-
تفسير قوله تعالى: (حم. والكتاب المبين؟ إنا أنزلناه في ليلة مباركة...)
-
تفسير قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم)
-
تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض ... بل هم في شك يلعبون)
-
تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم )
قال الله تعالى:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ *
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ *
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:10-12].
قوله: (فارتقب) أي: انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل، ولا يستعمل الارتقاب إلا في أمر مكروه.
يقول
القاسمي : وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه:
الوجه الأول في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب..)
قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، يعني السبع العجاف التي قاد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام الحركة الاقتصادية في مصر وأخرجهم من الأزمة، فدعا عليهم عليه الصلاة والسلام أن يعاقبوا بسنين جدب وقحط كسني يوسف عليه السلام، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام على قريش فأخذوا بالمجاعة.
ما علاقة ذلك الجدب بالدخان؟ قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان.
كأن هذا عرض نفسي، كما يعبر في الأمراض النفسية بالهلوسة البصرية، وهو خلل في إدراك الأشياء، فيرى شيئاً معيناً نتيجة خلل أو اضطراب، وبعض الأدوية قد تحصل بها تلك الهلوسة للإنسان إذا استيقظ من النوم.
روى
ابن جرير عن
مسروق قال: (
كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا
أبا عبد الرحمن ! إن قاصاً عند أبواب كندة يقص، ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بنفوس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام
عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله! فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؟ فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ))[ص:86] إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من قريش إدباراً عن دعوته ورفضاً، قال: اللهم سبعاً كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حطت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخاناً من الجوع، فأتاه
أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، قال الله عز وجل: (( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ )) * (( يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )) * (( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ )) * (( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ )) * (( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ )) * (( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ))[الدخان:10-15] قال: فكشف عنهم).
والحقيقة أن هذه الآية من الآيات التي اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها اختلافاً مشهوراً، ولذلك يهتم بها علماء التفسير اهتماماً خاصاً، فيفصلون الكلام فيها ويطيلون النفس، فهذا
ابن مسعود يجزم بأن آية الدخان قد مضت في هذه المناسبة التي ذكرنا، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن
ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
إذاً:
ابن مسعود كان يقطع بأن آية الدخان قد مضت، وهي الدخان الذي كان يراه أحدهم من شدة الجوع كأنه في السماء.
قال
ابن كثير : وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه الإمام
أحمد في مسنده، وهو عند
الترمذي و
النسائي في تفسيريهما.
ثم قال: وقد وافق
ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى جماعة من السلف كـ
مجاهد و
أبي العالية و
إبراهيم النخعي و
الضحاك و
عطية العوفي وهو اختيار شيخ المفسرين
ابن جرير رحمه الله.
قال الحافظ
ابن حجر في الفتح: والظاهر أن مجيء
أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول
ابن مسعود : (ثم عادوا) وفي الآية: (إنكم عائدون).
يعني: حينما يستجيب الله لدعاء نبيه فيكشف عنكم هذا العذاب سوف تعودون إلى الكفر من جديد، ولا توفون بما وعدتم به من الإيمان والطاعة.
يقول: ولم ينقل أن
أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر، وعلى هذا فيحتمل أن يكون
أبو طالب حاضراً ذلك، فلذلك قال
أبو طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت في المدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل جداً، والله المستعان.
وذكر
ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين:
أحدهما: أن في سنة القحط يعظم اليبس بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء، وذلك يشبه الدخان، ولذلك يقال لسنة المجاعة: الغبراء.
ثانيهما: أن العرب يسمون الشر الغالب الكثير بالدخان، فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان، يعني: حصل بسببه شر كثير أو شر غالب، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
وقال
الشهاب : الظاهر أن هذه التسمية استعارة؛ لأن الدخان مما يتأذى به، فأطلق على كل مؤذ يشبهه أو على ما يلزمه الدخان؛ ولـذا قـيل:
تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
لا بد أن تكون هناك صفات غير مرغوبة في الإنسان، كالعود لا يفوح منه الريح الطيب إلا مع خروج الدخان فيه.
يعني: أنه لا يوجد إنسان معصوم يسلم من الشر قط إلا الأنبياء.
إذاً: هذا ما يتعلق بالوجه الأول في تفسير الآية على ما قاله وانتصر له وجزم به
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو: أن الدخان آية حصلت ومضت وانقضت.
الوجه الثاني في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب..)
الوجه الثالث في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب..)
قال
القاسمي : وأما الوجه الثالث في الآية: فروى
ابن أبي حاتم بسنده عن
عبد الرحمن الأعرج في قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين) قال: كان يوم فتح مكة.
أي: أن هذا الدخان المبين كان يوم فتح مكة.
قال
ابن كثير : وهذا القول غريب جداً، بل منكر.
ومثل هذا القول لم يرو مرفوعاً ولا موقوفاً على
ابن عباس ترجمان القرآن أو غيره من الصحب، إلا أن عدم كونه مأثوراً لا ينافي احتمال لفظ الآية له وصدقها عليه، لاسيما وأن قوله تعالى في آخر السورة:
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59] يفهم منه أن هذا وعد بظهوره عليه الصلاة والسلام على هؤلاء الكفار، وكان ذلك بالفعل يوم الفتح، وحينئذ فمعنى قوله تعالى:
إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ [الدخان:15] أي: ما ينزل بهم يومئذ برفع القتل والأسر عنهم.
قوله: (إنكم عائدون) أي: إلى لقاء الله ومجازاته.
يقول
القاسمي رحمه الله تعالى: يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب عليهم الرضوان اهتماماً في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها، حتى كان
ابن مسعود مصراً على وجه، و
علي و
ابن عباس و
حذيفة على وجه آخر على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية، وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار، وسبب الاختلاف هو إيجاز الأسلوب الكريم وإيثاره من الألفاظ أرقها وأوجزها.
-
تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون )
-
تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون ... وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون)
-
تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء مجرمون ... إنهم جند مغرقون )
قال الله تعالى:
فَدَعَا رَبَّهُ [الدخان:22] أي: لما امتنعوا عن إجابة موسى عليه السلام دعا ربه (أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي: مشركون مفسدون.
قوله تعالى:
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا [الدخان:23] أي: فأجاب الله سبحانه دعاءه، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلاً.
( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) أي: أن فرعون وقومه من القبط متبعوكم إذا خرجتم عن بلدهم وأرضهم ليرجعوكم.
قوله تعالى:
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ [الدخان:24] قوله: (رهواً) أي: إذا قطعت البحر أنت وأصحابك فاتركه ساكناً على حاله التي كان عليها حين دخلته ولا تضربه بعصاك؛ ليدخله القبط فيغرقون.
-
تفسير قوله تعالى: (كم تركوا من جنات ونعيم ... وأورثناها قوماً آخرين)
-
تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض .. )
قال الله تعالى:
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29].
قال
الزمخشري : إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس، فيقول الشاعر:
فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة
يعني: حزناً على هذا الرجل الخطير المهم الذي مات.
وقال
جرير يرثي
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
أي: تبكي عليك نجوم الليل وكذلك القمر يبكي معها.
وقالت الخارجية
ليلى بنت طريف الشيباني ترثي أخاها
الوليد :
أيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على
ابن طريف
يقول: وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه.
و
القاسمي شرح ما ورد من الآثار عن بعض الصحابة أو السلف في تفسيرها على أنها تعبير لغوي عند العرب، يعبرون به عن شدة المصيبة التي نزلت بموت هذا الخطير، فيقول: وكذلك ما يروى عن
ابن عباس رضي الله عنهما من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء؛ فهو تمثيل.
ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ) فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم قتله، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض.
وعن
الحسن : فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
يعني: ما بكى عليهم أهل السماء وهم الملائكة وأهل الأرض وهم المؤمنون.
أما القول الذي صدر به
القاسمي تفسيره فعجيب، وهو -أي:
القاسمي - مع سلفيته القوية الواضحة يجنح أحياناً إلى القول بالمجاز كما في هذه الآية، ما الذي يمنع من أن يكون هناك بكاء حقيقي للسماوات والأرض من حيث النصوص؟
وقد دلت النصوص أن السماء والأرض تسبح:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].
إذاً: لا يوجد شيء يمنع أبداً من أن يخلق الله سبحانه وتعالى في الجمادات إدراكاً تدرك به بعض هذه الأشياء، والكلام في هذه المسألة مستوعب بتفصيل كبير في كتاب (عبودية الكائنات) للأخ الشيخ
فريد التوني ، ففيه نقد لكل هذه المناحي التأويلية أو المجازية في نظائر ذلك من آيات القرآن الكريم، فعلى الأقل يقال:
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ يعني: ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض، أما أن يقال: إن هذا مجرد مجاز أو تمثيل فهذا مبني على استبعاد أن يحصل هذا حقيقة، وقد ثبت أن الجذع قد حن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى لفراقه، حتى نزل من المنبر وضمه إليه حتى هدأ، فهذا جذع حن لفقد النبي عليه الصلاة والسلام، والآيات كثيرة في مثل هذه المعاني، وننصح الإخوة بمراجعة كتاب ((عبودية الكائنات)) فإنه استوفى البحث في هذه الآية ومظاهرها.
قوله: (وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) أي: مؤخرين بالعقوبة، بل عوجلوا بها زيادة سخط عليهم.
-
تفسير قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين)
-
تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)
قال الله تعالى:
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32].
قوله: (ولقد اخترناهم) أي: فضلنا بني إسرائيل على العالمين، وليس لبني إسرائيل في هذا الزمان أو المنسوبين إليهم أن يفرحوا بمثل هذه الآية، ويستدلوا بها في أروقة الأمم المتحدة على أن القرآن يمدحهم، وأن القرآن يثبت أحقيتهم بفلسطين، كلا، فإن هؤلاء الذين يمدحهم الله سبحانه وتعالى في القرآن هم المؤمنون من بني إسرائيل، وهم إخواننا وهم مسلمون مثلنا، فهؤلاء المؤمنون لو عاشوا في هذا الزمان لقاتلوا مع المسلمين هؤلاء اليهود.
فأي آية فيها تفضيل بني إسرائيل على العالمين فهي مقيدة وليست مطلقة، أي: فضلوا على عالمي زمانهم فقط، أما الأمة المفضلة على جميع العالمين فهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لقوله تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] فكنتم هنا بمعنى: أنتم.
قوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ) أي: بني إسرائيل.
قوله: (عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: فضلناهم لأجل علم معهم على عالم زمانهم، أو فضلناهم على علم منا بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا ويفضلوا، فهذا مدح لبني إسرائيل المؤمنين الذين آمنوا بموسى عليه السلام، وهؤلاء كانوا مسلمين موحدين، وهؤلاء لو أدركوا محمداً عليه السلام لآمنوا به وأسلموا ودخلوا في دينه.
قوله تعالى:
وَآتَيْنَاهُمْ [الدخان:33] يعني: زيادة على اختيارهم وتفضيلهم، آتيناهم زيادة على ذلك.
(مِنَ الآيَاتِ) أي: المعجزات والكرامات.
(مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) بلاء: نعمة ظاهرة؛ لأنها حجة واضحة على أعدائهم.
-
تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون . إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين )
قال الله تعالى:
إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ *
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ [الدخان:34-35].
(إن هؤلاء) مشركي مكة (لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) أي: الموتة التي يموتونها بعد وجودهم هنا في الدنيا.
قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) كأنهم أرادوا إن هي إلا موتتنا هذه التي سوف نموتها، لكن هل يفهم من هذا التعبير أن المشركين يثبتون موتة ثانية؟ لا، لكن المقصود (إن هي إلا موتتنا الأولى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه فقط.
قال العلامة
الأسنوي في التمهيد: الأول في اللغة: ابتداء الشيء.
إذاً: الشيء الذي يبدأ قد يكون له ثان وقد لا يكون، كما تقول -مثلاً- لشخص اشتغل في الصباح فقابلته فسألته: كم معك مدخول؟ قال: هذا أول ما اكتسبته، هل معنى ذلك أنه لا بد أن يكتسب بعد ذلك شيئاً؟ لا، قد يكتسب وقد لا يكتسب، فهذا يدل على الأولية فقط.
ومن فروع المسألة فرع فقهي يترتب على هذا الفهم، وهو لو أن رجلاً قال لامرأته: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإذا ولدت هذا الذكر أتطلق أم لا تطلق؟ تطلق.
لكن للأسف الشديد نحن علمنا الناس وحفظناهم في مسألة الطلاق أنه إذا سأل شخص عن مسألة طلاق أن يقال له: نيتك كانت ماذا؟ وأصبح الواحد يُسأل هذا السؤال وهو قد أتى بمصيبة كبرى ويقول: لم تكن نيتي طلاقاً! فنحن الذين علمنا الناس، وكذلك علمناهم مسألة الطلاق حال الغضب، وأن الغضب قد يكون عذراً، وما أكثر المفاسد المترتبة على هذا!
نحن نقول في طلاق الكناية: اسأله عن النية، لكن من أتى بلفظ صريح فإنه يقع به الطلاق، كأن يقول لها: أنت طالق، أو كان الطلاق معلقاً بشرط ووقع الشرط؛ فحينئذ يقع الطلاق، وموضوع النية يكون في طلاق الكناية، كالحقي بأهلك مثلاً، أو غير ذلك من العبارات التي تفتقر إلى استبيان النية من الشخص، ويجب أن يكون صادقاً في الإجابة؛ لأن الله سيحاسبه على ما في قلبه، فموضوع النية لا بد أن يوضع له حد، وكذلك الكلام في موضوع الغضب، وهذه لفتة عابرة، ونعود لموضوعنا؛ من فروع المسألة أنه لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإنها تطلق إذا ولدت هذا الولد وإن لم تلد غيره باتفاق العلماء؛ لأنه قال: أول ولد، ولا يقال: ننظر الثاني فقد يكون أنثى، لا؛ لأنه لا يشترط، وقد تلد مرة ثانية وقد لا تلد؛ لأن كلمة أول هي مجرد ابتداء الولادة بدون ارتباطها بكونها تلد ثانياً أو ثالثاً.
قال
أبو علي : اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولاً أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط ألا يتقدم عليه غيره.
قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه التي ستحصل لنا في الدنيا، والمشركون لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية.
قوله: (وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ) أي: وما نحن بمبعوثين، وهذا يؤيد أن المشركين لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية؛ لأنهم لو كانوا يعتقدون أن هناك موتة ثم حياة لما أنكروا البعث والنشور، فقوله: (وما نحن بمنشرين) يدل على أنهم يعتقدون أن هذه الموتة لا شيء بعدها:
وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24].
-
تفسير قوله تعالى: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ... إنهم كانوا مجرمين )
قال الله تعالى:
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الدخان:36] أي: إن كنتم صادقين في أننا نبعث بعد بلائنا من قبورنا (فأتوا بآبائنا) أي: أحضروا لنا آباءنا.
قال
ابن كثير : وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في دار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً.
ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم من المشركين فقال سبحانه:
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [الدخان:37].
قوله: (أهم خير) أي: في القوة والمنعة.
قوله: (أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) أي: أهلكناهم بجرمهم وفحشهم وفسادهم، وهم ما هم من حيث القوة والرخاء وكذا وكذا، فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟
وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ أهلكهم الله عز وجل، وفرقهم في البلاد شذر مذر، كما تقدم في سورة سبأ.
وقد ذكر تبع في القرآن مرتين هنا وفي سورة (ق)، وتبع من الصالحين الذين ورد ذكرهم في القرآن واختلف في إثبات نبوتهم، كـ
ذي القرنين وكالخضر .. ونحو ذلك، فالأفضل في أمر
ذي القرنين وتبع أن يتوقف الإنسان في إثبات النبوة لهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه
الحاكم و
البيهقي وصححه، وهو صحيح: (
ما أدري أتبع نبي أم لا؟ وما أدري أذو القرنين نبي أم لا؟)، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتوقف فنحن قطعاً لا بد أن نتوقف، وإن كان البعض من السلف خاضوا وناقشوا هذه القضية، لكن إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو مصدر العلم بالنسبة لنا لا يدري فنحن أحرى ألا ندري.
قال الحافظ
ابن كثير رحمه الله تعالى: كانوا عرباً من قحطان كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وقد كانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافراً -يعني: لا يوصف حاكم مصر بأنه فرعون إلا إذا كان كافراً- والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس، ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه بالليل -يعني: كانوا يقرونه ويبذلون له القرى الذي يقدم للضيف من الطعام والإكرام بالليل-؛ لأنهم كانوا يرون هذا واجباً عليهم؛ لأنهم عرب كرام -فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة؛ فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما- أخذ الحبرين اليهوديين- معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضاً وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر، ثم كر راجعاً إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام، فتهود معه عامة أهل اليمن.
وقد ذكر القصة بطولها الإمام
محمد بن إسحاق في كتابه ((السيرة)) وقد ترجمه الحافظ
ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر، وذكر
ابن عساكر أنه ملك دمشق، وساق ما روي في النهي عن لعنه.
قال
ابن كثير : وكأنه -والله أعلم- كان كافراً ثم أسلم، وتابع دين الكليم عليه السلام على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق، قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجرهميين، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه وأكرمه، ثم عاد إلى اليمن، وقد ساق قصته بطولها الحافظ
ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن
أبي بن كعب و
عبد الله بن سلام و
عبد الله بن عباس رضي الله عنهم و
كعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله، و
عبد الله بن سلام هو أثبت وأكبر وأعلم، وكذا روى قصته
وهب بن منبه و
محمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها.
وقد اختلط على الحافظ
ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن تبعاً هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ.
ثم قال: وتبع هذا هو تبع الأوسط واسمه
أسعد أبو كريب، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة.
وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم قال في ذلك شعراً واستودعه عند أهل المدينة، فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف، وكان ممن يحفظ هذا الشعر
أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وهو:
شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيراً له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه وفرجت عن صدره كل غم
ثم ساق
ابن كثير آثاراً في النهي عن سبه.
وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروية في شأنه، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح إلا أن ذلك مما يجوز التوسع فيه؛ لأنه عبارة عن خبر محض لا يتضمن حكماً شرعياً، لكن يؤكد حقيقة أخرى وهي أن تبعاً كان له خبر متواتر عند قريش يتناقلونه جيلاً بعد جيل، وكان خبراً عظيماً بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال مخاطباً قريشاً: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) يعني: قوم تبع الذين تعرفونهم وتسمرون بأخبارهم، وتتناقلون أخبارهم جيلاً بعد جيل، فيفهم من قوله: (أهم خير أم قوم تبع) أن المخاطبين وهم قريش يعرفون من هو تبع، بل يعرفون خبر تبع، وأنه أقوى منهم وأملك منهم في كل شيء، فإذا كان قوم تبع مع قوتهم وشدتهم لما كفروا أهلكهم الله، أفلا يهلك قريشاً إذا سارت على درب الكفر؟!
لا شك أن قريشاً كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر ما فيه أكبر موعظة لها، ولذا طوى نبأه إحالة على ما تعرفه من أمره، وما تسمر به في شأنه، وما القصد إلا العظة والاعتبار، لا جعل ذلك خبراً من الأخبار وسمراً من الأسمار كما هو السر في أمثال نبئه، وبالله التوفيق.
-
تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)
-
تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين)
-
تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)
-
تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين)
-
تفسير قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)
قال الله تعالى:
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ [الدخان:58] يعني: سهلناه حيث أنزلناه بلغتك.
قوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي: يتعظون بعبره وعظاته وحججه؛ فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق.
-
تفسير قوله تعالى: (فارتقب إنهم مرتقبون)