إسلام ويب

تزكية النفوسللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد شرع الله لعباده طاعات وعبادات بها تزكو نفوسهم، فمنها فرائض وواجبات، وأولها التوحيد، ومنها نوافل، وإنما يزكو بها العبد، ويرتقي إلى منازل الأولياء والصالحين بالعبادات المشروعة فحسب، وأما العبادات المبتدعة فلا ترقى بصاحبها إلى منازل الأولياء، وإنما تهوي به إلى الحضيض، ولا تزيده من الله إلا بعداً.

    1.   

    معنى التزكية

    الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.

    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:42].

    فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً.

    أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

    إن من مهمات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: تزكية نفوس العباد، كما قال الله عز وجل: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، فمن مهمات النبي صلى الله عليه وسلم: تزكية النفوس.

    والتزكية هي التعلية، وهي التطهير كما سميت صدقة المال الواجبة زكاة؛ لأن بها يطهر المال عندما يخرج العبد حق الله عز وجل فيه، وكذلك يصفو قلب المزكي ويتخلص من عادة الشح والبخل والتعلق بالمال، وتطهر نفس الفقير من حسد الغني، ويطهر المجتمع من الحوادث التي تكون نتيجة لتفاوت الطبقات وعدم حصول الفقير على شيء من مال الغني، فهي زكاة للمال، وزكاة للمزكي وزكاة للمزكى عليه، وزكاة للمجتمع.

    فالتزكية: هي التنمية، وهي التطهير، وهي التعلية، يقال: زكا الزرع إذا بلغ كماله.

    كذلك النفس تزكو عندما تستجيب لأمر الله عز وجل، ولأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    وقد من الله عز وجل على عباده بهذه التزكية، فقال عز وجل: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21]، وكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز وجل بهذه الزكاة فكان من دعائه: (اللهم أعط نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)، فكان يسأل الله عز وجل أن يزكي نفسه.

    أقسم الله عز وجل في كتابه أحد عشر قسماً متوالياً -وليس في القرآن كله من أوله إلى آخره أقسام متوالية على هذا النسق وبهذا العدد- على أن فلاح العباد في تزكية نفوسهم، وعلى أن خيبتهم في تدسية نفوسهم، فقال عز وجل: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:1-10].

    فالله عز وجل يريد أن يلفت أنظار العباد إلى خطر هذه الحقيقة، وهي أن فلاح العباد وفوزهم ونجاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة في تزكية نفوسهم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10].

    والتدسية عكس التزكية، فالتزكية: التنمية والتطهير والإعلاء.

    والتدسية: التصغير والتحقير حتى تصير النفس حقيرة دنيئة لا تكاد ترى من حقارتها ودناءتها،كما قال عز وجل: أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59]، أي: يخفيه في التراب، فلا فلاح للعباد في الدنيا والآخرة إلا في تزكية نفوسهم، والنفس بطبيعتها -وهذه عجيبة من عجائب النفس البشرية- فيها استعداد للتعلية والترقية حتى يكون العبد أفضل من ملائكة الله عز وجل، وفيها استعداد كذلك للتدسية والتصغير حتى يصير العبد أخبث من إبليس، كما قال بعضهم:

    وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي

    1.   

    الغاية من تزكية النفس

    التزكية درجات، والعبد يزكي نفسه حتى يصير أفضل من ملائكة الله عز وجل، وحتى يدخل جنة الله عز وجل، فإذا دخل جنة الله عز وجل دخلت عليه الملائكة من كل باب: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]، فالنفس فيها استعداد للتزكية -أي: للتعلية- وفيها استعداد كذلك للتدسية، قال الله عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

    وقال عز وجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:1-6].

    فدواب الأرض أحسن حالاً من الكفار الذين لا يعبدون الله عز وجل ولا يعرفون الله عز وجل، كما قال عز وجل: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:55]، فهؤلاء شر من يدب على الأرض، فهم أشر وأخبث وأقل درجة من الحشرات التي تدب على الأرض، والكلب والخنزير أفضل منهم؛ لأنهم بنص الآية شر من يدب على الأرض، قال سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، فالله عز وجل ذكر أنهم كالأنعام، ثم نزل بدرجتهم عن الأنعام فقال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ، فانظروا إلى طبيعة النفس البشرية وكيف استعدادها للترقية والتزكية والتعلية، وكيف أنها مستعدة كذلك للتدسية والتصغير والتحقير، فلا يمكن للعبد أن يسعد في الدنيا والآخرة ولا يمكن أن يحيا حياة طيبة ينتقل بها إلى سعادة أبدية سرمدية إلا بتزكية نفسه، فلا يفلح العبد إلا بتزكية نفسه.

    قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا، فينبغي علينا أن نكرهها.

    النفس جاهلة ظالمة، كما قال عز وجل: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، والجاهل والظالم لا يعرف مصلحته ولا يعرف ما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، فصلاح النفس في توحيد الله، وصلاح النفس في الاستجابة لأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن النفس الجاهلة لا تأتي معك على ذلك، فينبغي عليك أن تكرهها كما يكره الصبي، وكما يكره المجنون على ما فيه فلاحه، وعلى ما فيه نجاحه.

    كذلك فلاح العبد في طاعة الله والطاعات تثقل على النفوس الجاهلة، كما قال عز وجل: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، فيثقل على الجاهلين وعلى الظالمين أن يدخلوا بيت الله، ويثقل على الجاهلين والظالمين أن يقفوا بين يدي الله عز وجل دقائق معدودة في الصلوات الخمس، مع أنهم قد يقفون ساعات طويلة طلباً لربح دنيوي أو شهوة دنيوية، وهذا من جهلهم بمواقع الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فالنفس جاهلة ينبغي على العبد أن يجبرها في بداية الأمر على طاعة الله، وعلى الاستجابة لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].

    فالشرع حياة للقلوب وحياة للأبدان، والذين لا يهتدون بشرع الله، ولا يؤمنون بدين الله عز وجل أموات غير أحياء، وما يشعرون أيان يبعثون، قبور تتحرك على الأرض:

    وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور.

    فالحياة الحقيقية في طاعة الله عز وجل، والسعادة في طاعة الله عز وجل فينبغي للعبد أن يكره نفسه أولاً على طاعة الله قال بعض السلف: سقت نفسي إلى الله عز وجل وهي تبكي، ثم سقتها بعد ذلك وهي تضحك.

    وقال بعضهم: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة، أي: أنه في السنة الأولى كان يجبر نفسه على قيام الليل ويشق عليه القيام وهو يعالج نفسه ويجبر نفسه على قيام الليل، فلما تعلمت النفس الجاهلة وذاقت حلاوة الطاعات وحلاوة العبادات صار يتمتع بقيام الليل، كما قال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وقال بعضهم: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة. وقال بعضهم: منذ أربعين سنة ما أزعجني إلا طلوع الفجر، ونحن في وقت الشتاء والشتاء كما ورد في بعض الآثار: الشتاء ربيع المؤمن؛ طال ليله فقام وقصر نهاره فصام.

    فبسبب طول الليل تستطيع أن تنام جزءاً منه، وتستطيع مع ذلك أن تقوم جزءاً آخر منه، والنهار قصير تستطيع أن تصوم في النهار، وتتعود على هذه العبادات حتى إذا أتى وقت الصيف يقصر الليل ويطول النهار والنهار معاش والليل سكن فيصعب عليك أن تتدرب على ذلك في الصيف، فينبغي أن تتدرب في الشتاء فإذا دخل عليك الصيف صرت من أهل القيام، ومن أهل الصيام وبذلك تزكو النفس بالاستجابة لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يكون العبد بين يدي الشرع المتين كالميت بين يدي الغاسل؛ لأن الله عز وجل شرع كل الشرائع وكل العبادات تزكية لنفوس العباد، قال عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، فالصلاة تزكية، والزكاة تزكية، والحج تزكية، كما قال تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، والصيام تزكية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق وإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم)، فالله عز وجل لا يستفيد شيئاً من طاعات العباد ولا يتضرر بشيء من معاصيهم، ولكنه شرع الشرع المتين من أجل أن تزكو نفوس العباد، ومن أجل أن يسعدوا بذلك في الدنيا قبل الآخرة، ومن أجل أن يصلحوا لمجاورة الله عز وجل في الجنة فتقول لهم الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، طابت نفوسكم وطابت قلوبكم وطابت جوارحكم وطابت أعينكم وطابت أسماعكم وطابت أيديكم وأرجلكم وتنزهت عن معصية الله عز وجل وطابت بطاعة الله عز وجل فيصلحون عند ذلك لمجاورة الله عز وجل في الجنة, والجنة دار الطيبين فمن طابت نفسه في الدنيا دخل الجنة من أول وهلة، ومن لم تطب نفسه فلابد أن يدخل النار كما يدخل الذهب النار من أجل أن يطهر ويتخلص مما فيه من الخبث.

    فلابد أن يدخل النار رحمة به حتى يصلح لمجاورة الله عز وجل في الجنة.

    1.   

    وسائل تزكية النفوس

    كيف تكون التزكية وما هي وسائل أهل السنة والجماعة في التزكية؟

    تزكية النفس بإخلاص التوحيد

    التزكية عند أهل السنة والجماعة تزكية بالتوحيد أولاً؛ لأن أكبر نجاسة هي الشرك بالله عز وجل، قال الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، قلوبهم نجسة؛ لأنها مشركة وهذه النجاسة يقول الفقهاء: بأنها نجاسة معنوية، والدليل على ذلك أن ثمامة بن أثال شاعر بني حنيفة ربط في المسجد قبل أن يسلم من أجل أن يرى الصحابة وهم يصلون ويدعون الله عز وجل، ويمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (ما عندك يا ثمامة ؟ فيقول: عندي خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن ترد المال فسل ما شئت، فيطلقه النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني أو الثالث فأسلم ثمامة بن أثال).

    فلو كان الكافر نجساً نجاسة عينية؛ لنزه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه النجاسة، كذلك يجوز للمسلم أن يتزوج بالكتابية ولا يسلم من عرقها، والواجب عليه الغسل والطهارة كما هو الواجب على من تزوج بالمسلمة فهذه نجاسة معنوية كنجاسة الخمر، وطهارة هذه النجاسة ليست طهارة بالماء ولكنها طهارة بالتوحيد كما أرسل الله عز وجل موسى إلى فرعون يقول له: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19] أي: تتزكى بالتوحيد ونبذ الشرك، هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19].

    وقال عز وجل: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7]، استدل بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على كفر مانع الزكاة، ولكن الصحيح والراجح أن الزكاة هنا هي التزكية بالتوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات:18] أي: تتزكى بالتوحيد ونبذ الشرك، فأكبر نجاسة هي نجاسة الشرك بالله عز وجل فتكون بداية التزكية عند أهل السنة والجماعة أن يبدأ العبد بالتعرف على الله عز وجل، والتعرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    فهذه التزكية الأولى، تزكية بالتوحيد فلا يدعو غير الله لا يذبح لغير الله لا ينذر لغير الله لا يحلف بغير الله عز وجل لا يستغيث بغير الله عز وجل لا يعلق قلبه رجاءً أو خوفاً أو محبة أو توكلاً على غير الله عز وجل؛ لأن العبادة هي : كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فلا إله إلا الله كلمة تخلع بها كل الأصنام وكل الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله عز وجل، فإن معنى لا إله إلا الله، أي: لا إله بحق أي: لا معبود بحق إلا الله عز وجل؛ لأن الإله من عبد بحق أو بباطل، فكل الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل كالشمس والقمر، والبقر والنجوم والطواغيت والهوى والشياطين وغير ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل كل هذه آلهة باطلة، والعرب يفهمون هذه الكلمة.

    ولذلك ما أعطوها للنبي صلى الله عليه وسلم حتى علموا أنهم يقومون بحق هذه الكلمة فلا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله، وتوحيد الربوبية أن تعتقد أنه لا رب إلا الله والرب هو الخالق وهو الرزاق، وهو الذي يربي الناس بالنعم، وهو الذي يجمع الناس ليوم لا ريب فيه، وهو المشرع فلا يجوز أن تتحاكم إلى غير شرع الله عز وجل.

    أو أن تعتقد أن غير الله عز وجل له حق التشريع فهذا توحيد الربوبية فلا رب إلا الله.

    وتوحيد الأسماء والصفات أن تثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تشبيه، وأن تنزه الله عز وجل عن مشابهة المخلوقين تنزيهاً بلا أباطيل فهذا توحيد الأسماء والصفات أن تثبت لله عز وجل كلما أثبته لنفسه وكلما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس أحد أعلم بالله عز وجل بعد الله عز وجل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تنفي الصفات بدعوى تنزيه الله عز وجل ولكن يجب عليك أن تثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، كما قال عز وجل: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، وقال عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، رد على المشبهة الذين شبهوا الله عز وجل بخلقه، وقوله عز وجل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، رد على المعطلة الذين عطلوا الله عز وجل عن صفات كماله فالله عز وجل سميع بصير، ولكن سمعه ليس كسمع المخلوق فإن سمع المخلوق محدود وبذبذبات معينة وعلى مسافة معينة، وليس بصره محدوداً كبصر المخلوقين في ظروف معينة كتوفر الضوء وتكون الأجسام على حجم معين فإذا كانت دقيقة جداً لا يراها، أو على مسافة معينة فإذا كانت بعيدة جداً لا يراها وإذا كان بينه وبين هذه الأشياء جدار فإنه لا يرى هذه الأشياء.

    فهذا سمع البشر وبصر البشر سمع محدود وبصر محدود والله عز وجل يقول: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:10]، فالله عز وجل يعلم السر وأخفى ويسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء في الليلة الظلماء ويرى مخها وعروقها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

    فهذا توحيد الأسماء والصفات تأدب مع الله عز وجل، تأدب مع كتاب الله عز وجل ومع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقف حيث أوقفنا الشرع، ونثبت لله عز وجل ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

    ومقتضى توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات هو النوع الثالث من التوحيد وهو: توحيد الألوهية توحيد المعبود التوحيد العملي فلا توجه عبادة من العبادات -سواء العبادات القلبية أو البدنية- إلى غير الله عز وجل، فلا إله إلا الله تخلع بها كل الآلهة الباطلة التي عبدت من دون الله عز وجل فهذه بداية التزكية عند أهل السنة والجماعة.

    بداية التزكية بالتوحيد والتعرف على الرب العزيز الحميد المجيد، وإفراد الله عز وجل بجميع العبادات.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    تزكية النفوس بأداء الفرائض

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    بعد توحيد الله عز وجل ينبغي على من أراد أن يزكي نفسه ينبغي عليه أن يجتهد في أداء ما افترض الله عز وجل كما ورد في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فينبغي على العبد أن يبدأ بالفرائض فيستكملها أولاً؛ لأنها رأس المال، فينظر في صلاته هل يصلي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي ويخشع في الصلاة، ويتم الركوع والسجود، فيصلي في أول الوقت وفي الجماعة ويأتي بشرائط الصلاة وسنن الصلاة، هل يصوم شهر رمضان كما أمر الله عز وجل، هل عنده مال تجب فيه الزكاة، هل يستطيع حج بيت الله الحرام فهكذا ينبغي على العبد أن يبدأ طريق التزكية بأداء الفرائض، وأفضل الأعمال أداء ما افترض الله عز وجل والورع عما حرم الله وحسن النية فيما عند الله عز وجل.

    تزكية النفس بالاستزادة من النوافل

    فبعد ذلك يبدأ العبد بفتح أبواب النوافل لما ورد أيضاً في هذا الحديث القدسي عن أبي هريرة : (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، وفي رواية: (ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)، فبعد أن يزكي العبد نفسه بالتوحيد وأداء فرائض الله عز وجل يزكي نفسه بكثرة النوافل فيفتح على نفسه أبواب النوافل نوافل الصلاة ونوافل الصيام ونوافل الحج والعمرة ونوافل الصدقات بعد أداء الزكاة الواجبة ونوافل الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    قال العلماء: ما بال النوافل كانت هي السبب الموصل إلى محبة الله عز وجل دون الفرائض؟ قيل: لأن العبد يفعل الفريضة مخافة العقوبة ورجاء الأجر، أما النافلة فإنه يفعلها بإخلاص نية التحبب إلى الله عز وجل فهو إذا لم يؤد الفرض متعرض للعقوبة، ولكن النافلة ليست هناك عقوبة في تركها، فلما خلصت النية في النوافل كانت النوافل هي السبب الموصل إلى محبة الله عز وجل دون الفرائض، فطريق التزكية بالتوحيد ثم بأداء الفرائض ثم بالتحبب والتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل المشروعة لتزكية النفس.

    1.   

    التزكية عند الصوفية

    أغنانا الله عز وجل بالشرع المتين عن أن نبتدع طرقاً للتزكية كما فعلت الصوفية فإنهم يبتدعون طرقاً يزعمون أنها تزكي نفوسهم وأنها تقربهم إلى الله عز وجل، من ذلك أنهم يحرمون على أنفسهم ما أحل الله عز وجل كالزواج وأكل الطيبات.

    وهذا لم يتعبدنا الله عز وجل به بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فمن ترك الزواج بدعوى أنه يزكي نفسه، أو يقول: هو يأنس بالله عز وجل ولا يأنس بالزوجة فهذا مردود؛ لأن سيد العابدين صلى الله عليه وسلم تزوج ثلاث عشرة امرأة وقيل: خمس عشرة امرأة ومات عن تسع وما شغله ذلك عن كمال عبوديته لله عز وجل وقال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) ومع ذلك كان سيد العابدين وكان سيد الشاكرين وسيد الصابرين، فالأنس بالزوجة أنس طبيعي لا يعارض الأنس بالله عز وجل.

    كذلك من طرقهم في التزكية أنهم يزكون أنفسهم -زعموا- بذكر اسم الله عز وجل المفرد، مظهراً أو مضمراً فيظل أحدهم يصيح طوال الليل ويقول: الله .. الله.. ولو قال العبد: الله ألف مرة لا يصير بذلك مسلماً حتى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

    فكلمة الله لا تتضمن كفراً ولا إيماناً بل ينبغي أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فهذا الذكر بالاسم المفرد مظهراً، وأما المضمر فيقول: هو.. هو ويظل طوال الليل يقول: هو.. هو، ويقول بعضهم: لا هو إلا هو ويقولون: الذكر بالاسم المفرد مظهراً هو ذكر العوام ومضمراً هو ذكر الخواص ولا هو إلا هو هو ذكر خواص الخواص وهذا ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة، فهذه وسائل مبتدعة ذمها الشرع المتين.

    فلا يجوز للعبد أن يتقرب بالذكر إلا أن يتضمن الذكر معنى كاملاً صحيحاً يقول: الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلا الله، يقرأ القرآن ولكن لا يستمر على الذكر بالاسم المفرد مظهراً أو مضمراً، وهذه الطرق المشئومة عند الصوفية أوصلتهم إلى النهايات المشئومة من القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد.

    فلو ظل طوال الليل يقول: هو.. هو، يأتي له الشيطان يقول: الله هذا المصباح أو هذا الجدار فيقتنع الجاهل بذلك ويلتبس عليه الأمر، كما قال أبو يزيد البسطامي : ما في الجب إلا الله، وقال بعضهم -والعياذ بالله-: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا.

    فهم يعتقدون بأن الله يحل في الأشياء وأن فرعون عندما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، لم يخطئ في ذلك يعتذرون لفرعون بأن الله عز وجل حل فيه، وهذا القول كفر مصادم لآيات الله عز وجل ولكتاب الله عز وجل، فمن سلك هذا الطريق أوصله إلى نهايات مشئومة.

    فكمال العبودية وكمال التزكية عند أهل السنة والجماعة أن تعتقد بأنك عبد لله عز وجل، فهم يزكون أنفسهم من أجل الوصول إلى تحقيق كمال العبودية لله عز وجل.

    وقد وصف الله عز وجل أكابر الخلق بالعبودية فقال: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172].

    ووصف الله عز وجل نبينه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أسمى مواقفه وفي أحسن أحواله فقال سبحانه: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، وهذا في مقام الدعوة إلى الله عز وجل، وقال في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وقال في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، قال الإمام الطحاوي في تشريفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال: وأن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى وأنه إمام الأتقياء وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء، فهذا كمال التزكية عند أهل السنة والجماعة أن يحقق العبد كمال العبودية لله عز وجل وهي تشريف وتكريم كما قال القاضي عياض :

    ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

    دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

    بخلاف الصوفية الذين يزعمون الفناء والحلول والاتحاد ويقولون: عبدي أطعني أجعلك عبداً ربانياً تقول للشيء كن فيكون، وهذا الحديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، فمهما ترقى العبد لا يكون أفضل من حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يقول للشيء كن فيكون، بل كان عبداً أنعم الله عز وجل عليه بكمال العبودية وشرفه الله بها وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة)، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) صلى الله عليه وآله وسلم.

    اللهم أعط نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.

    اللهم عجل بنصرك للمسلمين يا رب العالمين، اللهم دمر أعداء الدين في فلسطين والعراق وفي أفغانستان وفي كل أرض وتحت كل سماء فيها صراع بين الحق والباطل وبين الإسلام وخصومه.

    اللهم سلط على الكفار الزلازل والبراكين والأعاصير، واجعلهم عبرة للمعتبرين يا رب العالمين، اللهم طهر بلاد المسلمين من العلمانيين ومن الطواغيت ومن المنافقين ومن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين.

    اللهم انصر دينك وكتابك وأولياءك الصالحين يا رب العالمين، اللهم اهد شباب المسلمين، واهد أطفال المسلمين، واهد شيوخ المسلمين، واهد نساء المسلمين للعفة والحجاب والحياء يا رب العالمين.

    اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

    اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا وردهم إليك رداً جميلاً.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768322310