إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف [138-155]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر...)

    قال عز وجل: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]. قال الزمخشري فيما مضى من الآيات التي انتهت بقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137] قال: وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه باقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر، من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهراً وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي؛ ليعلم حال الإنسان، وأنه كما وصفه (( لظلوم كفار ))، جهول كنود إلا من عصمه الله وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة من الكيد والتآمر والغدر والخيانة. ثم شرع عز وجل في بيان سلوك بني إسرائيل مع نبيهم مع ما رأوه من قبل من آيات الله عز وجل العظام، وكيف أنهم سرعان ما بدلوا وغيروا! فبمجرد أن جاوز الله بهم البحر وقعوا في هذا الأمر العظيم. وقوله تعالى: (( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ )) يعني: نفس البحر الذي أغرق الله فيه أعداءهم، وهو بحر القلزم، وهو ما يسمى الآن بالبحر الأحمر، كما يقول القاسمي كان في شرقي مصر قرب جبل الطور، أضيف إليه لأنه على طرفه، ويعرف البلد الآن بالسويس، فالقلزم أصلاً هي اسم لمدينة السويس، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر فقد أخطأ، ولا شك أنه لا يصح أبداً تفسير البحر بأنه النيل، وإنما هو البحر الأحمر المعروف الآن بهذا الاسم. وقوله: (( فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ )) قرئ: (يعكُفون)، وقرئ (يعكِفون)، بضم الكاف وكسرها، أي: يواظبون على عبادتها ويلازمونها. وقوله: (( قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ))، أي: اجعل لنا صنماً نعكف عليه، كما لهم أصنام يعكفون عليها. وقوله: (( قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ )) أي: تجهلون شأن الألوهية وعظمتها، وأنه لا يستحقها إلا الله سبحانه وتعالى. قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه: اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله سبحانه وتعالى، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكل ذلك لشدة جهلهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون)

    ثم قال تعالى: إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:139]. قوله: (( إن هؤلاء )) يعني: أن عبدة تلك التماثيل (( متبر ما هم فيه )) أي: مهلك ما هم فيه من الشرك، (( وباطل ما كانوا يعملون )) أي: من عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى فإنه كفر محض. قال الرازي : أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي خلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب ألا تليق العبادة إلا به عز وجل. وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، والذي نفسي بيده! لتركبن سنن من كان قبلكم)، أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم. وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي رحمه الله: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البر والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها. يعني أن ذلك يعتبر أنموذجاً أو صورة من صور ذوات الأنواط التي ينبغي أن تقطع؛ قطعاً لذريعة الإشراك بالله عز وجل. وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتابه (البدع والحوادث): وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد. يعني: دهنها بالخلوق وبالطيب، كما يحصل الآن تماماً في بعض المقامات والأضرحة وغير ذلك؛ حيث يعطرون حجارتها بالعطور، ويعظمون هذه الأشياء، ويتمسحون بها، ومنها ما يزعمون أنها آثار كف النبي عليه الصلاة والسلام أو قدمه، كما في مسجد البدوي في طنطا، فإنه يوجد ركن معين يوجد فيه أثر قدم مطبوعة يزعمون أنها قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ولنفرض جدلاً أن هذا أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ماذا؟! هل يقتضي ذلك التعبد أو إرادة هذا الحجر من دون الله عز وجل والتمسح به وتخليقه وحث الناس على تعظيمه؟! وكذلك يقبلون المقصورات النحاسية أو الذهبية التي حول هذه القبور، وهذا كله ليس من دين الإسلام في شيء، بل هذا كله تشبه وإحياء لسنة بني إسرائيل مع هؤلاء القوم الذين قالوا لموسى: (( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة )). يقول: وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه. يعني: أنك تجد عامتهم يفعلون ذلك وأكثرهم ربما لا يصلون، ومتوقع أنهم لا يصلون؛ لأنه إذا كانت الصلاة ثاني أركان الإسلام فإن التوحيد أول أركان الإسلام، وهم لا يحسنون التوحيد، فإذا كانوا لم يصححوا عقيدتهم ولم يفهموا أصلاً معنى لا إله إلا الله، فهل أمثال هؤلاء يكونون مصلين؟! فكثيراً ما تجد هؤلاء لا يصلون، بل ربما يرتكبون أفحش الأشياء في هذه الموالد والاحتفالات، كتعاطي المخدرات، والاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء! وتجد النساء يجلسن يتعاطين الشيشة في الخيام التي ينصبونها، وكل هذه الأشياء لا مناسبة ولا ربط لها بالدين؛ فما علاقة كل هذا بالإسلام وبالتوحيد وبالمساجد والعبادات؟! وإنما هؤلاء من أهل الفسق والفجور، وليسوا من أهل الذكر، بل هم من أهل الغفلة، ومجالسهم ليست ذكراً لله، ولكنها غفلة عن الله سبحانه وتعالى، وغفلة عن حقوق التوحيد. يقول أبو شامة : فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر. ثم شرح الإمام أبو شامة شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث! وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة، ولهذا البحث تتمة مهمة في (إغاثة اللهفان) لـابن القيم فلتنظر. والآن أيضاً ظهرت أشياء جديدة من نفس هذا الباب، كاتخاذ التمائم للوقاية من السحر ومن الحسد وغير ذلك من الشرور، لكن بصورة مزركشة أكثر، فبدل الكف الذي كانوا يصنعونها من قبل أصبحوا الآن يستعملون هذه الخرزات ذات اللون اللبني أو الأزرق، وهذه الحجارة أصبحت مشهورة تعلق في كل مكان، فتعلق في السيارات وفي العيادات وفي المنازل، وكأنها نوع من الزينة، وكثير منهم يقصدون بها دفع الشر، وحتى لو كتبوا عليها المعوذتين أو كتبوا القرآن إذا اتخذت لأجل دفع السوء فهذا نوع من اتخاذ التمائم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من تعلق تميمة فقد أشرك، أو: فلا أتم الله له). وكذلك يعلقون آية الكرسي سواء في السلاسل على الصدور كالنساء مثلاً، أو غير ذلك مما يتخذ من أجل أن هذه القماشة التي كتب عليها ذلك هي التي ستحفظه، فإن أردت أن تعتصم بالله عز وجل فارق نفسك أو أولادك أو بيتك أو الشيء الذي تريد رقيته بالرقية الشرعية، فكثير من هؤلاء الناس أصلاً لا يصلون ولا يوحدون الله، فكيف يقال: إن هذه المعوذات سوف تحميهم؟! فإذا أردت أن تتعوذ بالله عز وجل فاقرأ أنت المعوذات، واقرأ القرآن، وعليك أن تدعو الله سبحانه وتعالى، وتتجه إلى الله عز وجل، لا إلى هذه الأحجار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين)

    قال تعالى: قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:140]. أي: قال موسى مذكراً قومه نعم الله تعالى عليهم الموجبة لتصديقه تعالى بالعبادة: (أغير الله أبغيكم إلهاً)، أي: أغير الله أطلب لكم معبوداً؟ يقال: أبغاه الشيء: طلبه له، كبغاه إياه، ويتعدى إلى مفعولين، كما في قوله هنا: (أبغيكم إلهاً)، وفي الحديث: (ابغني أحجاراً أستطيب بها). والاستفهام في الآية للإنكار والتعجيز والتوبيخ، فقوله: (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) يعني: والحال أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم، وكل آية فيها تفضيل بني إسرائيل على العالمين فهي مقيدة ليست على إطلاقها، وإنما المقصود: فضلهم على العالمين في زمانهم فقط، وليس على الإطلاق؛ لأن الأمة المفضلة على العالمين أجمعين على الإطلاق هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ...)

    قال تعالى: وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [الأعراف:141]. (( وإذ أنجيناكم من آل فرعون )) أي: من فرعون وقومه، (( يسومونكم سوء العذاب )) أي: بالعمل الذي يكلفونكم إياه، أو يولونكم إياه، يقال: سامه الأمر يسومه: كلفه إياه وجشمه وألزمه، أو أولاه إياه. وقوله: (( يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ )) أي: فنجاكم وحده دون شفاعة من أحد، وهذه الآية تدل على أن هلاك الأعداء نعمة من الله سبحانه وتعالى يجب مقابلتها بالشكر، وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس ويجري مجراه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ...)

    ثم قال تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]. روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر نزلوا في برية طور سيناء، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهراً ونصفاً، ولما نزلوا تلقاء الجبل صعد موسى إليه، وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه، ثم انحدر موسى عليه السلام إلى قومه، وأعلمهم بما أمروا به، وصاروا يشاهدون على الجبل ضباباً وصوت رعود وبروقاً، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه، فصعد موسى الجبل، وكان مغطىً بالغمام، فدخل موسى في وسط الغمام، وأقام في الجبل أربعين يوماً لم يأكل ولم يشرب لما أمد به من القوة الروحانية والتجليات القدسية، وأوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم، ولما رجع إلى قومه كان على وجهه أشعة نور مدهشة، حيث كان موسى عليه السلام إذا رجع من تكليم الله تعالى إياه كان يرجع وعلى وجهه نور مدهش، لا يقوى أحد أن ينظر إلى وجهه من شدة النور الذي على وجهه، يقول: ولما رجع إلى قومه كان على وجهه أشعة نور مدهشة، فخافوا من الدنو منه، فجعل على وجهه برقعاً، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة رفعه وإذا أتاهم وضعه. والله تعالى أعلم. (( وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ )) يعني حينما توجه للمناجاة: (( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي )) أي: كن خليفتي فيهم، (( وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ )) يعني: لا تتبع سبيل من سلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه. قال الجشمي : تدل الآيات على أنه استخلف هارون عند خروجه لما رأى أنهم أشد طاعة له وأكثر قبولاً منه، ومخاطبة موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:93] ، وقول هارون: لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي [طه:94] ، وقوله: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ [الأعراف:150] كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية وإن اشتركا في النبوة، يعني: أن هذا يدل على أن مرتبة موسى كانت أعلى من مرتبة هارون، كما هو واضح أن السياق كله هنا أنه استخلفه لما أراد أن يخرج إلى المناجاة، والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع؛ لأنه هو المعقول من الاستخلاف عند الغيبة. وتدل الآية على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أنه سيفعله؛ عظة له واعتباراً لغيره، وتأكيداً ومصلحة للجميع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ...)

    ثم قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]. قوله: (( ولما جاء موسى لميقاتنا )) أي: حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا، (( وكلمه ربه )) أي: خاطبه من غير واسطة ملك. (( قَالَ رَبِّ أرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي )) أي: لن تطيق رؤيتي؛ لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية لا طاقة لها بذلك؛ لعدم استعدادها له، بل ما هو أكبر جرماً وأشد خلقاً وصلابة وهو الجبل، لا يثبت لذلك، بل يندك. فالله سبحانه وتعالى أراد أن يعلم موسى عليه السلام ذلك، فأولاً قال له: (( لن تراني ))، ثم بين أن المقصود: لن تراني بهذه الهيئة التي أنت عليها، يعني: البنية الآدمية في هذه الحياة الدنيا، لأنها غير مؤهلة لرؤية الله عز وجل، ولا تطيق ذلك أبداً، فليس من شأن أهل الدنيا أن يروا الله تبارك وتعالى، وبين له في درس عملي أن الجبل الذي هو أقوى منك جرماً وحجماً وصلابة لا يثبت لرؤية الله سبحانه وتعالى ولتجليه عز وجل، فكيف يثبت الآدمي الضعيف؟! ولذلك قال له تعالى: (( لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ )) يعني: انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك. (( فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي )) يعني: إن ثبت مكانه حين أتجلى له ولم يتزلزل فسوف تراني، أي: سوف تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة لك، وفيه من التلطف بموسى والتكريم له والتنزل القدسي ما لا يخفى. وقوله تعالى: (( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ )) أي: ظهر له وبان، (( جَعَلَهُ دَكًّا ))، يعني: جعله التجلي دكاً، أي: مفتتاً، فلم يستقر مكانه، فنبه تعالى على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بألا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى عليه السلام، وتطمين لموسى عليه السلام أن الذي منعني من التجلي لك هو أنك لا تطيق ذلك بهذه البنية التي أنت عليها الآن في الدنيا، وليس المانع من التجلي أن الرؤية مستحيلة، فرؤية الله ليست مستحيلة، لكن الله عز وجل لا يقوى أحد على رؤيته في هذه الدنيا. (( وخر )) أي: سقط ووقع (( موسى )) عليه السلام (( صعقاً )) أي: مغشياً عليه من هول ما رأى من اندكاك الجبل وانفعاله لرؤية الله سبحانه وتعالى له لما تجلى له، (( فَلَمَّا أَفَاقَ )) موسى عليه السلام، (( قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ )) من الإقدام على سؤال الرؤية، (( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ )) أي: أنا أول المؤمنين بأنه لا يستقر ولا يثبت لرؤيتك أحد فيه هذه النشأة الدنيوية. قال الناصر في الانتصاف: إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم سبح الله أن سبق في علم الله عز وجل أن الله قضى أنه لا يراه أحد، ولا يقوى أحد أن يراه في الدنيا. وقوله: (( قال سبحانك )) يعني: لا مبدل لكلماتك ولا لعلمك بأنه لا يستطيع أحد أن يراك في الدنيا، وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب؛ لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهاً مبرءاً من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل، وقد ورد: (سيئات المقربين حسنات الأبرار)، يعني: لا شك أنه كان الأولى في حق موسى ألا يسأل، أو يستأذن؛ لكنه لم يفعل ذلك، فكان عدم الاستئذان كأنه ذنب، ولذلك قال: (( تبت إليك )) يعني: لا أعود إلى سؤال الرؤية مرة ثانية. وقوله: (( وأنا أول المؤمنين )) هل هو أول المؤمنين بالله؟ الجواب: لا؛ لأنه قد سبقه أنبياء آخرون كثيرون ومؤمنون من المسلمين، لكن المقصود: أنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد في هذه الحياة الدنيا بهذه النشأة.

    وجه إثبات رؤية الله من قوله: (رب أرني أنظر إليك)

    قال المتكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين: الوجه الأول: أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها؛ لأن العاقل فضلاً عن النبي لا يطلب المحال، ولا مجال إلى القول بجهل موسى عليه السلام بالاستحالة؛ فإن الجاهل بما لا يجوز على الله لا يصلح للنبوة، يعني: أن موسى عليه السلام كان يعلم أن رؤية الله ممكنة وليست مستحيلة، لكنه كان لا يعلم أن هذه الرؤية لا تكون في الدنيا إنما تكون في الآخرة. الوجه الثاني: أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه. أي وإذا علق الشيء على أمر ممكن فهذا يدل على أنه ممكن، وإذا علق على أمر مستحيل فهذا يدل على أنه مستحيل، وأقرب مثل لذلك هو: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، فعلق دخولهم الجنة على دخول الجمل في سم الخياط، سواء قلنا: إن المقصود هنا بالجمل: الحبل الضخم الذي يستعمل في السفن، أو الحيوان المعروف، فهو مستحيل، ومثله قولك: لن أفعل كذا حتى يبيض القار، مع أن القار لا يبيض! وكذلك: حتى يشيب الغراب، والغراب لا يشيب. أما إذا علق على أمر ممكن فيدل على أنه ممكن، فعندما يقول مثلاً: سوف آتيك إذا طلعت الشمس، فهذا معناه: أنه يمكن أن يأتيك. فالله سبحانه وتعالى علق الرؤية هنا على استقرار الجبل، واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه، والمعلق على الممكن ممكن؛ لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.

    الرد على الذين ينكرون رؤية الله عز وجل يوم القيامة

    وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، وأن معنى قوله: (( أرني أنظر إليك )) أي: اجعلني عالماً بك علماً ضرورياً. وبهذا وقع المعتزلة في إشكال؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطعنوا فيما ذكرناه آنفاً من أن النبي أعلم بالله من أن يسأله ما يستحيل عليه سبحانه وتعالى. فالآية واضحة: (( رب أرني أنظر إليك ))، لكنهم أولوا الآية كعادة أهل البدع والضلال حينما تصادم النصوص أهواءهم، فإذا كان حديثاً كذبوه، وإذا كانت آية أولوها وأفسدوا معانيها، وجعلوا أهواءهم هي الأصل، فلذلك قالوا في قوله: (رب أرني أنظر إليك): يعني: اجعلني عالماً بك علماً ضرورياً، وهذا التأويل خلاف ظاهر القرآن الكريم، فقوله: (رب أرني أنظر إليك) ظاهر، وانظر إلى كلمة: (أنظر إليك)، فهل هذه معناها: اجعلني أعلم بك علماً ضرورياً؟! الجواب: لا؛ لأن النظر الموصول بـ(إلى) نص في الرؤية البصرية، فلا يترك بالاحتمال، مع أن طلب العلم الضروري بمن يخاطبه ويناجيه غير معقول. وكذا يبطل زعمهم أن موسى عليه السلام كان سألها لقومه، يعني: يوجد مخرج آخر أراد المعتزلة أن يخرجوا به من هذه الورطة، فقالوا: موسى كان يعلم أن رؤية الله سبحانه وتعالى مستحيلة، لكنه سأل الله عز وجل أن يراه، وليس المقصود أن يراه هو، لكن لأن قومه قالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] فهو سأل رؤية الله استجابة لطلب قومه، وأراد بذلك أن يعلم قومه أن الرؤية مستحيلة، فزعمهم أن موسى عليه السلام كان سألها لقومه حيث قالوا: (( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة )) وهذا الزعم خلاف الظاهر، وهو تكلف يذهب رونق النظم، فترده ألفاظ الآية. وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] . وأما السنة فلا تحصى أحاديثها، ولكن إذا أصيب المرء بداء المكابرة في الحق الصراح عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة، وهذه آفة المعتزلة فإنهم يكذبون الأحاديث الواردة في الرؤية، ويؤولون الآيات التي تثبت الرؤية في الآخرة.

    الرد على الزمخشري المعتزلي في إنكاره لرؤية الله عز وجل يوم القيامة

    قال في (فتح البيان): رؤيته تعالى في الآخرة ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه أباه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب، والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق؛ غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع! فإنه صار بها باب الحق مرتجاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية: يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح انتهى. ويقول القاسمي : وهذا تعريض بالمعتزلة،, في مقدمتهم الزمخشري ، وقد انتقل -عفا الله عنه- أخيراً إلى هجاء أهل السنة، أي: أن الزمخشري من أئمة الاعتزال، ورغم اعترافنا بما للزمخشري من باع عظيم جداً في إظهار بلاغة القرآن وإعجاز القرآن الكريم اللغوي والبياني، لكن ما أكثر ما أطال لسانه في علماء أهل السنة! فقد هجاهم وتطاول عليهم تطاولاً قبيحاً، ومن ذلك أنه هجا أهل السنة والجماعة أهل الحق بقوله: لجماعة سموا هواهم سنة اعتبر أن كلمة (أهل السنة والجماعة) يعني: أهل الهوى. لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة يصفهم -والعياذ بالله- بأنهم حمر. قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة ويعني بالبلكفة قولهم: (بلا كيف) وهذا هو ما يسميه علماء اللغة النحت، فمثلاً: بدل أن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، تقول: البسملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله: الحوقلة، وحي على الصلاة أو حي على الفلاح: الحيعلة، فهذا يسمى نحتاً، فهو يقول هنا في ذم أهل السنة والتطاول عليهم: لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة يشببهم بالحمير التي عليها الإكاف الذي يوضع عليها. وقوله: (قد شبهوه بخلقه) يزعم أن أهل السنة شبهوا الله بخلقه، فهو يعني بزعمه أنهم لما أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة فكأنهم شبهوا الله بخلقه، والمعتزلة لهم ضلال مبين في فهم الأحاديث، والعوج هو في فهمهم هم وليس في النصوص؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتواتر -يعني: نقل بنفس الطريقة التي نقل بها القرآن-: (هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب أو القمر ليس دونه سحاب ...)، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سيرون الله سبحانه وتعالى كما يرون الشمس أو القمر ليس دونها سحاب، وهنا أركان التشبيه موجودة، لكن هل معنى هذا أن الحديث يشبه الله سبحانه وتعالى بالشمس أو بالقمر؟! الجواب: لا، بل التشبيه للرؤية بالرؤية، وليس للمرئي بالمرئي، ووجه شبهه شدة وضوح الرؤية فقط، وليس معنى ذلك أنك تشبه المرئي هنا بالمرئي هنا، معاذ الله! فهذا مستحيل. فلذلك أثبت أهل السنة الرؤية على أنها رؤية حقيقية، وتكون واضحة أشد الوضوح لا ريب فيها، لكن الله أعلم بكيفيتها، فأهل السنة قالوا: بلا كيف، وهذا شأن أهل السنة في سائر هذه الأشياء، والزمخشري يقول في أهل السنة: (قد شبهوه بخلقه)، أي: أن أهل السنة شبهوا الله بخلقه، (وتخوفوا شنع الورى)، أي: وخافوا أن يشنع الناس عليهم بالتجسيم وبالتشبيه، فوضعوا ستاراً يستترون وراءه، وهو البلكفة، يقصد كلمة (بلا كيف)، فيذم أهل السنة بأنهم يسترون عقائد التجسيم والتشبيه وراء عبارة (بلا كيف)، هذا هو معنى قوله: لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة قال في (الانتصاف): ولولا الاستنان بـحسان بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره والمنافح عنه وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية: سلاماً. ويعني بالعدلية: المعتزلة؛ لأنهم يسمون أنفسهم أهل العدل، أي: العدل في التوحيد، ويسمون أنفسهم بالناجين، أي: الذين هم أهل النجاة بضلالهم وانحرافهم. فيقول: كان الأصل أن نقول لهم: سلاماً؛ يريد أن يصفهم بالجهل، والله سبحانه وتعالى مدح المؤمنين بقوله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، فيقول: الأصل أن مثل هذا الشخص المتطاول الذي يسب أهل السنة هذا السب الشنيع كان ينبغي أن نقول: سلاماً؛ لأنه جاهل. ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم. أي: أن حسان كان ينافح عن رسول الله، والإمام الناصر يقول: ونحن نرد أيضاً بالشعر على هذا المعتدي الظالم، وننافح عن أصحاب سنة رسول الله الذين هم أهل السنة والجماعة، فنقول: وجماعة كفروا برؤية ربهم حقاً ووعد الله لنا لن يخلفه وتلقبوا عدلية قلنا أجل عدلوا بربهم فحسبهم سفه وتلقبوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه فانتصر لأهل السنة بهذا الشعر الجميل. وقوله: (وجماعة كفروا برؤية ربهم) يقصد به المعتزلة كـالزمخشري وأمثاله. وقوله: (ووعد الله لنا لن يخلفه)، يعني: أن الله وعد المؤمنين بالرؤية، والله لن يخلف وعده. وقوله: (وتلقبوا عدلية)، أي: أنهم لقبوا أنفسهم أنهم أهل العدل، قوله: (قلنا: أجل)، أي: أنتم عدلية، لكن لا نسبة إلى العدل، وإنما نسبة إلى العدول عن الله سبحانه وتعالى. وقوله: (وتلقبوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه) يعني: أنهم إن لم يكونوا بالفعل دخلوا لظى فهم على شفها جهنم. وقال أبو حيان في الرد على الزمخشري : شبهت جهلاً صدر أمة أحمد وذوي البصائر بالحمير الموكفه وجب الكفار عليك فانظر منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفه أترى الكليم أتى بجهل ما أتى وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه إن الوجوه إليه ناظرة بذا جاء الكتاب فقلتم هذا سفه نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفه وتلاحظون أنهم يردون عليه بنفس الوزن وبنفس القافية، فيقول له هنا: (شبهت جهلاً صدر أمة أحمد). أي: شبهت السلف الصالح وعلماء أهل السنة والجماعة بالحمير الموكفة. وقوله: (وجب الكفار عليك فانظر منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفة) أي: تأمل في آية الأعراف، وهي هذه الآية التي نحن بصددها، ثم بين فقال: (أترى الكليم أتى بجهل ما أتى). أي: هل الكليم عليه السلام كان يجهل ربه؟! وهل موسى ما كان يعرف ربه وهو نبي من أولي العزم من الرسل؟! فحينما قال: (( رب أرني أنظر إليك )) كان لا يعلم أن هذا مستحيل وأتى به، أو أنه أتى بذلك جهلاً؟! وقوله: (وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفة)، يعني: هل شيوخك المعتزلة هم أصحاب العلم، وموسى عليه السلام كان جاهلاً بربه؟! وقوله: (إن الوجوه إليك ناظرة بذا جاء الكتاب فقلتم هذا سفه) يشير إلى قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]. وقال العلامة الجاربردي أيضاً في الرد عليه قال: عجباً لقوم ظالمين تستروا بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفة قوله: (عجباً لقوم ظالمين تستروا بالعدل)، أي: أنهم يتسترون وراء العدل، وسموا أنفسهم بالعادلين، وهم في الحقيقة ظالمون. وفي الحقيقة القصائد كثيرة جداً على نفس هذا السياق من علماء أهل السنة، وكلهم يردون على الزمخشري عدوانه وتطاوله، وكتاب (الانتصاف لبيان ما في الكشاف من الاعتزال) للإمام ناصر الدين أخذ بثأر أهل السنة، وتتبع الزمخشري في كل موضع تطاول فيه على علماء أهل السنة والجماعة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس ...)

    ثم ذكر الله تعالى أنه خاطب موسى باصطفائه، فقال سبحانه وتعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144]. (( قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس )) أي: اخترتك على أهل زمانك، وليس أيضاً على إطلاقه؛ فإن الذي اصطفي على الناس أجمعين، هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وآثرتك عليهم (( برسالاتي وبكلامي ))، أي: وبتكليمي إياك. (( فخذ ما آتيتك ))، أي: خذ ما أعطيتك من شرف النبوة والمناجاة، (( وكن من الشاكرين )) أي: على النعمة في ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء ...)

    ثم قال تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145] . (( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ))، يعني: من الحلال والحرام. (( فخذها بقوة )) أي: بعزم على العمل بما فيها، يعني: خذ الألواح وخذ الشريعة بقوة، كما قال تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:63]، يعني: تمسكوا به، واعزموا على العمل بما فيه. (( وأمر قومك يأخذوا بأحسنها )) أي: يأخذوا بأحسنها الذي أمروا به دون ما نهوا عنه. (( سأريكم دار الفاسقين )) وهي الأرض التي وعدوا بها من فلسطين، فإنهم لم يعطوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر، وبقائهم في البرية، كما قال تعالى: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26]؛ فإن موسى عليه السلام لما مات خلفه يوشع بن نون، فحارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان، وفتح بلادهم، وصارت ملكاً لبني إسرائيل، والكنعانيون هم الفلسطينيون، فالعبرة في الانتماء في كل الأزمنة المختلفة في مثل هذه المواقع هي: من هم أهل الإيمان والتوحيد وأهل الإسلام، فمثلاً: في سورة البقرة قصة جالوت وطالوت ، وداود عليه السلام، قال عز وجل: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ [البقرة:251]، وجالوت كان من الفلسطينيين؛ لأنهم لم يكونوا على التوحيد، فكان الحق مع بني إسرائيل، وكذلك نحن في هذا الزمان؛ فلو بعث موسى عليه السلام فإنه سيكون مع المسلمين؛ لأنهم هم أهل العقيدة الصحيحة، ولو بعث سليمان عليه السلام فلن يسعى إلى إعادة بناء الهيكل؛ لأن بيت المقدس الآن هو مكان يعبد فيه الله سبحانه وتعالى، وسليمان إذا بعث سوف يكون تابعاً لشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويدخل في دين الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، أي: ما كان يجوز له أبداً إلا أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، بل عيسى عليه السلام حينما يأتي في آخر الزمان سيحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويصلي خلف المهدي إماماً أول ما ينزل. ولو بعث علي عليه السلام هل سيكون معنا أم مع الشيعة الذين يزعمون حبه والتشيع له؟ الجواب: قطعاً سيكون مع أهل السنة، فكذلك لو بعث موسى وعيسى وسليمان وجميع أنبياء بني إسرائيل سوف ينحازون إلى أهل التوحيد وأهل الإسلام، ويحاربون من يزعمون أنهم على ملتهم ظلماً وزوراً. ويدل قوله: (( وكتبنا )) على أنه أعطاه التوراة مكتوبة في الألواح عند الميقات، فموسى عليه السلام أعطي التوراة مرة واحدة مكتوبة في الألواح التي آتاها الله عز وجل لموسى؛ لتكون محروسة، وليبلغه الحاضرون إلى الباقين، وليقع لهم العلم ضرورة، وهذا يدل على أن في التوراة شرائع ما يحتاج إليه. ويدل قوله: (( بقوة )) على أن العبد قادر على الفعل، وأنه يفعل بقدرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ...)

    ثم قال عز وجل:سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146]. أي: سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمة الشريعة والأحكام عن قلوب المتكبرين عن طاعتي والمتكبرين على الناس؛ لأنهم كما استكبروا على خلق الله أذلهم الله بالجهل، فحرمهم من فهم آيات الله سبحانه وتعالى. وقوله: (( سأصرف )) يعني: سأمنع. (( عن آيتي )) أي: عن فهم وتدبر آياتي. (( الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ))، أي: ما داموا تكبروا بغير الحق في الأرض فسيعاقبهم الله سبحانه وتعالى بالجهل، وكفى بالجهل ذلاً! وهذا من باب مقابلة كبرهم. وهذا كقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، وكقوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]. (( بِغَيْرِ الْحَقِّ ))، أي: يتكبرون بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل، أو (بغير الحق) حال، يعني: يتكبرون غير محقين. وقوله: (( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ )) أي: حجة من الآيات والحجج المنزلة عليهم. (( لا يُؤْمِنُوا بِهَا )) يعني: تكبراً عليها. وقوله: (( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ )) أي: حين يرون طريق الحق والهدى والاستقامة واضحاً ظاهراً. (( لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ))؛ لأنه يتنافى ويتعارض مع أهوائهم. وقوله: (( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ )) أي: الضلال عن الحق والهلاك. (( يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا )) أي: طريقاً يميلون إليه، (( ذَلِكَ )) إشارة إلى الصرف عن الآيات، أو (ذلك) يعني: لاتخاذهم الغي سبيلاً، (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ))، أي: لاهين لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها، أو غافلين عما ينزل بهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم ....)

    ثم بين عز وجل وعيد المكذبين بقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:147]. (( والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة )) يعني: القيامة، وهي الكرة الثانية، وسميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، و(الآخرة) صفة لمحذوف، ولقاء الدار الآخرة. وقوله: (( حبطت أعمالهم )) أي: بطلت فلم تعقب نفعاً، والمراد: حبط جزاء أعمالهم؛ لأن الحابط إنما يصح في المنتظر دون ما تقضى، وهذا كقوله: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، يعني: يروا ثواب أعمالهم. (( هل يجزون إلا ما كانوا يعملون )) أي: إلا جزاء عملهم من الكفر والمعاصي. وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: (( سأصرف عن آياتي )) إلى آخره كلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متصل بما سبق من قصصهم، وهو أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ [الأعراف:100] إلى آخره، وإيراد قصة موسى وفرعون إنما هو للاعتبار، وإلا فالسياق أصلاً مع الكفار من قوم الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال الكعبي وأبو مسلم الأصبهاني : إن هذا الكلام كلام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه، ومعنى صرفهم: إهلاكهم، فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها، ولا عن منع المؤمنين من الإيمان بها، وهو شبيه بقوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ...)

    ثم قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148]. يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلاً جسداً لا روح فيه، وقد احتال بإدخال الريح فيه حتى صار يسمع له خوار، أي: صوت كصوت البقر، وقد أعلمه الله بذلك وهو على الطور؛ حيث قال إخباراً عن نفسه سبحانه وتعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه:85]. قال الزمخشري : فإن قلت: لِمَ قيل: (( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا )) والمتخذ هو السامري ؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم؛ لأن رجلاً منهم باشره، فوجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا، وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه؛ لأن الذي يقر على المنكر شريك فيه، كما نسب عقر الناقة إلى ثمود، مع أن الذي عقرها واحد منهم، بدليل قوله تعالى: إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:12]. الوجه الثاني: أن يراد أنهم اتخذوه إلهاً وعبدوه. ثم قال: فإن قلت: لم قال: (من حليهم)، ولم يقل: الحلي لهم، وإنما كانت عواري في أيديهم؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة، وكونها في أيديهم عواري كفى بها ملابسة، على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:59]. قال النسفي : وفيه دليل على أن من حلف ألا يدخل دار فلان فدخل داراً استعارها يحنث، وأن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها. والحلي جمع حلية، كثدي وثدي، وهو: اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة، كما قال الشاعر: وما الحلي إلا زينة من ناقص يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفراً كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا إشارة إلى أن المرأة فيها نقص ظاهري في هيئتها، فهي تحاول تكميل هذا بالزينة، ولذلك أباح الله لهن الحرير والذهب والزينة. وقوله تعالى: (( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ))، هذا تقريع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر والتفكر والتدبر، والمعنى: ألم يروا حين اتخذوه إلهاً أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر، فهو جماد لا ينفع ولا يضر، يعني: أن العجل أحط من البشر؛ لأنه لا عقل عنده، ولا ينفع ولا يضر، فكيف يصلح أن يكون إلهاً؟! وقوله: (( اتَّخَذُوهُ )) هذا تكرير لتأكيد الذم، أي: اتخذوه إلهاً وعبدوه. (( وَكَانُوا ظَالِمِينَ )) أي: واضعين الأشياء في غير مواضعها، والجملة إما استئنافية، وإما اعتراضية تذييلية للإخبار بأن ذلك دأبهم وعادتهم قبل ذلك، فلا ينكر هذا منهم، أو حالية، أي: اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم. قال الجشمي : تدل الآية على صحة الحجاج على الدين، وأنه تعالى دلهم في بطلان اتخاذ العجل إلهاً بأنه لا يتكلم ولا يهدي، وإنما ذكر الكلام لأن الخوار تنفذ فيه الحيلة، ولا تنفذ في الكلام، وتدل على أن إزالة الشبه في الدين واجب، كما أزالها الله تعالى، وتدل على أن القوم كانوا جهالاً غير عارفين بحقيقة الأشياء، لذلك عبدوا العجل، وتدل على أن تلك الحلي كانت ملكاً لبني إسرائيل، لذلك قال: (حليهم)، فإن ثبت أنهم استعاروه فيدل على زوال ملكهم وانتقال الملك إلى بني إسرائيل، كما تملك أموال أهل الحرث، وتدل على أن الاتخاذ فعلهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا...)

    ثم قال تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:149]. قوله: (( ولما سقط في أيديهم )) يعني: ندموا على عبادة العجل. (( ورأوا أنهم قد ضلوا )) يعني: علموا وأيقنوا أنهم قد ضلوا، عن الهدى وعن الحق. (( قالوا لئن لم يرحمنا ربنا )) يعني: بقبول توبتنا. (( ويغفر لنا )) أي: ما قدمنا من عبادة العجل، (( لنكونن من الخاسرين )) أي: بالعقوبة، يعني: لنكونن من الخاسرين الذين خسروا أعمالهم وأعمارهم، يقال للنادم على ما فرط منه: قد سقط في يده، أو أسقط في يده. قال الفراء : يقال: سقط في يده، وأسقط في يده من الندامة، و(سقط) أكثر وأجود. ويكفي في ذلك أن القرآن الكريم آثرها: (ولما سقط في أيديهم) وأنكر أبو عمرو (أسقط) بالألف، وجوزه الأخفش . قال الزمخشري : من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها، هذا أصل تعبير (سقط في يده)؛ لأنه يلزم من الندم الشديد أن يحصل العض على يده بفمه، فكأن فمه وقع وسقط في يده، فهذا العض مرتبط بالندامة، واستعير لأجل ذلك. وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى في العين. وقال الفارسي : (سقط في أيديهم) أي: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم. أي: أن الإنسان إذا ندم قد يضرب كفاً على كف، فمعنى سقط في أيديهم: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذاً من السقوط. وقال في (العباب): هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن -أي: هذا التعبير البليغ لم يستعمل قبل القرآن الكريم- ولا عرفته العرب، والأصل فيه: نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام: سقط؛ لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد، كقوله تعالى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا [الكهف:42]، فقوله: (يقلب كفيه) فيه تعبير عن الندم والحسرة، فتقليب الكفين يعكس ما في القلب، وأنت إذا رأيت إنساناً يفعل ذلك فإنه يعكس لك الشعور الذي في قلبه ونفسه؛ لأن اليد هي الجارحة العظمى، فربما يسند إليها ما لم تباشره، كقوله تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج:10]، ولا يشترط أن تكون المعصية ارتكبت باليد، يعني: الإنسان إذا أكل حراماً وعوقب عليه يقال له: ذلك بما قدمت يداك، وإذا استعمل أي جارحة أخرى غير اليدين في المعصية فإنه يقال كذلك، فتنسب إلى اليد؛ لأنها أعظم جارحة في البدن، وعلى هذا يكون سقط من السقاط وهو كثرة الخطأ، كما قال: كيف يرجون سقاطي بعدما لفع الرأس بياض وصلع وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ويضعه على يده معتمداً عليها، وتارة يضعها تحت ذقنه وشطر من وجهه، على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكانت اليد مسقوطاً فيها، لتمكن السقوط فيها، ويكون قوله: (سقط في أيديهم) يعني: سقط على أيديهم، كقوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، أي: عليها. و(سقط) عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس. وقرئ: (سَقط في أيديهم) بالبناء للمعلوم يعني: سقط الندم أو العض أو الخسران، وكله تمثيل، وقرئ: (أُسقط) رباعي مجهول، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج ، كما قدمنا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً ...)

    وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150] ثم بين تبارك وتعالى ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات، وكان قد أعلمه تبارك وتعالى بفتنة قومه فقال: ((وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا))، أي: شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل، وحزيناً على ما فاته من مناجاة ربه، فاشتد غضبه لما رأى قومه قد عبدوا العجل واتخذوه إلهاً، وأما كونه كان أسفاً حزيناً فلأن هذا الذي حصل هو الذي أدى إلى أن يسرع إليهم، فإنه أسرع إليهم لما علم ذلك، كما قال تعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه:85] * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه:86]، وكذلك قال هنا: (( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ))، أي: غضبان لما قاموا به من عبادة العجل، أسفاً لأنهم تسببوا في قطع مناجاته لربه، فبدل أن يستمتع بالمناجاة مع الله سبحانه وتعالى تسببوا في قطع هذه المناجاة؛ لأنه تعجل الرجوع إليهم، فحزن على ما فاته من مناجاة ربه. وقوله تعالى: (( قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ))، أي: بئسما عملتم خلفي أو قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي، والخطاب إما لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لوجود بني إسرائيل، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه، ويدل عليه قوله تعالى: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الأعراف:142]، فكأن موسى عليه السلام أدخل هارون في ضمن من خاطبهم بقوله: (( بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ))، فالتقدير الأول هو: أن الخطاب لعبدة العجل، يعني: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى. وقوله: (( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ )) أي: ميعاده الذي وعدنيه من الأربعين، فلم تصبروا إلى تمام الأربعين يوماً، وكانوا استبطئوا نزوله من الجبل، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه وينضمون إليه، ففعلوا ذلك، وجعلوا يغنون ويرقصون، ويأكلون ويشربون، ويلعبون حوله، ويقولون: هذا الإله الذي أخرجنا من مصر. والعياذ بالله! وقال أبو مسلم : (أعجلتم أمر ربكم) يعني: سبقتم أمر الله فعبدتم ما لم يأمركم به. وقوله: (( وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ )) يعني: من شدة غضبه عليهم طرح الألواح، وهذه الآية تدل على المثل المعروف: ليس المخبر كالمعاين؛ لأن موسى عليه السلام كان معه الألواح عند أن أبلغه الله سبحانه وتعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه:85-86] حتى الآن كان خبراً، لكن لما عاين كان رد الفعل عند المعاينة أشد، ولذلك غضب هذا الغضب، وألقى الألواح، مع أنها كانت معه من قبل ولم يلقها. وأيضاً نفس هذا المثل يستنبط من موضع آخر في القرآن، وذلك من قوله تبارك وتعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18]، فهذا لم يقع من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لم يطلع عليهم، لكن لو اطلع: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18] . وقوله: (( وألقى الألواح )) أي: طرحها من شدة الغضب وفرط الحزن بين يديه فتكسرت، وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية، وإنما ألقاها عليه السلام لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل، فتأمل نعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل؛ كم نعمة أنعم الله عليهم بها! فقد أنجاهم من فرعون، وشق لهم البحر، ثم قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة! ثم بعد ذلك هاهم الآن يعبدون العجل! فتخيل حال موسى حين يرجع فجأة ويرى قومه فرحين بعبادة العجل ملمين به عاكفين حوله! لذلك غضب وانفعل، واشتدت دهشته؛ حتى ألقى الألواح، فإنه عليه السلام لما نزل من الجبل ودنا من محلتهم ورأى العجل ورقصهم حوله استشاط غضباً، فألقاها غضباً لله وحمية لدينه، ولم يكن غضب موسى عليه السلام هو غضب الشخص العصبي الحاد المزاج، وإنما كان غضباً لله، وغيرة على توحيد الله، وحمية لدين الله، وكان هو في نفسه حديداً شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانباً، ولذلك كان محبباً إلى قومه. وقوله: (( وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ )) أي: وأخذ بشعره، يجره إليه، ويمكن أن يفهم أيضاً أنه أخذ بما في الرأس؛ إما برأس الشعر أو رأس اللحية أيضاً؛ لأنه قال في الآية الأخرى: قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، وهذا يدل على أن هارون كان ذا لحية عظيمة؛ بحيث إن موسى كان يمسكه منها، وأخذ برأس أخيه، ولذلك لما سئل بعض أهل العلم وقيل له: أريد دليلاً على وجوب إعفاء اللحية من القرآن الكريم، ففتح الله عليه بهذه الآية -وهو الشيخ محمد بن حبيب الله الشنقيطي رحمه الله- إذ قال: إن قوله تعالى: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] يدل على أن هارون كان له لحية، ثم إذا رجعنا إلى سورة الأنعام نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر جملة من الأنبياء، وبعدما ذكرهم أمر نبيهم أن يقتدي بهم، فقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. إذاً: رسولنا عليه الصلاة والسلام مأمور بالاقتداء بهؤلاء الأنبياء الذين من جملتهم هارون عليه السلام، وهارون كان ذا لحية عظيمة كما تدل الآية، ثم نحن مأمورون بالاقتداء برسولنا صلى الله عليه وسلم، وأمر القدوة أمر لأتباعه، كما قال تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1] فالخطاب للنبي، لكن المقصود: أتباعه وأمته. لكن يتوقف الأمر هنا على إثبات المشروعية، وهل يثبت الوجوب؟ ينبغي أن يثبت بدليل آخر أن إعفاء اللحية كان واجباً على هارون عليه السلام، وهذا له بحث آخر، لكن هذا من لطائف التفسير والاستنباط من القرآن الكريم. وقوله: (وأخذ برأس أخيه) أي: بشعره، (يجره إليه) ظناً أن يكون هارون قصر في نهيهم عن عبادة العجل، كما قال في الآية الأخرى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:92-94]، وقال هاهنا: (( ابن أم )) بالفتح، ويقرأ أيضاً بالكسر: (يا ابن أم)، وأصلها: يا بن أمي، خفف بحذف حرف النداء والياء، وذكر الأم كي يرقق قلبه، وليذكره أنه أخوه، فالأم بالذات تكون أشد حناناً وعطفاً. وقوله: (( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ))، فهنا هارون عليه السلام أجاب بهذا الجواب إزاحة لتوهم التقصير في حقه؛ ليبين له أنه لم يكن مقصراً في نهيهم، لكنهم استضعفوه، وكادوا أن يقتلوه، والمعنى: بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي، أي: لما نهاهم عن عبادة العجل، فهنا بين أنه لم يقصر، وأنه فعل كل ما عليه، وأنهم استضعفوه وقهروه حتى كادوا أن يقتلوه عليه السلام. وقوله: (( فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ ))، يعني: بالإساءة إلي، فأنت إذا أسأت إلي سوف تشمت بي الأعداء، والشماتة: سرور الأعداء بما يصيب المرء، ومن أشد الأشياء على النفس شماتة الأعداء، كما يقول الشاعر: كل المصائب قد تمر على الفتى وتهون غير شماتة الأعداء ويكفي أن نبياً من الأنبياء هنا يحذر شماتة الأعداء. (( وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )) أي: في عقوبتك لي، لا تجعلني في عدادهم، أو لا تجعل أحداً يعتقد منهم أني مقصر مع براءتي وعدم تقصيري. وتدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع، لذلك قال هارون: (استضعفوني)، وتدل الآية على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين، فالله سبحانه وتعالى يحب الغيرة والحمية والغضب لدينه ولحرماته عز وجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين)

    ثم قال تعالى: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]. أي: قال موسى عليه السلام متضرعاً إلى ربه استنزالاً لرحمته وتعوذاً بمغفرته من سخطه، ولا يخفى اقتضاء المقام ذلك: (( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )). لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء قال: (( رب اغفر لي ولأخي ))؛ ليرضي أخاه؛ لأنه تبين له أن هارون لم يقصر، فلذلك استغفر لأخيه هارون؛ وليظهر لأهل الشماتة رضاه عن أخيه هارون، فلا تتم لهم شماتتهم، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، فدعا أن يغفر له ما فعل مع أخيه من جذب رأسه وشدته عليه، وأن يعفو لأخيه؛ لأنه قد يكون فرط في حسن الخلافة. وطلب ألا يتفرقا عن رحمته فقال: (( وأدخلنا )) مجتمعين غير متفرقين، (( في رحمتك )) ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة، عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم ...)

    ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]. يعني: من افترى بدعة فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة على كتفيه، وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري)، فبقدر مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام يصيب الإنسان ذل وصغار، فكلما خالفت هديه وقع عليك من الذل ما يوافق حجم هذه المخالفة التي ارتكبتها، فمن خالف أمره بالكفر فيكون حظه من الذل أعظم، وهكذا. قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين. وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية: (وكذلك نجزي المفترين) فقال: هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة. وقوله: (( كذلك )) معناه أنها ليست خاصة بهم. وقوله: (( إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ))، بين تعالى أن هذه سنة مطردة من سنن الله: (( وكذلك نجزي المفترين ))، فإن كل من افترى على الله، وكل من ابتدع في دين الله عز وجل لابد أن يعاقب بهذه المذلة، ولذلك قال سفيان بن عيينة : ليس من صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، وتلا: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))، فقيل له: هذه في بني إسرائيل أصحاب العجل، فرد عليهم بقوله تعالى: (( وكذلك نجزي المفترين )). فقوله: (وكذلك) إشارة إلى تعميم هذه العاقبة لكل من افترى على الله الكذب وابتدع في دين الله سبحانه وتعالى، وهذا كما قال عز وجل: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ [الأنبياء:87-88]، ثم قال: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، ففي هذا إشارة إلى أن من فعل مثلما فعل موسى ودعا بدعاء يونس عليه السلام فإن الله ينجيه؛ لأنه سبحانه قال: (( وكذلك ننجي المؤمنين )).

    1.   

    تفسير قوله عز وجل: (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا ...)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:153]. ثم قال عز وجل: (( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا )) يعني: إلى الله (( آمَنُوا )) أي: أخلصوا الإيمان، (( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )) أي: محاء لذنوبهم، منعم عليهم بالجنة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح ...)

    ثم قال تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:154]. (( ولما سكت عن موسى الغضب )) يعني: لما سكن عن موسى الغضب (( أخذ الألواح )) التي كان ألقاها من شدة الغضب فتكسرت، (( وفي نسختها )) يعني: فيما نسخ منها أو كتب، والنسخة فعلة، بمعنى مفعول، كالخطبة بمعنى مخطوب. وقوله: (( وفي نسختها هدى ورحمة )) يعني: بالشرائع والوصايا الدينية الربانية المرشدة لما فيه الخير والصلاح، (( للذين هم لربهم يرهبون )) أي: يخشون، قال أبو السعود : في هذا النظم الكريم من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول منزلة الآمر بذلك المغري عليه بالتحكم والتشديد، والتعبير عن سكونه بالسكوت ما لا يخفى. يعني: أنه تعبير في قمة البلاغة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يبين شدة تمكن الغضب من موسى عليه السلام شبه الغضب بإنسان يحرض موسى على ما صدر منه من الفعل بإلقاء الألواح، ومن القول باشتداده على أخيه هارون عليه السلام، فكأن هناك رجلاً اسمه الغضب كان هو الذي يغريه لأن يفعل ذلك، فلما سكت وتوقف الغضب عن هذا الإغراء حينئذٍ أخذ موسى الألواح. وأصل هذا الكلام للزمخشري حيث قال: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك. يعني: أن كل إنسان عنده تذوق بلاغي يستطيع أن يتذوق عظمة القرآن وبلاغته يستعظم ويقدر هذا التعبير في القرآن الكريم: (( ولما سكت عن موسى الغضب ))، أي: لم يقع في قلبه التعظيم لهذه البلاغة العظيمة ولم يستفحصها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لأنه فهم من هذا أن الله سبحانه وتعالى بين مثل الغضب كأنه إنسان يغري موسى عليه السلام ويأمره، ويقول له: قل لقومك كذا، ألق الألواح، جر برأس أخيك إليك، فسكت الغضب بعد ذلك وحينئذٍ أخذ موسى الألواح وفي نسختها.. إلى آخره. وعد بعض أهل العربية الآية من المقلوب، أي: من نمط قلب الحقيقة إلى المجاز، وكأن الأصل: ولما سكت موسى عن الغضب، كما تقول: خرق الثوبُ المسمارَ، قال في (الانتصاف): والتحقيق أنه ليس منه. وقوله: (( ولما سكت عن موسى الغضبُ )) بالرفع؛ لما فيه من المعنى البليغ، وهو أن الغضب كان متمكناً من موسى، حتى كأنه كان يصرفه في أوامره، وقرئت: (سكن) و(سكت) و(أسكت) أي: أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه. واللام في (( للذين )) متعلق بمحذوف صفة لرحمة، أي: كائنة لهم، أو هي لام لأجل، أي: هدىً ورحمة لأجلهم. واللام في (( لربهم )) لتقوية عمل الفعل المؤخر، كما في قوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]؛ فلما أخر الفعل قوى كلمة الرؤيا باللام، وأصلها: إن كنتم تعبرون الرؤيا، فلما أخر الفعل أضاف اللام لتقوية عمل الفعل المؤخر، فقال: (( إن كنتم للرؤيا تعبرون ))، كذلك هنا قال عز وجل: (( وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ))، وأصلها: للذين هم يرهبون ربهم، فلما أخر الفعل قوى عمل الفعل المؤخر بإضافة اللام إلى قوله: (لربهم يرهبون)، أي: يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء ولا للسمعة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ...)

    ثم قال تعالى: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ [الأعراف:155]. روى محمد بن إسحاق : أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم، اختار من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخيّر فالخيّر، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، توبوا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقت له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه قالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فهم ذهبوا من أجل أن يتوبوا، ثم أيضاً يطلبون هذا الطلب: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، نريد أن نسمع كلام ربنا سبحانه وتعالى، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، يعني: شيء كالسحاب كان يغطي الجبل بمجرد دخول موسى إلى الجبل، ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا في سجود فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم، فقالوا لموسى: (( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة )) فأخذتهم الصاعقة، وهي الصاعقة التي يحصل منها الاضطراب الشديد، فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: (( رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي )) يعني: أتهلك من ورائي من بني إسرائيل، وفي رواية السدي : فقام موسى يبكي ويقول: يا رب! ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ وقال ابن إسحاق : اخترت منهم سبعين رجلاً الخيّر فالخيّر أرجع إليهم وليس معي رجل منهم واحد؟ ماذا أقول لبني إسرائيل؟ فما الذي يصدقونني أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، يعني: قبل أن يأتوا معي للقاء الله سبحانه وتعالى، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني بأني تسببت في موتهم. وقال الزجاج : المعنى: لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم. قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) بعد نقل كلام من ذكرنا: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود، والذي يظهر -والله تعالى أعلم بمراده ومراد نبيه- أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حين عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم، يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم، ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم مع ما فعلوه، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل -يعني: من عفوك ومغفرتك- وهذا كمن واخذه بسيده بجرم، فيقول: لو شئت واخذتني قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، فعلت من قبل ما هو أعظم من هذا الذنب ومع ذلك سامحتني، ولكن وسعني عفوك أولاً فليسعني اليوم. ثم قال نبي الله: (( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا )) هذا استفهام على معنى الجحد، يعني: أنت لست تفعل ذلك، والسفهاء هنا هم عبدة العجل. قال الفراء : ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) من عبادة العجل، وإنما كان إهلاكهم بقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]. وفي معظم الروايات أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة، أي: ثم أحيوا. وقال وهب بن منبه : لم تكن الرجفة موتاً، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة أخذتهم الرعدة فرجفوا، حتى كادت أن تبين مفاصلهم، فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء على الخير سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه، فكشف الله عنهم تلك الرجفة، فاطمئنوا وسمعوا كلام الله. والله تعالى أعلم. وقوله: (( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ )) يعني: ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك وامتحانك لعبادك، فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لا يمتحن به ويختبر إلا أنت، فنحن عائذون بك منك، ولاجئون منك إليك. وقوله: (وتهدي من تشاء) قال الواحدي : هذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر، يشير إلى قوله تعالى: (( إن هي إلا فتنتك تضل من تشاء وتهدي من تشاء )). وقوله: (( أَنْتَ وَلِيُّنَا )) أي: أنت متولي أمورنا القائم بها. ثم ختم بقوله: (( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ )).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768278670