العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بدأت يوم أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لآدم: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، من يومها قال الله عز وجل: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36]، وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2]، فتكرر ذكر قصة آدم وإبليس في القرآن في سور كثيرة، في سورة البقرة والأعراف وغيرهما.
وقد حذر الله عز وجل من اتباع إبليس اللعين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]، وقال عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]، وقال عز وجل كاشفاً مخططه: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، وقال الله عز وجل أيضاً في سورة يس: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60] * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:61]، فأي معصية أو شرك في الوجود إنما هو طاعة لإبليس؛ لأنه هو الذي يزينه وجنوده لعباد الله سبحانه وتعالى، فيوقعهم في الشرك وفي المعاصي، فيقول الله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60].
وما زلنا نقرأ في كتب التفاسير، وكتب التوحيد أن هذا هو تفسير عبادة الشيطان، وما كان الإنسان يتخيل أنه فعلاً يوجد أناس يعبدون الشيطان حقيقة، حتى أخبرني ممن هو من أهل الخبرة أخ حديث عهد بأمريكا، فيحكي أنه يوجد في بعض البلاد في أمريكا فئة تعبد الشيطان، ويسمون أنفسهم: (ديفن)، و(ستيفر)، أي: عباد الشيطان، فهذا الأمر حقيقة، ويذكر هذا الأخ الفاضل أن معهم معابد مخصوصة ولها سقوف يعبدون فيها الشيطان، ويأتي بعض المغفلين -للأسف- من أبناء المسلمين أو المحسوبين على المسلمين يسمعون تلك الأغاني الأمريكية الساخرة ويرددونها، مع أن فيها مقاطع من عبادة الشيطان! فهم مثل البغباوات، يرددون ولا يفقهون ما يقولون، وهو فسق على فسق، وزيادة في الكفر، فأولئك يعبدون الشيطان حقيقة، وهناك معابد لعبادة الشيطان، ولا يستخفون بذلك، وهذا من أعجب ما نسمعه في هذه الأزمان!
أما المشهد الأخير الذي يحكيه الله سبحانه الله وتعالى، وهو يقع بين الشيطان وعباده، فهو خطبة إبليس حينما يقف خطيباً يوم القيامة: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]، هذا الشرك لم يكن إلا مجرد أن دعاهم فاستجابوا له، كما جاء على لسانه، وكما يقولون: الأشياء تعود لأصلها، فأشباه إبليس يعودون إلى أصلهم وهو إبليس، والذي هو عدو آدم، وأولياء الرحمن وأتباع رسله يعودون إلى آدم.
والعداوة قائمة منذ اليوم الأول بين آدم وبين إبليس، فهذه الحرب وهذه العداوة قائمة لا تنقطع أبداً، وأي نوع من الأعداء يمكن أن تكسبه بمعاهدة أو بإحسان إليه، أو بأي شيء: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، إلا الشيطان فإنه لا يجدي معه إلا أن تتخذه عدواً: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6] لا يجري معه أي شيء آخر، لا يصلح مع الشيطان أي حيلة ولا معاهدة ولا إحسان ولا أي شيء، سوى أن تتخذه عدواً كما قال الله عز وجل.
أما أشباه إبليس وحزبه فيقول الله في شأنهم: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212]، وقال عز وجل أيضاً في شأنهم: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] إلى آخر الآيات، وقال في المؤمنين: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257].
فالحرب والعداوة والتميز في الخصائص أمر قائم ومستمر بين الحزبين، حزب الرحمن وحزب الشيطان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فمن سنة الله أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
أولياء الشيطان بماذا أجابوا المرسلين؟ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [المائدة:104]، وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [النساء:46]، أما المؤمنون: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51].
ويقول ابن القيم : كل من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته، ورغب عن ملته، واتبع غير سنته، ولم يتمسك بعهده، ومكن الجهل من نفسه، والهوى والفساد من قلبه، والجحود والكفر من صدره، والعصيان والمخالفة من جوارحه؛ فهو ولي الشيطان. انتهى كلام ابن القيم .
فبهذه الحقائق وهذه الأدلة نعلم أن المؤمنين الذين هم أولياء الله لا يلتقون مع أعدائهم في منتصف الطريق، بين الكفر والإسلام، أو أن نحيد يميناً وشمالاً؛ بل يقولون كما قال إمامهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، هذه هي الغاية الوحيدة التي يمكن أن يتلاقى المؤمنون أولياء الله مع غيرهم، أن يتنازلوا هم ويتراجعوا عن شركهم وكفرهم، ويحققوا معنى لا إله إلا الله، كما ذكرنا.
فبعض الناس يبدءون مثل هذه البداية، لكن لا يستقيمون على هذا الطريق، فشياطين الإنس يزينون لهم كثيراً من السبل التي تحرفهم عن هذه الحقيقة الأصيلة من حقائق الإسلام، وهو الولاء والبراء.
لذلك نجد من يدعو إلى تقارب الأديان، وأن الأديان كلها شيء واحد، ومن يدعو إلى الأخوة الإنسانية، وعدم التعصب، ونحو هذه الدعوات المعروفة؛ بل بعض الناس من المسلمين الجهلة يتصورون ويدعون إلى أنه يمكن فعلاً أن يتوحد المسلمون مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى من أجل مواجهة الإلحاد! وكأن الذي هم عليه ليس بإلحاد؛ بل هو إلحاد أيضاً، عبادة المسيح، وسب الله سبحانه وتعالى -كما عند اليهود- والتكذيب برسله وقتلهم، هذا من شر الإلحاد والكفر.
فهذا من التلبيس، ولا يمكن أبداً أن يتلاقى المؤمنون مع الكافرين، فمحاولة الالتقاء هذا جهل بحقيقة هذا التوحيد، وبحقيقة الولاء والبراء التي هي أصل أصيل من أصول الإيمان، فلا يمكن أبداً أن يلتقي المؤمنون مع الكتابيين مثلاً من أجل محاربة الإلحاد؛ لأن الله أخبر عنهم فقال: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وقال عز وجل: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105]، وقال عز وجل خبر صادق: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وأيضاً نحن لا نواليهم حتى يؤمنوا بالله وحده.
ومن ذلك أيضاً -وهو من أشد التلبيس على بعض الجماعات المنحرفة-: التحالف مع الأحزاب العلمانية، وكلمة (علمانية) أعتقد أنها كلمة مخفية جداً لأكثر الحقائق، ويترجمونها بتعبير أشد فيقولون: اللادينية؛ لكن هي في الحقيقة الكفر الصراح، والعلمانية: تعني رفض الأديان، رفض الدين، فصل الدين عن الحياة، وجعل الدين عبارة عن قضية شخصية بين العبد وبين ربه، هذه حاجة تخصك بينك وبين ربك، دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
فالعلمانية ما هي إلا كفر؛ بل هي أقصر الطرق الموصلة إلى الكفر، فهذا أيضاً من الضلال المبين والانحراف الخطير الذي شوش على عقيدة عوام المسلمين، وغير هذا الحد المتميز وهو موالاة المسلمين ومعاداة الكافرين، وقضى على هذا الأصل الأصيل من ملة إبراهيم عليه السلام: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ [الممتحنة:4]، فكيف نضع أيدينا بأيدي حزب الوفد أو الأحرار أو غيرهم من أحزاب الشيطان؟! هل أعلنوا أن إحدى مطالبهم في الحياة هي نصرة دين الإسلام؟ هل أعلنوا ذلك؟ الجواب: لا.
إذاًً: هذه التحالفات هي من الجهل ومن السفاهة، ومن الانحراف في فهم أصل الإسلام الأصيل ألا وهو عقيدة التوحيد ولوازمها من البراءة من المشركين وموالاة المؤمنين.
لا يستقيم للإنسان إسلام -ولو وحد الله وترك الشرك- إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغض، كما قال لله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْمًا [المجادلة:22] يعني: لا يمكن أن تجد قوماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، إن هذه البراءة من المشركين هي القاسم المشترك بين كل الملل غير دين الإسلام، كل ما سوى الإسلام القاسم المشترك بينها: أننا نعاديهم في الله، ونتبرأ منهم ومن طريقتهم، مهما كانت أصنافهم من مشركين وكفار ومنافقين.
فطبيعة المنهج الإسلامي تعكس طبيعة التعارض والتنافر الصريح بين منهجين في الحياة لا التقاء بينهما في صغيرة ولا كبيرة، فكما يصر المؤمنون على التمكين لدينهم في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ كذلك يصر الكفار على سحق المنهج الرباني الذي يهدد وجودهم ومنهاجهم: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى [البقرة:217] و(حتى) تفيد الغاية: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، فليس للمشركين هم ولا شغل إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم، وهم يبذلون في سبيل ذلك الأموال الطائلة: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36].
أما المشركون فقد أخبرنا الله عن دخيلة في قلوبهم، وعما في صدورهم فقال الله عز وجل: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32] * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، وقال عز وجل: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105]، أما في أهل الكتاب فقال عز وجل مخبراً عما في قلوبهم تجاه المسلمين: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقال عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] ما علة ذلك؟ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]، القسيسون: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]، يعني: إذا سمعوا القرآن آمنوا به وتواضعوا للحق لما جاءهم، فهذا وصف فيمن أسلم ودخل في دين الإسلام، أما من أعرض عن القرآن من النصارى أو من غيرهم فإنه يدخل في آخر هذه الآيات: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].
وقال عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [النساء:44]، وقال عز وجل: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119].
وقال في المنافقين: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، وقال فيهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16]، وقال أيضاً: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:7] * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
فجاء الرد الحاسم والحازم تجاه هذه المؤامرات من أعداء الله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120]، هذا أسلوب حصر وقصر للهدى فيما جاء به الله عز وجل، فما عداه ليس بهدى.
فحقيقة العداوة هي اختلاف الدينين، وافتراق المنهجين: إما اتباع دين الله، أو اتباع ملة الكفر والطغيان. بعض الناس يتصور إن المسلمين قضيتهم فقط إقامة الحدود، فإذا استجاب الحكام لهذه المطالب، أن تقطع يد السارق، ويجلد الشارب، ويرجم الزاني.. وهكذا، فإن القضية قد انتهت.. القضية ليست مساومة على بعض المطالب، القضية لا بد أن يكون هناك إسلام لله سبحانه وتعالى، أن ينقاد كل الناس لله تعالى ولشرعه، وليس مجرد الأخذ بجزئيات من الشريعة والإعراض عنها من الجانب الآخر.
فالقضية قضية إسلام لله، وليس الإسلام المقيد ببعض جزئيات الإسلام، وهذه المطالب لا شك أنها إسلامية، وواجبات من واجبات الأمة الإسلامية؛ لكن المشكلة أن هذه هي هدفنا في هذه الحياة، قد يجاملنا البعض بذكر آيات من القرآن أو يتبرك بها، أو يقيم بعض الحدود، فنرضى منه بذلك، كما يقولون: يركب الموجة؛ لأن هذا يرضي الناس، وهذا كما نرى اليوم في بعض معارض الملابس يقول لك: هذه ملابس المحجبات، مع أنه حجاب نصفي، ليس هو الحجاب الذي أراده الله، بل هي كما يقولون: موضة إسلامية! يحاولون أن يصرفوا المرأة ويحرفوها عن الطريق الصحيح.
فالقضية ليست قضية أحكام محددة، لكن القضية قضية شريعة في حالة إعراض عنها، ونبذ لها وراء ظهورهم، هذه هي القضية، فلا بد من إسلام لله سبحانه وتعالى بالمعنى الشامل للإسلام، وليس مجرد هذه الجزئيات، فلا نحصر همنا في أشياء محدودة، ولكن الأمر والقضية أوسع من ذلك وأكبر من ذلك، فإما دين الله واتباع شرعه، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، أو دين باطل، واتباع الهوى والشهوات، والانضمام إلى حزب الشيطان، فعلى أولياء الرحمن أن يستعلوا بدينهم، وأن يعتزوا بهذا الدين فوق وطأة الباطل، فإنهم هم المنصورون، يقول الله عز وجل: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب}، وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وقال سبحانه: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، وقال عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11].
هنا بعض التنبيهات التي تتعلق بقضية الولاء والبراء، منها:
أولاً: أن المؤمن يتبرأ ممن حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب إليه؛ لقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة:23] * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
وقال عز وجل: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55] * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]، وقال عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].
فهذا هو التنبيه الأول: أن المؤمن يتبرأ ممن حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب إليه، وجاء في تفسير قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث أن أول ما دخل الشر والنقص على بني إسرائيل: (أن الرجل منهم كان يلقى أخاه على ما يكره على معصية الله، فيقول: يا أخي! اتق الله ودع هذا؛ فإن هذا لا يحل لك، ثم يأتيه من الغد فيجده على نفس الحالة التي كان عليها بالأمس، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده)، يعني: بمذهب صيغة المبالغة، قال: (فيتمادى في مؤاكلته ومشاربته ومجالسته، ولا يغضب لله، ولا يتمعر وجهه في سبيل الله، فمن أجل ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم كما ذكر في كتابه: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]).
الأمر الثاني: أن المؤمن يوالي المؤمن وإن ظلمه، المؤمن يوالي أخاه المؤمن والمسلم حتى ولو ظلمه أخوه؛ لأن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، ولا يقضي على الأخوة الإسلامية، يقول الله عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، ويقول الله عز وجل بعد ذلك: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، فمع وقوع الاقتتال أثبت الأخوة الإيمانية، رغم وجود الاقتتال، فالقتال قد يكون فيه ظالماً ومظلوماً، ومع ذلك لا تنقطع الأخوة الإيمانية؛ لأنه ما زال في دائرة الإسلام والإيمان، فالمسلم الذي ظلمك لا تساوه بالكافر، حتى وإن أحسن إليك الكافر وعدل معك، فهذا الكافر ليس معه أعظم شعب الإيمان، وهو لا إله إلا الله، ليست موجودة عنده، فهو منجس ومقذر بأقذر شيء في الوجود وهو الشرك، فهذا الكافر لا يستوي بالمسلم أبداً، حتى ولو تلبس المسلم ببعض المعاصي.
ونجد بعض الناس المخذولين، الذين خذلهم الله ولم يوفقهم إلى هذا الفهم، يفضلون الكافر على المسلم لمجرد أن يصدر من المسلم معصية أو تقصير في جانب معين، وقد يخادعه الكافر في نوع من الإحسان بصورة أو بأخرى فيقول: انظر إن الكافر نفعني أفضل من المسلم، النصارى أحسن من المسلمين.. وهكذا!! فيخذل وينطق الشيطان على لسانه بهذه الكلمات العظيمة، فالمشرك ولو عدل معك وأحسن إليك فهو أعدى عدو للناس، يقول الله عز وجل: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6] * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:7]، يعني: زكاة قلوبهم من هذا الشرك، لا يطهرون قلوبهم من الشرك، فالمشرك أقذر مخلوق في الوجود، حتى لو بدا جسده في أنظف صوره؛ لأنه نجس بأعظم شيء في الوجود: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، فينبغي الالتفات إلى هذا المعنى.
أيضاً: إذا اجتمع في الرجل الواحد شر وخير، وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، فهذا خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهو يستحق من الموالاة بقدر ما فيه من الخير، ويستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فقد يجتمع في الإنسان الواحد بعض موجبات الإكرام وبعض موجبات الإهانة.
فالمسلم مثلاً قد تقطع يده بسبب سرقته؛ ولكنه مع ذلك يعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، والدليل على هذا المعنى وهو أن المسلم قد يحب من وجه ويبغض من وجه، يحب لإسلامه ويبغض لفسقه أو بدعته أو معصيته، حديث عبد الله بن حمار ، الذي كان يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يؤتى به كثيراً وقد شرب الخمر، فكان يقام عليه الحد، والمفروض أن الإنسان متى أقيم عليه الحد فلا يعير به ولا يشنع عليه، ولا يلام؛ لأن هذا الحد يطهره من المعصية، فلما أتي به يوماً قال رجل من الحاضرين: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر