أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم.
وقد درسنا الباب الأول في العقيدة والثاني في الآداب، وها نحن مع الباب الثالث في الأخلاق، ومع الفصل الأول، وهو: [ في حسن الخلق وبيانه ] وهذا مهم غاية الأهمية [ الخلق: هيئة ] وصورة [ راسخة في النفس ] فهو هيئة .. صورة .. ذات [ تصدر عنها الأفعال الإرادية الاختيارية ] أي: الأعمال التي لست مكرهاً عليها ولا ملزماً بها، وإنما باختيارك وإرادتك الحرة تصدر عن تلك الهيئة .. تلك الذات [ من حسنة وسيئة، وجميلة وقبيحة ] فالأعمال منها الحسن ومنها السيئ، ومنها الجميل ومنها القبيح [ وهي قابلة بطبعها ] حسب خلق الله لها [ لتأثير التربية الحسنة والسيئة فيها ] فهي متهيئة قابلة لأن تتأثر بما تربى عليه من سوء أو من حسن [ فإذا ما ربيت هذه الهيئة على إيثار الفضيلة والحق، وحب المعروف، والرغبة في الخير، وروضت على حب الجميل وكراهة القبيح، وأصبح ذلك طبعاً لها تصدر عنه الأفعال الجميلة بسهولة ودون تكلف قيل فيه: خلق حسن ] فتلك الهيئة إذا ربيت على الخير والجميل وأصبحت تصدر الأعمال عنها بدون تكلف قيل لها: هذا هو الخلق الحسن، وسميت بالخلق الحسن [ ونعتت تلك الأفعال الجميلة الصادرة عنه بدون تكلف بالأخلاق الحسنة، وذلك كخلق الحلم والأناة، والصبر والتحمل، والكرم والشجاعة، والعدل والإحسان، وما إلى ذلك من الفضائل الخلقية والكمالات النفسية. كما أنها إذا أهملت فلم تهذب التهذيب اللائق بها، ولم يعن بتنمية عناصر الخير الكامنة فيها، أو ربيت تربية سيئة حتى أصبح القبيح محبوباً لها والجميل مكروهاً عندها، وصارت الرذائل والنقائص من الأقوال والأفعال تصدر عنها بدون تكلف قيل فيها: خلق سيئ ] ضد الخلق الحسن [ وسميت تلك الأقوال والأفعال الذميمة التي تصدر عنها ] سميت [ بالأخلاق السيئة، وذلك كالخيانة والكذب، والجزع والطمع، والجفاء والغلظة، والفحش والبذاء، وما إليها.
ومن هنا نوه الإسلام بالخلق الحسن، ودعا إلى تربيته في المسلمين، وتنميته في نفوسهم، واعتبر إيمان العبد بفضائل نفسه وإسلامه بحسن خلقه ].
ثانياً: بذل الندى، فإذا فاض عنه خير يبذله.
ثالثاً: كف الأذى، فلا يؤذي بلسانه ولا بيده ولا برجله ولا بفرجه. وهذا تعريف حسن من الحسن البصري رحمه الله تعالى. وكف الأذى هو أن يكف أذاه عن كل المخلوقات، وليس عن أبيه وأمه فقط، بل عن كل المخلوقات، حتى عن الحيوانات، فلا يؤذيهم.
فحسن الخلق هو ( اجتناب المحارم) كلها، ( وطلب الحلال) بدل الحرام، ( والتوسعة على العيال) وأفراد الأسرة، فيوسع عليهم ما دام قادراً على التوسعة، فلا يجيعهم ولا يعريهم، ولا يعرضهم للبرد في الشتاء، بل يوسع عليهم ما استطاع، فهذا دلالة على حسن خلقه.
[ وقال آخر: حسن الخلق: كف الأذى، واحتمال المؤن ] وهذه تصحح، ففي النسخة المطبوعة مكتوب: المؤمن، والمؤن أي: النفقات، يعني: الطعام والشراب، فحسن الخلق أولاً: كف الأذى، لا يؤذي أحداً، والثانية: يتحمل النفقات التي يقدر عليها.
[ وقال آخر: حسن الخلق: ألا يكون لك هم غير الله ] وهذه مرتبة أخرى، ألا يكون لك في الحياة هم إلا الله، أي: كيف ترضيه وكيف يرضى عنك؟ وكيف تطيعه وكيف تتقرب إليه بأنواع العبادات؟ وصاحب هذا الهم والله لن يكون إلا حسن الخلق، فلا يؤذي ولا يفعل قبيحاً، وما دام همه الله فما بعد الله لا يبالي به، فلا أذى ولا ضرر، فحسن الخلق ألا يكون لك هم غير الله تعالى، بل لا بد أن يكون التفكير والعمل والجد والنهضة كلها دائرة حول الله عز وجل، وكيف يرضى عني ربي؟ وكيف لا يسخط مني؟ وما هي الأعمال التي يرضى بها عني ربي؟ وما هي الأعمال التي تسخطه علي؟ فيعمل الأعمال المحببة لله ويترك الأعمال المبغضة لله [ وهذا كله تعريف له ببعض جزئياته ] فهذه التعريفات ببعض الجزئيات وليس بكل الجزئيات [ وأما تعريفه باعتبار ذاته وحقيقته فهو كما تقدم سابقاً ] من قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
وصاحب الحياء لا يكشف عن عورته ولا عن سوءة أحد، ولا يقول البذاء ولا الفحش، ولا ينطق بما يسيء لحيائه، وقليل الأذى قلما يؤذي، وكثير الصلاح أي: كثيراً ما يفعل الأعمال الصالحة، وصدوق اللسان لا يقول إلا الصدق أبداً، وقليل الكلام ما يكثر من الهرج والكلام من غير ما طائل ولا فائدة، والكلام كما علمنا كالدينار والدرهم، فإذا ما احتجت إلى الدينار فأخرجه من جيبك، وإن لم تحتج إليه فهو في جيبك، وكذلك الكلام، فإن احتجت إلى كلمة قلها، وإلا فلا تتكلم، وفي الحديث: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ). فلا يتكلم في كل شيء، ولا يقول في كل شيء. فقليل الكلام تجلس معه الساعة والساعتين فلا تسمع منه الكلام إلا عند الضرورة، وما عدا ذلك فهو يسبح الله، ولا يتكلم إلا لحاجة. وهو كثير العمل، وليس كسولاً، يجلس في ظل الأشجار والجدران ويظل هناك، بل يعمل في الصلاة والعبادة، فالكسل ليس من صفات ذي الخلق الحسن، بل يعمل، حتى لو لم يجد إلا أن يساعد كناس الشوارع كنس معه. وهو قليل الزلل، قلما يسقط في زلة أو في كلمة أو في حركة أو عمل، ونادراً ما يقع هذا. وهو قليل الفضول، فالزائد عن الحاجة قليلاً ما يحتاج إليه. وهو بر يفعل البر لوالديه وللمؤمنين، وصول لأقاربه ومحارمه وإخوانه، وقور، والوقور هو الذي لا يستخف أو يستعجل في قوله أو مشيه أو عمله، صبور: كثير الصبر، شكور: كثير الشكور، رضياً: كثير الرضا ما يسخط، وهو قليل السخط، حليماً على من آذاه أو تعدى عليه، ولا يؤاخذه، وفياً إذا واعد أو عاهد، عفيفاً تمام العفة عن كل ما لا يحل له ولا يجوز له، لا لعاناً، فلا تسمعه يقول: فلاناً ملعون، أو لعنة الله عليه، ولا سباباً كالذين يسبون الناس هكذا، ولا نماماً، فلا ينقل الحديث للفتنة، ولا مغتاباً، ولا يذكر غائباً بسوء، ولا عجولاً في حركته وعمله، ولا حقوداً، فهو لا يحقد على أحد، ولا بخيلاً، والبخل والعياذ بالله معروف، ولا حسوداً، ولكن بشاشاً هشاشاً، يضحك في وجوه المؤمنين ويبتسم، يحب في الله ويبغض في الله، ويرضى في الله ويسخط لله، فحياته كلها لله [ وهذا أيضاً منهم تعريف لذي الخلق الحسن ببعض صفاته، وفي الفصول الآتية ] في كتابنا هذا [ كل صفة من صفات الخلق الحسن على حدة ] ففصل للصبر، وفصل لغيره، فكل صفة من صفات الأخلاق لها فصل خاص [ وباستيفاء مجموع تلك الصفات يتشخص الخلق الحسن باعتبار أجزائه ويظهر ويتميز ذو الخلق الحسن باعتبار صفاته ].
الخلق: هو هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال الطيبة إذا كان الخلق حسناً، والأفعال الرديئة الخبيثة إذا كان الخلق سيئاً، وهذه الهيئة الموجودة في نفس كل إنسان تحتاج إلى تربية، فإن ربيت على الأخلاق الفاضلة اكتملت وأصبحت ذات خلق حسن، وإن ربيت على الأخلاق الخبيثة الرذيلة أصبحت كذلك، وأصبح صاحبها ذا خلق سيئ، فالخلق إذاً حسن وسيئ .. صالح وفاسد .. نافع وضار.
فالخلق هيئة في ذات الإنسان قابلة للتربية، فمن ربى نفسه على الخلق الفاضل اكتمل له الخلق الفاضل، وأصبح ذا خلق فاضل، ومن رباها على الخيانة والتلصص والإجرام والوقاحة وغيرها أصبح ذا خلق سيئ، والعياذ بالله تعالى.
وقال: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً ). ( أكمل المؤمنين إيماناً) وأتمهم ( أحاسنهم أخلاقاً).
وقال: ( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ).
( وسئل عن أكثر ما يدخل الجنة، فقال: تقوى الله، وحسن الخلق ). أكثر ما يدخل الإنسان الجنة هو تقوى الله وحسن الخلق، وقدم التقوى لأنه قد يوجد شخص ذو خلق حسن وهو فاجر .. فاسق .. كافر، فلا ينتفع بذلك، فلا بد من التقوى أولاً، وهو اجتناب ما حرم الله وفعل ما أوجب الله، وبعد ذلك حسن الخلق؛ إذ به يصبح المرء من أتقى الناس ومن أهل الجنة.
وقال: ( إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة ). مثل أبي هريرة ، ما كان يصوم يوماً بعد يوم، ولا ثلاثة أيام في الشهر فقط، وما كان يقوم الليل، بل يصلي العشاء والوتر، وقد أذن له الرسول في ذلك؛ لأنه لم يكن عنده قدرة، ولكنه كان صاحب أخلاق، فقد كان يجوع ويشتد به الجوع، ولم يكن يستطيع أن يقول لمؤمن: إنه جائع، وأي خلق أعظم من هذا؟ وقد كان يسقط في المسجد ولا يقوى على المشي فيأتي أولاد المدينة يركبون على ظهره ويقولون: جن أبو هريرة، جن أبو هريرة ، قال: والله ما بي جنون، وإنما بي الجوع فقط، وهذه هي العفة.
ومرة اضطر، فمر بـأبي بكر فأراد أن يسأله عن مسألة، ولم يقل: إنه جائع، وأراد يستضيفه فلم يفعل، ومر عمر فأراد أن يسأله ليستضيفه فلم يفعل، ومر الرسول فأراد أن يسأله فقال: تعال، وعرف ما يريد، ودخل معه الغرفة، وجيء للرسول بلبن، فرأى القدح كبيراً يكفي عشرة أنفار فيرويهم، فقال: ناد أهل الصفة، وهو لم يشرب، فجاء بثلاثين رجلاً فجلسوا في الدكة، فقال: اسقهم، قال: وأنا همي كيف يكفينا هذا، فأعطى الأول فشرب حتى روي وقال: الحمد لله، ثم الثاني والثالث والرابع والخامس، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: اشرب، قال: فشربت حتى رويت حتى لا أجد له مسلكاً. هذا هو الخلق.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر