قال تعالى:
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:47].
(وإذا صرفت أبصارهم) يعني: إذا صرفت أبصار أهل الأعراف أو أهل الجنة.
(تلقاء أصحاب النار) لأن نظرهم إلى أهل النار نظر عداوة، فلا ينظرون إلا أن تصرف وجوههم إليهم، فأما أهل الجنة فوجوههم متوجهة إليهم سروراً بهم، فلا يحتاجون إلى تكلف؛ لأن الأصل أنهم مقبلون على أهل الجنة ومقبلون على النظر إلى الجنة- فهذا هو الوضع الأصلي لهم، لكن إذا نظروا إلى أهل النار فإنهم يحتاجون إلى أن تصرف وجوههم إلى أهل النار، ففيها نوع من التكلف، لأن هذا نظر عداوة.
وقيل: لأنهم مع أهل الجنة بعداء من أهل النار، فيحتاجون إلى صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار.
وهذه الآية تدل على وجوب اجتناب الظلمة في الدنيا كي لا يكون المرء معهم في الآخرة، وذلك لقوله: ((وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) ففيها إرشاد إلى تجنب كلّ ما يجعل الإنسان محشوراً أو مرتبطاً أو متواجداً مع القوم الظالمين.
قوله عز وجل: (تلقاء أصحاب النار) يعني: إلى جهة أصحاب النار، (قالوا) من شدة خوفهم تعوذاً بالله: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) في النار.
وقال
أبو السعود: في وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء، إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط، بل ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم.
أي: لم يقولوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم المعذبين) إشارة إلى السبب الذي أداهم إلى سوء العذاب.
قال تعالى:
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف:48].
(ونادى أصحاب الأعراف رجالاً) يعني: من عظماء أهل الضلالة (يعرفونهم بسيماهم) بعلاماتهم التي تدل على أعيانهم وعلى أشخاصهم، حتى وإن تغيرت صورهم.
(قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أي: كثرتكم، والمقصود بها إما الجمع العددي، وهي الكثرة الكاثرة، أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات، فالإنسان إذا كان معه مال يدفع الآفات عن نفسه بالعلاج وبغيرها من الأسباب.
(وما كنتم تستكبرون) عن الحق أو على الخلق، والمعنى: ولم ينفعكم استكباركم على الحق أو على خلق الله عز وجل، وقرئ: (وما كنتم تستكثرون) من الكثرة، يعني تستكثرون من الأتباع الذين يستعان بهم أيضاً في دفع الملمات. قال
ابن القيم رحمه الله تعالى: ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم، وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ، أي: ماذا نفعكم جمعكم؟
ثم نظروا إلى الجنة فرأوا فيها من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم ويحتقرونهم ويزدرونهم في الدنيا لفقرهم وضعفهم، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)).
أي: أهؤلاء الضعفاء من المؤمنين الذين أقسمتم وأنتم في الدنيا لا ينالهم الله برحمة، وهذا لأنكم قلتم: كما قد أعطانا الله المال والبنين في هذه الدنيا، فلابد أنه سيفضلنا في الآخرة؛ لأنه ما أعطانا ذلك إلا لكرامتنا عليه عز وجل،
وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36] ،
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50]، هكذا كان الكافر يمني نفسه ويغرها
فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر:15-17] يعني: ليس الأمر كما تزعمون، فإن الدنيا يعطيها الله سبحانه وتعالى من يحب ومن لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه إلا من أحب.
ويكفي من هوان الدنيا على الله سبحانه وتعالى أنه ترك أحب الخلق إليه وأفضلهم وأكرمهم عليه وهم الأنبياء والرسل يبتلون فيها ويؤذون ويقتلون ويجرحون ويضطهدون من قومهم، فدل على أن الدنيا ليست دار جزاء، لكن العبرة بالآخرة؛ فلذلك يقول أصحاب الأعراف: (( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ )) أي: بأن لا يرفع درجاتهم في الآخرة، فهاهم في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفي رياضها يحبرون.
(( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ )) (لا خوف عليكم) أي: من العذاب الذي ينزل بالكفار، (ولا أنتم تحزنون) كحزن الكفار على فوات النعيم، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف بعضهم لبعض بعدما يبكتون أهل النار ويوبخونهم:
مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ *
أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ [الأعراف:47-48].
والاحتمال الثاني: هو أنه من كلام أهل الأعراف للمؤمنين الضعفاء، حيث إنهم قالوا للكفار: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ثم يلتفت أصحاب الأعراف إلى المؤمنين فيقولون لهم: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
والاحتمال الثالث: أنه من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال، أي: كأنه قيل لهم: انظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة، كيف نالوا هذه الرحمة؛ حيث قيل لهم من قبل الله تعالى: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
وعلى كل فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازاً للعلم به، والعلم به من السياق: فإما أن أصحاب الأعراف يتآمرون بينهم، ويدعون بعضهم بعضاً لدخول الجنة.
أو إما أن أهل الأعراف يقولون ذلك للمؤمنين.
وإما أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقول ذلك للمؤمنين.
قال تعالى:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف:53]:
(هل ينظرون إلا تأويله) يعني: ما ينتظرون إلا ما يئول إليه أمر هذا الكتاب الذي جئناهم به من تبين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد، ومعنى التأويل هنا: عاقبة الأمر، وما يئول إليه هذا الأمر، وذلك حين يتبين صدقه بأن يظهر ما نطق به القرآن من الوعد والوعيد، لهؤلاء الذين يسمعون القرآن في الدنيا.
والمعنى: ما الذي يمنعهم من الإيمان بالقرآن الكريم؟ هل ينتظرون إلا وقوع أخبار هذا القرآن من الوعد والوعيد يوم تقوم الساعة وتأتي القيامة؟
فالنظر هنا بمعنى الانتظار، وليس من الرؤية.
والتأويل بمعنى: العاقبة وما يقع في الخارج، وهذا هو أصل معنى كلمة التأويل، ويطلق على التفسير أيضاً، كما كان يقول الإمام
الطبري رحمه الله تعالى: القول في تأويل قوله تعالى: كذا وكذا، وذكر
القاسمي في تفسيره أن التأويل هو: التفسير، لكن أصل معنى التأويل هو العاقبة وما يئول إليه الشيء.
والمعنى: أنهم قبل وقوع ما هو محقق كانوا منتظرين له؛ لأن كل آت قريب، فهم على وشك ملاقاة ما وعدوا به، فلا يقال: كيف ينتظرونه مع جحدهم، فإنهم وإن جحدوه إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم، من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة، فسواء آمنوا أم جحدوا، فإنهم في الحقيقة ينتظرون هذا الأمر القريب منهم جداً.
(يوم يأتي تأويله) يعني: يوم القيامة لأنه يوم الجزاء، فهو اليوم الذي تئول إليه أمورهم، وعاقبة ما فعلوه في الدنيا، (يقول الذين نسوه من قبل) يقول الذين تركوه ترك المنسي حين كان ينفعهم الذكر، فتركهم كان كترك الشخص الناسي للشيء تماماً؛ لأنهم بالغوا في عدم الاستعداد للآخرة، وعدم الانتفاع بالذكر الذي أنزل عليهم وكأنهم نسوه، وكأنهم ما كانوا على ذكر منه على الإطلاق، فهم تركوه في الوقت الذي كان ينفعهم الإيمان به وينفعهم فيه التذكر، وينفعهم فيه اليقين، وهو دار الابتلاء، فلم يؤمنوا به إلا عند معاينة العذاب.
(( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ))، فمعنى ذلك: أنهم لم يؤمنوا به إلا عند معاينة العذاب، فالكفار يؤمنون إيماناً صادقاً عند معاينة العذاب، ومثل هذا الإيمان لا ينفع ولا يجدي، فحينئذ يقولون كما أخبر الله عنهم: (( قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ))، وهذا كما قال تعالى:
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] أي نحن مصدقون الآن، لكن هذا لا ينفع في دار ظهور النتيجة، إنما العبرة بذلك في دار الابتلاء ودار الامتحان وهي الدنيا.
(قد جاءت رسل ربنا بالحق) أي: أننا الآن نشهد بذلك، فهم لما عاينوا العذاب، ولما رأوا أهوال يوم القيامة قالوا: (( قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ))، يعني: بما هو واقع من الاعتقادات والوعد والوعيد، فهم أنفسهم سيعترفون ويقولون: إن الرسل قد أتوا وأخبرونا بالحق، وهذا الذي نراه مطابق تماماً لما قالوه ونحن مؤمنون بهم ومصدقون (( فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا )) يعني: في إزالة العذاب (( أَوْ نُرَدُّ )) إلى الدنيا من جديد، (( فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ))، من الجحود واللهو واللعب وأعمال الدنيا، قال عز وجل: (( قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ )) يعني: أنهم صرفوا أعمالهم في الكفر، (( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ )) أي: ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله سبحانه وتعالى، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.
فانظر إلى رحمه الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث أقام عليهم الحجة من كل جانب، وتفاصيل الحوار والمناظرة والشبهات وما يقولونه يوم القيامة كله موجود الآن في القرآن الكريم، وهذه الأشياء ذكرها الله سبحانه وتعالى رحمة وتلطفاً بعباده؛ لأنها ستقع.
لو فرض أن الإنسان اعوج عن صراط الله المستقيم، وأصر على ذلك إلى أن مات والعياذ بالله، ثم جاء يوم القيامة وبعث ونشر فإنه سيقول:
رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]،
فهو يطلب العودة إلى الدنيا ليستدرك ما فات، فليفترض أنه قد وقع ذلك، وأنه الآن قد رجع إلى الدنيا ليستدرك ما فات، فعليه أن يعمل الصالحات ولا يفرط في أوامر الله، ولا يفرط الإنسان حتى يموت، فيكون ممن قال الله تعالى فيهم:
وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28].
وهذا أمر واقع نشاهده في أحوال الناس، فالذي تنزل به الملمة والمصيبة يستيقظ رصيد الفطرة في قلبه، ويضل عنه كلَّ ما كان يدعو من دون الله، ويفرد الله سبحانه وتعالى بالتوحيد وبالدعاء وبالإخلاص، ويعاهد الله سبحانه وتعالى أن سيتوب إذا فرجت عنه هذه الكربة، وبعدما تفرج يعود إلى ما كان عليه من قبل، وينسى ذلك العهد الذي عاهد الله سبحانه وتعالى!! (( قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ )).
كلام الشنقيطي على مساءلة الكفار وندمهم