الحمد لله رب العالمين؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، وأثني عليه الخير كله، وأشكره ولا أكفره، وأخلع وأترك من يكفره، نرجو رحمته ونخشى عذابه، إن عذابه الجد بالكفار ملحق، اللهم لك الحمد أطمعتنا وسقيتنا وكفيتنا وآويتنا وإلى الإسلام هديتنا، وإلى التوحيد وفقتنا، اللهم لك الحمد سترت عيوبنا ونشرت فضائلنا، وسترت قبائحنا، وجملتنا بسترك الجميل يا رب العالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة، فهو الرب وحده المالك المدبر المتصرف في هذا الكون ولا رب سواه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، فهو الذي يعبد وحده لا شريك له، فالركوع والسجود له، والاستعانة والإنابة به وإليه، والتوكل عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في أسمائه وصفاته وربوبيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأحبة في الله! أسأل الله عز وجل أن يبيض وجوهنا وإياكم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يحرم أقداماً على النار مشت إلى هذه الروضة من رياض الجنة، وأن يجعل اجتماعانا هذا مرحوماً، وتفرقنا من بعده معصوماً، وألا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً.
أيتها الوجوه المؤمنة! إن من نعم الله عز وجل أن نجتمع ونتآلف ونتعارف، وحيهلا ومرحباً بهذه الوجوه التي تجتمع في رياض الجنة من غير أنساب بينها، ولا مصالح تربطها، ولا مقاصد تريدها سوى وجه الله عز وجل، تجتمعون لتذكروا الله وحده لا شريك له، ولتصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأبشروا بأن الله وملائكته يذكرونكم في الملأ الأعلى، ففي الحديث أن الله عز وجل قال: (أنا عند ظن عبدي به، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه).
أيها الأحبة في الله! الحديث اليوم عن قضية جد مهمة، كما بين أخونا المقدم جزاه الله خيراً، ألا وهي قضية الانحراف، فما أسبابه وعلاجه؟
إن الأعين المبصرة إذا رأت الحق فمن الطبيعي أن تهتدي إليه وأن تستجيب له، وأن تنقاد له بطواعية، فيا سبحان الله! كيف تعمى بعض البصائر عن إبصار الحقائق؟
إن الآذان النقية عن شوائب الشبهات والشهوات لا تستنكف أن تستجيب لداعي الله وداعي رسوله، ولكن ما بالنا نرى آذاناً عن الحق صُمت، وأعيناً عن الحق عميت، وأفئدة عن الحق صرفت، أترون أن هذا لضعف في بيان الحق، أو لضباب في هذه المسيرة، أو لبعد صلة في حجب الحقائق عن هؤلاء الذين انحرفوا وضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.
أيها الأحبة في الله! إن من الطبيعي أن الإنسان يحب نفسه، ويحب مصلحة نفسه، فما بالنا نرى كثيراً من الناس يقصدون إضرار أنفسهم، والوقيعة بأرواحهم وأجسامهم، وإغلال قلوبهم وأفئدتهم، هذا نوع من الانحراف، إن لم يكن هذا هو الانحراف كله.
الانحراف: ميلٌ واعوجاج وتنكب عن الصراط السوي المستقيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
الانحراف: ميل بقصد وربما كان ميلاً بغير قصد، فأما الذي مال بجهل فدواؤه أن يعلم، وأما الذي مال بشبهة، فواجبنا أن ندحض ونبطل هذه الشبهة التي علقت به، وأن نبين له الحق جلياً واضحاً حتى ينقاد إليه بكل ليونة ويسر وسهولة.
وقبل أن نتكلم عن أسباب شيء مجهول، لا بد أن نبين أماراته وعلاماته.
الإعراض عن سماع كلام الله وكلام رسوله، وقصد سماع اللهو ومزمور الشيطان، والطرب والغفلة صورة من صور الإعراض والانحراف.
صرف الأنظار عن التدبر فيما خلق الله إلى رؤية المحرمات والمعاصي والمنكرات والأفلام والمسلسلات صورة من صور الانحراف.
الإعراض عما أباح الله من الطيبات والقصد إلى تناول المخدرات وشرب المسكرات من صور الانحراف.
الاعتداء على حقوق الآخرين، سواء بالسرقة أو الاختلاس أو النهب أو السلب من صور الانحراف.
التعدي على أعراض الناس، احتقار الخلق، بطر الحق، وغمط الخليقة من صور الانحراف.
قطيعة الرحم، الجفاء، التدابر بين الأقارب من صور الانحراف.
عقوق الوالدين، التكبر عن طاعتهم، الرعونة في معاملتهم، التأفف عند أمرهم وخطابهم صورة من صور الانحراف.
معاكسة النساء، إيذاء الغاديات والرائحات، صورة من صور الانحراف.
الاعوجاج عن المناهج الحقة، والقصد إلى الأفكار المصدرة والمذاهب المستوردة صورة من صور الانحراف.
الدعوة إلى اختلاط الرجال والنساء في الوظائف والتعليم والمجامع العامة صورة من صور الانحراف.
الإعراض عن تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم صورة من صور الانحراف.
كل معصية عصي الله بها وخولف بها أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فذلك نوع من أنواع الانحراف.
أيها الأحبة! لو ذهبنا نسرد صور الانحراف لضاق بنا الليل والنهار، ونحن نذكر أنواع مخالفات لا تعد ولا تحصى من تصرفات البشر، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، وبالإشارة تفهم العبارة، والتلميح يغني عن التصريح.
يكفي اللبيب إشارة مرمـوزة وسواه يدعى بالنداء العالي |
أيها الأحبة! وإن كنت أود هذه الليلة أن أركز على الانحراف الأخلاقي، ومن ثمَّ الانحراف العقدي، وإن كان من المنطق والعلم أن نبدأ بالكلام عن الانحراف في العقائد والأفكار أولاً، إلا أن حاجة الحاضرين ليبلغوا من يرونهم يخالفون في هذا الجانب أعظم، ولقلة الانحراف العقدي -ولله الحمد- في مجتمعنا أو ندرته، ولكننا نلاحظ صوراً من الانحراف في السلوك والأخلاق والمعاملة، فيا ترى ما هي الأسباب التي أدت ودعت وأفضت وحققت أنواعاً من الانحراف التي نتأفف منها، ونتبرم برؤيتها، وتنزعج آذاننا لسماعها، وكثيراً ما كانت حديث مجالسنا انتقاداً وبغضاً أن نقع فيها، ودعوة للهداية والاستقامة لمن وقعوا فيها؟!
ولذلك لما تحدث بعض علماء السلف ، فقال له رجل: إن هذه مسألة من المسائل اليسيرة والصغيرة، أو كما يقول بعض الناس: هذه مسألة قشور، وليست من مسائل اللباب، فغضب ذلك العالم، فقال: إنه ليس في الدين قشور ولا لباب، إن الله عز وجل قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5].
فالدين كله مسئولية عظيمة، بأحكامه وأخلاقه وآدابه وأصوله وفروعه، المهم أننا أمرنا أن نتبع هذا الدين اتباعاً كاملاً دقيقاً، وحذرنا الله عز وجل: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168] إن الخطوات هي التي قادت إلى الانحراف، وسببت هذا الضلال.
إن ذلك انحراف كان سببه رفقة تساهل بالجلوس معها وبمخالطتها، وبتفويت بعض الأمور ظناً منه أنها من الصغائر، وما زالت الصغيرة تدعو أختها، فاجتمعت كقشات جمعت فأضرمت، فأصبحت ناراً أحرقت سلوكه، وأحرقت استقامته، وعفافه، وطهارته، فبات فاجراً بعد أن كان براً، وأصبح مفسداً بعد أن كان صالحاً، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نعم -أيها الأحبة- إن المجالسة كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لها أثر، إذ المرء يتأثر بجليسة، ويصطبغ بفكرته ومعتقده وسلوكه وأعماله، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) رواه البخاري ومسلم.
إن من خالط أشراراً حتى ولو كان تقياً، إن من خالط فجاراً حتى وإن كان عالماً، وأعني بالمخالطة أن يجعل مخالطتهم ديدناً وهجيراً، وأن يجعلها سجية وطبيعة له، أما عالم يخالط فجاراً لينصحهم، أو داعية يغشى فجاراً ليدعوهم، أو مهتد يغشى ضلالاً ليناصحهم، فهذا لا يدخل في الأمر، بل غايته أنه يؤجر، والله عز وجل أمر خيرة من في ذلك الزمن (موسى وهارون) أن يذهبا إلى شر خلقه في ذلك الزمن وهو فرعون، الذي قال: أنا ربكم الأعلى، والذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] أرسلهما ربنا عز وجل وقال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:44].
إنما الممقوت والمنهي عنه أن ترى رجلاً سوياً يخالط فجاراً ينسجم إلى مجالسهم، ويطمئن إلى طرائفهم، وينبسط لنكتهم، يتعود غشيانهم ولا يقاطعهم، يجلس معهم من غير دعوة يقصدها، ولا علم ينشره، ولا هداية يرنو إليها، إنما أعجبه حديثهم،أعجبته طرائفهم وسواليفهم وتعليقاتهم -أو ما يسمى تنكيتاتهم- فأصبح يغشاهم، إن ذلك من أسباب الانحراف الخطرة.
والإنسان يتأثر، ولو أتيت بأتقى الناس وأعلم الناس فجعلته يصبح ويمسي في مجالسة اللاهين العابثين الغافلين المستهزئين الساخرين، وجعلته يجلس بينهم فسوف يتحول إلى مستودع وخزينة معلومات، أما سلوكه وطبائعه وغيرته وحميته وأنفته وحبه، سوف يجمد في قالب إذا واجه هذه الأمور التافهة والخطرة، فجمدت حماسته وغيرت أنفته، وغيرت غيرته.
إذاً فلننتبه، وإن من الأخيار من يتساهل بهذه المجالس.
منذ أيام -ربما لا تتجاوز العشرة أو أكثر- جاء شاب إلى المسجد فقال: إني كنت محافظاً على قيام الليل، وكنت محافظاً على الصلوات في الجماعة، وكنت صادقاً وبراً وغيوراً وخيراً وطيباً، فتقلبت أحوالي تقلباً عجيباً، فقلت: ما الذي تغير أو تقلب من حالك؟
قال: أصبحت أنظر إلى الأفلام والمسلسلات الماجنة، وأسمع الغناء، وأتكاسل عن الصلاة، وربما جمعت الفرض إلى الذي يليه، والفرضين إلى الليل، وإني إذا ذكرت تلك الفترة الذهبية الرائعة الجميلة من أيام حياتي أبكي على ما أنا عليه وما أنا فيه، فيا ترى أي دواء تصفه لي، وأي وصفة تكتبها لي؟
فسألته بالله، والله عز وجل يقول: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14] فسألته بالله وقلت له: أنت أدرى مني بنفسك، ولست أعلم الغيب، ولكن أي أمر في سريرتك أحدثته، أي أمر في خلواتك أحدثته، أي أمر أصبحت تتعود فعله في حال لا يراك فيه إخوانك الصالحون، فقال: إنه أمر واحد، وجدت شلة.
ولا أقول ثلة؛ لأن الله عز وجل قال في السابقين وأصحاب اليمين: ثلة، قال: وجدت شلة أعجبني تنكيتهم وضحكهم ومزاحهم، وتعليقاتهم وكلامهم، فأصبحت أغشاهم، وفي البداية كان الشيطان يقول لي: اذهب إليهم فادعهم إلى الله عز وجل، اذهب إليهم تناصحهم، اذهب إليهم تعلمهم شيئاً يجهلونه.
قال: فما هي إلا أيام بعد أن كانوا في بدايات المجالس إذا دخلت عليهم خبَّئوا ورقهم، وأخفوا منكراتهم، إذ بي أنا أخرج ما يخبئونه لنلعب به، وإذ بي أنا الذي أحركهم ليديروا هذه الأجهزة فنرى صور العرايا ونرى صور الماجنات والخليعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذاً القضية أنه ما بات باراً فأصبح فاجراً، وإنما هو تنازل بنفسه، ورضي أن يجره الشيطان تحت تلبيس لإبليس، ووسوسة وغواية بحجة شيء اسمه فيما يتوهم دعوه، وفي الحقيقة أنها غواية من الشيطان له، أصبح يتردد عليهم، تعجبه تعليقاتهم، سخريتهم، تصنيفاتهم، عجائبهم، يقهقهون، يضحكون، يشبعون ضحكاً، ثم بعد ذلك يقوم وهو في كل ليلة يهدم بفأس غفلته صلاحه وإيمانه، حتى بلغ به الحال أن أصبح كذاباً بعد أن كان صادقاً، وأن أصبح فاجراً بعد أن كان باراً، وأن أصبح ضالاً بعد أن كان مهتدياً، ومطلقاً لعينه وأذنه في الحرام بعد أن كان لأذنه وعينه حصوراً عن الحرام، والسبب: هي هذه المخالطة!
إن بعض الناس لو حدثته عن المجالسة، قال: أنا مستعد أن أعطيك آيات عن الجليس السيئ، وأعطيك أحاديث عن الجليس السيئ، وأعطيك أبيات شعر عن الجليس السيئ، وأعطيك حكماً وأمثالاً عن الجليس السيئ، ولكني أقول: لا تعطني من هذا شيئاً، ولكن أعط نفسك، وأعطني التزاماً بقول الله عز وجل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28].
إياك ومجالسة الغافلين، إياك ومجالسة اللاهين، إياك ومجالسة الضالين، إياك ومجالسة المنحرفين؛ لأنك لا تزال في بداية الاستقامة، لا تزال حديث عهد بتوبة، لا تزال قريب تجربة بضلالة، فانتبه لنفسك.
أتظنون أن رجلاً يعمل في معدات البنـزين والوقود يخرج من عمله ومكائنه وورشته، وقد امتلأت ثيابه بالوقود والبنزين، وأطرافه وجسمه بالوقود والبنزين، ثم يجلس بين المدخنين الذين يشعلون ولاعات النار، من الطبيعي أن يحترق ويقبس هذه النار في جسمه على آثار ما علق به من الوقود، وكذلك الشاب الذي لا يزال قريب عهد بتوبة، وحديث عهد باستقامة، إياك أن تخاطر بنفسك، إذا كنت حديث عهد بالسباحة في الأنهار، فضلاً عن أن تكون سباحاً ماهراً تواجه الأمواج العاصفة في المحيطات، إذا كنت لا تكاد تعرف السباحة فهل من العقل أن تذهب لتنقذ أقواماً غرقى تقلبهم أمواج البحار والمحيطات؟ إن واحداً من هؤلاء الغرقى سيتعلق بثوبك فتكون أنت في أسفل الموج وهو في أعلاه، ولتكون أنت تحت طبقات الماء وهو في أعلاها، بتساهلك أو بحجة أنك تريد أن تنقذه، وأنت يا مسكين، وأنت يا غرير، يا جاهل، يا مغرور، تظن أنك قادر على إصلاحه وأنت لم تزل بعد محتاجاً إلى إصلاح نفسك.
أقبل على النفس فاستكمل محاسنها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان |
إن جلساء السوء يحرمون الإنسان حتى الفرصة الذهبية، أو الفرصة التي لا تعوض بأمر الدنيا قاطبة، وحسبكم ما ثبت فيما يرويه البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى عمه أبي طالب لما حضرت أبا طالب الوفاة، ولكن جلساء السوء لا يتركون أحداً حتى في اللحظات الأخيرة.
دخل صلى الله عليه وسلم يعود عمه أبا طالب، فوجد عنده رأس الكفر أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فلم يلتفت لهم ولم يخاطبهم ولم يقل لهم: لماذا أتيتم تؤذون عمي في اللحظات الأخيرة، جئتم تصدونه، بل أقبل عليه يريد في معركة وسباق مع الزمن أيهما ينفذ أولاً سكرات الموت وخروج الروح، أو وصول دعوة النبي إلى قلب أبي طالب، فبدأ أولاً بعمه، قبل أن يكلم أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقام هؤلاء الشياطين، وقال أبو جهل : أتترك وترغب عن ملة عبد المطلب.
وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يحاول، وهؤلاء الصناديد من الضلال يحاولون إغواءه، وهم ينهون عنه وينئون عنه حتى مات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب ، لم يكتف فقط أن يسكت، بل إنما صرح تحت وطأة وتأثير الجلساء لينطق إرضاءً لهم، فيقول مصرحاً: هو على ملة عبد المطلب.
كان بوسع أبي طالب أن يضمرها في نفسه ويسكت، كان بوسع أبي طالب أن يقول كلاماً، كان بوسعه أن يقول لهم: حتى هذه اللحظة لن تنفعوا ولن تشفعوا ولن تقربوا، كان بوسعه أن يقول أموراً بغض النظر هل تنفعه أولا تنفعه، لكن أثر جلساء السوء جعلت هذا الذي ينازع الموت ويحتضر، ويعالج السكرات، جعلته ينطق بما يريد هؤلاء الضلال والطواغيت بالتفصيل، فمات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب.
ولكن إن هؤلاء الذين يضلون بإضلال جلسائهم، وإغواء رفقائهم، هؤلاء يوماً ما سوف يلعن بعضهم بعضاً، ويسب بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، كما قال عز وجل: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167].
والله عز وجل أخبر أن هؤلاء سيندم أحدهم على مجالسة هؤلاء الأشرار الذين أضلوه، يقول عز وجل: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
ليس فقط إضلالاً حبسني عن الذهاب إلى الذكر، بل لقد جاء الذكر إلى أذني فسمعته، وجاء الذكر إلى عيني فأبصرته، وجاء الذكر إلى قلبي فعقلته، وجاء الذكر إلى مكاني فأدركته، ومع ذلك صدني هذا الخليل والجليس والرفيق، حينئذٍ يتبرأ بعضهم من بعض الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
فيا أيها الأحبة! إن رفقاء السوء أخطر ما يكونون على حياة القلب السليم، فكم من شاب زلت قدمه فوقع في الفاحشة، ووقع في هاوية سحيقة مالها من قرار؛ بسبب رفقاء السوء.
حكى بعض المشايخ في بعض الرسائل: أن شاباً توظف في إدارة من الإدارات، فتعرف عليه قرناء السوء، وجلساء السوء من زملائه في الوظيفة، فتساهل معهم، وحضر مجالسهم، وما كانت أحاديثهم تحوم إلا حول السياحة، أتذكر تلك البلد؟ أتذكر ذلك الجسر؟ أتذكر ذلك النهر؟ أتذكر تلك الليلة والجلسة؟ أتذكر تلك الفتاة ؟ أتذكر تلك الموظفة؟ أتذكر عاملة الفندق؟ أتذكر موظفة السنترال؟ أتذكر .. أتذكر .. كان حديثهم يدور حول ما يسمونه بالسياحة، وهو في حقيقة الأمر غواية وضلالة.
فما زالوا يقربون ويشوقون إلى قلبه، ويخيلون أمام ناظريه، ويقربون إلى عقله وفؤاده تلك المجالس والرحلات، وشجعوه، إن لم يكونوا قالوا له: ولا عليك إن كنت تشكو فقراً فبعضنا يتحمل من المال عنك ما تعجز عن بذله، فما زالوا به حتى جمع مالاً وذهب معهم، فكان لما ذهب معهم؛ لأن الإنسان قبل أن يقع في الفاحشة يتنافر ويخاف ويرتعد ويضطرب قلبه، تكاد ضلوع قلبه تتكسر، يكاد قلبه يسقط بين قدميه، الذي لم يقع في المعصية -ولله الحمد والمنة- تجد قلبه يضرب ضرباً أشد من ضرب الطبول الكبيرة من شدة الخوف، وذلك حاجز الوقار والخوف والهيبة من محارم الله عز وجل.
فما زال يراهم على تلك الأحوال، فيأنف من مجلسهم ويهرب عنهم، فلما رأوا أن الليلة والليلتين والثلاث مرت وهم يزنون وهذا لا يزني، فما كان منهم إلا أن مكروا به مكراً تزول منه الجبال، ويشيب منه الوليد، فبينما هو نائم ذات ليلة على سريره في غرفة وحده، إذا بهم يفاجئونه بإدخال فتاة شبه عارية عليه، فما زالت به حتى راودته عن نفسه، فانقاد لهذا الأمر، ووقع عليها، وكتبت له خاتمة السوء، فمات في تلك الليلة في أحضان تلك الباغية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا أيها الأحبة! العاقل ينتبه، ومسألة الجليس لا بد أن نكررها وأن نتحدث عنها، وأن نتذكرها، أن نكلم عنها الأولاد والبنات والزوجات، كم من زوجة عفيفة أصبحت داعرة ماجنة بسبب جليسة أفسدتها؟ كم من فتاة صالحة أصبحت فاسقة بسبب جليسة أفسدتها؟ كم من شاب تقي أصبح لا يبالي أن يزني هنا أو هناك بسبب جليس أغراه وقرب إليه المعصية؟
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي |
إذاً أيها الأحبة! ضعف الإيمان، وعدم الخوف من الله عز وجل، هو الذي أحدث عند كثير من هؤلاء الجرأة على الانحراف، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) روى هذا الحديث البخاري ومسلم.
فضعف الإيمان والهيبة من الله عز وجل جرأ الكثير من الشباب والشابات والرجال والنساء على معصية الله عز وجل، والله إن بعضهم لو قيل له في عمله: مدير الشرطة يريدك، قال: أنا ما فعلت شيئاً، ليس عندي مشكلة! لو قيل له: قسم الحوادث في المرور يريدك، قال: أنا لم أقطع إشارة! يحاسب نفسه، ويتخيل طريقه منذ أن خرج من بيته إلى أن عاد، هل تجاوزت خط المشاة؟! هل قطعة الإشارة؟! هل سلكت طريقاً ممنوعا؟! هل خالفت السير؟! يسائل نفسه مائة سؤال نتيجة لهذه المكالمة.
أما هل يسأل نفسه قبل أن يخرج من البيت: هل يسلم من المعصية؟ هل يسلم من الزلل؟ إذا أراد أن يذهب إلى مجلس .. يا لسان تعاهدني ألا تنطق إلا بحق؟ يا أذن تعاهدين ألا تسمعي إلا خيراً؟ يا قدم تعاهدين ألا تمشي إلا إلى أمر فيه صلاح؟ يا يد هل تأخذين أو تمدين إلا إلى شيء فيه نفع للإسلام والمسلمين؟ القليل من يتحدث مع جوارحه وحواسه، لكننا أو البعض منا يهاب من البشر هيبة ما يهابها من الله عز وجل، وكما قال بعض السلف يعاتب بعض العصاة: [لا تجعل الله أهون الناظرين إليك].
إن طول الأمد والبعد عن الأجواء الإيمانية هو الذي سبب ضعف الإيمان، فإذا كان الإنسان يصبح في عمله، وبعض مجالات العمل يبتلى فيها بعض الناس بجلساء ليس لهم حديث والعياذ بالله إلا عن المعاصي أو عن الفواحش أو إغراق في أمور الدنيا، أو عن الشهوات أو .. أو ... إلخ.
ثم يعود إلى عمله فيأكل لقمته، ويرمي بنفسه، وتفوته الصلاة، وربما ركعها في البيت وصلاها في غير وقتها، ثم قام إلى شلته وسهر معهم، وعاد متأخراً إلى بيته، وزوجته الحزينة وأولاده الضائعون يتمنون رؤيته لحظة أو لحظات من سائر اليوم كله، ثم بعد ذلك يداوم على هذا البرنامج والمنهج.
البعد عن الأجواء الإيمانية يسبب جرأة في المعصية، ويسبب جرأة في ارتكاب المحارم، وما الذي يفرق بين شخصين، شخص تعرض عليه الفاحشة والمعصية والشهوة والفتنة، فيضطرب وينزعج ويخاف ويبكي، ربما بعضهم يبكي من شدة انزعاجه مما عرض عليه من المعصية، وفي المقابل شخص يخطط .. يدبر .. يلاحق .. يطارد .. يبحث .. يعاكس .. يتصل .. يبذل .. يغري؛ من أجل أن يصل إلى المعصية، أليس هذا بشر وهذا بشر، وعند هذا غريزة وعند هذا غريزة؟
لكن الأول الذي عرضت عليه المعصية، فقال: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17] كان سبب إعراضه عن المعصية هو أنه كان قريباً من الأجواء الإيمانية والمساجد، إذا سمع (حي على الفلاح) انتعشت روحه وطار فؤاده، تلذذ كأنما يسمع صوت حبيب يناديه ويناجيه، ويقربه، ويتمنى سماع صوته، انظر أحب أحبابك إليك، وأطيب أصدقائك وأقربهم منك حينما يناديك، انظر كيف يطير قلبك فرحاً لإجابة دعوته وصوته، وترديد صدى كلماته بارتياح وطمأنينة منك.
الذين يعيشون الأجواء الإيمانية؛ إذا سمع أحدهم (حي على الفلاح) شعر أن جبال الهموم تقشعت، وسحائب الظلام زالت، والسحب الكثيفة من الضباب ومصائب الدنيا، والمشاكل، والقيل والقال زالت، سيمشي لا يريد فلاناً ولا فلاناً، ولكن سيذهب إلى الذي خلقه من العدم، سيتجه ليركع ويسجد، سيشكي أموراً، سيحكي أحوالاً، إذا سجد وأناخ جبينه على الأرض .. يا ألله أنت تعلم ما أنا فيه من ضعف، يا ألله أنت تعلم ما أنا فيه من حال، يا ألله اغفر لي، يا رب أكرمني، يا رب أعطني، سبحانك ما عبدتك حق عبادتك، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، تجد لذته في أن يركع ويسجد لله عز وجل، والسبب هذه الأجواء الإيمانية.
أما الذين لا يعيشون الأجواء الإيمانية، ولا يشهدون الجماعة، ولا يحضرون المحاضرات، لا يسمعون الهدى والمواعظ، كل حديثهم في الدنيا والمعاصي والشهوات وما إلى ذلك، فإن أولئك تقسو قلوبهم خاصة مع طول الزمان، قال الله عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] فدلت الآية على أن طول الوقت الذي أمضوه بعيدين عن الأجواء الإيمانية كان سبباً لقسوة قلوبهم، وضعف الإيمان في القلب هو من أهم أسباب الانحراف.
ولذلك نلاحظ هذا الشيء في الذين يعيشون أو يكرمهم الله بالعمل ولو فترة من الفترات في مجال الدعوة، أنت تلاحظ الشاب الذي يلازم الحضور إلى حلقة القرآن، إلى مكتبة المسجد، إلى المعهد والجمعية التوعوية، هذا الشاب الذي يأتيك دائماً مواظباً على هذه اللقاءات؛ تجده بإذن الله غضاً طرياً، مستجيباً، حيياً، حفياً تقياً، وأما الذي ينقطع عن هذه المجالس فسرعان ما تلاحظ أثر انقطاعه قسوة في قلبه:
والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أم من أعاديها |
وهذا شامل لكل أنواع النظر، نظرة في الشاشة، نظرة في المجلة، نظرة إلى امرأة، نظرة إلى الأمرد الوسيم، نظرة إلى ما شئت، المهم أن من أطلق بصره في النظر إلى ما حرم الله مع قلب مريض يزين المعصية، ويخيل الفاحشة والشهوة، فإن ذلك سبب يجر إلى الانحراف، ولذلك فإن الله عز وجل قال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
الله خبير بهذه النظرة، خبير بما يصنعون بها، خبير بأعمالهم وبما يترتب عليها، وبما تقود إليه، وبما تجر إليه قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] تريد طهارة ونمواً ونماءً وسمواً وشفافية في الروح، غض بصرك، كما قال عبد الله بن المبارك : [اترك فضول النظر توفق إلى الخشوع] كثير من الناس يقول: أنا لا أخشع، طبيعي ألا تخشع، إذا كانت الجلسة من العصر إلى المغرب أمام مسلسلات وأفلام وصور نساء، وهذه راقصة وهذه غادية ورائحة، وهذه قد كشفت رجلها وساقها ونحرها وشعرها، ثم يؤذن المغرب وتذهب تريد أن تتذكر الجنة والنار، تريد تبكي من خشية الله، تريد أن تخشع لذكر الله وما نزل من الحق، إذا كبَّرت أعاد لك الشيطان العرض من جديد، يعيد لك المسلسل الذي رأيته العصر بعد تكبيرتك في صلاة المغرب، يعرض عليك صورة المرأة من جديد، وصورة المعاصي من جديد، وصورة الشهوات من جديد.
ولذلك من أدام وأدمن غض بصره؛ أورثه ذلك حلاوة يجدها في قلبه، وخشوعاً ولذة يجدها في صلاته بإذن الله عز وجل، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "قد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته، وإذا أطلق العبد بصره أطلق القلب شهوته" وسئل أحد السلف: ما الذي يعين على غض البصر؟ فأجاب: أن تعلم أن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى الحرام الذي تشتهيه.
إذا أردت أن تنظر إلى شيء نظرة حرام، فتذكر أن نظر الله إليك أسرع من نظرتك إلى هذا الحرام الذي أنت تقصده، ويذكر ابن القيم أبياتاً جميلة فيها:
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهـداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب |
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقه إنه يأتيك بالعطب |
بعض الناس يظن أنه استمتاع، ونقول: لا. سهام البصر سهام عكسية، أنت ترمي فتعود القذيفة إلى قلبك:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله أنت قـادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
إذاً فاحفظ خيالك وبصرك وتفكيرك فإنه يجنبك الانحراف بإذن الله، وهل لك بالسلامة بدلاً من أن تمرض فتبحث عن الطبيب، وعن الدواء ومصاريف العلاج؟
أنت الآن بالخيار، إما أن تأخذ العافية مجاناً بدون تعب، وبدون ذهاب إلى الطبيب، وبدون مصاريف علاج، بمجرد الوقاية، فاحفظ نظرك؛ احفظ هذه العين تسلم من هذه الأمراض، أو تطلق البصر فتمرض، فتذهب إلى طبيب وتحتاج علاجاً ودواءً، إن درهماً من الوقاية خيرٌ من قناطير العلاج مجتمعة.
أيها الأحبة! إن حفظ الفرج مرهون بحفظ البصر؛ كما قال عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] قدم البصر على الفرج هنا لأن هذه الحاسة هي التي تحرك شهوة الفرج، فمن غض بصره أراح قلبه وفؤاده وفرجه، ومن أطلق بصره أتعب حواس أخرى تتبع هذه الجارحة، فحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر، بل هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة، غض بصر يتبعه بالضرورة حفظ للفرج، ويتبعه يقظة ورقابة واستعلاء على الشهوة في مراحلها الأولى.
عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري) إذا وقعت عينك على أمر مما يحدث شهوة أو مرضاً في القلب والفؤاد والعين فعليك أن تصرف بصرك، وحديث جرير هذا رواه الإمام مسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يزني) رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ولاحظ في الحديث أنه بدأ بالعين قبل كل شيء، فمن أراد السلامة من الانحراف فعليه أن يحفظ عينه، والحديث هذا رواه البخاري ومسلم .
ويعلق الشيخ الشنقيطي رحمه الله رحمة واسعة بقوله: ومعلوم أن النظر سبب الزنا، فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا، قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكناً يكون سبب هلاكه والعياذ بالله، فالنظر بريد الزنا.
وقال ابن القيم رحمه الله: فبدأ -أي في الحديث- صلى الله عليه وسلم بزنا العين؛ لأنه أصل زنا اليد، وأصل زنا الرجل، وأصل زنا القلب والفرج هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه.
إذاً: فالنظرات أمرها خطير:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر |
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر |
والمرء مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر |
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر |
ويقول شاعر آخر:
يا من يرى سقمي يزيد وعلتي أعيت الطبيب |
لا تعجبن فهكذا تجني العيون على القلوب |
كم جنت العيون على أقوام فسرقوا، إن العيون جنت على أقوام فزنوا، وأقوام فقتلوا، وأقوام فاغتصبوا، وأقوام فقطعوا الطريق، وأقوام فانتهكوا، وأقوام ... ، وأقوام .... ، لكن من ضبط هذه الجارحة ضبطاً إيمانياً فيما يرضي الله عز وجل، وكانت عينه سبباً لرجحان أعماله يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمنْ لكم الجنة؛ اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتـمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وحسنه الألباني حفظه الله.
وعن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا
إن من غض بصره أيها الأحبة يجد لذة وحلاوة لا يدركها إلا من عرف ذلك، أنت تمشي في الطريق فظهرت فجأة متبرجةٌ، اصرف وجهك فوراً هكذا، ثم انتظر لحظات بعد زوال هذا المنكر الذي صرفت وجهك عنه، تأمل قلبك، والله لتجدن حلاوة، والله لتجدن لذة، جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة، أليس شرفاً لك أن تكون من المتقين الذين يحاسبون أنفسهم في مرضاة الله عز وجل؟
أليس شرفاً لك أن تكون من الذين -بإذن الله- يصدق عليهم قول الله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55].
هذه من دقائق التقوى، وحساسيات التقوى، وشفافيات التقوى، أنك فور ما تقع عينك على شيء من المحرمات تصرف بصرك بكل طواعية واستجابة لله عز وجل وفي قصيدة جميلة مطلعها:
أنا العبد الذي كسب الذنـوبا وصدته الأماني أن يتوبا |
القصيدة طويلة، لكن الشاهد المتعلق بغض البصر قوله:
وغض عن المحارم منك طرفـا طموحاً يفتن الرجل الأريبا |
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا |
فمن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحاً وطيبا |
قال ابن القيم وهو يذكر قصة عجيبة في خطر هذا النظر، يقول في الجواب الكافي: ويروى أن رجلاً بـمصر كان يلزم المسجد للأذان والصلاة فيه، وعلى هذا الرجل بهاء الطاعة ونور العبادة، فرقى -يعني: صعد- المنارة يوماً على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دارٌ للنصراني، فاطلع فيها، فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها.
انظروا مآل البهاء والورع بعد هذه النظرة؛ لأن بعض الناس فيه حماقة، تجده يذهب إلى مكان، يقول: أنا لا أقول لك أني لا أسافر، أنا أسافر لكن لا أعمل شيئاً، أنا أذهب مكان اللهو والدعارة وأتفرج وأنظر ماذا يصنعون وأخرج، أنا لا أعمل شيئاً. فقط أذهب أتفرج، أنا لا أكذب عليك أنا أذهب وأنظر وأمشي، لكن أعوذ بالله! أنا ما أعملها.
وغيرهم يقول: أنا والله لو يعطوني وزني ذهباً -من الكلام الفارغ- أنا وأنا وأنا ما أفعل، وإنما مجرد حب الاستطلاع، والعلم بالشيء خير من الجهل به، وإلى غير ذلك من الكلام الفارغ، وفي النهاية يأتي المسكين ليمتحن نفسه، العاقل لا يمتحن نفسه، إذا قال لك أحد: هذه مجلة خليعة، ليس هناك داع لأن تقول: أعوذ بالله ما هذه الصفحة، أعوذ بالله ما هذه الثانية، أعوذ بالله ما هذه الثالثة، بل صد عينك عنها ومزقها إذا قالوا لك: هذا شريط فيه معصية، فخذه وكسره تحت إطار سيارتك فوراً، ليس هناك داع أن تقول: هات نفحص عليه، لا حول ولا وقوة إلا بالله، قبحهم الله، فعل الله بهم ما فعل.
يخادع الإنسان نفسه، يشتهي نظر المعصية، ويدعي أنه يختبر نفسه، وأن إيمانه قوي، ويعرض نفسه للفتن، كالذي يغتسل بالبنـزين، ويأتي يمر عند أناس معهم ولاعات، ستصيب شرارة من شرارات هذه الوالعات قطرة من البنـزين العالق في دمه، ثم يحترق ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أقول هذا الكلام؛ لأن كثيراً من الشباب هداهم الله إذا ناقشته قال: يا أخي أنا لا أكذب عليك ولا أدور معك، نعم أنا سافرت لكن والله ما أفعلها، لكن تريد الحقيقة أنا ذهبت ونظرت، أنا اطلعت بعيني، أقول: لا. لا تفتن نفسك ولا تعرض نفسك للعمصية، وما أمرك الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم حتى تثبت صدقك إيمانك أن تعرض نفسك على الفواحش، لتعرف مدى درجة نجاحك في امتحان التقوى والإيمان، وإنما أمرت أن تنصرف عن هذا بتاتاً من أول الطريق ومن بداية القضية.
الحاصل أن هذا المؤذن الذي عليه نور العبادة وبهاء الطاعة في تلك البلاد، رقى المنارة يوماً على عادته، وكان تحت المنارة دار لنصراني، فاطلع فيها، فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها بنظرة، فترك الأذان، ذاهب يريد أن يقول: الله أكبر، يوحد الله، ويشهد بأن محمداً رسول الله ويدعو إلى الصلاة، ولكن لما رآها افتتن بها، فترك الأذان ونزل إليها، ودخل الدار عليها، فقالت له: ما شأنك وما تريد؟ قال: أريدك، قالت: لماذا؟ قال: لقد سلبت لبي، أي: نظرت إليك نظرة ما أبقت في قلبي مكاناً لغيرك والعياذ بالله.
وليس بغريب مادام ترك الأذان والصلاة، وترك أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمؤكد أنها سلبت لبه، فقالت: لا أجيبك إلى ريبة أبداً، أي: لا أرضى أن تفعل شيئاً، فقال: أتزوجك، قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك، قال: أتنصر ولا حول ولا قوة إلا بالله، قالت: إن فعلت، أي: إن تنصرت أفعل، فتنصر الرجل ليتزوجها، وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم، رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه، فمات فلم يظفر بالفتاة، وفات عليه دينه، فلا تأمنن على أحد.
وإننا بهذا لنحذر الشباب الذين يسافرون إلى الخارج، أو يدرسون في الخارج من الوقوع في حب بعض الكافرات، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10] بعض الشباب يرى امرأة كافرة فيعجب بها، وربما يأتيه الشيطان بطريقة يظن أنها ذكية وهي في منتهى الغباء، تقول له الفتاة: أنا لا أتزوجك، أنت من بلاد أصولية، أنت مسلم، حتى تتنصر فأتزوجك، يقول: لا يوجد إشكال أذهب إلى الكنيسة فأتنصر، حتى فقط أظفر بها ومن ثم أرجع للإسلام، وما يدري لعل ملك الموت بانتظاره عند باب الكنيسة، وما يدري لعل ملك الموت بانتظاره بعد أن ينطق بما يرفض به التوحيد ويقر فيه بالتثليث أو بـالنصرانية .
يقول ابن الجوزي رحمه الله: فاحذر يا أخي وفقك الله من شر النظر، فكم قد أهلك من عابد وفسخ عزم زاهد، فاحذر من النظر فإنه سبب الآفات؛ إلا أن علاجه في بدايته قريب، فإذا كرر -أي النظر- تمكن الشر بسببه فصعب العلاج حينئذ، إن إطلاق البصر يؤدي والعياذ بالله إلى مرض وداء عضال ألا وهو العشق، والعشق درجة أخطر من ميل النفس والهوى.
يقول ابن القيم رحمه الله: إن إطلاق البصر يوقع في سكرة العشق، فالنظرة كأس من خمر، والعشق سكر ذلك الشراب، أي: النظرة هي كأس الخمر، لكن حالة السكر والضياع وغيبوبة العقل وفقدان الذاكرة مرحلة العشق ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وسكرة العشق أعظم من سكرة الخمر، فإن سكران الخمر يفيق، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات، والعشق هو تعلق القلب بالمعشوق أياً كان، وسببه استحسان الصورة التي ثبتت بهذه النظرة، فيميل القلب ويتعلق بها، فإذا طمع في وصالها تمكن العشق من قلبه، وإدمان إطلاق البصر في القلب، ينقش في القلب صورة المنظور، فيصبح لا يرى إلا صورة معشوقه والعياذ بالله، ولا يسمع إلا صوت معشوقه، ولا يحب إلا صوت معشوقه، ولا يرح إلا رائحة معشوقه، فينصرف عن العبادة وعن الطاعة وعن المحبة.
واسمحوا لي. وأقولها مطأطئاً جبيني خجلاً منكم أيها السامعون: إن شباباً يعشقون شباباً، وإن نساءً يعشقن نساءً، ووالله مراراً وتكراراً قرأت رسائل جاءت إلي في بيتي والمسجد والمكتب من عدد من الشباب والفتيات كلها تشكو من هذا المرض ولا حول ولا قوة إلا بالله، فحينما نتكلم عن العشق، نحن لا نتكلم عن أمراض لم تصل بعد أو لم تقع، لا بل هي موجودة، بل إن واحداً منهم جاء إلي يخبرني بأمر استحيت أن أسمع بقيته، قال: لا بد أن تسمع قصتي كلها، لابد، فما كان منه إلا أن سجل كل مشكلته في شريط بصوته، فلما سمعته وقف شعر جسمي، وطار فؤادي، وما كنت أظن أن هذا يقع.
ولكن كل الحوادث مبدؤها من النظر، بإطلاق البصر والخيال والفكر، وهذه الدنيا الفسيحة بما فيها من جمال أبدع الله خلقه وتكوينه وصورته، تضيق حتى تكون في عين فيها القذا، وتكون في أنف فيها المخاط، وفي فم فيها الروائح النتنة، وفي جوف فيه البول والغائط والعذرة، وفي جسم كله العرق والنتن، مصيبة من المصائب ولا حول ولا وقوة إلا بالله.
لكن نقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من خلقه من غير حول منا ولا قوة، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً.
القضية خطيرة، ولا يأمنن أحد منها، ذات مرة أحد الشباب بلغ في مركز الهيئة بأن عاملاً من جنسية كذا يفعل شيئاً من الشذوذ، فأراد الإخوان جزاهم الله خيراً أن يشرفوني بمشاركتهم في الوقوف على تلك الحادثة، فقمت معهم فلما بلغنا المكان الذي يذكرون فيه حالة ذلك الشاب، وجدت خلقة .... -رجل لا أستعيب خلق الله، لكن من ينظر إلى مثل هذا؟!- قلت: هذا، فأمسك بي أحدهم، قال: احمد الله، واتق الله، وقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، إن هذا يبكي على وصاله لشباب، ويندم على فراقه لشباب، من هذا المرض الخطير والداء العضال ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الحديث موصول أيها الأحبة عن أخطار النظر، وأنه من أسباب الانحراف، وما يفضي إليه في مسألة العشق، وخطورة هذه القضية التي ابتلي بها بعض الشباب وبعض الشابات، وإنها لمسألة خطيرة، تحجب على من وقع في هذا عقله وفكره، وتحرمه من أن يستفيد من سمعه وبصره، وسائر العلم والمعرفة إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] فتضيع هذه الحواس والجوارح وقنوات العلم إلى توحيد الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، لتصبح منصبة محصورة في هذا المعشوق أو المعشوقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد كانت نهاية كثير من العشاق تبلبل الفكر والوساوس، وبعضهم أفضى به عشقه إلى الجنون، ومنهم من قتله العشق، أو ليس ذلك الذي يقول:
أراني إذا صليت يممت نحوهـا بوجهي وإن كان المصلى ورائيا |
والعياذ بالله! وهذا ليس ببعيد أن يقع منهم، والله إن بعضهم يشكو ويقول: أكبر أريد أن أخشع، أريد أن استعذب الفاتحة، أريد أن أتلذذ بمعنى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيم * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:1-5] أريد أن أتعامل وأتفاعل مع هذه الآيات البينات، فلا أرى أمام عيني إلا صورة هذا وهذه ولا حول ولا قوة إلا بالله، والسبب إطلاق البصر، والعلاج: لا بد من عزيمة وإرادة صادقة في مواجهة هذا، والأمر يحتاج إلى إرادة قوية.
فالعشق والعياذ بالله ربما أفضى إلى القتل، وربما أفضى إلى الإدمان على المسكرات والمخدرات، وقد ألف السراج البغدادي رحمه الله، وهو من الذين توفوا في أوائل القرن السادس عام خمسمائة للهجرة تقريباً، ألف كتاباً سماه " مصارع العشاق " ولعلكم تسمعون أيضاً بكتاب " مصارع العشاق " لـعلي القاري ، إلا أن هذا موضوع وهناك أيضاً محاضرات مصارع العشاق للشيخ عائض بن عبد الله القرني ، تختلف عن هذا الموضع، لكنها من بدائع الفرائد وأجمل الفوائد التي حوت جملاً ونثراً وحكماً ونصوصاً جميلة، فمن لمن يسمع ذلك الشريط فليسمعه.
بعض الناس يتساهل إما بذاته أو لأبنائه بأن يسافروا للخارج، وبعضهم بدعوى السياحة، وبعضهم بدعوى تعلم اللغة الإنجليزية، ويرجع الكثير من هؤلاء إلى بلده وقد تشبع بألوان الفساد والمعاصي، فضلاً عن أنه أصبح يحتقر واقعه، بعض الناس من شدة سفره إلى الخارج لغير حاجة، أصبح لا يطيق السنة إلا وسافر مرتين أو ثلاث إلى بلد يرى فيها عراة وخموراً وأموراً منكرة، قد ألفت نفسه هذه المعاصي والعياذ بالله.
أصبح يتضايق من هذا المجتمع الذي إن رأى فيه امرأة وجدها قد غطت نفسها ويديها بقفاز، ورجليها بشراب أسود وعباءة سوداء، يأنف من هذا المجتمع الذي يغلق دكاكينه للصلاة، والذي لا يرى فيه ما يشتهي، ولكنه حينما يهبط مطار تلك الدولة الغربية أو الدولة القريبة أو البعيدة، فيرى الخمور على يمينه والغاديات علي يساره، وهذا يحضن عشيقته، وهذا يقبل صديقته، وتلك دعاية للسينما، وتلك دعاية للمسرح، وتلك صورة لنجم من نجوم السينما، وتلك صورة لراقصة، وتلك حفلة يدعى الناس إليها، يرتاح والعياذ بالله، إن السفر إلى تلك البلاد شر كله، ولا يعذر أحد بالسفر إلى الخارج، إلا لحاجة أو ضرورة وفق الضوابط الشرعية، وليس هذا وقت تفصيلها.
بعض الناس مادام مشغولاً فلا خطر عليه، لكن إذا تفرغ اشتغل والعياذ بالله بألوان المعاصي، الفراغ داءٌ يقتل الفكر والعقل والطاقة الجسمية، الفراغ أمر خطير، النفس بطبيعتها لابد لها من حركة وعمل، فإذا كانت النفس فارغة تبلد الفكر، وأصبح العقل ثخيناً، وضعفت حركة النفس، واستولت الوساوس والأفكار الرديئة على القلب، وربما حدثت إرادات سيئة شريرة يقع بها شر كثير وانحراف خطير.
انظروا ماذا يجنيه الفراغ على شبابنا الفارغين في مجتمعنا هذا، وحينما نتكلم عن قضية لابد أن نتكلم عن واقعنا، نحن الآن لا نتكلم عن المريخ ، أو نتكلم عن الشيشان أو واق الواق ، نتكلم من أجل علاج مجتمعنا، الذين يقولون: إن مجتمعنا ليس فيه منكرات ولا مصائب ولا أخطاء، هؤلاء ينافقون ويداهنون ويضللون الأمة، والذين يقولون: مجتمعنا ليس فيه خير ولا بركة ولا مصلحة هؤلاء جاحدون أيضاً، مجتمعنا فيه خير وفيه شر، وما أقيمت المحاضرات والدعوة والندوات وطباعة الأشرطة، وتوزيع الكتيبات والأمور الدعوية، إلا لتنمية الخير والقضاء والإبادة على الشر بإذن الله عز وجل.
الدكتور ناصر العمر حفظه الله ينقل في محاضرة من محاضراته: أن دراسة أجرتها جامعة أم القرى عن كيفية صرف الشباب أوقاتهم، خذوا هذه النسب العجيبة، الذين يصرفون أوقاتهم لمشاهدة برامج التلفاز (57%)، الذين يصرفون أوقاتهم لكرة القدم (52%) الذين يصرفون أوقاتهم لاستماع الإذاعة (32%)، الذين يصرفون أوقاتهم يتمشون بالسيارات (32%) الذين يصرفون وقتهم بلعب الورق (24%)، الذين يصرفون أوقاتهم بعلب الشطرنج (14%)، الذين يصرفون أوقاتهم يجلسون في المقاهي (11%) الذين يصرفون أوقاتهم في الموسيقى (11%)، الذين يصرفون أوقاتهم في الرسم (10%).
فبالله عليكم يا أيها الأحبة! ما الذي بقي للأعمال المثمرة الجادة التي تنفع الأمة وترد الأعداء؟ اجمع هذه النسب وانظر:
ما هي البقية الباقية لشباب الأمة التي تفكر في طرد اليهود؟
ما هي البقية الباقية من الأمة التي تفكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ما هي البقية الباقية من الأمة التي سعت لتكون قيادات حضارية لأمة تواجه غزواً مستمراً من جميع الجوانب والمجالات والاتجاهات؟
كم عدد الأطباء، المهندسين، الطيارين؟ يبقون قلة قليلة مع الدعاة والعلماء والقضاة والولاة والمسئولين، لكن أغلبية ساحقة من شباب الأمة هكذا تضيع أوقاتهم، فإن كنا نرى هذا ولا يهمنا فتلك مصيبة، وإن كنا لا نستطيع أن نفعل شيئاً في مقاومات هذا السوس الذي ينخر في جذور الأمة وشبابها فتلك مصيبة أعظم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والعلاج أن نسعى جميعاً، أن نملأ الأوقات بما ينفعنا في قراءة، في تجارة، في دعوة، في أعمال، في كتابة، في بناء، في مهنة، في بناء، في صنعة، في حرفة، المهم لا يبقى شباب الأمة في فراغ.
إن الأمة لا ينفعها كثير من الهوايات التي طلبت لها المجلات والمسلسلات، إنها لا تستفيد منها شيئاً أبداً، وأكبر دليل على ذلك: إذا أمة من الأمم حشدت دولة على حدودها دبابات وجنود للقتل والقتال، انظر من يبرز لهؤلاء الأعداء، يبرز لها الرجال الصادقون الأشاوس، الجنود الأبطال، الدعاة والعلماء والمفكرون، وأما البقية الباقية:
فأنت امرؤ فينا خلقت لغيـرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع |
إذا كان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص |
الولد ينشأ على ما عود عليه:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه |
إننا نستطيع أن نربي أطفالنا وناشئتنا بأبسط الوسائل وأيسر الأساليب، وأسهل الطرق، تربية تحصنهم تحصيناً نافعاً ضد كثير من المعاصي والمنكرات، إذا أحسنا تربيتهم.
أيها الأحبة! إننا ننازع التربية، اليوم أسألكم بالله: من منكم يربي ولده يومياً ساعتين، هل يوجد؟ أنا لا أقول في المائة واحد، بل أتحدى أن يخرج من الخمسة آلاف واحد يقول: أنا أجلس مع ولدي ساعتين يومياً، ولا أبالغ في هذا الكلام، إلا الذي يقول: والله أنا أجلس على مباراة الكرة أنا وإياهم ساعتين وثلاث، أو أجلس أنا وإياهم على فلم السهرة، أو أجلس أنا وإياهم على الـ (mbc) أو على القناة الفلانية، أو على (أوربت) أو القنوات الفضائية، نعم بعض الناس -ما شاء الله- يظن أن هذا من التربية، لا، السؤال عن التربية الحقيقية، التربية على كلام الله ورسوله، التربية على التخويف من النار والترغيب في الجنة، التربية على التشويق إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم، والتعرف على الصحابة في الجنة، التربية على الطمع والأمنية أن تنظر العيون إلى وجه الله الكريم، من يقوم بهذه التربية؟ نحن ننازع التربية.
المدرسة تربي وبارك الله في العلم والتعليم والمعلمين، نسأل الله أن يسددهم، ولكن من المصائب أيضاً أن بعض الأولاد ربما عاد من المدرسة بداء عضال، وتلك مصيبة، والسبب وجود عينات من الطلاب من أسر غير مهذبة وغير نظيفة، أخذت تعدي بقية الطلاب بعدوى جعلت الناس يبحثون عن مدارس معينة من أجل المحافظة على الولد، وإذا خرج الولد من المدرسة من الذي يشارك في التربية؟ إنهما الشارع والسوق، هذا الكلام لا نلوم فيه أحداً، نلوم فيه أنفسنا ومجتمعنا وما هو تحت أيدينا ونقدر على إصلاحه وتغييره بإذن الله عز وجل.
ثم إذا انتهى موضع الشارع، تستلمه الشاشة وتربيه لك ساعتين على أفلام كرتون، وساعة برامج وهلم جرا إلى أن ينام في طريقه، أنا أقترح وأجدها أيها الأحبة سهلة وميسورة:
إن كنت قادراً على أن تجلس مع ولدك يومياً لا تفارقه من بعد العصر إلى وقت النوم، فهذه قمة التربية، أنا لا أقول لك: كن جاسوساً عليهم أربعاً وعشرين ساعة، تفرض عدم الثقة فيهم، لكن أقول: أن تكون لصيقاً صديقاً رفيقاً معهم في أغلب أحوالهم إن لم يكن فيها كلها، إذا استطعت نعم، لكن اليوم أغلب الناس مشغولين، الأب كان الله في عونه في العمل، ومتى يأتي، ثم في العصر لا بد أن يرتاح ويخلد إلى الراحة، وإلا يأتي واحد ويقول: أنت تعال نام جنبي هنا، وأنت جنبي هنا، وأنت تعال عند رجلي، الواحد يمسك أربعة خمسة بيديه ورجليه هذه ليست طريقة.
لكن هنا مسألة سهلة، إذا كنت أباً مشغولاً فلن تعجز أن تبحث عن الأبرار، واحد من الأبرار الأخيار تقول: تعال يا أخي، أنا عندي هذا الطفل، عندي هذان الطفلان، عندي ثلاثة أطفال، أريدك يومياً تستلمهم بعد صلاة العصر في حلقة تحفيظ القرآن، تجلس معهم وتتأكد أنهم قرءوا قراءة مجودة مرتلة ممتازة على الشيخ في المسجد، فإذا سمعوا على الشيخ في المسجد أعد التسميع والمراجعة منهم إليك، ثم خذهم إلى البيت وراجع دروسهم، فإذا انتهت مراجعة الدروس اشرب أنت وهم، وأعطهم من هذه القصص، بعد المغرب هات من السيرة النبوية، ومن قصص الصحابة والتابعين إلى العشاء، حتى رأسه يدور مستعد للنوم يستلم الفراش، وما تجد أحداً ينازعك التربية أبداً بهذه الطريقة.
الآن بعض البيوت فيها سواق أو أكثر، وفيها عدد من الخادمات، وفيها وفيها، ولو تقول لبعض الآباء: احضر واحداً من خريجي الجامعات الإسلامية من البلدان الإسلامية المجاورة، من زملائك الذين تثق فيهم هنا، قال: أنا مجنون ادفع ألف ومائتين أو ألف وخمسمائة ريال على قضية تربية؟!
إذا لم يكن هذا الولد صالحاً فسيكون فتنة وبلاءً أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28] ويكون الولد عدواً: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ [التغابن:14] فإذا شئت أن يكون الولد صديقاً لا عدواً، وحسنة لا فتنة فعليك بتربيته، فإن ذلك يجعلك تأمن من انحرافه بإذن الله عز وجل.
قد يقول قائل: يا أخي أنا على الله أسدد فاتورة الكهرباء، وأنت تريدني أن أحضر شخصاً بألف وخمسمائة ريال شهرياً، هذا كلام معقول، أنا وأنت والثاني والثالث نحن أربعة نحضر واحداً ونتقاسم راتبه، ونقول له: يا أخي! مسئوليتك بعد العصر أن تستلم هؤلاء الأولاد من هذا الوقت إلى هذا الوقت تدرسهم دروسهم، تراجع لهم حفظ قرآن، مراجعة من السيرة، من الأدب، اجعلهم فصحاء، علمهم آداب الدخول والخروج من الخلاء، والصباح والمساء، ومخاطبة الناس، والرد على الجاهلين، علمهم هذا الأدب، والله ليس بكثير لو أنفقت كل مالك على تربية أولادك.
يا إخوان نصيحة لوجه الله، لا تستكثر على أولادك مالاً تنفقه في التربية، فإنك سوف تعوض هذا المال حسنات تنفعك وأنت في قبرك: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، وذكر منها ولد صالح يدعو له) تريد أن تكون حياً وأنت في المقبرة، تريد أن تصلي وتسجد وتصوم وتعتكف وتتصدق وتجاهد وأنت في المقبرة، انتبه لولدك وابنتك وربه تربية طيبة، فإن ذلك بإذن الله يحقق خيراً عظيماً.
من أسباب الانحراف: الفجوة بين الصغار والكبار:
بعض الصغار يتوقع أنه من الصعوبة أن يكلم رجلاً كبيراً، وبعض الكبار يأنف أن يكلم هؤلاء الصغار، قال أنس: كان صلى الله عليه وسلم يسلم على الصبيان، وكان ابن عباس وهو شاب صغير، يجلس مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: بما نلت العلم؟ ويقول: بلسان سئول وبقلب عقول.
نعم أيها الأحبة! إن كسر الحواجز الموجودة بين الصغار والكبار تجعل الصغار يتشجعون على أن ينالوا درجات الرجولة التي يتمتع بها الكبار، وينبغي للكبار أن يزيلوا هذه الجفوة وشيئاً من الكبر الذي يقعون فيه، ليس عيباً أن تسلم على ولد جارك الصغير وتطأطئ رأسك له، وتسأله كم حفظت من القرآن، في أي سنة أنت؟ ما شاء الله عليك، أجبني كم عدد أركان الإسلام؟ هل تعرف هذا السؤال؟ تفضل هذه جائزة، ينبغي أن ينظر بعضنا إلى أبناء بعض من أبناء جيراننا وأبناء حينا نظرة أبوية، وعطفاً حانياً عليهم.
إذا كسرت الحواجز بين الكبار والصغار، أصبح الصغير ينظر إلى شيم وأنفة وآداب الكبير فلا يتردد أن يسير مثله.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهـم إن التشبه بالكرام فلاح |
لكن للكبار شلة معينة، والصغار شلة معينة، داءٌ يسري في كل حلقة وكل دائرة على حدة، ثم لا يستفيد أحد من أحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهي واضحة جلية، إن كثيراً من الشباب وقعوا في اللواط والزنا والفساد، بسبب معوقات الزواج التي أولها المغالاة في المهور، بعض الشباب يقول: كيف أستطيع أن أجمع مائة ألف أو مائتين ألف من أجل أن أتزوج؟!
صار يجمع رواتب إجازة ويسافر بها إلى الخارج ويفعل ما يفعل ثم يعود من جديد ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبعضهم ربما وقع في الشذوذ والانحرافات التي يستحي الإنسان من الكلام في التفصيل فيها، بعضهم أيضاً يعرض عن الزواج لأجل هذه الولائم وهذا الإسراف التي جرت به العادات والتقاليد.
أذكر مرة في قرية من القرى أننا ذهبنا مع بعض المشايخ، ولما حضرنا وليمة بعد المحاضرة ظنناها زواجاً، فإذا هي عزيمة عشاء قبل العرس، وبعد هذا العشاء غداء، وبعد هذا الغداء عشاء، وبعد ذلك يدخل العريس وتمد ثلاث موائد الأولى والثانية والثالثة من هذا الجدار إلى جدار النساء تقريباً، ولا أبالغ إن قلت أطول من ذلك، ومن أين الدراهم؟ الجمس بمائة وعشرين يتدينه بمائتين ألف، صالون دتسون غمارتين بأربعين ألفاً يتدينه بستين ألفاً، وكأنما ينحتون من الجبال، هذه المعوقات أدت إلى الانحراف.
فواجبنا أيها الأحبة! أن نيسر الزواج على الشباب، وأنصح الشباب الذين يريدون الإعفاف والإحصان: لا تتشرط في الزواج، تزوج مطلقة يجعل الله فيها خيراً، تزوج أرملة يجعل الله فيها خيراً، تزوج امرأة أكبر منك يجعل الله فيها خيراً، فإنك بهذا تحصن نفسك، لكن شاب يريد أن يتزوج، الشهوة تؤذيه في ليله ونهاره، يا أخي ليس ضرورياً أن تتزوج بكراً مهرها أربعين أو خمسين ألفاً تعجز عنه، لكن هذه امرأة مطلقة عندها طفلان مثلاً، ممكن أن تتزوجها بعشرة آلاف ريال، هذه امرأة أرملة، هذه امرأة أكبر منك في السن، وربما تنفق عليك، والرسول صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة بنت خويلد وبينهما من الفارق خمسة عشر عاماً، هذا ليس عيباً، ونقولها بكل صراحة.
لكن الأفلام والمسلسلات والروايات والقصص غرست أنه لا بد في الزواج من الحب، والحب لابد فيه من تكافؤ، وأن حبيبتك تحب نفس اللون الذي تحب، وتكره اللون الذي تكره، وتحب الساعة التي أنت تحبها، والنادي الذي تشجعه، والفريق والمطرب والفنان والمجلة والرسم واللون والقصة، وعدد ما شئت من هذه الهوايات السخيفة، حتى يتوافق زوجان في كل شيء، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولن يتفقا بأي حال من الأحوال.
ومن ذلك هذه المخططات التي لا يزال أعداء الإسلام يصدرونها إلينا صباحاً ومساءً، ولا يكلون ولا يملون، والأمة عما يدار ويخطط ويحاك لها غافلة، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.
من أسباب الانحراف: الافتتان بالمال:
قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال) رواه الترمذي .
نعم أيها الأحبة! إن من الناس من يشغله المال إشغالاً إلى درجة تجعله يكذب ويعق، ويقطع، ويسرق ويهدم، ويسب ويشتم، ويفعل كل شيء، من أجل أن يكسب زيادة خمسمائة ريال أو أربعمائة ريال، أو حفنة من حطام المال الحقير التافه.
والمال مفسد لدين المرء كما في الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه الترمذي : (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) أي: أن حرص المرء على المال، هذا الحرص والشح والهلع والجزع في مسألة المال يفسد دين المرء، ويكون سبباً من أسباب الانحراف.
أو الخلوة بالأجنبية من الرجل أو المرأة سائقاً أو خادماً، أو خادمة أو مربية، أو ممرضة أو نحو ذلك، وبالجملة تساهل الناس بالخلوة، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من هذا فقال: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري.
قال النووي : المراد في الحديث بالحمو: أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) له معاني عدة، فيحتمل أن يكون المعنى أن الخلوة بالحمو تؤدي إلى هلاك الدين إن وقعت المعصية، والمعنى الآخر أو تؤدي إلى الموت إن وقعت الفاحشة أوجبت حد الرجم، أو المقصود احذروا الخلوة بالأجنبية كما تحذرون الموت.
هذا الكلام لا يفقهه العلمانيون الذين يقولون: إن نصف المجتمع معطل، والمجتمع الذي لا تعمل فيه المرأة في كل مجال وفي كل سبيل وبكل طريقة من غير قيود ولا ضوابط مع الرجال، هذه المعاني لا يفقهها العلمانيون، العلمانيون الذين يرون الدين في المحاريب والمنابر فقط لا غير، ويستنكفون أن يكون الدين في كل مجالات الحياة، لا يفقهون كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدركون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على المحارم) ولا يفقهون قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)رواه الترمذي.
إن الخلوة بيـن الرجل والمرأة تفعل فعلاً شنيعاً، وإن من واجبنا ألا نشيع الفاحشة في المؤمنين، ولا نذكر كل فاحشة تقع، لكن لو أننا في مواقع نطلع فيها على ما يطلع عليه رجال الحسبة والهيئة، ورجال الأمن من المصائب الذي يشيب منها الولدان، لرأينا شيئاً تشيب منه الرءوس واللحى من خطورة وحوادث وأعداد مصائب خلوة الرجال بالنساء، من رجل بخادمة، وسائق بامرأة، ورجل بممرضة وغير ذلك.
هذه قصة من السنة تتعلق بمسألة موضوع الخادمة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، قال: قل، قال: إن ابني هذا كان عسيفاً -أي: أجيراً والخادم يسمى عسيفاً- فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم.
فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد عليك، أي: مردودة عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا رضي الله عنه على المرأة، فاعترفت -يعني سألها عن مسألة الزنا لأنها محصنة فاعترفت- فرجمها. رواه البخاري.
إذاً: خطورة الخدم من القديم موجودة، وحينما يسوغ لبعض البيوت استخدام بعض الخدم بضوابط شرعية لا يعني ذلك فتح الباب، بعض البيوت عندهم من الخدم شيء غريب جداً، لا من عدد، أو من الجمال، أو من السن، أو من الخلوة، أو من التساهل، بعضهم لا يتردد أن الخادمة هي التي تقرب الغداء والعشاء أمام الرجال، وبعضهم يفتخر أن عنده خادمة فليبينية أو من جنسية معينة، ببنطلون وقميص وبلوزة وشعر مسرح، ويجملها ثم يأمرها تدخل بالشاي وغير ذلك على الناس، هذا عرض دعارة والعياذ بالله، ما هذا الكلام؟ إذا ابتليت بالحاجة إلى هذه الخادمة فاتق الله، واعلم أنك مسئول عن سترها وعن تحجيبها.
من أسباب الانحراف: وسائل الإعلام التي انفتحت على الناس بشر عظيم، نسأل الله أن يكفينا شرها وما وراء ذلك.
الحديث يطول ولعلي أن اختصر، لقد تكلمنا عن الاختلاط والخلوة بالأجنبيات.
إن من مظاهر الانحراف: أن من المسلمين من لا يقومون إلى الصلاة إلا كما يقوم إليها المنافقون: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142] وبالمناسبة فإن الله عز وجل، لم يقل: وصلوا، ولم يقل: الذين يصلون، وإنما قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:3] وقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] فنحن نرى كثيراً من المصلين، ولكن ما أقل الذين يقيمون الصلاة من هؤلاء، نسأل الله أن نكون وإياكم ممن يقيمون الصلاة.
اعذروني عن طرح بقية هذا الموضوع فيما يتعلق بوسائل العلاج، وفيما يتعلق بمجال الانحراف الفكري والعقدي، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وما سمعتم من صواب فمن الله وحده لا شريك له، وما كان فيه من زلل فمن نفسي وأستغفر الله، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر