الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: معشر الإخوة الكرام! تدارسنا سابقاً بعض أحكام عشر ذي الحجة، وسأكمل الحديث عن تلك الأحكام.
سيكون حديثنا حول أمرين اثنين: حول إكمال ما يتعلق بفضل يوم عرفة، وحول أحكام الأضحية.
أما الأمر الأول فقد تقدم معنا منزلة يوم عرفة في الإسلام، وتقدم معنا بيان الخيرات الحسان التي يغدقها ذو الجلال والإكرام على عباده يوم عرفة، فهو سبحانه وتعالى يدنو من الحجاج ويتجلى ويقول: ما أراد هؤلاء، ولا يوجد يوم يحصل فيه عتقاء لله من النار كما يحصل في يوم عرفة، ولذلك لا يرى الشيطان في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ لما يرى من تنزل الرحمات، وتجاوز الله عن الذنوب العظام.
روى الإمام ابن خزيمة في صحيحه، والإمام البيهقي ، والحديث رواه الإمام البغوي في شرح السنة، ورواه ابن حبان في صحيحه أيضاً، والإمام البزار في مسنده، وهكذا أبو يعلى في مسنده، من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا كان يوم عرفة نزل الله إلى السماء الدنيا، فباهى بأهل الموقف ملائكته، فيقول: عبادي جاءوني شعثاً غبراً ضاحين -أي متعرضين لأشعة الشمس وشدة الحرارة- من كل فج عميق، أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم، فتقول ملائكة الله الكرام -على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام-: ربنا! فيهم فلان يرهق وفلان وفلان -أي يرتكبون الرهق وهو الإثم والمعاصي ويغشون المحارم، حضروا في هذا الموسم، لكن عندهم من الخطايا ما عندهم- فيقول الله جل وعلا: قد غفرت لهم، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: فما من يوم يعتق الله فيه عبيداً من النار أكثر من يوم عرفة ).
هذا الحديث مروي في هذه الكتب، وجميع رجال إسناده ثقات أثبات، وتكلم حول العبد الصالح أبي الزبير المكي وهو محمد بن مسلم بن تدرس ، وحديثه مخرج في الكتب الستة وهو صدوق، لكنه يدلس، وهو الراوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقد صحح الحديث عدد من أئمتنا، وهذا العبد الصالح، أعني: أبا الزبير المكي توفي سنة ست وعشرين ومائة للهجرة.
وفضائل هذا اليوم كثيرة غزيرة.
روى الإمام ابن المبارك عن شيخه سيد المسلمين سفيان الثوري عليهم جميعاً رحمات رب العالمين، عن الزبير بن عدي -والحديث رجاله ثقات أثبات، هو كالشمس وضوحاً- عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: ( لما كان يوم عرفة وكادت الشمس أن تئوب -أي: أن تغرب وأن تذهب -دعاني النبي صلى الله عليه سلم فقال: يا
ثبت في مسند الإمام أحمد بسند رجاله ثقات، كما قال الإمام الهيثمي في المجمع، وقال المنذري : إسناده صحيح، والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه أيضاً، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، وكما قلت: إن الحديث صحيح صحيح من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( كان غلام منا ردف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، -كان يركب وراءه على دابته على نبينا وآله صلوات الله وسلامه- وهذا الغلام كان يطيل النظر إلى النساء وينظر إليهن وهن متحجبات، لكنه يوجه نظره إلى جهتهن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! أما علمت أن من حفظ سمعه وبصره ولسانه يوم عرفة غفر له)، هذا يوم مبارك، وأنت تسرح النظر إلى هنا وهناك، فينبغي أن تكف نظرك، وإن كان النساء محجبات فما ينبغي أن تنظر إليهن لا في هذا الوقت ولا في غيره من الأوقات، لكن في يوم عرفة من حفظ سمعه وبصره ولسانه غفر له.
إخوتي الكرام! إذا فات واحداً منا الحج في هذا العام فليأخذ بهذا التوجيه النبوي الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فليحفظ سمعه، وبصره، ولسانه في يوم عرفة.
ولذلك لو أن المسلمين جعلوا هذا اليوم في عبادة لله رب العالمين، ويتفرغوا من أمور الدنيا، وإن كانت الأعمال فيها مباحة، فليجعلوا ذلك في الصيام وفي ذكر الرحمن، وقراءة القرآن، والصلاة والسلام على خير الأنام عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكونوا في الحج، فلو تركوا ما يلهيهم عن ذلك في هذا اليوم لكان خيراً لهم وأحسن.
وأما ما اعتاده كثير من الناس في هذا اليوم: من متابعة محطات الإذاعة وتلقط الأنباء من هنا وهناك، وبعضهم غرره الشيطان من أجل أن يخسر في هذا اليوم، فيظن أنه إذا وقف أمام الأجهزة المرئية أو المسموعة؛ ليرى وليسمع ما يجري في الحج كأنه في عبادة، وليسمع بعد ذلك حقيقةً إن قلت عنه: إنه لغط لا أبالغ من أن الميكرفون على تعبيرهم انتقل إلى ممثل دولة كذا وممثل دولة كذا، ثم يحيي إخوانه بعد ذلك في العروبة والوطنية والجاهلية، فماذا تستفيد من هذا أخي المسلم؟! هلا شغلت لسانك بذكر الله، والصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟
هذه الأجهزة إخوتي الكرام! ينبغي أن نحذر منها في كل وقت لا سيما في مواسم الطاعات، فينبغي أن تنظر إلى وسائل الإعلام من الراديو فما فوقها كأنها جمرة نار في عرفات، وكما أنك لا تلمس جمرة النار فاتق العزيز القهار في ذلك اليوم، حذاري حذاري أن تفرط فيه! وأن يزين لك الشيطان أن النظر إلى الحجيج، واستماع ما يقال من كلام باطل وتهريج من الممثلين هنا وهناك إياك أن تظن أن هذا من باب الطاعة، والله إن هذا من أكبر علامات الحماقة، فإذا وجد أناس في طاعة، ماذا تستفيد إذا نظرت إليهم؟ وماذا تستفيد إذا نظرت إلى أناس يقومون بترتيبات معينة؟ ممن يذيعون ويقولون، فهلا اشتغلت بذكر الحي القيوم؟
إخوتي الكرام! ينبغي أن نعي هذا على الدوام لا سيما في يوم عرفة، ( من حفظ سمعه وبصره ولسانه في يوم عرفة غفر له )، هذا فيما يتعلق بهذا اليوم على وجه الاختصار وأما ما فيه من فضائل -كما قلت- أوضح من الشمس في رابعة النهار فلعل الله يمد في الحياة لنتدارس هذا عند مدارسة أحكام الحج وما فيه من مغانم وفضائل.
فقد تقدم معنا أن العشر -أعني: عشر ذي الحجة- أيام فاضلة مباركة، وهي أفضل أيام السنة، وأفضلها آخرها وهو: اليوم العاشر، فهو يوم الزيارة ويوم الضيافة، وبعد أن نقي العباد وهذبوا في يوم عرفات، أذن لهم بزيارة رب الأرض والسموات، وأذن لهم بأخذ ضيافته ونيل جائزته، فذهب الحجاج وطافوا حول البيت الحرام بعد أن وقفوا في عرفات وتابوا إلى ذي الجلال والإكرام.
وقد شرع لنا في هذا اليوم أضحية ينبغي أن نتقرب بها إلى ربنا الرحمن، فأفضل أيام العام يوم النحر؛ يوم العاشر من ذي الحجة، وأفضل عمل تقوم به في ذلك اليوم قربان تتقرب به إلى الله جل وعلا، ودم تريقه حسبما أمرك الله جل وعلا، وقد وضح لنا هذا نبينا صلى الله عليه وسلم وأمرنا به، وبين لنا ما يترتب عليه من الأجور والمغانم والفضائل.
ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن، ورواه البغوي في شرح السنة، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما عمل آدمي يوم النحر عملاً أنجى له من عذاب الله من دم يراق في سبيل الله، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، حتى إن الدم ليقع عند الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً ).
والحديث في إسناده سليمان بن يزيد الخزاعي الكعبي ، وحديثه مخرج في سنن ابن ماجه والترمذي ، وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه ضعيف، وقال الإمام الذهبي في الكاشف: وثق، وقد حسن هذا الحديث الإمام الترمذي وغيره من أئمتنا، وله شواهد كثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
ولذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يطلب من آل بيته حضور الأضحية؛ لأجل أن يفرحوا بما سيحصلون من الأجر العظيم عند الله الكريم.
روى الإمام البزار في مسنده والحاكم في مستدركه، والحديث رواه أبو الشيخ في كتاب الأضاحي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، وفي رواية أبي سعيد هذه عطية بن سعد العوفي ، وهو صدوق ويخطئ كما قال أئمتنا، وحديثه في الأدب المفرد للإمام البخاري ، وأخرج حديثه أهل الكتب الأربعة إلا الإمام النسائي عليهم جميعاً رحمة الله، وهذا الحديث رواه البيهقي أيضاً في السنن وأبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب عن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، والحديث في إسناده ضعف، كما نص على ذلك الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، والإمام البيهقي في السنن عندما أخرج الحديث.
والحديث رواه أيضا الحاكم والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، وفي الإسناد ضعف.
وهذه الأحاديث الثلاثة من هذه الطرق الثلاث قد حسنها أئمتنا، فالإمام المنذري في الترغيب والترهيب يحكي تحسين بعض شيوخه لحديث علي فقط، وحديث أبي سعيد الخدري مع الشواهد المتقدمة يرتقي إلى درجة الحسن بإذن الله، ولفظ الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته الطيبة الطاهرة المطهرة سيدتنا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها: ( قومي فاشهدي أضحيتك، فإن لك أن يغفر الله ذنبك بأول قطرة منها، وإنها لتأتي يوم القيامة بلحمها ودمها ) قال في رواية علي رضي الله عنه وأرضاه وهي الرواية الثانية: ( فيوضع في ميزانك سبعون ضعفاً ).
إذاً: هذه الأضحية لها أجر عظيم عند ذي الجلال والإكرام، والحديث لا ينزل عن درجة الحسن والقبول ( قومي فاشهدي أضحيتك، فإن لك أن يغفر الله ذنبك بأول قطرة تقطر منها، وإنه ليجاء بلحمها وشعرها ودمها، فيوضع في ميزانك سبعون ضعفاً، فقالت
وفي رواية علي : ( فقال
وفي رواية عمران بن حصين رضي الله عنهما: ( قال
فهذه نعم أنعم بها علينا، فعندما تراق هذه الذبيحة استجابةً لأمر ربنا تغفر ذنوب الإنسان بأول قطرة من دمها تقطر على الأرض، سبحانك ربي ما أكرمك! لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
ففي مسند الإمام أحمد وسنن الإمام ابن ماجه ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن، ورواه الدارقطني في سننه أيضاً، وهو في مصنف ابن أبي شيبة ، ورواه الإمام أبو يعلى في المسند من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من وجد سعةً لأن يضحي فلم يضح فلا يقربن مصلانا ). والحديث صحيح، لكن اختلف في رفعه وفي وقفه، فوقفه عبد الله بن وهب على أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك حكم الرفع، فلا يقال من قبل الرأي، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يزيد المقرئ ، وقال أئمتنا: إنه فوق الثقة، فالحديث وقف على أبي هريرة وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قال الإمام الحاكم عقيب هذه الرواية: والوصل زيادة ثقة، فهي مقبولة، والحديث صحيح ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب فقيه الملة الإمام أبو حنيفة رحمة الله ورضوانه عليه، ووافقه على ذلك عدد من أئمتنا الكرام كإمام أهل مصر: الليث بن سعد ، وإمام أهل الشام: الإمام الأوزاعي ، وذهب إلى ذلك ربيعة : شيخ الإمام مالك ، وإلى هذا القول ذهب بعض المالكية وهو قول للإمام المبجل أحمد بن حنبل أيضاً رضوان الله عليهم أجمعين: ذهبوا إلى أن الأضحية واجبة، فمن كان مقتدراً ولم يضح فهو عاص آثم مرتكب للكبيرة، ويجب عليه أن يضحي مهما طال الوقت، فهي دين في رقبته لا تسقط عنه، فإن ضحى في اليوم الأول وفي الأيام الثلاثة الآتية في وقت الأضحية فقد حصل الأجر، وإلا فعليه وزر، وينبغي أن يعيد الأضحية ولو بعد عشرين سنة، فلا تسقط الأضحية عند هؤلاء الأئمة الكرام بناءً على القول بوجوبها، فهي كالزكاة إذا لم تؤدها ومضى عليك سنوات وسنوات فينبغي أن تخرج هذا الحق الذي جعله الله في مالك، وهكذا الأضحية لا بد من القيام بها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فمن وجد سعةً لأن يضحي فلم يضح فلا يقربن مصلانا )، والحديث صحيح، وإذا كان كذلك فليس بعد هذا التحذير تحذير؛ أن يزجر الإنسان عن حضور مصلى العيد، وأن يمنع من مشاركة المسلمين في هذا اليوم البهيج؛ لأنه فرط في أعظم شعائر هذا اليوم، ألا وهي الأضحية التي ينبغي أن يتقرب بها الإنسان إلى الله جل وعلا.
إخوتي الكرام! هذه هي سنة المسلمين، وهذا هو عمل المسلمين.
ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن ( أن رجلاً جاء إلى
وفي صحيح البخاري في كتاب الأضاحي باب بهذا الخصوص، فقال: باب سنة الأضاحي، أي: هذا سنة المسلمين، وهذا عملهم وهديهم، فلا ينبغي أن يتركوه، ثم نقل قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: الأضحية سنة ومعروف. أي: هي سنة سار المسلمون عليها، ولا يراد بالسنة هنا ما يقابل الفرض، لا ثم لا، وإنما المقصود بقوله: (سنة ومعروف)، أي: هذا الذي سن لهم ومشوا عليه، وهذه عادتهم، وهذه هيئتهم، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهذا الأثر عن عبد الله بن عمر وصله حماد بن سلمة في مصنفه، رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.
وأما المعاني التي من أجلها شرعت هذه الأضحية والحكم التي فيها فكثيرة غزيرة يمكن أن نوجزها في ثلاث:
وملخص القصة أن الله جل وعلا أوحى إلى خليله إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام أن يذبح ولده الوحيد البكر، والولد البكر محبوب، وهو أحب الأولاد إلى والديه، ثم بعد ذلك وحيد، ولم يرزق إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه غيره ومع ذلك يؤمر بذبحه، وإنما أراد الله جل وعلا هذا من أجل أن يبرهن على الإيمان التام في قلب عبده، ومن أجل أن يحقق العبودية التامة لربه جل وعلا، ومن أجل أن يظهر مكانة خليله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، والله إن قلبه لسليم كما شهد بذلك رب العالمين، قلبه للرحمن، وولده للقربان، وماله للضيفان، وبدنه للنيران، يحق لهذا الإنسان أن يتخذه الله خليلاً، على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.
فأمره الله في المنام أن يذبح ولده، وهي أقل مراتب الوحي، كما قرر أئمتنا الكرام، ولم ينزل في المنام شيء من القرآن على نبينا عليه الصلاة والسلام؛ احتياطاً للوحي، واستيثاقاً له، إنما نزل بوحي جلي، وهنا يؤمر هذا العبد الصالح خليل الله إبراهيم -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- أن يذبح ولده بأضعف أنواع الأوامر، ويأخذ الأمر على ظاهره بلا تأويل يخرجه عن ظاهره، ثم بلا تلكع ولا تذمر ولا تردد: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] ، ولا بد من الذبح، لكن ليشارك الابن أباه في الطاعة قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] ، لا خيار لي ولا لك، ونحن ملك لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، لا نتصرف في أموالنا ولا في أبداننا إلا على حسب ما يرضي ربنا سبحانه وتعالى، ولذلك قال له: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وانظر لهذا التواضع الكريم، فأنا أسير في ركب عظيم كبير، سار فيه صالحون قبلي، يصبرون لله القدير، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
فاغتنم الشيطان هذه الفرصة ولعله يوسوس إلى أم إسماعيل هاجر ، أو إلى الولد أو إلى الوالد في نهاية الأمر، فجاء إلى الأم وهي أضعف الثلاثة فقال لها: أما تعلمين أين سيأخذ إبراهيم ولدك إسماعيل؟ قالت: إنه أخذه لبعض حاجته، قال: لا، إنه أخذه ليذبحه في المنحر في منى، قالت: وهل يذبح الوالد ولده؟ علام سيذبح إبراهيم ولده؟ قال: يزعم أن الله أوحى إليه بذبحه، قالت: يحق لإبراهيم أن يذبح ولده، إذا أوحى الله إليه لا خيار لنا، ولا كلام لنا، فأموالنا وأنفسنا ملك لربنا جل وعلا.
ثم جاء إلى العبد الصالح إسماعيل، إلى العبد الحليم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، قال: أما تعلم أين تذهب مع أبيك؟ وأين يأخذك أبوك؟ قال: يأخذني لبعض حاجته، قال: لا، ويحك! إنه يريد أن يذبحك في منى، قال: وعلام يذبحني؟ وهل يذبح الوالد ولده؟ قال: يزعم أن الله أوحى إليه في المنام بذبحك، قال: يحق له أن ينفذ أمر الرب جل وعلا، فأتى إلى إبراهيم ، وقال: يا إبراهيم! أين تأخذ ولدك إسماعيل؟ قال: إلى حاجة، قال: لا، إنك تريد أن تذبحه، قال: وعلام سأذبحه؟ قال: تزعم أن الله أوحى إليك بذبحه، قال: يجب علي أن أنفذ أمر الرب.
فلما أيس الشيطان اعترضه بعد ذلك في منى وأراد أن يحول بينه وبين المضي، فرماه خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بسبع حصيات، وهي التي شرعت إحياءً لتلك الذكرى الكريمة وتخليداً لشأن هذا العبد الصالح خليل الرحمن إبراهيم، فلما توارى الشيطان اللعين وذهب إلى مكان الحجرة الوسطى وأراد أن يحول بين إبراهيم وبين ذهابه رجمه أيضا بسبع حصيات، فتوارى، ثم لما ذهب إلى الحجرة الكبرى رجمه بسبع حصيات فتوارى، ثم أضجع ولده إسماعيل، وقال إسماعيل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: يا أبت! إذا أردت أن تذبحني فكبني على وجهي؛ لئلا ترى وجهي فتشفق علي عند الذبح، وبعد ذلك شد رباطي؛ لئلا أضطرب، واكفف ثيابك؛ خشية أن ينتضح الدم على ثيابك فتراه أمي فتحزن، وكان الأمر كما قال الله: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] أي: استسلما لله ولتنفيذ حكمه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] ، وبدأ خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام يعمل السكين في رقبة ولده إسماعيل -على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه- فإذا هي تقطع، فقال الولد: ما لك يا أبت؟! قال: إنها لا تمشي، قال: انحرني نحراً واضرب ضرباً، فأراد أن ينحره فتثنت، فجاء الفرج من الله جل وعلا: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:104-107].
إخوتي الكرام! فنحن نحيي سنة خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فهو أبونا، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] .
ففي الأضحية هذا المعنى.
وقد قرر أئمتنا الكرام أبو حنيفة والإمام مالك والإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليه جميعاً أن من نذر نحر نفسه، أو ذبح ولده، فينبغي أن يذبح شاةً، كما أفتى الله جل وعلا خليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، عندما ألزم بذبح ولده فدي بذبح عظيم، فمن نذر أن ينحر نفسه أو أن يذبح ولده يجب عليه أن يذبح شاةً تقرباً إلى الله جل وعلا، وهذا هو قول الأئمة الثلاثة، وما خالف في ذلك إلا الإمام الشافعي رحمة الله ورضوانه عليه، فقال: هذا نذر معصية ولا يجب الوفاء به، وقول الجمهور -فيما يظهر- أقوى، والعلم عند الله جل وعلا، ومما يحقق قولهم: أن الله جل وعلا شرع لنا العقيقة، هذه النسيكة التي نقوم بها في اليوم السابع من أجل الاطمئنان على سلامة المولود، فكأنها فداء له، وهكذا من نذر أن يذبح ولده أو أن ينحر نفسه فيفدي نفسه ويفك ولده من الذبح الذي نذره بأن يذبح شاة يتقرب بها إلى الله جل وعلا.
هذا المعنى نأخذه من الأضحية، وعند هذا المعنى أحب أن أقف وقفةً يسيرة، أقول: بعض السفهاء في هذه الأيام الذين يضحون بأنفسهم في طاعة الرؤساء والحكام عندما تعرض عليهم هذه القصة؛ قصة خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يستعظمون ما فيها، ولعل بعض الحمقاء منهم لا يتورع أن يرمي خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بالحماقة والسفاهة، وقد قال هذا بعض السفهاء في هذه الأيام؛ قال: الإنسان ينحر ولده! الإنسان يذبح ولده!
أيها المخذول! يا من بعت نفسك بدنيا غيرك! إذا كنت تبيع نفسك من أجل كرسي غيرك وترى هذا حسناً، ألا ترى حسناً من نبي كريم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام- أن يحقق أمر الله العظيم؟ وأن يذبح ولده طاعةً لله جل وعلا؟ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111] .
وقد قال بعض السفهاء ممن يدرسون في إحدى الكليات في بعض البلاد، وقد سئل عن سبب تسميته بإبراهيم، قال هذا المخذول المجنون قال: سماني أهلي باسم النبي المجنون إبراهيم الذي أراد أن يذبح ولده لرؤيا رآها في منامه.
أيها المخذول! أيها العاتي! أيها السفيه! اعرف قدرك، إذا كانت البشرية في هذه الأيام يذهب منها ألوف مؤلفة من أجل عروش الحكام، ألا نذبح أنفسنا طاعةً لربنا؟ والله إننا لنقدمها، فهو الذي خلقها وستئول إليه سبحانه وتعالى.
إن رؤيا الأنبياء وحي، كما ثبت ذلك في المستدرك بسند صحيح على شرط الشيخين، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( رؤيا الأنبياء وحي )، فالله أوحى إليه بذلك، وهذا نص محكم، فماذا بعد ذلك للإنسان نحوه إلا أن ينفذ، وهذا الأثر الثابت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما روي عن جم غفير من أئمة التابعين، وله حكم الرفع إلى نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، رواه عبد الرزاق في مصنفه، ورواه عبد بن حميد في مسنده، والطبري في تفسيره، والإمام الطبراني في معجمه الكبير، والأثر رواه الإمام ابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات، عن عبيد بن عمير وهو من أئمة التابعين، قال: ( رؤيا الأنبياء وحي، ثم تلا: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] ).
والأثر رواه الإمام عبد بن حميد أيضاً وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه وأرضاه بلفظ: ( رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئاً في منامهم فعلوه ).
هذا المعنى الأول الذي نستفيده من هذا القربان الذي نتقرب به إلى ذي الجلال والإكرام يوم النحر.
ثبت في تفسير ابن أبي حاتم لما نزلت هذه الآية قال صديق هذه الأمة وخيرها بعد نبيها على نبينا وصحبه صلوات الله وسلامه، قال: ( يا رسول الله! والله لو أمرني الله بقتل نفسي لقتلت نفسي، قال: صدقت يا
وفي تفسير ابن أبي حاتم أيضاً، لما نزلت هذه الآية قال الصحابة الكرام: لو أمرنا الله بقتل أنفسنا لقتلنا أنفسنا.
وفي تفسير ابن أبي حاتم وابن المنذر قال الأنصار: لو أمرنا الله بقتل أنفسنا لقتلنا أنفسنا.
وفي تفسير ابن أبي حاتم ( لما نزلت هذه الآية أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى
وفي تفسير ابن أبي حاتم وغيره أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال بعد أن تلا الآية: (
إخوتي الكرام! لا بد أن نستحضر هذه المعاني، فما لنا لا نتصرف فيه إلا على حسب شرع ربنا، وأبداننا أيضاً لا نتصرف فيها إلا على حسب شرع ربنا جل وعلا، فهذا المعنى نستفيده من الأضحية عندما نضحي، فنحن من الله وإليه: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].
هذا الأمر الثاني ينبغي أن نعيه، وأن نستحضره عند الأضحية أيضاً، وهذا الأمر من وعاه صار عبداً لله حقاً، ولذلك عندما امتثلت الأمة أوامر الله في جميع شئون حياتها حققت العبودية لله جل وعلا في نفسها أتم تحقيق.
انظر إلى أمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام، كما في المسند والصحيحين من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه: ( لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة
ليس بين أنفسنا وليس بين خلق ربنا صلة إلا على حسب شرع الله، فنفوسنا رخيصة في سبيل الله، وليس بيننا وبين أحد صلة إلا على حسب شرع الله، وهذا يكون عندما نحقق العبودية لله جل وعلا، فهذا المعنى ونحن نضحي ينبغي أن نستحضره: أن مالنا لا نتصرف فيه إلا على حسب شرع الله، وهكذا أبداننا، وهكذا جميع شئون حياتنا.
وهذا الحديث الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في الصحيحين والمسند من رواية أنس مروي من طرق كثيرة، روي من طريق أبي بكر وابنته عائشة رضي الله عنهما، وروي من طريق عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وروي عن عبد الله بن مسعود ، وعن خالد بن الوليد ، وعن حذيفة بن اليمان ، فالحديث في درجة المتواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ( لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة
ولذلك لما طعن عمر رضي لله عنه وأرضاه كما في المسند والمستدرك قال: ( لو كان
لكن أبا عبيدة رضي الله عنه توفي قبل عمر بن الخطاب ، توفي في طاعون عمواس الذي وقع سنة ثمان عشرة للهجرة رحمه الله ورضي الله عنه.
إذاً: توسعة علينا وعلى عباد الله، وذكر لله جل وعلا في هذا اليوم على ما أحل الله لنا وتفضل به علينا، وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:26-28].
وهكذا يقول الله جل وعلا بعد آيات في نفس السورة: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج:34].
إذاً: شرع الله لنا هذه المناسك وهذه الذبائح لنوسع بها على أنفسنا وعلى غيرنا، ولنذكر اسم الله جل وعلا عليها عند ذبحها، ولنتحدث بنعمة الله وفضله علينا. هذه المعاني ينبغي أن نلخصها عند الأضحية.
فإذا كانت الأضحية من الضأن والمعز فلابد أن تكمل سنةً وأن تطعن في الثانية، فأما في المعز فبلا خلاف، وأما في الضأن فالمعتمد عند أئمتنا أن الجذع من الضأن يجزئ، وهو ما أكمل ستة أشهر وطعن في النصف الثاني من السنة الأولى، لكن بحيث يكون حجمه كبيراً، بحيث لو وضع مع من أكمل سنة لما تميز، هذا خاص بجذع الضأن، أما جذع المعز فلا يجزئ أبداً، فإذا كان من المعز لا بد أن يكمل سنةً وأن يطعن في الثانية، وإذا كان من الضأن فإذا أكمل ستة أشهر ودخل في النصف الثاني من السنة الأولى فيجزئ إن شاء الله.
وأما البقر فينبغي أن تكمل سنتين، وأن تطعن في الثالثة، فلا تصح الأضحية بها إذا لم تكن كذلك، وأما الإبل فينبغي أن تكمل خمس سنين، وأن تطعن في السادسة، فلا يجزئ أيضاً الأضحية بها إذا لم تكن كذلك.
هذا ما يتعلق بالتنبيه الأول من التنبيهات والأحكام التي ينبغي أن نعيها عند الأضحية، فكونوا على علم بشروط الذبيحة.
فقد ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الإمام البيهقي في السنة الكبرى، ورواه الإمام مالك في موطئه وإسناده صحيح من رواية عطاء بن السائب رحمة الله ورضوانه عليه، وهو من أئمة التابعين، قال: ( سألت
فالأضحية الواحدة تجزئ عن الإنسان وعن أهل بيته، ولهم جميعاً الأجر تاماً غير منقوص، ورحمة الله واسعة، وإذا اشترك أيضاً سبعة أشخاص في بقرة أو في بدنة فيجزئهم بالشروط المتقدمة.
فقد ثبت في مسند الإمام أحمد والسنن الأربع والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده وغيرهم -رحمة الله عليهم أجمعين- عن البراء بن عازب رضوان الله عليه وعن الصحابة أجمعين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع لا تجزئ في الأضحية: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها -يعني عرجها- والكسيرة التي لا تنقي، وفي رواية: والعجفاء التي لا تنقي )، أي: ذهب مخ ساقها فهي ضعيفة هزيلة، فكل ما فيه عيب لا يجوز التضحية به: من عور، ومن باب أولى من عمى، ومن قطع إلية، ومن ذهاب أكثر القرن، وهكذا من قطع الأذنين، ومن كسر فيها، ومن كل ما يعتبر عيباً في البهيمة ينقص قيمتها، ويكون عيباً فيها لا يجوز أن تضحي به، فهذه أضحية تتقرب بها إلى الله جل وعلا، فينبغي أن تكون كاملةً تامة.
روى الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات عن النعمان بن أبي فاطمة رضي الله عنه قال: ( اشتريت كبشاً أقرن أعين أملح، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم أسوقه قال: هذا كأنه ذبح إبراهيم ) أي: هذا كالكبش الذي ذبحه خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، (قال بعض الأنصار: فلما سمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم أحضرت له كبشاً بهذه المواصفات فذبحه النبي صلى الله عليه وسلم في أضحيته).
إذاً: لا بد أن تسلم الأضحية من العيب، وكلما كانت كاملةً غاليةً سمينةً كان أعظم لأجرك عند الله جل وعلا.
ولذلك ثبت في موطأ الإمام مالك بإسناد صحيح عن عروة بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه أنه جمع بنيه فقال: يا بني! هذه الهدي من البدن، فعندما تهدونها تخيروا الكرائم فيها، فأحدكم لو أهدى لكريمه -أي لمن هو عليه كريم- لاختار له، فالله جل وعلا أحق أن نختار له وأولى سبحانه وتعالى، عندما أمرنا بتعظيم هذه الشعيرة، فينبغي إذاً أن تكون بصفة تامة كاملة لا نقص فيها.
وثبت في صحيح البخاري معلقاً عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يأمر بناته أن يذبحن أضحيتهن بأيديهن، والأثر وصله الحاكم في المستدرك بسند صحيح، ولو وكل بالذبح عنه وهو حاضر أو غائب كل ذلك يجزئ.
والمقصود -كما قلت- من الأضحية التوسعة على النفس والأسرة والأهل والجيران، وإظهار شعائر الإسلام، فما ينبغي لك أن تفرط في هذه الأضحية، ثم بعد ذلك إذا أردت أن ترسل صدقةً؛ ليذبح عنك أضحية وأضحيتان وثلاث وأكثر؛ تقرباً إلى الله وصدقةً على عباد الله المحتاجين فهذا أعظم لأجرك عند رب العالمين، اذبح أضحيتك هنا ولا بد من هذا، ثم بعد ذلك أرسل ما شئت؛ ليذبح في البلاد الأخرى من أضحية أو من مائة أضحية؛ صدقةً لله جل وعلا، وإذا أردت ألا تكثر في الإرسال، وما تريد إلا أن تذبح أضحية واحدة، وتقول: إما هنا وإما هناك، فحقيقةً: إذا كانت الأضحية هنا تقرب قيمتها مثلاً من ألف ريال فلو أخذت واحدةً متوسطة بحدود خمسمائة أو سبعمائة وأرسلت ما يزيد من قيمتها ليذبح في أضحية أخرى هناك لكان هذا أولى، فينبغي أن تحافظ على هذا الشعور، ألا وهو: مساعدة عباد الله، وأن تحافظ على هذه الشعيرة أيضاً في بلدك وفي بيتك مع أهلك؛ تعظيماً لشعائر ربك جل وعلا؛ ليعلم الأولاد أن هذا يوم عيد ويوم بهجة، وأنه أمر الله بهذه الأضحية، ثم بين لهم هذه المعاني فيها، فهذا أيضاً مقصود، وإذا أردت أن ترسل إلى هناك من هذه الأضحية فاجمع بين الحسنيين، ولتكن أضحيةً متوسطة وأرسل الزائد من القيمة إلى هناك فيشتري به أضحية أخرى، وأما أن تمنع نفسك أو أسرتك من الذبح مطلقاً ومن هذه الأضحية وتقول: أرسل إلى أهلي في بلد آخر، أو إلى الفقراء من المسلمين في بلدان أخرى، فكما قلت: مع منزلة هذا الشعور وحسنه ينبغي أن يضم إليه الجانب الثاني أيضاً.
ولذلك إن أمكن الإنسان أن يباشر الذبح بنفسه فليحرص عليه، أو فليحضر، أو فليوكل، لكن لا بد من أن يذبح عنده في بيته إذا كان مستطيعاً وليرسل ما شاء إلى بلاد الله جل وعلا.
ثبت في المسند وسنن الترمذي بسند حسن من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح شاةً وأمرهم بتوزيعها، فقال لأمنا
إخوتي الكرام! هذه المعاني لا بد من استحضارها عند الأضحية.
أسأل الله برحمته أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول، وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.
اللهم صل على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار. اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ارحم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم استر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم يسر على الحجاج حجهم، وتقبل منهم وأعنهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر