أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة تحت عنوان [الأعداء المعلنون عداءهم من اليهود] لرسول الله والمؤمنين والإسلام في المدينة النبوية، نسرد أسماءهم وحسبهم جنهم وبئس المصير.
قال: [إن من ذكرنا من منافقي اليهود قد ادعوا الإسلام كذباً لأجل الدس والوقيعة بين المسلمين] نعم أسلم من اليهود بالمدينة عدد، ولكن أسلموا فقط للوقيعة والخديعة والدس بين المسلمين [وهناك عدد كبير من أحبار اليهود] أي: علمائهم [لم ينافقوا بل أعلنوا عن عدائهم للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، حملهم على ذلك البغي والحسد للعرب على ما فضلهم الله تعالى من اصطفاء محمد رسولاً منهم إلى الناس كافة] وهم أبناء إسحاق بن إبراهيم ونحن أبناء إسماعيل بن إبراهيم، فنحن وإياهم أبناء عم؛ فلهذا كان الحسد متأصلاً. قالوا: كيف أبناء عمنا يفوزون ونخسر، ويرتفعون ونهبط، وقد تشاهد هذا في الأقارب!
قال: [ولنذكر هنا رؤساءهم من أهل البغي والحسد والضغينة منهم، وما كانوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سوء القول وقبيحه جدالاً مرة وعناداً مرة أخرى، وتطاولاً واعتزازاً مرة ثالثة، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر منهم: حيي بن أخطب النضري ] من بني النضير [وكان من أخبثهم وأكثرهم عداء للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وهو أبو صفية زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم] لما فتح الله على رسوله والمؤمنين ديار خيبر وقع بين أيديهم الأسرى من الرجال والذراري والنساء وكان لـحيي بن أخطب بنتاً هي صفية ، فأعطيت للرسول صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها، وأصبحت أم المؤمنين رضي الله عنها [وأخواه أبو ياسر بن أخطب وجدي بن أخطب ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وأخوه سلام بن أبي الحقيق ورافع الأعور الذي قتل بخيبر، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وعمرو بن جحاش وكعب بن الأشرف -وهو طائي وأمه نضرية - والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف ، وكردم بن قيس حليف كعب بن الأشرف ، وكل هؤلاء نضريون] من قبيلة بني النضير، ليسو من بني قريظة ولا بني قينقاع.
قال: [و عبد الله بن صوريا الأعور ، وكان أعلم أحبار اليهود بالحجاز، وهو من بني ثعلبة. ورفاعة بن قيس ، وسويد بن الحارث ، وفنحاص ، وشاس بن عدي ، ومالك بن صيف ، ورافع بن أبي رافع ، ورافع بن حريملة ، ومالك بن عوف ، وكعب بن راشد ، وعازر وكل هؤلاء من بني قينقاع] القبيلة الثانية [ومنهم عبد الله بن سلام وقد أسلم وحسن إسلامه، وكان مبشراً بالجنة] على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم [والزبير بن باطا ، وعزال بن شميل ، وكعب بن راشد ، ووهب بن يهوذا ، وأسامة بن حبيب ، ورافع بن رميلة ، ونافع بن أبي نافع ، وعدي بن زيد ، وهؤلاء كلهم قرظيون] من بني قريظة؛ لأن القبائل اليهودية كانت ثلاث: بنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو قريظة.
قال: [و لبيد بن الأعصم وهو الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة بناته، وهو من بني زريق، وكنانة بن صوريا وهو من بني حارثة] هذه مجموعة من منافقي اليهود ومن الأعداء الصرحاء.
أولاً: صعوبة موقف الدعوة وتحرج القائمين عليها في هذه الفترة الصعبة من الهجرة.
ثانياً: خطر المنافقين أشد من خطر الكافرين الظاهرين.
ثالثاً: معرفة ما ذكر من منافقي كل من اليهود والمشركين.
رابعاً: مظاهر النبوة المحمدية في عدة مواقف من هذا العرض.
خامساً: فضيلة كل من عبد الله بن سلام ] حبر اليهود، وكان له موقف -وقد تقدم- وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم خبأه واستدعى اليهود وسألهم: ما تقولون في عبد الله بن سلام ؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، ثم خرج ليفضحهم، فما إن أعلن عن إسلامه حتى قالوا: شرنا وابن شرنا وأجهلنا وابن أجهلنا، فكانت فضيحة لهم. هذا هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه [و مخيريق من يهود المدينة الذين أسلموا وحسن إسلامهم] فرضي الله عنهم.
قال: [سادساً: كفر اليهود وحربهم للإسلام وأهله كان نتيجة بغيهم وحسدهم للعرب على انتقال النبوة إليهم] كانت النبوة في بني إسرائيل قروناً عديدة فلما انتقلت عنهم ما أطاقوا ذلك!
والحسد الآن موجود بين العرب، يحسد بعضهم بعضاً، بل بين الإخوان والجيران إلا من طهر الله قلبه وزكى نفسه، وعرّف بمولاه فعرفه، فهذا لا يضره شيء.
قال: [كما كان خوفاً من أن يحول الإسلام دون عودة مجدهم المتمثل في مملكتهم التي يحلمون بها وأنها من النيل إلى الفرات].
كانوا يحلمون ويعملون من قرون على عودة مملكة بني إسرائيل، فلما ظهر الإسلام في الأفق، صاروا أمام خيارين إما أن يدخلوا في رحمة الله ويصبحوا مسلمين، وحينئذ لم يبقَ لهم حلم ولا أمل في إعادة المملكة ولا المجد الكاذب، وإما أن يصروا على الكفر والحرب والعناد على مبدأ يحقق مجدهم؛ فاختاروا جهنم على ما أرادوا، وقد تحقق لهم ما أرادوا فأنشئوا دولة بني إسرائيل في تل أبيب، وعما قريب يعلنون عن المملكة.
وأيام موشي ديان كان هناك احتفال بذكرى اليهود، فلما كان يخطب وأثّر على أهل البرلمان، صاح واحد وقال: أنت الملك فقال: اسكت! اترك هذا الأمر، ما حان الوقت بعد.
ومعناه: أنهم يحلمون بوجود مملكة يكون على رأسها ملك من بني إسرائيل، وقبل أن يتم هذا ما سمحوا لذاك أن يقول: أنت الملك! فما زلوا يعدون لذلك، ومن ثم يقبحون الملك والممالك في العالم بأسره؛ ليحتفظوا هم فقط بمملكة تسود العالم.
وهذا الموضوع درسناه من عشرات السنين، فهم لا يريدون اسم ملك؛ لأن المُلك في نظرهم لا يكون إلا لبني إسرائيل، وحاربوا أهل الدين والملوك معهم، وقالوا: اذبح (القس) أي: العالم النصراني، وخذ أمعاءه واخنق بها الملك؛ لأن الملوك سنة الله فيهم أنهم يحتفظون بالدين أكثر من غيرهم، وهم لا يريدون أن يبقى دين، فعبثوا بالعالم ومزقوا الملوك وشتتوهم ليحصلوا على هذا الأمل.
والعجيب! أن العرب والمسلمين انصاعوا وذابوا وأصبحوا يكرهون كلمة ملك أو مملكة حتى علماؤهم؛ لقصر العلم وقلته، وإن عشتم -لا قدر الله- فسوف يعلنون عن مملكتهم، إلا إذا أسلم العرب والمسلمون وجوههم وقلوبهم لله، وأصبحت رايتهم واحدة، وكلمتهم واحدة؛ فحينئذ سوف ينزل البلاء باليهود وتطهر الأرض منهم، وراجعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن حيث قال: ( لتقاتلُن اليهود )، وهذا في الوقت الذي كان يتساءل أصحابه فيه: أي اليهود الذين سنقاتلهم وقد شردناهم وأخرجناهم من الجزيرة؟
قال: ( ثم لتسلطن عليهم فتقتلوهم حتى يقول الشجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد )، وهذا الشجر كان ينبت في البقيع، ولهذا سمي ببقيع الغرقد، هذا الشجر يخبركم عن عناية اليهود به إخوانكم في تل أبيب وداخل فلسطين، فهم يعتنون به كما يعنى بالزيتون والرمان والتفاح والبرتقال .. فشجرة اليهود هي الغرقد، وهي الوحيدة التي لا تخبر عنهم، فإذا اختبأ اليهودي وراءها لا تقول: يا مسلم هذا يهودي ورائي!
ومن هنا: أحب اليهود هذا الشجر واحترموه، واعتنوا به عناية زائدة؛ لأنه لا يفضحهم، واعلموا أن الشجر لا يكذب، والحجر لا يكذب، فهل يقول للرجل: يا مسلم وهو لا يصلي ويسب الله؟! وهل هذا مسلم؟ أو يقول: يا مسلم، والرجل مستحل لكل ما حرم الله؟! لا. وقد علم بنو عمنا هذا -عليهم لعائن الله- وعرفوا أن الفرصة متاحة لهم ما دام العرب فاسقين فاجرين، مختلفين متناحرين، فنشروا -وبأي واسطة- كل ما من شأنه أن يلطخ القلوب ويفسد النفوس من وسائل تصرف المسلم عن دينه.
لقد علموا أن مدى حياتهم ووجودهم وسيادتهم مع فسق المسلمين والعرب وبعدهم عن الإسلام، والأمر ليس جديداً، فقد خرجوا من المدينة مشردين، والآن أقاموا دولة في قلب العالم الإسلامي، إذاً: آمالهم ماشية، وقد عرفوا يقيناً أن الذي يُتم لهم مرادهم ويحقق لهم هدفهم فسق العرب والمسلمين وفجورهم، وشركهم وأباطيلهم وانصرافهم واختلافهم، وهم يعملون على تحقيق ذلك بشتى الوسائط والوسائل في العالم بأسره، ومن لا يصدق هذا الكلام نقول عليه: مات رحمة الله عليه.
فهيا نقبل على الله في صدق، ونحمل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولو فعلنا والله لأخذوا في الرحيل -أقسم بالله- بدون حرب، من قدر على الرحيل منهم سوف يرحل؛ لعلمهم ولجهلنا، فهم عرفوا هذا ونحن ما عرفناه، ولكننا لا نبالي بأن نبقى متفرقين مختلفين متناحرين لا قيام للشريعة عندنا، ولا هم لنا إلا الأكل والشرب والجماع.
وهذا سلام بن مشكم ونعمان بن أبي أوفى ومحمود بن دحية وشاس بن قيس ومالك بن الصيف يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا؟] إذ استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بيت المقدس في صلاتهم سبعة عشر شهراً تقريباً، ثم نزل قوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] فجن جنونهم، كيف يترك قبلتهم ويستقبل البيت الحرام؟ وهم يعلمون أن قبلة الحق هي البيت الحرام وليس بيت المقدس.
قالوا: [وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله؟!] وهذه مسألة ثانية، أي: كيف نتبعك وأنت تركت قبلتنا ولا تعتقد أن عزيراً ابن الله؟ [فأنزل الله رداً عليهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ [التوبة:30]] فقط، والواقع خلاف ذلك [ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30]] من يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه الله رب العالمين.
[وهذا جبل بن أبي قشير وشمويل يجدان رسول الله صلى الله عليه وسلم] في مكان ما [فيقولان له: يا محمد! أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبياً كما تقول] وهم يعرفون أن الساعة لا يعلمها إلا الله، لكن العناد والمكابرة وأذية الرسول صلى الله عليه وسلم، لعنة الله عليهم [فأنزل الله تعالى رداً عليهم قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]] والله ناصر أولياءه.
[وهذا نعمان أيضاً وبحري بن عمرو وشاس بن عدي أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يتحدونه، فكلموه وكلمهم صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله تعالى، وحذرهم من نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد! نحن -والله- أبناء الله وأحباؤه فأنزل الله تعالى رد عليهم من سورة المائدة قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [المائدة:18]] أفحمهم، وقطع ألسنتهم، أي: لو كنتم أبناءه وأحباءه فلم يعذبكم؟ أما مسخ أجداكم قردة وخنازير؟!
[وهذا رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يجادلونه، فقالوا: يا محمد! ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ قال: ( بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق فيها، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس، فبرئت من إحداثكم )] أي تبرأت مما أحدثتموه من البدع في دين الله.
[فقالوا معاندين: إنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الهدى والحق، ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله تعالى فيهم قوله من سورة المائدة: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [المائدة:68]] فأسكتهم. ونحن لم ينلنا ولا (1 %) مما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظل سبع سنوات أو ثمانية وهو في هذا الصراع، ونحن لا نستطيع أن نقول لنسائنا: لا تفعلي كذا، أو لأبنائنا: لا تفعلوا كذا..
[وهذا النحام بن زيد وكردم بن كعب وبحري بن عمرو أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يجادلونه، فقالوا: يا محمد! أما تعلم مع الله إلهاً غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الله لا إله إلا هو، بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو ) فأنزل الله فيهم وفي قولهم: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:19-20]].
[وأتى رهط منهم] أي نفر، سبعة أو ثمانية أو تسعة [فقالوا معاندين مجادلين: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟] وهم يعرفون، لكن يريدون أن يستفزوا الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤلموه.. [فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه] وتغير [ثم ساورهم غضباً لربه، فنزل عليه جبريل فسكنه] بعد أن اشتد غضبه، وكاد ينالهم [وقال: خفف عليك يا محمد!] وهذا الغضب كان لله، فلو أخذوا ماله، وضربوا جسمه ما غضب، لكن لما افتروا على الله وكذبوا لم يتمالك صلى الله عليه وسلم نفسه، وانفعل أشد انفعال، ولولا أن جبريل سكنه لكان ينال منهم.
[وأتاه من الله بجواب ما سألوه عنه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]] الجواب الشافي، الصالح للرد على كل هذه الأباطيل بل على العلمانية والبلشفية ونفاة وجود الله، قل يا رسولنا المبلغ عنا لهذا السائل أو السائلين الحمقى الذين سألوك: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] كيف ينفى وجود الله؟!
ودائماً نقول: لو كنا في بهو أو ما يسمى بالقاعة الكبرى للبلاشفة في روسيا -في موسكو- أيام بدءوا الإلحاد، ووقف رجل وقال بينهم: لا إله إلا الله، والله ما استطاعوا أن ينقضوها نقضاً عقلياً حقيقياً ولبهتوا، ولو وقف -أيضاً- آخر في بهو كنيسة في إيطاليا وقال: اسمعوا! لا إله إلا الله، والله ما استطاعوا أن ينقضوها.
أما البلاشفة والملاحدة الذين يقولون: لا إله والحياة مادة -وهو العصب الذي يتمسكون به- فنقول لواحد منهم: قف يا هذا! ونسألك إن كنت عاقلاً أو فيلسوفاً أو حكيماً أو عالماً. فيقول: نعم. فنقول: هل أنت موجود أو غير موجود؟ فإن قال: غير موجود، قلنا: أخرجوه فإنه مجنون؛ لأنه قائم بينما ويقول: إنه غير موجود! وإن قال: موجود، باسم المفعول، قلنا: من أوجدك؟ فإن قال: الحجر، قلنا: فأنت مجنون، وهل حجر يوجد عقلاً وبشرية بهذا الكمال! وإن قال: الكوكب قلنا: وهل يفعل الكوكب هذا؟ أو قال: أمي. قلنا: أمك موجودة مخلوقة أيضاً، فمن أوجدك؟ وقتها ليس عنده إلا هذه الكلمة (الله). وبطلت فرية العلمانيين والملاحدة.
ونأتي في البهو الصليبي ونقول: لا إله إلا الله، فيقولون: الأقانيم الثلاثة -وأولهم عيسى، وعيسى كلمة الله وروحه نفخها في مريم البتول- فنقول: أما صلبتموه؟ وكيف يصلب الإله ويموت؟ وأنتم تعلقون الصلبان في أعناقكم أسفاً وحسرة على موت ربكم، أعوذ بالله! أي عقول هذه؟!
فيقولون: الأقنوم الثاني -أمه البتول العذراء الطاهرة المؤمنة- فنقول: من يضحك على قلوبكم وعقولكم؟
فيقولون: الأقنوم الثالث -روح القدس جبريل- فنقول: جبريل رسول الوحي، مخلوق لله عز وجل سفير له بينه وبين أنبيائه، فأين التعدد؟ والله ما هو إلا إله الواحد، الله وحده!.
وسورة الصمد تعدل ثلث القرآن، فمن أراد أن يكسب أجر قراءة ثلث القرآن فليقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة، ولكن يرتلها وهو مؤمن بما تدعو إليه وتحمله، موقناً بأنها وحي الله وكلامه، لأنها وحدت الله عز وجل وأبعدته عن مشابهة الكائنات والمخلوقات، فليس له كفؤ ولا مثيل قط، وكيف يكون له نظير أو مثيل وهو خالق كل شيء؟!
ومن أبسط الأدلة على ذلك هذا العمود، أيكون هذا العمود مثل المهندس الذي بناه؟ إن هذا العمود لا عقل له ولا بصيرة، وكذلك هذا الكرسي، أهذا كالنجار الذي صنعه؟ إذاً: كيف تكون الكائنات شبيهة بالله وهو خالقها؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].
ومعنى (الصمد) أي أن كل الخلائق محتاجة إليه، في حياتها وبقائها، ووجودها.. وفي كل شيء مفتقرة إليه وهو غني عنها كلها، لا يحتاج إلى ملك ولا إلى نبي، ولا إلى مهندس، ولا إلى شمس وإلى لا قمر، ولا إلى كائن ما كان، فالصمد هو: الذي افتقر إليه واحتاجه كل كائن، واستغنى عن كل كائن. هذا هو الله! وهل يوجد لهذا نظير، اثنين أو ثلاثة؟!!
قال عز وجل: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3] أي: هذا الذي شاع بين الخليقة من التناسل في الحيوانات والموجودات كلها ليس عنده، فهو لم يلد ولم يولد، وأعظم من ذلك وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أي مثيل أَحَدٌ [الإخلاص:4].
فتح عمر بلاد فارس، وأسقط عرش كسرى فتكون حزب يعمل في الظلام للانتقام من عمر والإسلام -وهذا الحزب والله إلى اليوم أفراده موجودون- فبحثوا عمن يتعاونون معهم، فتعانقوا مع اليهود، وعمر رضي الله عنه هو الذي طعن في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخر صريعاً وهو يصلي، قتله أبو لؤلؤة المجوسي مولى المغيرة بن شعبة ، دسه ودفع به الحزب الذي يعمل في الظلام.
وهم الذين أوجدوا فتنة عثمان ، فـعبد الله بن سبأ الصنعاني اليهودي هو الذي أوقد تلك الفتنة، وكذلك فتنة علي ومعاوية -والله- بألفاظهم أججوها وأوقدوا نارها، وما زالوا كذلك حتى وصل الإسلام إلى الأندلس فتعانقوا مع كبار القسس ورجال الدين الصليبي الذين كانوا يرتعدون خوفاً من نور الإسلام، ومن ثم تعانق الثلاثة، فتكون منهم ما نسميه اليوم بالثالوث الأسود.
ثم دخلوا في معارك وفشلوا وانهزموا، فقالوا: دعونا من حرب الإسلام والمسلمين، وهيا نمكر ونكيد لهم، فبحثوا عن سبب قوة العرب، وسبب إقبال البشرية على الإسلام، فقالوا -بالبحث والعناية-: سبب حياتهم القرآن، وهم والله صادقون! فالقرآن هو الذي أحيا هذه البشرية ورفعها. فقالوا: كيف نفعل؟ أنحرق القرآن؟ ومن أين لنا أن نصل إليه وهو في صدور النساء والرجال في العالم، ثم قالوا: فقط نصرفهم عنه؛ حتى لا يقرءوه ولا يجتمعوا عليه للهداية والنور الإلهي فيسموا ويرتفعوا، فوضعوا قاعدة وهي: (تفسير القرآن العظيم صوابه خطأ). أي: إن فسرت آية وأصبت فيها فأنت مخطئ ويا ويلك، (وإن أخطأت فأنت كافر). فما أصبح مؤمن يقول: قال الله، ولكن قال سيدي فلان، وقال العلامة فلان، وقال شيخنا، وإذا قال: قال الله قالوا له: اسكت أنت لا تعرف عن الله، فالقرآن صوابه خطأ وخطأه كفر ..
ماذا يفعل المسلمون بالقرآن إذاً؟ هل يحرقونه؟ لا، يقرءونه على الموتى، فأصبح العالم الإسلامي من أندونيسيا إلى موريتانيا إذا مات الميت يجمعون طلبة القرآن بالدينار والدرهم، أو على الأقل بالأرز اللحم، ثلاث ليال أو سبع ليقرءوا عليه القرآن، علبيه وأصبح الناس يقرءون القرآن لهذه المهمة.
وكانت والدتي رحمة الله عليها قبل أن أكبر وأعلمها تقول: سألت الله أن يرزقني ولداً واجعله من حفظة القرآن حتى يأتيني باللحم في كل مناسبة؛ لأن طلبة القرآن كان يوضع لهم اللحم، ثم يأخذ لحمة ويلفها في منديله ويأتي بها إلى امرأته أو أمه، واللحم كان صعباً حينذاك، فبعض العائلات يأكلونه من العام إلى العام.
فكان القرآن لا يُعلّم في الكتاتيب والمساجد إلا لهذه المهمة، فهبطت الأمة، وماتت، وفسدت عقائدها، وأشركت بالله، وعبدت الأصنام والموتى، وما بقي شيء .. ومن شك في ذلك نقول له: هل استعمرنا الغرب والشرق وداسنا بنعاله أم لا؟! ولو كنا مؤمنين أولياء لله ما سلطهم الله علينا، يقول عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].
أما السنة النبوية، والحكمة المحمدية المفسرة لكلام الله، المبينة لمجمله، فكانت لا تقرأ إلا للبركة، كانوا في رمضان يأتون إلى الروضة، وإلى اليوم -وإن كان إخواننا يظنون أننا ننقدهم، ونحن نريد أن نهديهم بإذن الله- تجد أعيان المدينة ورجالاتها في الروضة يقرءون البخاري للبركة، وطوال العام لا يجلس واحد ليتعلم الهدى، أما في رمضان وفي حلقة كبيرة يدرسون البخاري للبركة لا لتعلم الهدى ومعرفة الأحكام الشرعية والسياسة والقانون والآداب الإسلامية.
من فعل هذا بنا؟
إنه الثالوث الأسود، وهل مات هذا الثالوث؟ لا. بل علا وزاد وارتفع، ولا يموت إلا إذا ارتفعنا فإنه يخنس، وهم يعملون على إماتتنا حتى بالدش والخلاعة والصور، وما زال العالم الإسلامي في سكرته إلى الآن.
هل عرفتم من هو الثالوث؟ احذروه، وذلك بمناقضته، كلما دعا إلى باطل أعرضوا عنه.
المهم إذا أردنا أن نخزيهم ونذلهم فعلينا أن نستقم، فنحلل الحلال ونحرم الحرام، فنحن خلقنا لعبادة الله وطاعته وتعلم كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، علينا أن نستقيم آداباً وأخلاقاً وعبادات إذا أردنا أن تنحل تلك الآمال التي في قلوبهم، أما إذا قعدنا على الخلافات، والصراعات، والتكفير، والذم، والسب، والبروك، والجثوم على المعاصي وكبائر الذنوب، فهم في راحة كبيرة.
[ثانياً: بيان ما كان يلاقيه الرسول] الحبيب [صلى الله عليه وسلم من جدل اليهود وعنادهم في المدينة قبل خروجهم منها. ثالثاً: نزول القرآن بالرد على ما كان اليهود يلقونه من الشبه والحجج الباطلة والمزاعم الكاذبة].
اللهم أصلحنا ظاهراً وباطناً.. اللهم أصلحنا ظاهراً وباطناً، يا فاطر السماوات الأرض أنت ولينا في الدنيا والآخرة توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر