-
تفسير قوله تعالى: (الرحمن علم القرآن)
-
تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان علمه البيان)
قال تبارك وتعالى:
خَلَقَ الإِنسَانَ *
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:3-4] إيماء بأن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وميزهم عن سائر الحيوانات بالبيان والنطق، والبيان هو التعبير عما في الضمير وإفهام الآخر، أي: أن يستطيع أن يعبر عما يكنه من المعاني في ضميره، ويستطيع أن يفهم غيره بهذه اللغة وبهذا البيان بما عنده، وهذا يدرك بسبب تلقي الوحي، والتعرف على الحق وتعلم الشرع.
فإذا كان خلق الله لهم إنما هو في الحقيقة لذلك، اقتضى ذلك اتصاله بالقرآن وتنزيله الذي هو منبعه وأساس بنيانه،
الرَّحْمَنُ *
عَلَّمَ الْقُرْآنَ *
خَلَقَ الإِنسَانَ *
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ .
ونلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن:
عَلَّمَ الْقُرْآنَ وقال مباشرة بعدها في الإنسان: (( خَلَقَ الإِنسَانَ )) فنجد كثيراً من التعابير في الخلق بالنسبة للإنسان وسائر المخلوقات، أما القرآن فما جاء أبداً التعبير بأنه مخلوق؛ لأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى ليس بمخلوق، فلذلك هذا وصف اتصل بالقرآن
عَلَّمَ الْقُرْآنَ ولم يقل: خلق القرآن، أما الإنسان فقال فيه: (( خَلَقَ الإِنسَانَ )) إذاً: في هذا إيماء بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، بخلاف هذه المحدثات.
قوله تعالى: (( خَلَقَ الإِنسَانَ ))، اختلف فيه فقيل: الإنسان اسم جنس، يعني: خلق الناس جميعاً، وعلى هذا الأساس فقوله:
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ما المقصود بالبيان فيه: أي علمه النطق والتمييز، وقيل: الحلال والحرام، وقيل: ما يقول وما يقال له، وقيل: الخير والشر، وقيل: طرق الهدى، وقيل: الكتابة والخط.
إلا أن الكثير من المفسرين رجحوا قول
الحسن من أن البيان هو النطق والتمييز.
يقول
ابن كثير رحمه الله تعالى: وقول
الحسن هاهنا أحسن وأقوى؛ لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين، على اختلاف مخارجها وأنواعها.
إذاً: قوله:
خَلَقَ الإِنسَانَ *
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الأرجح أن المقصود بالإنسان جنس الإنسان، والمقصود بالبيان: النطق والتمييز.
وقيل: الإنسان آدم، والبيان أسماء كل شيء أو بيان كل شيء أو اللغة.
وقيل: (( خَلَقَ الإِنسَانَ )) أي: خلق محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقوله:
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ أي: علمه بيان ما كان وما يكون.
والظاهر والله تعالى أعلم أن الأقرب هو القول الأول أن الإنسان اسم جنس يعم سائر الناس.
هذه الآيات أتت خالية من حرف العطف
الرَّحْمَنُ *
عَلَّمَ الْقُرْآنَ *
خَلَقَ الإِنسَانَ *
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ .
يقول
الزمخشري : وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟
يعني: أن سبب خلو الآيات من العاطف هو أن الآيات واردة في سياق تعديد النعم، فالله سبحانه وتعالى خلقك أيها الإنسان وعلمك البيان.
قال
الشهاب المرجح الإشارة إلى أن كلاً منها نعمة مستقلة تقتضي الشكر.
قول آخر في تعليل خلو هذه الآيات من حرف العطف: أنه لو حصل عطف قد يقتضي هذا العطف تتابع الصفات أو الأفعال المتشابهة، وإنما خلت من حرف العطف إشارة إلى أن كل نعمة مستقلة بذاتها، فتقتضي الشكر عليها بذاتها، فهذا فيه إيماء إلى تقصير الخلق في شكر هذه النعمة، ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أنها كلها نعمة واحدة، لكن لما خلت من حرف العطف فهذا يؤكد أن كل نعمة مستقلة وحدها.
قوله:
عَلَّمَ الْقُرْآنَ *
خَلَقَ الإِنسَانَ *
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ .
فتعليم القرآن نعمة مستقلة تستوجب الشكر، كذلك خلق الإنسان، كذلك تعليمه البيان، وفي ذلك إشارة إلى تقصير الخلق أو قصورهم عن أداء شكر هذه النعم كلها.
النطق أشرف ما خص الله به الإنسان
وقال
الأصفهاني في الذريعة: لما كان النطق أشرف ما خص به الإنسان..
يعني: مما يتميز به أنه حيوان ناطق، لا يوجد غير الإنسان من الحيوانات ناطق، وما عدا ذلك قد ينطق على سبيل التقليد دون أن يعي ما يقول، حتى الببغاء يجيد ترداد الكلام، لكنه لا يعي الكلام ولا يفهمه، إنما عنده القدرة على محاكاة أصوات يسمعها دون أن يعيها أو يفهمها، فالإنسان حيوان ناطق ميزه الله سبحانه وتعالى بهذه النعمة، بل شرفه بهذه النعمة وهي نعمة البيان.
يقول: لما كان النطق أشرف ما خص به الإنسان، فإنه صورته المعقولة التي باين بها سائر الحيوان، قال الله عز وجل في بيان تشريف الإنسان بهذا الشرف:
خَلَقَ الإِنسَانَ *
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ولم يقل: خلق الإنسان وعلمه البيان، إذ جعل قوله: ((علمه)) تفسيراً لقوله: (( خَلَقَ الإِنسَانَ ))؛ تنبيهاً أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان؛ لأن الله خلق الإنسان وخلق الحيوانات، لكن لما خلا من حرف العطف فهمنا أن قوله:
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ هي تفسير لقوله: (( خَلَقَ الإِنسَانَ ))، يعني: خلقه مبيناً ناطقاً مميزاً.
فهذا تنبيه على أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعاً لكانت الإنسانية أقل درجة مما شرفها الله به.
ولذلك قيل: لولا اللسان ما الإنسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة.
يعني: منظر وشكل فقط كشبح، لكن البيان هو الذي رفعه وشرفه، ولذلك يتفاوت الناس ببيانهم، فإذا سكت الناس فإنهم يتساوون، لكن إذا أفصحوا وبينوا ظهر حينئذ تفاوتهم في علمهم وفي ذكائهم وفي فصاحتهم، وغير ذلك من الصفات التي يتفاوت الناس فيها.
وقيل: المرء مخبوء تحت لسانه، فإذا نطق كشف نفسه.
وقال الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
إشارة إلى أن الإنسان قلب ولسان، واللسان يعرب عما في هذا القلب، وما عدا ذلك صورة اللحم والدم.
فإذا توهم في ارتفاع النطق الذي هو باللسان، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد حرم من أمرين:
النطق فلا يستطيع أن يبين ولا أن يتكلم، وفي نفس الوقت القلب أو الفؤاد الذي يفقه به ويفهم ويميز، فإذا تخيلنا أن هذا الإنسان بدون نطق وبدون بيان وبدون عقل أو قلب، لم يبق إلا صورة اللحم والدم، فيتساوى مع سائر العجماوات.
فإذا كان الإنسان هو اللسان، فلا شك أن من كان أكثر منه حظاً فهو أكثر منه إنسانية، والصمت من حيث هو مذموم؛ لأنه من صفات الجمادات فضلاً عن الحيوانات، وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت، وجعل لبعضها صوتاً بلا ترتيب.
إذاً: لا يستطيع أي مخلوق آخر أن يبين ويتكلم كما فعل الله ذلك في الإنسان.
ومن مدح الصمت فإنما مدح الصمت بالنسبة له؛ لأنه إذا تكلم نطق بشر أو بسوء فالصمت أفضل، مثل قول أحدهم:
الصمت أزين للفتى من منطق في غير حينه
وكما يقولون: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، هل هذه الكلمة صحيحة؟ لا؛ لأن الإنسان ربما ينطق بكلام هو أثمن من الذهب، وربما ينطق بكلام سيئ فيكون الصمت أفضل منه، فهي مسألة نسبية، فإذا مدح الصمت فذلك مقارنة بالكلام القبيح؛ لأنه إذا صمت فهو على سبيل السلامة لا غنم ولا غرم، لكن إذا نطق بالسوء فهو الغرم، فإذا كان الإنسان مخيراً بين صمت ونطق بالشر فالأولى أن يصمت، أما إذا كان مخيراً بين الصمت والنطق بالخير فالأولى أن ينطق، وقد يجب ويتعين عليه ذلك.
سئل حكيم عن فضلهما، فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق.
وسئل آخر: أيهما أفضل؟ فقال: الصمت عن الخنى أفضل من الكلام في الخطأ.
وعنه أخذ الشاعر:
الصمت أليق بالفتى من منطق في غير حينه
حكى
الشهاب أنه يجوز أن يكون (الرحمن) خبراً لمبتدأ محذوف، يعني: كأن المبتدأ يكون الله، والرحمن خبر، وما بعده مستأنف بتعديد نعمه.
قوله: ((علم)) من التعليم، ومفعوله مقدر أي: علم الإنسان أو جبريل أو محمداً صلى الله عليه وسلم.
الخلاف في معنى قوله: (خلق الإنسان * علمه البيان)
-
تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان)
-
تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان)
قال تبارك وتعالى:
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6].
قوله: ((والنجم)) اختلف العلماء في المراد بالنجم في هذه الآية:
فقال بعض العلماء: النجم هو ما لا ساق له من النبات كالبقول، والشجر هو ما له ساق.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم نجوم السماء.
يقول العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي صوابه: أن المراد بالنجم هو نجوم السماء، والدليل على ذلك: أن الله جل وعلا في سورة الحج صرح بسجود نجوم السماء والشجر، ولم يذكر في آية من كتابه سجود ما ليس له ساق من النبات بخصوصه، ونعني بآية الحج قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ [الحج:18]، فدلت هذه الآية أن الساجد مع الشجر في آية الرحمن هو النجوم السماوية المذكورة مع الشمس والقمر في سورة الحج، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وعلى هذا الذي اخترناه فالمراد بالنجم النجوم.
يعني: هي مفرد، لكن يراد بها الجمع، ومن ذلك قول
الراعي:
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
فقوله: (فباتت تعد النجم) فالنجم هنا مفرد، لكن هي في الحقيقة كانت تعد النجوم؛ لأنه لو كان نجماً واحداً لما تعبت في عده، بل كانت تعد النجوم، وفي لغة العرب يكثر إطلاق المفرد مع إرادة الجمع.
ومن ذلك أيضاً قول
عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد النجم والحصى والتراب
قوله: (عدد النجم والحصى والتراب) يعني: عدد النجوم، مع أن اللفظ هنا مفرد.
وقول الله تبارك وتعالى هنا:
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ مثل قوله تعالى:
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [الرعد:15]، فنسب السجود إلى كل هذه المخلوقات، فسجود كل شيء بحسبه.
يعني: كل كائن من المخلوقات له تسبيح وله سجود، لكن منه ما نفهمه وهو الذي يتعلق بلغتنا نحن، أما سجود غيرنا من الكائنات فهذا ليس إلينا؛ لأنه مما لا ندركه كما قال تعالى:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فأثبت لهم تسبيحهم، ولم يقل: ولكن لا تفقهون تسبيحها مع أن هذا هو الأصل؛ لأنها من غير العقلاء، لكن أنزلها منزلة العقلاء فأتى بضمير العقلاء (هم) تغليباً للعقلاء.
يقول
القاسمي رحمه الله تعالى:
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ، قوله: ((والنجم)) أي: النبات الذي ينجم.
يعني: الذي يطلع من الأرض ولا ساق له.
قوله: ((والشجر)) أي: الذي له ساق.
إذاً:
القاسمي رجح التفسير الآخر وهو: أن النجم هو الشجر الذي لا ساق له وذلك لاقتران النجم بالشجر.
بينما كلمة النجم تحتمل أن تكون النجوم في السماء أو النجوم وهو النبات الذي لا ساق له.
وربما الذي أداه إلى هذا القول هو اقترانها بالشجر، فصار نسبة السجود للشجر الذي له ساق، والشجر الذي لا ساق له.
قوله: ((يسجدان)) ثنى فعلهما على وفاق لفظهما، وإن كانت هذه الأسماء مفردة في الحقيقة؛ لكنها تدل على المجموع، فالتثنية هنا نظراً إلى اللفظ فقط، أما من حيث المعنى فهي سجود لعدد كبير.
((يسجدان)) أي: ينقادان لله فيما يريد بهما طبعاً، انقياد الساجد من المكلفين طوعاً، وفي الحقيقة مما يؤسف له أن في الأجزاء الأخيرة من تفسير
القاسمي ميلاً كثيراً إلى القول بالمجاز، وتوسع في ذلك حتى كأني أكاد أحس أن هناك شخصاً آخر كتب الجزء الأخير هذا؛ لأن كثيراً جداً منه فيه مخالفة لمنهج السلف في تفسير أمثال هذه الأشياء، هل يستحيل أن النجم يسجد لله والشجر يسجد لله؟!
إذا قلت: كل يسجد بحسبه، لماذا تنطلق أذهاننا فقط إلى السجود الذي هو متعلق بنا نحن؟
نحن لنا سجود ندركه؛ لأنه متعلق بالسجود الذي نفهمه، ونحن نسبح الله بالطريقة المعروفة، لكن ما الذي يمنع أن الجبال تسبح؟ هل هذا من حيث العقل مستحيل، بحيث أننا نلجأ دائماً إلى المجاز، ونقول: إن تسبيح الجبال هو أن من رآها قال: سبحان الله؟! الذي خلق هذه الجبال وغيرها أتانا بالدليل، مثل قوله تعالى في الآية التي في سورة ص:
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18]، ومثل قوله تبارك وتعالى:
يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10]، فكان داود عليه السلام يسبح ويذكر الله سبحانه وتعالى بصوت عال، والجبال تردد معه والطيور تسبح من ورائهم.
يا ليتنا أدركنا هذا المنظر الرائع! داود عليه السلام يسبح والجبال تنطق بالتسبيح معه، والطيور كذلك، الله قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء.
إذاً: الجبال لها تسبيح يناسبها، وكذلك كل هذه المخلوقات لها تسبيح يناسبها، كذلك الموج له تسبيح وكل شيء له تسبيح.
وما يدرينا لعل الأصوات التي نسمعها مثل: أصوات العصافير في الصباح وفي المساء، لعل هذه الطيور أيضاً تقول أذكار الصباح والمساء بطريقة يعلمها الله، ألم يعلَّم الله سبحانه وتعالى سليمان عليه السلام لغة الطير، وفهم كلام الهدهد؟
إذاً: ما الذي يدعو الناس إلى اللجوء إلى المجاز؟ هل يعجز الله شيء حتى نهرب إلى المجاز دائماً؟!
فالشاهد: أنه لو كان تسبيح الجبال بأن من رآها قال: سبحان الله! فإنها لا تسبح أصلاً، فلماذا نستبعده؟! ولو كان كذلك لما خص تسبيحها بالعشي والإشراق، لكن سيكون هذا في كل وقت؛ لأن الناس إذا رأوها وقالوا: سبحان الله! فهذا سيكون بالعشي والإشراق، والليل والنهار، والظهر والضحى، وكل الأوقات، فعندما يرونها سيقولون: سبحان الذي خلقك! لكن هنا تخصيصها بالعشي والإشراق فيه دليل على أنه تسبيح حقيقي، ولو كان غير حقيقي لم يقل الله تبارك وتعالى في الجبال:
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] من الجبال ما يتفطر من خشية الله، ونظائر ذلك كثيرة تكلمنا عنها بالتفصيل أثناء تلخيص كتاب (عبودية الكائنات) للأخ الفاضل الشيخ
محمد فريد، وهو كتاب قيم جداً في هذا الباب، ننصح الإخوة بقراءته.
-
تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان ... وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)
-
تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام ... فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)
-
تفسير قوله تعالى: (والحب ذو العصف والريحان)
قال تعالى:
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ [الرحمن:12].
قوله: ((والحب)) هنا مفرد ويراد به الجمع، يعني: جميع الحبوب كالبر والشعير وغير ذلك.
((ذو العصف)) قيل: الورق، وقيل: المأكول من الحب، والأقرب والله تعالى أعلم أن العصف هو ورق الزرع، أو الورق اليابس كالتبن.
((والريحان)) أي: الورق الأخضر، وهذا تذكير بالنعمة به وبورقه في حالتي الاخضرار واليبس، وقلنا: إن العصف هو الورق اليابس الجاف، وأما الريحان فهو الورق في حالة كونه خضراً.
إذاً: هنا إشارة إلى حالتي الورق، فهو أحياناً يكون يابساً، وأحياناً يكون غضاً طرياً أخضر.
قوله: (والريحان) على قراءة الجر هو الورق الأخضر، لكن على قراءة الرفع ((وَالرَّيْحَانُ)) هو الزرع الأخضر مطلقاً، يعني: أي زرع أخضر يطلق عليه الريحان، وسمي به تشبيهاً له بالروح؛ لأنه ما دام أخضر فهو حي.
قال
ابن عباس : (الريحان خضر الزرع).
وقال
القرطبي : الريحان: إما فيعلان من روح، فقلبت الواو ياء وأدغما ثم خفف، أو فعلان قلبت واوه ياء للتخفيف، أو للفصل بينه وبين الروحان وهو ما له روح.
الأقوال في تفسير الريحان
ذكر الإمام
ابن الجوزي رحمه الله تعالى الخلاف في تفسير الريحان وقال: إن هناك أربعة أقوال في تفسير الريحان:
القول الأول: أن الريحان هو الرزق.
يعني: الأرض فيها فاكهة وكذا وكذا، وفيها أيضاً الريحان، فالريحان هو الرزق، تقول: خرجنا نطلب ريحان الله، يعني: رزق الله سبحانه وتعالى.
وقال
النمر بن تولب:
فروح الإله وريحانه ورحمته وسماء درر
غمام ينزل رزق العباد فأحيا البلاد وطاب الشجر
فقوله: (وريحانه) يعني: رزقه.
القول الثاني: أن الريحان هو خضرة الزرع، ويسمى ريحاناً لاستراحة النفس بالنظر إليه، ولا شك أن النظر إلى اللون الأخضر في النباتات بالذات له أثر رائع جداً في استمتاع النفس واستراحتها.
القول الثالث: أن الريحان هو هذا الريحان الذي يشم.
يعني: هو هذا الذي له رائحة نفاذة طيبة معروفة.
القول الرابع: أنه ما لم يؤكل من الحب يسمى الريحان، وأما العصف فهو ما يؤكل من الحب.
فهذه الأقوال الأربعة ذكرها الإمام
ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسيره (زاد المسير في علم التفسير).
-
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فيها فاكهة ... والحب ذو العصف والريحان)
-
تفسير قوله تعالى: (فبأي آلاءِ ربكما تكذبان)
قال الله تبارك وتعالى:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13].
يقول تعالى بعد ذكر هذه الجملة العظيمة من النعم التي ابتدأها بأشرف وأعظم نعمة على الإطلاق وهي نعمة إيحاء القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ أي: لما عدد الله سبحانه وتعالى في هذه السورة نعماءه وأذكر عباده آلاءه، ونبأهم على قدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل مجموعة من النعم تنفصل عما بعدها بقوله تعالى:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .
وجه تكرار: قوله تعالى: (فبأي آلاءِ ربكما تكذبان) ومعناه
صورة من تفاعل الجن مع القرآن، وبعض صور التفاعل وحكمه
حقيقة المخاطبين بقوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قوله تعالى:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ الخطاب هنا للثقلين، وهذان الثقلان هما الجن والإنس، ومدلول عليهما بقوله تعالى:
وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ يعني: للخلق، وسوف يأتي النص بذكر الثقلين صريحاً فيما بعد في قوله:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31].
فهذا يؤكد أن المقصود بالخطاب هنا الجن والإنس؛ لأنهما المكلفون بشكر النعم، والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء، وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتماً، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية؛ لأنه لم يقل: فبأي آلاء إلهكما أو نحو ذلك، وإنما قال: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا )).
إذاً التذكير هنا بصفة الربوبية؛ لأنها تنبئ عن الملكية الكلية، وأن الله سبحانه وتعالى مالك كل شيء، فالله يملك ما في السماوات والأرض.
كذلك أيضاً الربوبية فيها معنى التربية مع الإضافة إلى ضميره: ((رَبِّكُمَا)) لتأكيد النكير عليهم بإهمال شكر هذه النعم، ولتشديد التوبيخ.
معنى التكذيب بالآلاء وأقسامه
ما معنى تكذيبهم بآلائه تعالى؟ معناه: كفرهم بهذه النعم، إما بإنكار كونها نعمة في نفسها، فمن الكفار من لا ينظر إلى هذه النعم على أنها نعمة، وبالذات نعمة القرآن الكريم، مع أن نعمة إنزال القرآن هي أشرف نعمة على الإطلاق امتن الله بها على البشرية في كل عصورها، فمن الكفار من لا يراها نعمة في نفسها، وبهذا استحق أن ينكر الله عليه بقوله:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، كذلك ما يستند إلى القرآن من النعم الدينية.
أو بإنكار أن هذه النعمة هي من عند الله تبارك وتعالى مع الاعتراف بأنها نعمة في نفسها، وهذا حال سائر الكفار، فهم يعترفون أن الشمس مفيدة للإنسان، ولولا الشمس لحصل كذا، ولولا المطر لحصل كذا، ولولا كذا وكذا من النعم التي يمن الله سبحانه وتعالى علينا بها، فهم يعترفون أنها مفيدة وأنها نعمة، لكن لا ينسبونها إلى المنعم وهو الله سبحانه وتعالى.
إذاً: التكذيب بآلائه تعالى كفرهم بها، إما بإنكار كونها نعمة في نفسها كالقرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونها من الله تعالى مع الاعتراف بكونها نعمة في نفسها، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسنادها إلى غيره تعالى استقلالاً، فهم يسندون النعم إلى غير الله استقلالاً أو اشتراكاً صريحاً، فإما يشركون مع الله آلهة أخرى، وإما ينسبونها إلى غير الله تبارك وتعالى، وإما ينسبونها أحياناً إلى أنفسهم كما قال
قارون :
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب كما في قوله هنا:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، ولم يقل: فبأي آلاء ربكما تكفران، وإنما عبر بالتكذيب لأن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك، فكفرهم تكذيب بها لا محالة، فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان، مع أن كلاً منها ناطق بالحق شاهد بالصدق، كأن كل أية وكل نعمة تنطق بالحق وتشهد بأن لا إله إلا الله، وبحق الله سبحانه وتعالى بأن تشكروا له هذه النعم وتنسبوها إليه، فهي تنطق بالحق وأنتم تكذبونها، كأن الآية نفسها هي التي تتكلم وأنتم تكذبون فيما تشهد به، فلذلك ناسب أن يقول (( تُكَذِّبَانِ )).
شهادة النعم بوحدانية الله سبحانه وتعالى
إن هذه النعم تنطق وتتكلم وتشهد بالحق كما قال الشاعر:
تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فكل كائن ليشهد أن لا إله إلا الله، ويدل على أن لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تأتي هذه الشهادة بطريقة عجيبة، فيمكننا أن نتعرف على شهادتها بالتفكر فيها، ودلالتها على خلق الله ونعم الله بها، لكن أحياناً يأتي بصورة أصرح وأصرح وأصرح، كم رأينا من أوراق الشجر وقد كتب عليها الله؟ هناك كتاب بالإنجليزية يسمى (تاريخ الأسماك) هذا الكتاب فيه صورة لسمكة مكتوب عليها باللغة العربية الواضحة جداً: لا إله إلا الله.
والحوادث في ذلك كثيرة، ولعلكم رأيتم أشياء كثيرة مثل هذا، مثلاً: كان هناك شخص تركي عنده منحل، فاستيقظ في الصباح فوجد حركة نشاط غير عادية في النحل، كأن أمراً وصله وهو ينفذه، فبعد أن فرغوا من الشغل انقشع النحل فإذا بورقة سدر مكتوب عليها لفظ الجلالة (الله) بخط في غاية الروعة والجمال.
وعندي هذه الصورة، وعندي صورة أخرى لشجرة في غابة من الغابات في أستراليا، والصورة عبارة عن جذع شجرة على هيئة رجل عربي يلبس قميصاً وهو راكع ومستقبل القبلة.
فهذه صورة من صورة الشهادة، وهناك سمكة في السنغال نشرت صورتها مكتوب عليها: محمد عبد الله ورسوله، بخط في غاية الوضوح، هذه الصور تأتي أحياناً بصورة في غاية البساطة حتى يقر هؤلاء الجاحدون بأن لا إله إلا الله؛ لأن كل هذه الآلاء وكل هذه النعم تنطق بأن لا إله إلا الله، وتشهد بشهادة الحق، وتقودك لو تفكرت فيها إلى التوحيد وإلى شهادة الحق، فصار من يجحد بهذه النعم ويغسله عن خالقها ولا يشكره عليها كأنه يكذبها فيما تشهد به، فلذلك قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).
ما جاء من أقوال المفسرين في قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال
الزجاج : لما ذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان، وتعليم البيان وخلق الشمس والقمر والأرض خاطب الجن والإنس فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته، وفي رزقه إياكم ما به قوامكم.
وقال
ابن قتيبة : الآلاء النعم، واحدها (ألا) مثل قفا، وإلا مثل معى.
فإن قيل: كيف خاطب اثنين وإنما ذكر الإنسان وحده؟ وذلك في قوله: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) وكذا الإشارة في صدر السورة بقوله:
الرَّحْمَنُ *
عَلَّمَ الْقُرْآنَ *
خَلَقَ الإِنسَانَ *
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4]، وقد سبق أن ذكرنا في قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أن هناك تفسيراً لتكذبان وأن معناه: أيها الثقلان؛ لأنه فيما بعد أتى قوله:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31]، وهناك تفسير آخر وهو أن الخطاب أساساً موجه للإنسان؛ لأنه هو الذي سبق ذكره وحده، فكيف خوطب الإنسان بقوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))؟
قيل عنه جوابان:
الأول: أن العرب تخاطب الواحد والقوم بفعل الاثنين، هذا أسلوب عربي معروف، فالعرب أحياناً تخاطب الشخص الواحد بالفعل الذي يخاطب به الاثنان كما في قوله تعالى:
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق:24]، والخطاب هنا لخازن النار، وتقول العرب للرجل: ويلك أرحلاها وازجراها. وقال الشاعر وهو
مضر بن ربعي الأسدي :
فقلت لصاحبي لا تحبسانا بنزع أصوله واجتز شيحا
(صاحبي) يعني: الشخص الذي يحتطب له، وهو شخص واحد، وكان عندهما اللحم يريدان شواءه.
(لا تحبسانا) يعني: لا تحبسنا ولا تعطلنا عن شي اللحم، وواضح جداً أن الخطاب لواحد، لكن استعمل خطاب الاثنين.
(اجتز شيحا) يعني: اكتف بقطع الشيح؛ لأن الشيح أسهل وأسرع حتى نأكل بسرعة، هذا معنى كلامه. والشاهد هنا في قوله: (لا تحبسانا)، يعني: لا تحبسنا عن شي اللحم.
وأنشد
أبو ثروان
فإن تزجراني يا
ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحمي عرضاً ممنعاً
وواضح جداً أنه يخاطب
ابن عفان وحده.
يقول
ابن الجوزي : فيروى أن ذلك منهم لأن الرجل أدنى أعوان إبله وغنمه اثنان.
يعني: أقل عدد من الأعوان عند العرب للذي يكون معه إبل وغنم يكون اثنان.
قال: وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى الكلام على صاحبيه، ألا ترى الشعر أكثر شيء قيل: يا صاحبيَّ.. يا خليليّ؟
فكثير جداً من الشعراء حتى في الجاهلية، دائماً يقولون: يا صاحبي.. يا خليليّ.
وقال
امرؤ القيس :
خليليّ مرا بي على
أم جندب نقض لبنات الفؤاد المعذب
يعني: حاجات الفؤاد المعذب، ثم قال:
ألم تر أني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيَّبِ
سنلاحظ أنه يخاطب في الظاهر اثنين، لكن اتضح بعد ذلك أنه يخاطب واحداً؛ لأنه في الأول قال: (خليليّ) كعادة العرب في خطاب الواحد بلفظ الاثنين؛ لأن الغالب أنه يكون معه اثنان، فيستعمل معهما صيغة المثنى، فإذا كان معه واحد استعمل أيضاً صيغة الاثنين؛ لأنهم تعودوا عليه. ولهذا قال هنا في البيت الثاني: (ألم تر) يعني: يا صاحبي، الذي عبر عنه قبل ذلك بالاثنين.
فهذا هو الجواب الأول، لو قلنا: إن ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) خطاب للإنسان وحده.
القول الثاني: وهو الأرجح -والله تعالى أعلم- أن الذكرى أريد به الإنس والجان، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا)) يعني: أيها الثقلان، فجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها.