قرأنا شروط وجوب الحج على الإنسان، وعلمنا المراد بالاستطاعة، والخلاف في كون الحج على الفور أو على التراخي، وحكم من عتق أو بلغ وهو في عرفة أو في العمرة قبل الطواف، وكذلك علمنا متى يجوز الحج عن الغير، وما يشترط للمرأة زيادة على شروط الرجل، والحكم إذا مات المحرم قبل أن يحج أو يعتمر، وما يسن عند الإحرام، والحكمة في ذلك، وما يحرم فيه الرجل والمرأة، وحكم الصلاة قبل الإحرام، وحكم النية والاشتراط في الإحرام، وأفضل الأنساك، وذكرنا أن سبب اختيار الإمام أحمد التمتع هو: أنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم، واختار غيره الإفراد أو القران، وفيه وخلاف طويل بين الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، وذكرنا صفة الإحرام بالتمتع وبالإفراد وبالقران، وما يلزم المتمتع والقارن، وشروط وجوب الحج، وما يلزم المرأة إذا حاضت قبل أن تكمل العمرة إذا كانت متمتعة، ومواضع التلبية، أي: الأماكن التي تستحب فيها، وحكم من أحرم قبل الميقات أو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، والمواقيت الأربعة التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم، والخلاف في الميقات الخامس الذي هو ذات عرق:
هل وقته النبي صلى الله عليه وسلم أو وقته عمر؟
والمختار أنه وقته عمر ، وإن كان قد وردت فيه أحاديث مرفوعة، وذكرنا ميقات أهل مكة للحج والعمرة، وأشهر الحج، ومحظورات الإحرام التسعة، وبقي أن نذكر أحكام الفدية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ففي أقل من ثلاث شعرات وثلاثة أظفار في كل واحد فأقل طعام مسكين، وفي الثلاثة فأكثر دم، وفي تغطية الرأس بملاصق ولبس مخيط وتطيب في بدن أو ثوب أو شم أو دهن الفدية، وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً فعليه جزاؤه.
والجماع قبل التحلل الأول في حج وقبل فراغ سعي في عمرة مفسد لنسكهما مطلقاً، وفيه لحج بدنة، ولعمرة شاة، ويمضيان في فاسده، ويقضيانه مطلقاً إن كانا مكلفين فوراً، وإلا بعد التكليف، وحجة الإسلام فوراً.
ولا يفسد النسك بمباشرة، ويجب بها بدنة إن أنزل وإلا شاة، ولا بوطء في حج بعد التحلل الأول وقبل الثاني، لكن يفسد الإحرام فيحرم من الحل ليطوف للزيارة في إحرام صحيح، ويسعى إن لم يكن سعى وعليه شاة، وإحرام امرأة كرجل إلا في لبس مخيط، وتجتنب البرقع والقفازين، وتغطية الوجه، فإن غطته بلا عذر فدت.
فصل في الفدية: يخير بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس وطيب بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين كل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو زبيب أو شعير أو ذبح شاة.
وفي جزاء صيد بين بمثل مثلي، أو تقويمه بدراهم ليشتري بها طعاماً يجزئ في فطرة، ويطعم كل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وبين إطعام أو صيام في غير مثلي، وإن عدم متمتع أو قارن الهدي صام ثلاثة أيام في الحج، والأفضل جعل آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع لأهله، والمحصر إذا لم يجده صام عشرة أيام ثم حل.
وتسقط بنسيان في لبس وطيب وتغطية رأس، وكل هدي أو طعام فلمساكين الحرم إلا فدية أذى ولبس ونحوها، فحيث وجد سببها، ويجزئ الصوم في كل مكان، والدم: شاة أو سبع بدنة أو بقرة.
ويرجع في جزاء صيد إلى ما قضت فيه الصحابة، وفيما لم تقض فيه إلى قول عدلين خبيرين، وما لا مثل له تجب قيمته مكانه، وحرم مطلقاً صيد حرم مكة وقطع شجره وحشيشه إلا الإذخر وفيه الجزاء، وصيد حرم المدينة، وقطع شجره وحشيشه لغير حاجة علف وقتب ونحوهما ولا جزاء].
ومعنى كونها إتلاف: أنه أتلف هذه الأظفار بدل ما كانت موجودة، أو أتلف هذا الشعر بدل ما كان موجوداً، أو أتلف هذا الطيب، أو أتلف هذا الصيد الذي صاده، فيقولون: الإتلاف يستوي عمده وسهوه.
ومثال ما ليس بإتلاف: تغطية الرأس، ولبس المخيط، وعقد النكاح.
والقول الثاني: أن جميع المحظورات ليس فيها فدية على الجاهل والناسي، ولا فرق بين الإتلاف وغيره؛ وذلك لأن الناسي معذور في جميع الأحكام التي يفعلها ويسقط عنه الإثم، قال الله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] ، وقال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، وفي الحديث الذي في صحيح مسلم أنه لما نزلت هذه الآية: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: (قد فعلت) ، وكذلك الحديث المشهور: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فيدخل في ذلك محظورات الإحرام، فإذا أخطأ فيها -ولو كان فيها إتلاف- فالصحيح أنه لا جزاء عليه، ولا فدية عليه في محظورات الإحرام كلها إذا فعلها ناسياً إلا الجماع، فإن الجماع -غالباً- لا يتصور فيه النسيان للمحرم، فهو بين طرفين، وقد تطول مدته؛ ولذلك أفتوا بأن فيه الفدية سواء كان عمداً أو سهواً.
أما الصيد فيقولون: إن الصحابة قضوا فيه، ولم يستفصلوا: هل أنت عامد أم لا؟
والجواب: أن الآية صريحة في اشتراط العمد، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95] فشرط الله العمد، والوصف بالعمد يدل على رفع الإثم أو رفع الجزاء عن الناسي وعن المخطئ، وأن الجزاء إنما يلزم من كان متعمداً.
وهكذا الراجح أنه إذا قص من شعره ناسياً أو خاطئاً أو من أظفاره، أو تطيب ناسياً أو مخطئاً، فإنه معذور، ولا فدية عليه ولا إثم.
وهذه المحظورات يمنع منها المحرم؛ لأنها ترفه، والمحرم يتصف بالشعث والغبرة، ويبتعد عن أسباب الترفه والتنعم، ورد أن الله يباهي بالحجاج ملائكته فيقول: (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين) أي: قد اغبرت أبدانهم من طول البعد عن الترفه والتنعم، وقد شعثت رءوسهم. وهم ضاحون، يعني: وهم بارزون في الشمس.
فهذا هو السبب في كون المحرم يبتعد عن أسباب الترفه، من الطيب ولبس المخيط وهو اللباس المعتاد، وكذلك عن تغطية الرأس، وكذلك عن أخذ الشعر أو أخذ الأظفار أو ما أشبه ذلك؛ لأجل أن يتصف بهذا الوصف الذي يدل على خشوعه وخضوعه، فإذا فعل من ذلك شيئاً من غير عمد فإنه معذور ولا إثم ولا فدية عليه على الصحيح.
وقد ذكر الفقهاء أنه إذا أخذ شعرتين أو شعرتين ونصف أو ظفرين فليس عليه إلا الإطعام، في كل شعرة طعام مسكين، سواء أخذها نتفاً أو قصاً أو حلقاً، وسواء كانت من شعر رأسه أو من شعر أي شيء من أعضاء بدنه، والنص ما ورد إلا في الرأس، قال تعالى: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، وقال تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، ولكن العلماء ألحقوا بالرأس ما سواه من الشعر؛ لأنه يصدق عليه أنه شعر، وإزالته فيها شيء من الترفه.
ويعفى عما سقط من غير قصد، فإذا احتلم المحرم وغسل رأسه في الإحرام وتساقط منه شعر فلا حرج، وكذلك لو غسل وجهه في الوضوء أو خلل لحيته وسقط منه شعر فلا فدية عليه؛ لأنه غير متعمد.
والحاصل أنه إذا كان متعمداً في أخذ ثلاث شعرات أو ثلاثة أظفار ففي كل ثلاث فدية دم. يعني: شاة.
وإذا أخذ أكثر من ثلاث أو حلق شعر الرأس كله فليس عليه إلا شاة، فإذا حلق ثلاث شعرات فعليه شاة، وإذا نتف ثلاث شعرات في الصباح ثم ثلاثاً في المساء ثم ثلاثاً بعد ذلك فليس عليه إلا شاة.
أما إذا كانت أقل من ثلاث شعرات ففي كل شعرة طعام مسكين، وكذلك الظفر، ففي أقل من ثلاثة أظفار في كل ظفر طعام مسكين.
الفدية ذكرت قريباً في قوله: (وفي الثلاثة فأكثر دم) وهذا يريد به تمام الفدية، فإن الله تعالى ذكر الفدية وفيها التخيير: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] والآية فيها إجمال، وجاءت السنة بالتفصيل وبالتبيين، ففي حديث كعب بن عجرة أنه لما آذاه هوام رأسه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (احلق واذبح شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين) فبين أن المراد بقوله تعالى: (من صيام) أنه ثلاثة أيام، وقوله تعالى: (أو صدقة) أنه إطعام ستة مساكين، وقوله تعالى: (أو نسك) أن النسك أقله شاة، أي: واحدة من الغنم.
فهذه الخمسة يخير فيها، والنص ورد في الحلق، وألحق به الفقهاء هذه الخمس، فإذا حلق رأسه أو بعضه قلنا: أنت مخير بين أن تصوم ثلاثة أيام، أو أن تطعم ستة مساكين، أو أن تذبح شاة، وكذلك لو قلم من أظافره ثلاثة فأكثر قلنا له: أنت مخير، وكذلك لو غطى رأسه، وكذلك لو لبس مخيطاً، وكذلك لو تطيب في بدنه أو تطيب في ثوبه أو شم الطيب أو ادهن به؛ فإنه مخير بين هذه الثلاثة.
والصيام يصلح في كل مكان، وأما الإطعام فلمساكين الحرم، وكذلك النسك -الذبح- لمساكين الحرم؛ وذلك لقوله تعالى: هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] هذه فدية هذه الخمسة.
وكذلك من محظورات الإحرام: الصيد، فالصيد فيه الجزاء؛ لقوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95] والصيد: هو اقتناص حيوان بري متوحش طبعاً غير مقدور عليه، واصطياده فيه جزاء، ولابد أن يكون مأكولاً، فلو قتل ذئباً أو ثعلباً أو قطاً فليس عليه فدية؛ لأنه غير مأكول، وكذلك إذا لم يكن برياً، فلو قتل أو ذبح فرساً أو بعيراً -ولو كان ذلك البعير قد نفر من أهله- فلا جزاء فيه، فأما إذا كان صيداً برياً مأكولاً فإن فيه الجزاء، فهذه ستة.
والتحلل الأول هو: أن يكون قد طاف ورمى وبقي عليه الحلق، أو حلق ورمى وبقي عليه الطواف، أو حلق وطاف وبقي عليه الرمي، فهذا يسمى التحلل الأول، فإذا جامع بعد التحلل الأول لم يفسد نسكه كما سيأتي، وأما قبل التحلل فيفسد نسكه، وإذا فسد فإنه يمضي فيه، فإن كانت المرأة محرمة فكذلك أيضاً يفسد نسكها، ويمضيان في هذا النسك.
سئل ابن عباس وغيره عن هذا فقالوا: عليهما أن يمضيا فيه، وعليهما أن يقضياه ثاني عام، وعليهما مع ذلك فدية، والفدية إن كان في الحج فهي بدنة، وإن كان في العمرة فهي شاة.
وإذا كانا مكلفين قضياه في السنة التي بعدها، والمكلف هو: الحر المسلم البالغ العاقل، فإذا كان الجماع قبل البلوغ فإنه يفسد لكن متى يقضي؟
يقضي بعد التكليف، بعد البلوغ وبعد حجة الإسلام يقضيه فوراً، هذا في الجماع قبل التحلل الأول، فإنه يفسد نسكهما ويمضيان فيه ولو كان فاسداً، وقالوا: ليس من الأعمال ما يفعل فاسده إلا الحج؛ وذلك لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] فأمر بإتمامه مطلقاً.
ومعنى قوله: (يقضيانه فوراً) أي: في السنة التي بعدها، فإذا كانا مكلفين نقول لهما: اقضياه في العام الثاني، ثم من باب التشديد عليهما قالوا: إذا قضياه في العام الثاني فإنه يفرق بينهما، بأن تكون الزوجة -مثلاً- في فرقة والزوج في فرقة، ولا يجتمعان في فرقة واحدة: في حملة مثلاً أو في قافلة، بل كل واحد يكون في قافلة حتى لا يجتمعان، وهذا من باب الزجر.
وإذا كانا غير مكلفين كالصغير إذا جامع قبل البلوغ وكذلك العبد نقول لهما بعد البلوغ أو بعد العتق: عليك حجة الإسلام الفرض، ثم عليك قضاء تلك الحجة التي تلبست بها ثم أفسدتها.
انتهى ما يتعلق بالخمسة المحظورات التي يخير فيها، والسادس جزاء الصيد، والسابع عقد النكاح، والثامن الجماع، وبقي عندنا التاسع والأخير وهو المباشرة، وهي من محظورات الإحرام، ويدخل في المباشرة إذا ضم زوجته أو قبلها أو لاصقها ببشرته على فراش ولو كان بينه وبينها حائل أو نحو ذلك، فماذا يجب عليه في هذه المباشرة لأنها محظورة من محظورات الإحرام؟
يجب عليه إن أنزل: بدنة، وإن لم ينزل: شاة، والبدنة -كما تقدم- الواحدة من الإبل، أو الواحدة من البقر من ذكور أو إناث، فإذا قبل امرأته ولم يكن منه إنزال فعليه شاة، وكذلك إذا باشر ولم ينزل، ولو من وراء حائل، فأما إذا أنزل فعليه بدنة، هكذا روي عن الصحابة في وقائع وقعت فأفتوا فيها، والنسك صحيح لا يفسد، إلا أنه لابد من هذه الفدية.
والفدية في هذا الوطء الذي هو بعد التحلل الأول شاة، أما إذا كان قد طاف وحلق وبقي عليه الرمي، فالصحيح أنه لا حاجة إلى أن يحرم من الميقات أو من خارج الحدود؛ لأن الرمي لا يشترط له أن يرمي وهو محرم، بل يجوز أن يرمي وهو حلال كما في الرمي في أيام التشريق.
انتهى ما يتعلق بفدية المحظورات.
وقوله: (وتجتنب البرقع): أي النقاب وهو: لباس يفصل على قدر الوجه، ويكون فيه ثقبان كلاهما على قدر حدقة العين، وسمي نقاباً لأن فيه هذين النقبين، ويسمى أيضاً البرقع.
والقفاز هو ما يفصل على قدر الكف، وهو شراب اليدين الذي له أصابع وتدخل فيها قدر الكف، فهذا الذي تتجنبه المرأة المحرمة، أما تغطية الوجه فأكثر الفقهاء يقولون: لا تغطي وجهها بلا عذر، فإن غطته بلا عذر فدت.
ويفسرون العذر بأنه إذا كانت أمام الرجال الأجانب فإنها تغطي؛ وذلك لأن هذا عذر، وقد دل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (كنا إذا حاذينا الرجال سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه)، فهذا دليل على تغطية المحرمة لوجهها أمام الرجال، ويجب عليها أن تستر وجهها ولو مس بشرة الوجه.
واختلف في الفدية إذا غطت وجهها بلا عذر فأكثر الفقهاء على أنها تفدي كما يفدي الرجل إذا غطى رأسه، والقول الثاني -ولعله الصحيح- أنه لا فدية عليها إذا غطت وجهها ولولم يكن هناك رجال؛ لأنه ليس هناك دليل يمنع المرأة من تغطية الوجه، وإنما أمرت ألا تلبس البرقع والقفاز، هكذا ورد: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين) ولم يقل: لا تتخمر، أي: لا تلبس الخمار، ولم يقل: لا تغطي وجهها، فالصحيح أنها تغطي وجهها أو تغطي يديها بأكمام الثوب أو بالعباءة ولا فدية عليها في ذلك، وإنما نهيت عن النقاب والقفاز.
فهذه خمسة أشياء: اثنان من اللباس، وهما: لبس المخيط وتغطية الرأس، وثلاثة من الترفه وهي: التقليم، والحلق، والطيب، فهذه الخمسة يخيّر مرتكبها بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، فله الخيار للآية الكريمة وهي قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، والنبي صلى الله عليه وسلم بينها في حديث كعب بن عجرة فقال: (أتجد شاة ؟ قال: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقاً بين ستة مساكين، أو انسك شاة) والفرق مكيال يساوي ثلاثة آصع، وأراد أن يطعمهم من التمر، والفقهاء فرقوا بين البر وغيره، فقالوا: إذا أطعم من البر فإنه يكفيه لكل مسكين مد، وأما من التمر والزبيب والشعير فإنه لابد لكل مسكين من نصف صاع، ومثله أيضاً أطعمة أخرى كالأرز والدخن والذرة نصف صاع منها، ومن البر مد -أي: ربع الصاع- والاحتياط أن يجعله جميعاً نصف صاع من البر أو من غيره، ولا يخرج القيمة، ولو قال: القيمة أنفع للفقراء! فيقال له: النص ورد بالإطعام، فيخرجها من الطعام، ولا يطعم خارج الحرم، بل الإطعام لمساكين الحرم، فتفرق على مساكين الحرم، ومساكين الحرم هم السكان الذين في مكة.
أما جزاء الصيد، فيخيّر بين إخراج المثل إذا كان مثلياً، أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً يجزئ في زكاة فطرة، فيطعم عن كل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن كل طعام مسكين يوماً، وهذا الإطعام أو الصيام يلزم في غير المثلي، فالله تعالى جعل الخيار في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95] فهذا الخيار الأول: جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، ثم قال: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [المائدة:95]، ثم قال: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً [المائدة:95] فهذه الآية في سورة المائدة ذكر الله تعالى فيها جزاء الصيد، وذكر أنه محرم، ثم ذكر أنه بعد الإحلال يباح صيده، قال تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، وقال تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، والصيد إما أن يكون مثلياً أو غير مثلي، فإذا كان له مثل فإنه يقومه بدراهم فيشتري بها طعاماً يجزئ في زكاة الفطرة؛ فيطعم كل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن كل مسكين يوماً، أو يخرج المثل ويذبحه ويطعمه المساكين.
مثال ذلك: إذا اصطاد أو ذبح أرنباً، فالأرنب فيها عناق، وهي السخلة التي عمرها ثلاثة أشهر أو أربعة، فنقول له: إما أن تذبح العناق وتطعمها للمساكين أو تقدر ثمنها، فمثلاً: لو قدرنا ثمنها بخمسين ريالاً فتشتري بالخمسين الريال طعاماً من البر أو من الأرز وتعطي كل مسكين مداً من البر أو نصف صاع من غيره، فإذا شق ذلك عليك واخترت الصيام فإننا نقدر فنقول: قيمة العناق خمسون ريالاً، وتساوي من البر أو من الأرز -مثلاً- خمسة آصع، والخمسة الآصع طعام عشرة مساكين، فتصوم عشرة أيام.
وقد يكثر الصيام، فلو قدرنا أن عليه بدنة إذا قتل نعامة، فيذبح بدنة أو نقدر قيمتها مثلاً بثلاثمائة ريال، والثلاثمائة ريال يشتري بها من الأرز ثم يطعمه كل مسكين نصف صاع من الأرز، ونقدر أن قيمة الصاع خمسة، فلكل مسكين نصف صاع، وإذا عجز فإنه يصوم عن كل مسكين يوماً ولو كثرت الأيام.
المتمتع والقارن عليهما أيضاً فدية، والمتمتع هو الذي أحرم بالعمرة ثم فرغ منها ثم أحرم بالحج، والقارن هو الذي أحرم بالعمرة والحج معاً، فعليهما الهدي لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196]، والهدي واحدة من الغنم، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة، فإذا لم يجد الهدي قال الله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] الثلاثة التي في الحج يندب أن يصومها وهو محرم أو بقي عليه بقايا الإحرام، فمثلاً: يحرم في اليوم السابع فيصوم السابع والثامن والتاسع حتى يفرغ منها قبل يوم النحر، هذا الأفضل أن يجعل آخرها يوم عرفة، فإن لم يتيسر صام الثلاثة بعد العيد: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، وأجاز بعض العلماء أن يصومها بين الحج والعمرة، فلو قدر أنه انتهى من العمرة في اليوم الثالث من ذي الحجة، وهو لن يحرم بالحج إلا في يوم التروية، فصامها في اليوم الرابع والخامس والسادس أجزأته؛ لأنه صامها في زمن الحج، وصامها في مكان الحج.
والسبعة يندب إذا رجع إلى أهله أن يبادر إليها ولا يتأخر، فيصومها مباشرة دون أن يؤخرها، وهذا الصواب.
وذكر المصنف أن فدية اللبس والطيب وتغطية الرأس تسقط بالنسيان، والصحيح أنها تسقط أيضاً بالنسيان فدية الحلق وفدية التقليم، والفقهاء الذين لم يسقطوها عللوا بأنها إتلاف، والصحيح أنه لا فرق بين الإتلاف وغيره.
الهدي أربعة أنواع:
الأول: هدي تطوع، كأن يهدي معه شيئاً من ماله، كما أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، فهذا يجوز أن يأكل منه، ولكن الأصل أنه يطعمه المساكين، قال تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36].
الثاني: هدي التمتع والقران، فهذا أيضاً ملحق بهدي التطوع، فله أن يأكل منه ويطعم رفقته، ويطعم المساكين.
الثالث: جزاء الصيد، وهذا لا يأكل منه بل يطعمه كله للمساكين، وكذلك فدية المحظور، إذا فعل محظوراً واختار أن يطعم أو اختار أن يذبح فإنها لمساكين الحرم ولا يأكل منها.
الرابع: دم الجبران، فإذا ترك واجباً من الواجبات يجبره بدم، وهذا الدم لا يأكل منه بل يطعمه لمساكين الحرم، وكذلك لو اختار الإطعام فلكل مسكين مد بر، ولا يطعم رفقته، وإنما يكون الإطعام لمساكين الحرم.
أما فدية الأذى فحيث وجد؛ وذلك لأن كعب بن عجرة حلق رأسه بالحديبية وأطعم في الحديبية، وكذلك فدية اللبس، مثلاً: إذا أحس بالبرد فلبس عمامة وهو محرم، أو لبس قميصاً واختار أن يطعم أو يذبح، فإنه يذبح حيث وجد سببه، فلو كان في الطريق كأن يكون في جدة مثلاً أو في بحرة أو في الشرائع فإنه يخرج الفدية في ذلك المكان.
إذاً: فدية الأذى وفدية اللبس حيث وجد سببها، أما الصوم فإنه يقع في كل مكان؛ لأن نفعه قاصر، فيجوز أن يؤخره إلى أن يرجع إلى بلده.
قوله: (والدم شاة)، الشاة هي الواحدة من الغنم، (أو سبع بدنة) يجتمع السبعة في بدنة، (أو سبع بقرة) يجتمع السبعة في البقرة.
والضبع عند فقهائنا حلال، فجعلوا فيه كبشاً، والكبش هو الواحد من ذكر الضأن، فيرجع إلى ما قضى به الصحابة، أما ما لم يقضوا به فإنه يرجع فيه إلى قول عدلين خبيرين؛لقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] وما لا مثل له تجب قيمته في مكانه، وتقدر قيمته في مكانه الذي ذبحه فيه، ثم يدفع قيمته ويتصدق بها على مساكين الحرم.
وقطع الشجر فيه أيضاً جزاء، إذا كانت الشجرة كبيرة ففيها بدنة، وإذا كانت صغيرة ففيها شاة، وأما الحشيش ففيه قيمته، الحشيش الذي هو أعواد دقيقة منبسطة على الأرض، ففيه قيمته، ورخص في الإذخر، فقد استثناه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يحتاجون إليه لقينهم ولبيوتهم ولقبورهم.
والحاصل أن الشجر فيه الجزاء مثل جزاء الصيد.
وأما صيد حرم المدينة فحرام، ولكن ليس فيه جزاء، فلم يرد فيه الجزاء، ولا يجوز قطع شجره وحشيشه إلا أنه رخص لهم بقطع الشجر في الأشياء التي يحتاجون إليها في الناعورة والبكرة وما يحتاجون إليه، وكذلك الحشيش علفاً لدوابهم، والقتب وهو الذي يجعل على ظهر السانية التي يسنون عليها.
فالحاصل أنه يحرم ذلك ولا جزاء فيه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر