ما زاد على أن سخر منك!!] وهذا فهم أعوج! فوالله إن علياً نصحه وبين له طريق نجاته، ولكن لمرض الشرك والكفر، وظلام الجاهلية، قالوا: هذه الكلمة: "ما زاد على أن سخر منك فقط".
[وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزو قريش لفتح مكة، لنقض قريش المعاهدة نقضاً واضحاً صريحاً] فقد قاتلت مع بكر خزاعة المحالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم [فتجهز وأمر أصحابه بذلك، وقال: ( اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها )] وطلب هذا العون ممن يقدر عليه؛ إذ غير الله لا يقدر على هذا أبداً.
ويقصد صلى الله عليه وسلم عيون الجواسيس؛ لأن هناك عيون للمشركين، وهناك أناس ينقلون الخبر بدون إرادة ولا علم، يقولون: سمعنا كذا.. وحصل كذا.. والبغتة أو المفاجأة ذات قيمة، ولو فاجأ العرب -ليلة واحدة- اليهود في تل أبيب لفتحوها، لكن هل سألوا الله هذا؟ والله ما سألوا.
ومرة أخرى: لو سألوه -وهو ليس بوليهم- هل يجيبهم؟ لا، لا يجيبهم، إذاً ما الطريق؟
الطريق هو: أن نوالي ربنا، ونصبح حقاً أولياءه، وهذا بالإيمان والتقوى فقط، فنؤمن إيماناً حقيقياً، ونتقي الله فلا نخرج عن طاعته وطاعة رسوله؛ وبهذا تتم الولاية، ومن هم أولياء الله؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، ومن والاه الله لو عاداه أهل الأرض كلهم ما نالوا منه منالاً، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].
قال: [وبعث بالكتاب مع امرأة من مزينة اسمها كنود ] بعث الخطاب مع امرأة، وقطعاً أعطاها ما تستحق لتحمل كتابه مسافة عشرة أيام [وتحمله وتركب راحلتها وتسير] وحدها [وسبقها الوحي الإلهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] فأوحى الله تعالى إلى رسوله بالقضية كما هي [فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ] ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم [لافتكاك الكتاب منها قبل وصولها مكة] قال: عجلا.. فركبا لافتكاك الكتاب منها حتى لا تصل به إلى مكة فتخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على قتالهم.
[فخرجا في طلبها] أي: علي والزبير رضي الله عنهما، وهم مجموعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الواحد منهم بألف، فإذا طلب قائد عوناً أو مدداً من ألف رجل، بُعث إليه بواحد من هؤلاء [فأدركاها وأخذا الكتاب منها، وهذه من استجابة الله تعالى دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: ( اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش )، وأحضر حاطباً ، وقال له: ( ما حملك على هذا؟ )] وهذا عندنا الآن يستحق القتل، فالجيش مهيأ لحرب العدو، وهذا أراد أن يهدم التخطيط بكامله، ولكن انظر إلى سلوك الحبيب صلى الله عليه وسلم مع هذا الفعل الشنيع [فقال حاطب : والله إني لمؤمن بالله ورسوله] ووالله إنه لصادق [وما بدلت ولا غيّرت] في عقيدتي وعبادتي وسلوكي [ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد، وليس لي عشيرة فصنعتهم عليهم] بهذا الكتاب [فقال عمر : دعني يا رسول الله! أضرب عنقه] إذ السياسة تقتضي هذا [فإنه قد نافق] وما أصاب عمر في هذه، فما نافق حاطب أبداً، فقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصر، وأن الهزيمة للمشركين، وأن هذا الخبر لا ينفعهم ولا يزيدهم، ولكن فقط أراد أن يتخذ به يداً ليحفظ زوجته وأولاده، ولو علم أن هذا يضر بالرسول صلى الله عليه وسلم ما فعل، ولو قُتل أولاده ونساؤه، والقرآن شاهد.
[فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وما يدريك يا
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر