-
وجه الجمع بين الأحاديث في أول ما نزل من القرآن
-
تفسير قوله تعالى: (يا أيها المدثر)
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1].
أي: المتلفع بثيابه لنوم أو استدفاء.
والمدثر من الدثار، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار، والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد مباشرة.
وأصل المدثر المتدثر، فأدغمت التاء في الدال، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لحالته التي كان عليها وقت نزل الوحي، أو لقوله: (دثروني دثروني).
وقيل: معناه المدثر بدثار النبوة والرسالة، ومن ذلك قولهم: ألبسه الله لباس التقوى، وزينه برداء العلم، فجعل النبوة كالدثار واللباس.
قال
الشهاب : إما أن يراد المتحلي بها والمتزين، كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة.
وهذا قول آخر، يعني أن الدثار الذي يكون فوق الشعار هو حلية وزينة، وهذه إشارة إلى أنه متحلٍ بالنبوة ومتزين بها عليه الصلاة والسلام.
والتزيين بالدثار في ظهوره أو في الإحاطة، والأول أتم.
-
تفسير قوله تعالى: (قم فأنذر)
-
تفسير قوله تعالى: (وربك فكبر)
يقول تبارك وتعالى:
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:3].
يقول
ابن جرير : أي: فعظمه بعبادته والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد.
وقال
القاشاني : أي: إن كنت تكبر شيئاً وتعظم قدره فخصص ربك بالتعظيم والتكبير، لا يعظم في عينيك غيره، فيصغر في قلبك كل ما سواه بمشاهدة كبريائه عز وجل.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، التقديم هنا للاختصاص، أي: أن المستحق للتعظيم وحده هو الله سبحانه وتعالى.
-
تفسير قوله تعالى: (وثيابك فطهر)
قال تعالى:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4].
اختلف في المقصود من قوله تعالى:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ؟
فالظاهر هو الطهارة، أي: تطهير الثياب بالماء من الأنجاس؛ لأن الماء هو الأصل في التطهير.
قال
ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون؛ فأمره الله أن يتطهر ويطهر ثيابه.
وقيل: هذا أمر بتطهير القلب مما يستقذر من الآثام.
قال
قتادة : العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب، أما إذا وفّى فإن العرب تسميه: مطهر الثياب.
وعن
ابن عباس :
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ، أي: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم أنشد لـ
غيلان بن سلمة الثقفي قوله:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع
ففي الوجه الأول بقاء لفظي الثياب والتطهير على حقيقتهما.
أما الثاني ففيه نوع تجوز، بأن يكون المقصود بذلك طهر القلب مما يستقذر من الآثام.
الوجه الثالث: حمل الثياب على حقيقتها، والتطهير على مجازه، وهو التقصير؛ لأن العرب كانوا يطيلون ثيابهم، ويجرون أذيالهم خيلاء وكبراً، فأمر بمخالفتهم.
ووجه رابع: حمل الثياب على الجسد أو النفس كناية، كما قال
عنترة :
(فشققت بالرمح الأصم ثيابه) يعني: نفسه، ولذا قال:
ليس الكريم على القنا بمحرم
واستصوب
ابن الأثير في المثل السائر الوجه الأول، قال في الفصل الثالث من فصول مقدماته: اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس، ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب لا الملبوس، وهذا لابد له من دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ، ثم قال: المعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف، والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف، إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفاوتون في هذا فإنه قد يأخذ بعضهم وجهاً ضعيفاً من التأويل فيكسوه بعبارته قوة تميزه عن غيره من الوجوه القوية؛ فإن السيف بضاربه.
يعني: قد يكون لعالم وجه من الفصاحة والبلاغة حتى إنه لفصاحته وبراعته يستطيع أن ينتحي منحىً مرجوحاً عن طريق تأويل النص، ومع قوة عبارته وسحر البيان يقوي هذا القول الضعيف، وكما يقال: إن السيف بضاربه، يعني: أن السيف يقتل، لكن ليس السيف وحده هو الذي يؤثر، بل لابد له من ضارب قوي، ولذلك استشهد بعد قوله: (فإن السيف بضاربه) بشعر
أبي الطيب المتنبي في قصيدة مطلعها:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
قال:
إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان
تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان
يقول
المتنبي :
إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان
يعني: قد توجد السيوف الحادة القوية في أيدي أناس قلوبهم مثل قلوب النساء جبناً وهلعاً وخوفاً.
تلقى الحسام على جراءة حده، أي: مع أن السيف محدد بتار في حد ذاته.
تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان
فالسيف يكون جباناً ما دام في كف إنسان جبان، فالسيف بضاربه وليس فقط بحده، فإنه لا يؤثر إلا إذا كان الذي يحمله يضرب ضربةً قويةً.
يقول الشيخ
عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: اختلف المفسرون في المراد من كل من لفظتي (الثياب) و(فطهر) هل دلا على الحقيقة، ويكون المراد طهارة الثوب من النجاسات أم هما على المجاز؟
فعلى سبيل المجاز يكون المراد بالثوب البدن، والطهارة عن المعنويات من معاصي وآثام ونحوها.
وذكر
ابن جرير وغيره نحواً من خمسة أقوال:
الأول: عن
ابن عباس ، و
عكرمة ، و
الضحاك ، أن معناه:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ، لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة، واستشهد بقول
غيلان :
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع
وقول آخر:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
فاستعمل اللفظين في الكناية، وقد يستدل له بقوله:
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2].
وورد عن
ابن عباس : لا تلبس ثيابك من كسب غير طيب، يعني: البس ثيابك من المال الحلال، فاستعمل الثياب في الحقيقة والتطهير في الكناية.
وعن
مجاهد :
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ أي: وعملك فأصلح، فاستعملهما معاً في الكناية عن العمل الصالح.
وعن
محمد بن سيرين و
ابن زيد على حقيقتهما، يعني: فطهر ثيابك من النجاسة.
ثم قال
ابن جرير : والذي قاله
ابن سيرين و
ابن زيد أظهر في ذلك.
وقول
ابن عباس و
عكرمة قول عليه أكثر السلف، والله تعالى أعلم بمراده.
ويترجح قول
ابن سيرين أن المراد طهارة الثوب من النجاسة، بالقرينة في الآية فإنها اشتملت على أمرين:
الأول: طهارة الثوب،
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ .
الثاني: هجر الرجز،
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]، ومن معاني الرجز المعاصي، فيكون حمل طهارة الثوب على حقيقته والرجز على حقيقته أولى، إن المعنى: طهر قلبك من الآثام والمعاصي، لوقع هنا تكرار؛ لأن قوله:
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ معناه: اهجر المعاصي على أحد التفاسير، فيكون هذا تكراراً، والتأسيس أولى من التأكيد.
فيترجح بذلك أن المراد بقوله:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ الطهارة بالماء من الأنجاس، فيكون المراد الثياب على حقيقتها.
أما التطهير من الذنوب فأشار له قوله تعالى:
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] فيكون تأسيساً.
وهذه الآية بقسميها جاء نظيرها بأصرح من ذلك في قوله تعالى:
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ [الأنفال:11].
ومثله أيضاً قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، جمع بين الطهارتين: تطهير الباطن والظاهر.
ولذلك جعل الإمام
الشافعي رحمه الله تعالى هذه الآية:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ دليلاً على وجوب الطهارة للصلاة.
-
تفسير قوله تعالى: (والرجز فاهجر)
يقول الله تبارك وتعالى:
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5].
أي: اتركه، والرجز بضم الراء، وتأتي بكسر الراء كالرجس، والسين والزاي يتناوبان لأنهما من حروف الصفير.
والرجس: اسم للقبيح المستقذر كنى به عن عبادة الأوثان خاصة كما في قوله تعالى:
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [الحج:30].
أو عن كل ما يستكره من الأفعال والأخلاق، والجملة من جوامع الكلم في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفا والسفه وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز.
وقيل: المراد بالرِجز أو الرُجز العذاب، وهجره كناية عن هجر ما يؤدي إليه من الشرك والمعاصي، فأقيم الرجز مقام سببه الذي هو الشرك والمعاصي؛ أو هو بتقدير مضاف، أي: وأسباب الرجز فاهجر.
وكما قلنا: الرِجز والرُجز تقرأ بالضم وتقرأ بالكسر، فيقول: قرئ بضم الراء وهي لغة وهما بمعنى العذاب.
وعن
مجاهد أنه بالضم بمعنى الصنم، وبالكسر بمعنى العذاب.
وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بذلك -وهو بريء منه- أمر لغيره، وهذا تعريض، أو المراد الدوام على هجره، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام ما عبد الأصنام، بل هو بريء من ذلك وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك أمره الله بهجرها،
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ، فهذا الأمر هو أمر لغيره تعريضاً، أو أن المراد الدوام على هجره.
-
تفسير قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر)
قال تعالى:
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6].
أي: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، أي: إذا أعطيت فلا تترقب ولا تتوقع ولا تؤمل أن ترد إليك هذه العطية بأكثر منها.
يقال: مننت فلاناً كذا، أي: أعطيته، كما قال تعالى:
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص:39]، يعني: فأعط أو أمسك.
وأصله: أن من أعطى فقد منَّ، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة.
وجوز
القفال أن يكون الاستكثار عبارة عن طلب العوض كيف كان زائداً أو مساوياً.
قال: وإنما حسنت هذه الاستعارة؛ لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً عن العطاء، وسمى طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيباً، ثم اتسع الأمر فسمي ربيباً وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً، حملاً للأمر على تلك الأحوال.
يقول: وسر النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه تعففاً وكمالاً وعلو همة.
وقال بعض المفسرين: معنى الآية:
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ : لا تعط عطاءً مستكثراً هذا العطاء حتى ولو كان كثيراً، فإن من مكارم الأخلاق استقلال العطاء وإن كان كثيراً، فالسين للعد والوجدان.
وسبق في سورة الروم في قول الله تبارك وتعالى:
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39]، نفس هذا المعنى، وقد تكلمنا عنه في موضعه.
-
تفسير قوله تعالى: (ولربك فاصبر)
-
تفسير قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور ... غير يسير)
-
تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً ... ثم يطمع أن أزيد)
-
تفسير قوله تعالى: (كلا إنه كان لآياتنا عنيداً ... ثم قتل كيف قدر)
-
تفسير قوله تعالى: (ثم نظر ... إلا سحر يؤثر)
-
تفسير قوله تعالى: (سأصليه سقر ... عليها تسعة عشر)