قوله تعالى:
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2].
حقوق اليتامى في الإسلام
(وآتوا اليتامى أموالهم) هنا شرع في تفصيل موارد التقوى ومظانها بعد الأمر بها، وقد قدم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم، ولملابستهم بالأرحام، إذ الخطاب للأولياء والأوصياء، وقلما تفوّض الوصايا إلى الأجانب، بل الغالب أن الأولياء الذين يلون شئون اليتامى بعد موت آبائهم إنما يكونون من الأقارب كعمه أو جده.
واليتامى لو طبقت تعاليم الإسلام في حقهم، لكانوا أعظم أو أرقى أو أغنى أو أرفه طبقة في المجتمع، فالإنسان له أب واحد، أما اليتيم فمقتضى الشرع أن المسلمين جميعاً مسئولون عنه ويحسنون إليه، ويلون أمره، فكأن كل المسلمين حوله بدلاً عن أبيه، ومع ذلك نرى ما نراه في واقعنا الآن للأسف الشديد.
إن الله سبحانه وتعالى كما تلاحظون هنا قرن الكلام في حقوق اليتامى بحقوق النساء، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (
إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة) يعني: أنتم في حرج إن ضيعتم حق هذين الضعيفين.
فالخطاب هنا للأولياء.
تعريف اليتم لغة وشرعاً
اليتيم هو من مات أبوه، وهو من اليتم، ويعني: الانفراد؛ ولذلك يقولون (الدرة اليتيمة) أي: التي لا نظير لها، أو التي لا أخت لها.
فاليتم لغة: الانفراد.
أما من حيث الشرع فاليتيم هو: الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم، أما بعد الاحتلام فلا يعد يتيماً بعد احتلام، لكن هذا هو أصل الوضع اللغوي.
والقياس الاشتقاقي يقتضي وقوعه على الصغار والكبار، وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم، كما روى
أبو داود بإسناد حسن عن
علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
لا يتم بعد احتلام).
الأوجه المستنبطة من قوله: (وآتوا اليتامى أموالهم)
هذه الآية: (( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ )) فيها وجوه:
الوجه الأول: أن المراد باليتامى: الكبار الذين ألفي منهم رشداً، هذه إحدى الصور التي يطلق عليها المجاز الذي هو باعتبار ما كان من قبل.
إذا قلنا: إن اليتيم بالمعنى الشرعي هو: الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم؛ إذا بلغ الحلم يزول عنه وصف اليتم، فبناءً على هذا المذهب، فإن المقصود باليتامى هم الكبار؛ لأن الأموال تؤتى لليتامى إذا كبروا وبلغوا سن الرشد، ويكون البلوغ والرشد معاً.
عبر هنا باليتامى باعتبار الصفة التي كانت من قبل، مع أنهم الآن ليسوا يتامى، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [الشعراء:46].
والمقصود: الذين كانوا سحرة منذُ وقت قريب؛ لأنه لا سحر مع السجود لله، فهم قد تابوا من السحر
وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ [طه:73] هذا باعتبار ما كان.
فالإشارة هنا بقوله: (وآتوا اليتامى) إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم متى بلغوا وآنستم منهم رشداً.
إذاً: الله سبحانه عبر عنهم بوصف اليتامى مع أنه قد زال عنهم هذا الوصف، فآثر هذا التعبير باعتبار أن العهد باليتم كان قريباً جداً.
الوجه الثاني: (( وَآتُوا الْيَتَامَى )) أن المراد بهم: الكبار حقيقة، فتكون واردة على أصل اللغة، بمعنى أن اليتيم في اللغة: من مات أبوه وانفرد عنه، بغض النظر صغيراً كان أم كبيراً، وهذا الوجه مبني على أصل اللغة.
الوجه الثالث: (( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ )) المقصود بهم: اليتامى الصغار، والمراد بالإيتاء هو ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة زمن الوصاية عليهم، وليس المقصود دفع المال كله إليهم، وهذا الوجه في التفسير بعيد.
الوجه الرابع: (وآتوا اليتامى أموالهم) المقصود بهم اليتامى الصغار، والمعنى أن ينفقوا عليهم وألا يطمع في الأموال الأولياء والأوصياء، وأن يكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى إذا ما بلغوا ورشدوا تؤتى إليهم أموالهم كاملة غير منقوصة، هذا هو الوجه الرابع.
صور إتلاف مال اليتيم وأكلها وحكمها
قوله تعالى: (( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ )) أي: لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم، وما أبيح لكم من المكاسب التي أحلها الله من الأبواب الطبية.
عندكم فرص كثيرة استثمروا أموالكم أو ازرعوا أو اصنعوا أو اتجروا، ولا تضيقوا على أنفسكم بأن تعتدوا على أموال اليتامى التي هي خبيثة في حقكم وحرام عليكم وأنتم قادرون على الطيبة.
((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ))، نهي عن منكر آخر كانوا يتعاطونه، وهو أنهم كانوا يأكلونها مضمومة إلى أموالهم مخلوطة بها للتوسعة.
في الصورة السابقة يعمد المرء إلى مال اليتيم ويستولي عليه ويأكله ظلماً.
(( إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ))، (إنه) الهاء هنا تعود إلى أكل أموال اليتامى.
(( كَانَ حُوبًا )) أي: ذنباً عظيماً (( كَبِيرًا )) مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور.
قوله تعالى هنا:
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا قال بعض العلماء: إن هذا العموم مخصوص بالوصي الفقير، فإذا كان الوصي يعمل في مال اليتيم فله أن يأخذ أجرة المثل، أو كان العامل فيه أجنبياً فله أن يعطيه من مال اليتيم أجرة المثل، وليس هذا من أكل مال اليتامى ظلماً؛ لأن الله تعالى قال:
وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6].
يقول
السيوطي : عندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية؛ لأن الآية هنا في الغني، وذلك قوله تعالى: (( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ )) أي: أنهم ذوو أموال.
يقول
السيوطي : (( وَآتُوا الْيَتَامَى )) أي: الصغار أموالهم إذا بلغوا.
(( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ )) أي: الحرام (( بِالطَّيِّبِ )) أي: الحلال، لا تأخذوه بدله، كما تفعلون من أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه.
(( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ )) أي: مضمومة إلى أموالكم.
(إنه): أي: أصلها.
(كان حوباً) أي: ذنباً.
(كَبِيرًا) أي: عظيماً.
يقول تعالى:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا [النساء:3] (خفتم) بمعنى علمتم.
وقال بعض العلماء: الخوف هنا معناه: الخشية.
وإليك شاهد لغوي للمعنى الأول الذي هو بمعنى العلم، يقول
أبو محجن الثقفي :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة يروي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
فقوله: (أخاف) أي: أعلم.
وهذا الشاهد اللغوي موجود في أضواء البيان.
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3] المقصود باليتامى هنا: يتامى النساء.
قال
الزمخشري ويقال للإناث: اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل: (أيامى) والأصل (أيائم) ويتائم.
فحصل قلب فصارت يتامى.
فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] أي: من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن والعقل والصلاح منهن.
(( مَا طَابَ لَكُمْ ))، عبر هنا بـ(ما) التي هي لغير العاقل؛ لأنه يجوز التعبير بـ(ما) عن العاقل إذا أريد بها الصفة، تقول: ما زيد؟ يعني: هل هو رجل فاضل؟ هل هو رجل كريم أم بخيل؟
فإذا كان الكلام لبيان الصفة، فيجوز استعمال (ما) للعاقل كما في قوله: (فانكحوا ما طاب لكم) المقصود هنا أن (ما) صفة.
هذه الآية دليل على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، إذ كانت هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى تطيب له إذا رآها.
كذلك يستفاد هذا المعنى من آية أخرى في القرآن الكريم وهي قوله تعالى:
لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب:52]، وهذا لا يكون إلا بعد النظر.
وهناك إشارة ضمنية في قوله تعالى:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] (من) هنا تبعيضية؛ لأن هناك بعض الحالات يجوز فيها إطلاق البصر كحالة إرادة الزواج.
فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] أي: إن خفتم يا أولياء اليتامى ألا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن بإساءة العشرة أو بنقص الصداق، فانكحوا غيرهن من الغريبات، فإنهن كثيرات، ولم يضيق الله عليكم.
هذه الآية جاءت للتحذير من التورط في الجور عليهن، والأمر هنا في قوله: (( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ )) سوى اليتامى.
(( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ )) أي: اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، ففي غير يتامى النساء متسع إلى الأربع.
روى
البخاري عن
هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة رضي الله عنها: (
أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق -يعني: نخلة- وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3]، أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله).
وفي رواية عن
عائشة رضي الله عنها: (
هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثلما يعطيها غيره، فنهو عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن).
قال
عروة : قالت
عائشة : (
وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال قالت عائشة : فنهو أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كنّ قليلات المال والجمال).
روى
أبو داود رحمه الله تعالى عن
ربيعة في قوله تعالى: (( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا ))، قال: أي اتركوهن إن خفتم ألا تقسطوا فقد أحللت لكم أربعاً.
قوله تعالى: ( ما طاب لكم) (ما) موصولة، وجاء بـ (ما) مكان (من)؛ لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر، يعني: أحياناً قد يعبر عن العاقل بـ(ما) كما يعبر عنه بـ(من) كما في قوله تعالى:
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]، والمعنى: (ومن بناها) وقوله تعالى:
وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3]، وقال تعالى:
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] هنا التعبير عن غير العاقل، لكن عبر عنه بـ(من) لأنهما يتعاقبان.
قال بعضهم: وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصات العقول.
إن في إيثار الأمر بنكاح غير اليتامى من النساء عن نكاح اليتامى مزيد لطف في استنزالهم لذلك؛ لأن الآية لو قالت: (لا تنكحوا اليتامى) كان فيها نهي، فالنفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه.
ولذلك فهذه الآية قد حفت بالمرغبات لهن في غير اليتامى، حيث وصف النساء عدا اليتامى بقوله: (ما طاب) وهذا كما قلنا: فيه نوع من الحث والترغيب والاستمالة بعيداً عن اليتامى؛ حتى لا تظلمونهن.
اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، بمعنى أنه يجوز لمن لم يخف عدم القسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.
حكم الزواج بأكثر من أربع
نذكر باختصار كلام
الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار) يقول
الشوكاني : إن الاستدلال بقوله: (( مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ))، على تحريم الزيادة على الرابعة في النساء هذا غير صحيح من حيث اللغة، لكن الاستدلال على ذلك بحديث
قيس بن الحارث وحديث
غيلان الثقفي وحديث
نوفل بن معاوية ، هو الذي ينبغي الاعتماد عليه وإن كان في كل واحد من هذه الأحاديث التي وردت في شأن بعض الصحابة الذين كان تحتهم أكثر من أربع نسوة مقال.
لكن أصح ما ينبغي الاعتماد عليه، في هذا الباب هو انعقاد الإجماع على تحريم نكاح ما فوق الأربع من النساء.
فقد يقول بعض الناس: كيف الإجماع مع أن الآية عامة: (( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ))، بعض الناس قالوا: (مثنى وثلاث) تجمع على خمسة وزيادة (ورباع) المجموع تسع نساء، فأجازوا نكاح التسع، ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبض عن تسع نسوة.
وقال بعضهم (مثنى) أي: ثنتين ثنتين، (وثلاث) أي: ثلاث ثلاث، (ورباع) أي: أربع أربع والمجموع ثمانية عشر.
فإذا كانت الآية عامة، فهل الإجماع ينتسخ؟ الإجماع لا يَنسخ ولا يُنسخ، لكن الإجماع يكشف عن وقوع الدليل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع إنما يتم بناء على دليل، حتى ولو لم نقف على عين الدليل.
إذاً أقوى ما يستدل به هنا هو الإجماع، يقول الإمام العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى: إجماع الأمة على تحريم ما زاد على الأربع نسوة قبل ظهور المخالف الضال، ويرمي بذلك بعض الظاهرية؛ لأنهم هم الذين انحرفوا وشذوا عن هذا الإجماع، فالإجماع انعقد قبل ظهور
داود الظاهري و
ابن حزم وغيرهما.
والإجماع هو ممن يعتد به من أهل العلم، ويريدون بكلمة: (يعتد به) الاحتراز عمن يخالفون الإجماع خاصة الظاهرية؛ لأنهم بإنكارهم القياس يصيرون ممن لا يحتج بكلامهم إذا خالفوا، وعلى أي الأحوال هناك من قال: إن النقل عن الظاهرية لم يصح.
قوله تعالى:
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا [النساء:3]، إن خفتم أن لا تعدلوا بين الأربع النسوة
فَوَاحِدَةً [النساء:3]، وفي قراءة (فواحدةٌ) بالضم. أي: فحسبكم واحدة.
حكم التسري بأكثر من واحدة والعدل بينهن
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3] أي: من الإماء، بالغة ما بلغت من مراتب العدد؛ لأنه لا يجب لهن من الحقوق مثلما يجب للحرائر، ولا قسم لهن.
(أو) المقصود بها التسوية والتخيير.
قال
الزمخشري : سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة، وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغباً وأخف مؤنة من المهائر -يعني: من الحرائر-، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل.
ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3] أي: الاقتصار على واحدة، أو على نكاح الإماء بالتسري، (أدنى) أي: أقرب (أن لا تعولوا) أي: ذلك أقرب ألا تميلوا، ولا تجوروا لانتفائه رأساً بانتفاء محله في الأول، يعني: لو كانت حرة واحدة أصالة زال احتمال الجور، وانتفاء خطره في الثاني إذا نكحتم الإماء، في هذه الحالة ينتفي الخطر بخلاف اختلاف العدد في المهائر؛ لأن التعدد في الحرائر فيه الميل المحظور متوقع لتحقق أمرين: تحقق المحل، وتحقق الخطر، لتحقق المحل أم لمجرد التعدد في الحرائر، يصبح هو نفسه محل لهذه المخالفة التي هي عدم العدل، لكن إذا كانت واحدة فذلك يكون أدنى وأقرب ألا يقع في الجور والظلم والميل عن الحق، وهذا هو اختيار أكثر المفسرين
ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].
(تعولوا) من عال يعول إذا جار وعدل عن الحق.
ومن الوجوه المحتملة فيه: كونه مضارعاً، بمعنى: عال فلاناً عولاً وعيالةً أي: كثر عياله كأعول وأعيل، وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام
المهايمي في تفسيره حيث قال: أي: ذلك أقرب من ألا تكثر عيالكم، فيمكن معه القناعة، بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى.
تدل هذه الآية على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح، كأن يخشى الإنسان من نفسه أن يقع فيما لا يجوز فينبغي أن يسد الذرائع، مثل: أن الإنسان لا يأمن نفسه إذا التقط اللقطة أن يطمع فيها ولا يحفظها لصاحبها ولا يعرفها، ففي هذه الحالة يحرم عليه أن يلتقط اللقطة، كذلك هنا إذا خشي مع تعدد الزوجات أن يقع في الجور والظلم ففي هذه الحالة ينبغي له أن يكف عن الزواج بأكثر من واحدة، كذلك لا يجوز لمن عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها فإنه لا يجوز له قبول الوديعة.
هناك إشكال وإجمال في مسألة الربط بين قوله تبارك وتعالى:
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا .
وهذه الآية التي بعدها مباشرة:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].
وهو أن قوله تعالى: (( ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا )) أي: أدنى ألا تكثر عيالكم فتفتقروا وتضطروا إلى الجور في مال اليتيم الذي أنتم أوصياء عليه، في هذه الصورة يظهر لنا وجه الربط بين هذه الآية والتي قبلها.
قال تبارك وتعالى:
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4].
(وآتوا النساء صدقاتهن) أي: أعطوا النساء مهورهن، جمع صدقة، أو صدُقة، والصدُقة هي: أحد أسماء المهر، فقد سمي أسماء كثيرة منها: (النحلة) أو (صدُقة) أو (مهر) أو (أجر).
والمقصود بقوله: (نحلة) أي: عطاء غير مسترد بحيلة تدفعهن إلى الرد.
والنحلة أو النُّحلة -بالكسر أو بالضم- اسم مصدر لـ(نَحلَ).
والنُّحل: هو العطاء بلا عوض، والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة مع كونها واجبة على الأزواج؛ لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وتطييب الخاطر.
وهذا الخطاب في هذه الآية: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، إما للأزواج، وإما لأولياء النساء. القول الأول: أن الخطاب للأزواج؛ لأن فيما قبله خطاباً للأزواج (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) ثم قال تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، فمقتضى السياق أن يكون الخطاب هنا للأزواج.
والقول الآخر: في قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) أن الأمر هنا موجه إلى أولياء النساء؛ لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً؛ ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئاً لك الناتجة، ومعناه: أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها إلى إبلك، فتنتج مالك ويكثر.
وقال
ابن الأعرابي : الناتجة: ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله؛ ولذلك المهر هو من حق المرأة، ولا يجوز التصرف فيه إلا بإذن منها، سواء من وليها أو من أقاربها.
للأسف الشديد يوجد هذا الوضع في بعض البلاد إذا تزوجت المرأة فإنها توزع على العائلة كلها، على الخال والعم والأب والإخوة، هذا الوضع للأسف الشديد موجود، فهنا يأمر الله تبارك وتعالى الأولياء ألا يأخذوا أبداً من مال المرأة أو مهرها شيئاً، بل يمكنوها منه وهي حرة التصرف فيه.
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4].
(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) الهاء هنا تعود على (صدقاتهن)، أي: فإن أحللن لكم من المهر شيئاً بطيبة نفس؛ جلباً لمودتكم لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم، وسوء معاشرتكم.
حكم إسقاط المهر ابتداءً
لا يجوز إسقاط المهر ابتداءً بأي حال، ولا يصح أن يعقد على امرأة ويتفق مع وليها على إلغاء شيء من المهر أو كله، بل المهر لا بد منه في النكاح.
قوله:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أي: فخذوه وتصرفوا فيه كأنكم تملكونه، وتخصيص الأكل بالذكر؛ لأن الأكل هو معظم وجوه التصرفات المالية.
(( هَنِيئًا مَرِيئًا )) صفتان: من هنأ الطعام ومرأ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه.
وقيل الهنيء: هو ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة، والمريء: هو حميد المغبة، وهما عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة؛ لأنهن كالرجال في الصدقات والتبرعات.
ثمرات الآية الكريمة
لهذه الآية ثمرات منها: أنه لا بد في النكاح من صداق؛ وذلك لقوله عز وجل:
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً .
ومنها: أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون.
ومنها: أن لها أن تتصرف فيه متى شاءت، ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أو لا.
ومنها: أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها له، بشرط أن تطيب به نفساً.
وقد رأى
شريح إقالتها إذا رجعت واحتج بقوله تعالى:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ .. ويقول: إن المرأة إذا وهبت زوجها من المهر شيئاً ثم أرادت أن تسترده فللقاضي أن يحكم بإرجاعه إليها.
قالوا: إن هذه أمارة على أنها حينما أخرجته أخرجته عن غير طيب نفس منها؛ لأن هناك شبهة أن تكون أعطت برغبة أو بغير رغبة لم يتحقق الشرط فيه.