الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد:
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة: [ وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة: قسمان يقولان: تجرى على ظواهرها. وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها. وقسمان يسكتون.
أما الأولون فقسمان: أحدهما من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليه توجه الرد بالحق.
الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يجري ظاهر اسم العليم، والقدير، والرب، والإله، والموجود، والذات، ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث وإما عرض قائم به، فالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضا، والغضب، ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه، واليد، والعين، في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرة وكلاماً ومشيئة -وإن لم يكن ذلك عرضاً يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين- جاز أن يكون وجه الله، ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين. وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح ].
(قسمان يقولان: تجرى على ظواهرها) أي: تجرى الأسماء والصفات وآياتها وأحاديثها على ظواهرها، (وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها, وقسمان يسكتون) ويأتي تفصيل ذلك فيما سمعنا بعضه، (أما الأولون فقسمان: أحدهما من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة) أي: هؤلاء الممثلة الذين يقولون: صفات الله جل وعلا كصفات خلقه لا فرق بينها، فالسمع الذي أثبته الله لنفسه كالسمع الذي ثبت للمخلوقين وسائر الصفات، كذلك البصر وغير ذلك من الصفات، وهؤلاء قلة لنفور النفوس عن تشبيه الخالق بالمخلوق، فإن النفوس مفطورة على إجلال الله وتقديره وتعظيمه، وأنه ليس كخلقه، فلما كان الأمر كذلك كان القائلون بهذا القول قلة لا يذكرون، وقد انقرض مذهبهم، فلا ممثل بعد انقراض مذهب الكرامية.
قال: (ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث) جوهر تقدم لنا تفسيره في الدرس السابق وهو حقيقة الشيء، ويفسره المتكلمون بالمتحيز (إما جوهر محدث وإما عرض قائم به) يعني: قائماً بذلك الجوهر المحدث.
هذا بالنسبة للمخلوق، فإثبات هذه الصفات بالنسبة للمخلوق إما جوهر محدث، وإما أعراض تقوم بهذا الجوهر، وأما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فهي ليست كالتي تثبت للمخلوق، بل الذي له سبحانه وتعالى يليق به، ولا يلزم عليه هذه اللوازم التي يذكرونها, قال: (فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه -يعني: في حق المخلوق- أجسام، -أي: جوهر- فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرةً وكلاماً ومشيئةً، وإن لم يكن ذلك عرضاً يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين, جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوق) وهذا إلزامهم ببعض ما قالوه، فلما قالوا بجواز وصف الله سبحانه وتعالى بالعلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والمشيئة وغير ذلك من الصفات الذاتية والفعلية التي يثبتونها؛ جاز وصفه بذلك، ولم يلزم من هذا الإثبات مشابهتها لما اتصف به المخلوق، وكذلك في الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين وما أشبه ذلك، فلا تلازم بين إثبات هذه وبين التمثيل، بل نثبتها على الوجه الذي يليق بالله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
قال: (فإن كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرة وكلاماً ومشيئة، وإن لم يكن ذلك عرضاً يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين؛ جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، وهذا) أي: ما تقدم (من إثبات ما أثبته الله لنفسه، وإثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، هذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف رحمهم الله، وعليه) أي: على هذا (يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه) وهذا من دقة الشيخ رحمه الله وإنصافه، يدل عليه كلام جمهورهم، يعني: من نقل عنه الكلام في هذا الباب منهم أي: من السلف فإنه يدل عليه، ومن لم ينقل عنه النص على هذا فإن عموم كلامه يدل على صحة هذا المذهب، وهذا أمر واضح.
الاستدلال بالقاعدة الأساسية في باب الأسماء والصفات هي أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فما يثبت في الذات يثبت في الصفات. قال: فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات.
بعد أن ذكر الشيخ رحمه الله الدليل الأول على صحة ما ذهب إليه السلف، وأن إثبات الصفات لا يقتضي المماثلة، وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وأن الكلام في بعض الصفات كالكلام في باقيها؛ أتى بما يدل على أن من المخلوقات ما لا تدرك حقيقته، وإن كان قد وصف بأوصاف، وذكرت له أحكام، إلا أنه لا تدرك حقيقته للجهل بحقيقة ذلك المذكور، قال: (بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس أنه قال: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، وقد أخبر الله تعالى أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فإذا كان نعيم الجنة هو خلق الله كذلك..) يعني: لا تعلم حقيقته، ولا تدركه العقول على الحقيقة، ولا تتصوره على حقيقته (فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى؟) فالواجب إذا كان هذا في بعض المخلوقات أن يكون الخالق أولى في هذا من خلقه، وألا تصله الظنون، بل يجب على المؤمن أن يثبت ما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
قال: (مع أنا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع، كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة) أي: لا نغالي في تجريد الروح من هذه الأوصاف كما غلا (المتفلسفة ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول، والاتصال بالبدن، والانفصال عنه، وتخبطوا فيها، حيث رءوها من غير جنس البدن وصفاته) فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها, يعني: بحسب ما يناسبها ويليق بها، إلا أن يفسر كلامهم بما يوافق النصوص، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ، وأنى لهم بذلك؟ يعني: يبعد أن يفسروا كلامهم الذي خالف النصوص على معنى يوافق النصوص .
فالمقصود من هذين المثالين إثبات أن بعض المخلوقات يعرف ولا تدرك حقيقته، ولا تدرك كيفيته أو كيفية صفاته، فكذلك الله جل وعلا وما أخبر به عن نفسه, نؤمن بذلك من غير أن نطلب كيفية، ولا أن نمثل، ولا أن نؤول أو نعطل, وبهذا يكون قد انتهى القسمان الأولان وهم من يقولون: تجرى على ظواهرها.
قال رحمه الله: [ ولا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلاً، أو صفة من صفات البدن والحياة، وأنها مختلفة الأجساد، ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة، كما يقول طوائف من أهل الكلام، بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن، وأنها ليست مماثلة له، وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازاً، فإذا كان مذهبنا في حقيقة الروح وصفاتها بين المعطلة والممثلة، فكيف الظن بصفات رب العالمين؟ ].
(ولا نقول: إن الروح مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلاً) يعني: لا نقول: إن الروح هي جزء كالدم والبخار بل هي تختلف؛ لأن الدم والبخار لا قوام له بغير البدن، وأما الروح فإنها تكون قائمة موجودة متأثرة بدون البدن, قال (أو صفة من صفات البدن والحياة، وإنها مختلفة الأجساد، ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة، كما يقول طوائف من أهل الكلام، بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن) وهذا يجب اعتقاده في الروح: أنها عين، وأنها تقبض، وأنها تصعد وتنزل، هذا الذي يجب اعتقاده، وقد تكلم عليها ابن القيم رحمه الله كلاماً مفصلاً في كتابه الروح، قال: (وإنها ليست مماثلة له) أي: للبدن (وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازاً، فإذا كان مذهبنا في حقيقة الروح وصفاتها بين المعطلة والممثلة) المعطلة الذين ينفون إثبات الصفات للروح، ويقولون: إنها مجردة عن الصفات, والممثلة الذين يقولون: إنها كالبدن أو كجزء منه كالدم والبخار، (فكيف الظن بصفات رب العالمين؟) فكما أننا في الروح بين الممثلة والمعطلة، فكذلك نحن في صفات الله سبحانه وتعالى وما أخبر به عن نفسه بين الممثلة والمعطلة.
نقف على هذا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر