إسلام ويب

تفسير سورة النور [47 - 52]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخبرنا الله سبحانه هنا عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأعمالهم تخالف أقوالهم، فهم يقولون أنهم مؤمنون بينما أعمالهم تنافي الإيمان وتضاده، وهذا فيه تحذير من الله للمؤمنين حتى لا يقعوا فيما وقع فيه أولئك من النفاق والكفر بالله تعالى، وقد بين سبحانه للمؤمنين بأن الفلاح والفوز كله في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم ...)

    عدم التحاكم إلى شرع الله من صفات المنافقين

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورو النور: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47].

    يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن المنافقين وكيف يتصرفون حين يدعون إلى الاحتكام لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    يحذرنا الله عز وجل من مثل هذه الأخلاق التي عليها هؤلاء المنافقون، فهم يقولون بألسنتهم: آمنا، ويقولون: سمعنا وأطعنا، وفي وقت الجد إذا بهم يندفعون عن الإيمان إلى ما يشتهون من هوىً ومن باطل.

    فإذا كان الشيء الذي يطلبونه عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نتحاكم إليه، وإذا لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ولن يعطيهم هذا الشيء -لأنهم يعرفون أنهم مبطلون- تحاكموا إلى غير النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    قال الإمام الطبري وغيره: (كان رجل من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافق مبطلاً فرفض، وقال: إن محمداً يحيف علينا)، حاشا له صلوات الله وسلامه عليه، بل إن هذا المنافق كان ظالماً لليهودي، فانظروا إلى أهل النفاق كيف تخرج كلمة الكفر من ألسنتهم، فمهما أخفوا ما في قلوبهم فلا بد وأن تتلفظ الألسن بهذا الشيء الذين يبطنونه، ويظهر في فلتات الألسن منهم ذلك.

    فاليهودي يقول له: تعال نتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهودي علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بالحق، وأنه نبي حقاً صلوات الله وسلامه عليه، وإن لم يعترف هذا اليهودي أنه نبي.

    ولكن على كلٍ عرف اليهودي أنه صلى الله عليه وسلم لن يحكم إلا بالحق، وكان له حق فقال للمنافق: (تعال نذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، فرفض المنافق وقال: تعال نذهب إلى كعب بن الأشرف) لأن الضلِّيل كعب بن الأشرف يهودي يقبل الرشوة، فهذا المنافق يذهب لليهودي فيعطيه الرشوة فيحكم له على أخيه اليهودي، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بالعدل وبالحق صلوات الله وسلامه عليه.

    فالله عز وجل يعجب من أمر هؤلاء المنافقين الذين يقولون: آمنا بألسنتهم ولا يتجاوز الإيمان الألسن إلى القلوب، فقال تعالى مخبراً عنهم: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [النور:47] هذه المقالة بالألسن.

    ثم قال: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ، فيسهل على المنافق أن يقول: لا إله إلا الله، لكن كونه ينفذ مقتضى لا إله إلا الله بأن يتحاكم إلى شرع الله عز وجل، فهذا ما لا يفعله المنافق إلا إذا كان الشرع في هذا الشيء سيوافق هواه، وإذا كان هو المظلوم والشريعة ستعطي له حقه ففي هذه الحالة يذهب ويقول: أريد الشريعة، فالحاكم الذي سيعطيه ما يهواه فهو تابع لهذا الذي يريد.

    فهنا ربنا سبحانه وتعالى يقول: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أي: من بعد هذا القول.

    ثم قال: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، فالله عز وجل أخبر المؤمنين أن هؤلاء ليسوا من المؤمنين في شيء، فالذي يدعى إلى كتاب الله تعالى ليحكم بيننا ويرفض هذا الشيء فهذا ليس مؤمناً، وليس على دين النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ... وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)

    يقول سبحانه في هؤلاء المنافقين: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48]، قوله: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ذكر هنا الله سبحانه وتعالى وذكر الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ثم أعاد الضمير لواحد، فقال: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، فالذي سيحكم بين الاثنين بشرع الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سيقضي في الخصومة صلى الله عليه وسلم، فلذلك أعاد الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فذكر الله عز وجل أنه الذي أنزل الكتاب وهو الذي أنزل الأحكام الشرعية وجعلها شريعة ومنهاجاً، لكن الذي سيحكم بهذه الشريعة هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

    ثم قال: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ كأن هؤلاء هم الذين يقولون: آمنا بألسنتهم، فمنهم من يستجيب ويذهب، ومنهم من يعرض.

    فكأن الفريق الذي يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويتحاكم إليه إنما ذهب استحياءً، وهم قالوا: آمنا بألسنتهم، فاستحيوا وذهبوا وتحاكموا، وأما الفريق الآخر منهم الذي لا يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا رأى في زعمه أن الحق معه، وأنه سيحكم له بذلك، فيذهب للنبي صلى الله عليه وسلم.

    ثم قال تعالى: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49] فالحق إما لك وإما عليك، فإن كان الحق عليك فأده، وإن كان الحق لك فخذ حقك، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بالحق، ويعطي كل ذي حق حقه، فيأخذ من الظالم ليعطي للمظلوم، فهؤلاء المنافقون إذا كانوا مظلومين تحاكموا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيأتي لهم بحقهم، وإذا كانوا ظالمين ذهبوا لأهل الرشوة وأهل الفساد ليتحاكموا إليهم.

    فقوله: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أي: طائعين منقادين خاضعين مسرعين للنبي صلى الله عليه وسلم طالما أنهم سيأخذون منه، لكن إذا كان سيحكم عليهم ذهبوا إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا ...)

    قال الله سبحانه وتعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50] أي: أن هذا الذي يبعد عن حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يظن أن الله عز وجل سيظلمه؟ حاشا لله عز وجل.

    وهل يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيظلمه؟ هذا مستحيل أيضاً، فيقول سبحانه: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: هل في قلوبهم النفاق والكفر.

    ثم قال: أَمِ ارْتَابُوا أي: صاروا متشككين في شرع رب العالمين سبحانه، ومتشككين في النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يحكم بينهم بالعدل، فهذا كله من النفاق، وهذا كفر بالله عز وجل، فكون في قلوبهم الشك والريبة من النبي صلى الله عليه وسلم هذا كفر.

    ثم قال: أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ أي: إن ظنوا أن الله سبحانه وتعالى سيظلمهم فقد كفروا بذلك، فالله يعجب من أمرهم: فإما أن يكونوا مؤمنين فمستحيل أن يظنوا هذه الظنون، وإلا فهم على كفرهم فالله يفضحهم.

    وقال سبحانه: أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: يميل ويجور ويظلم.

    وقوله: بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50] أي: أن الله لا يظلم أحداً شيئاً سبحانه وتعالى، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه.

    فهؤلاء الذين يخافون أن يظلمهم الله كيف يظلمهم وهو يملك كل شيء؟! وقال سبحانه: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) .

    قال أهل العلم: إن القاضي الذي يحكم بين المسلمين بعضهم مع بعض لا بد وأن يكون مسلماً، فلا يجوز أن يكون الكافر قاضياً ولا والياً على المسلمين ويحكم بينهم، وكيف سيحكم بشرع الله سبحانه وهو كافر به؟! وقال سبحانه: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].

    فإذا كانت هناك خصومة بين مسلم وبين كافر فالذي يحكم بينهما هو القاضي المسلم، وأما إذا كانت الخصومة بين ذمي وذمي وبين كافر وكافر، فإذا تحاكما للمسلمين جاز أن يحكموا بينهما، وجاز أن يعرضوا عنهما إذا علموا أنهما مبطلان، وإذا تحاكما إلى غير المسلمين فشأنهما.

    فهنا وجوب الحكم إذا تخاصم المسلمون فيما بينهم إلى القاضي المسلم، وأن الواجب عليهم أن يحكِّموا بينهم من يصلح للقضاء وللحكم، ومن يصلح لفصل الخصومة من المسلمين، وليس من الكافرين ولا من المنافقين.

    قال الله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51] .

    قوله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ (قول) خبر كان مقدم، واسمها (أن يقولوا) وهو المصدر المنسبك من أن والفعل، كأنه يقول: إنما كان قولَ المؤمنين قولهُم، أي: أنهم يقولون: سمعنا وأطعنا.

    فالمعنى: أن السمع والطاعة هو قول المؤمنين حين يدعون إلى الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم للحكم بينهم.

    وقوله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ (إنما) أداة قصر وحصر، والمعنى: أن هذا القول فقط هو الذي يصدر عن المؤمن، ولا يصدر عنه قول غير هذا القول أبداً، فالمؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله: تعال نتحاكم لشرع الله، قال: سمعنا وأطعنا، فإن كان الحق له أخذه، وإن كان الحق عليه أعطى الحق لصاحبه.

    ثم قال: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ لِيَحْكُمَ هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر : لِيُحْكَمَ بينهم، أي: ليُحْكَمَ بينهم بشرع رب العالمين.

    وقوله: أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أي: ننفذ أمر الله عز وجل ونطيعه سبحانه وتعالى بما يحكم فينا النبي صلى الله عليه وسلم.

    ثم قال: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فقضى الله عز وجل بأن الذين يقولون ذلك إذا دعوا ليحكم بينهم رب العالمين لكتابه وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الناجون يوم القيامة، والناجحون النجاح الأبدي، وأهل النعيم المقيم، وأهل الجنة.

    فالواجب على كل إنسان مؤمن إذا حدث بينه وبين غيره خصومة أن يتحاكما، إلى قاض مسلم؛ ليحكم بينهما بشرع رب العالمين سبحانه.

    فالمؤمن عليه أن يحكِّم شرع الله، وإذا كان يعلم أنه ليس له حق على الآخر ولكن في يده أوراق، أو في يده شيكات فليس له أن يقول: سأرفع عليك قضية؛ لأن بيدي أوراقاً بهذا الشيء؛ لأن المؤمن يعرف شرع رب العالمين سبحانه، ويخاف من عقوبة رب العالمين، والمؤمن لا يكذب ولا يغش ولا يخدع ولا يخون ولا يزور، وإنما يقول بالحق، قال تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135].

    فالإنسان المؤمن يكون قائماً بالعدل، وشهيداً ولو على نفسه، أو على والديه أو على أقاربه، فيشهد بالحق ولا يكذب أبداً.

    وربنا يحذرنا من أكل أموال الناس بالباطل حيث يقول سبحانه: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، فالإنسان المؤمن يتحاكم لشرع رب العالمين سبحانه وتعالى.

    وأيضاً الذي يحكم بين الناس لا بد وأن يعرف شرع رب العالمين، ولا بد أن يكون دارساً لشرع رب العالمين، وخاصة مسائل القضاء التي تكلم فيها الفقهاء، وأما إذا كان شيخ حارة، أو حافظاً للقرآن وهو لا يعرف شيئاً من أحكام رب العالمين سبحانه فهنا لا يلزم أن يذهب إلى هذا الإنسان، وإنما الواجب أن يذهب إلى من يعرف الأحكام الشرعية، وكم من إنسان يجهل الأحكام الشرعية ويقضي بالهوى والإثم، فتجد بعض هؤلاء إذا سأله إنسان عن شيء أجاب بما يعرفه هو ولم يرجع إلى أهل العلم في ذلك، لذلك فاحذر أن تحكم بين الناس وأنت جاهل، وأنت لا تعرف الحكومة في هذه المسألة، ولكن قبل أن تحكم اقرأ واطلع واعرف الحكم الشرعي في الشيء قبل أن تقضي بشيء فيوبقك يوم القيامة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن القضاة ثلاثة: رجل عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به فهو في النار، ورجل قضى على جهل فهو في النار).

    لذلك فالمؤمن إذا دعي إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعنا وأطعنا، ولا يتحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فلا يتحاكم إلى إنسان يقبل الرشوة، أو إنسان لا يعرف شرع الله سبحانه، أو يحكم بالهوى ويحكم بالعرف، فبعض الناس يحكمون في المسألة بالقضاء العرفي كما يزعمون، فتجدهم يقولون لمن تحاكم إليهم: سنحكم عليك أن تذبح جملاً، أو تذبح خروفاً، أو عليك دية أو ديتين أو ثلاث ديات، في أشياء لم يحكم الله عز وجل فيها بذلك، فهذا الذي يحكم بهذا كأنه يحكم مع الله سبحانه وتعالى، وكأنه يشرع شيئاً لم يقله رب العالمين ولا حكم به النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    لذلك فالذي يقضي بين الناس أو يفصل في الخصومات لا بد وأن يكون على علم بشرع رب العالمين سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه ...)

    قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52] أي: أن الإنسان الذي يسمع ويطيع الله ورسوله فهو المفلح والفائز، ففي الآية الأولى ذكر السمع والطاعة في الحكم، وفي هذه الآية ذكر السمع والطاعة في جميع الأمور.

    فالأولى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ يعني: في حال الحكم، قالوا: سمعنا وأطعنا على العين والرأس، فالذي يقوله ربنا ننفذه، وليست مقالة باللسان فقط، ولكن يقول باللسان وينفذ ذلك بالفعل، فإن كان عليه الحق دفع هذا الحق، ولم يتهرب ولم يتملص من ذلك، فحكم الله يجب على العبد أن ينفذه.

    ثم عمم ربنا سبحانه في كل قضية وفي كل عمل من الأعمال أنك تطيع رب العالمين سبحانه، فقال: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: في كل شيء من أمور العبادات، ومن أمور المعاملات، ومن أمور الأحوال الشخصية، ومن أمور الجنايات والديات، ومن أمور حياته ومعاشه، فهو في كل الأمور يطيع الله عز وجل فيها، ويطيع الرسول صلى الله عليه وسلم، مع خشيته وإخلاصه لرب العالمين؛ لأن الإنسان قد يطيع في الظاهر ولكنه في باطنه لا يخشى، بل ينافق ويرائي، فلابد من هذا القيد: الطاعة مع الخشية لرب العالمين سبحانه، فهي طاعة في الظاهر وفي الباطن.

    وقوله: وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ أي: يتقي غضب الله سبحانه وتعالى، ويكف عن نفسه غضب الله بطاعة الله سبحانه، فالتقوى أن يجعل وقاية وحاجزاً بينه وبين معصية الله، وبينه وبين غضب الله سبحانه.

    فقوله: وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ (يتقه) هذه فيها قراءات للقراء، فيقرؤها: ( ويتقْهِ ) بسكون القاف حفص عن عاصم فقط، كأنها على نية الجزم؛ لأن أصلها: يتقي، ففي آخرها حرف العلة، فإذا جزمت حذفت حرف العلة فقط، وتصير القاف مكسورة، ولكن حفصاً سكن القاف، وكأنه اعتبر في هذا الأخير نية الوقف عليه، أو بنية الجزم له، كذا قال النحويون فيها.

    فقراءة حفص : ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقْهِ فأولئك هم الفائزون ، وأما بقية القراء غير حفص عن عاصم فيقرؤنها بكسر القاف: (ويتقِه) لكن اختلفوا في الهاء، فمنهم من يختلسها، يعني: يجعلها كسرة، ومنهم من يشبعها، يعني: يجعلها كالياء فيها، فقرأ قالون ويعقوب وابن عامر بخلفه: (ويتقِهِ) بكسر القاف والهاء بعدها.

    وقرأ ورش وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وكذلك أبو جعفر بالإشباع للهاء بكسر الهاء: ( ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقِهي فأولئك هم الفائزون ).

    وقرأها أبو عمرو وشعبة عن عاصم -وهذه قراءة ثانية عن عاصم- وهشام وخلاد بخلفهما، وكذلك ابن وردان بسكون الهاء وبكسر القاف، فتصير قراءة هؤلاء: ( ويخش الله ويتقِهْ ).

    فالله عز وجل حكم لهم بأنهم مفلحون، وبأنهم فائزون قد نالوا الفوز العظيم، ونالوا الدرجات العظيمة عند رب العالمين بطاعتهم له سبحانه.

    نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768057932