إسلام ويب

سلسلة الأندلس بين المرابطين والموحدينللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أسس الشيخ عبد الله بن ياسين وأبو بكر بن عمر اللمتوني دولة المرابطين في بلاد المغرب التي استمرت مائة عام وهي تحكم البلاد ابتداء من سنة 440هـ -541هـ، وقد حققت انتصارات عظيمة ضد النصارى، وسيطرت على جزء كبير من بلاد الأندلس، ثم حدث أن ضعفت دولة المرابطين؛ بسبب انفتاح الدنيا والركون إليها، وانتشار الذنوب والمعاصي والتمادي فيها، وانشغال العلماء بالمناظرات والمؤلفات، فكانت نهايتها على يد دولة الموحدين.

    1.   

    معنى كلمة البربر وصلة هذه الكلمة بالتصرفات البربرية

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فسنفتح اليوم بإذن الله صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي، مع الصفحة العاشرة من صفحات الأندلس: من الفتح إلى السقوط.

    وقد وقفنا في الحلقة السابقة على موقعة الزلاقة وخاتمتها، وكيف انتصر فيها القائد الرباني المجاهد الورع التقي يوسف بن تاشفين اللمتوني رحمه الله، وكيف قضى في الحكم قرابة (47 عاماً) ثم توفي رحمه الله في سنة (500) من الهجرة، واستخلف على الحكم من بعده علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله.

    وقبل الخوض في نتائج موقعة الزلاقة وما حدث بعدها من أحداث نجيب على سؤالين بخصوص الحلقة السابقة وهما: السؤال الأول: ما معنى كلمة البربر؟ وما صلة البربر بالتصرفات البربرية عند بعض الناس؟

    والحق أن كلمة البربر منفصلة كلية عن كلمة البرابرة أو التصرفات البربرية الهمجية، فالبربر جنس من الناس، مثل: العرب أو الفرس أو الروم، وهم من أولاد حام يعني: هم حاميون، والعرب ساميون، فالبربر حاميون كالأوروبيين في أغلب الظن، وكونهم ليسوا بعرب هذه مسألة لا يجب أن نقف عندها كثيراً، فقد تحدثنا عنها في دروس سابقة، إنما نريد أن نوسع مداركنا ونظرتنا للأمور.

    فلا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، والعرب وغير العرب نصروا الإسلام كثيراً، وفي هذه السلسلة من الأحداث في تاريخ الأندلس تكلمنا عن طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وأبي بكر بن عمر اللمتوني وصلاح الدين الأيوبي .. وغيرهم، وهم من غير العرب؛ لكنهم نصروا الإسلام، وهناك أيضاً البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي .. وغيرهم من علماء المسلمين ليسوا بعرب.

    والحق أن العرب وغير العرب جميعاً يجمعهم لواء واحد وعقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام، وكلمة القومية العربية أو الاعتزاز بالعروبة وإلغاء غير المسلمين من العرب تلغي من قوام المسلمين أكثر من مليار مسلم، فعدد المسلمين في العالم مليار وثلاثمائة مليون مسلم، فالعرب يبلغون حوالي (200) مليون مسلم فقط، والباقي من باكستان والهند وإندونيسيا ومن إفريقيا وغيرها من البلاد الواسعة التي تحدثنا عنها في دولة المرابطين، فالكثير من المسلمين غير عرب، فهم جند للإسلام، ولابد أن يندرجوا تحت لواء الإسلام الذي يجمع هؤلاء جميعاً.

    1.   

    الرد على من زعم أن المسلمين لا يستطيعون أن يحققوا النصر على الأعداء في ظل الحروب النووية

    السؤال الثاني: كان من الممكن للمسلمين أن ينتصروا سابقاً عندما كانت الأسلحة سيوفاً وغيرها لكن انتصارهم في هذا الوقت الذي نعيش فيه من الصعب بمكان، وليس كما سبق في تاريخ المسلمين؟

    أقول: إن الذي سأل هذا السؤال لم يفهم أمرين هامين من الأمور التي تحدثنا عنها في هذه السلسلة:

    الأمر الأول: أن من سنة الله سبحانه وتعالى أن أمة الإسلام لن تموت، وأنه لا بد من قيام بعد السقوط مهما بلغت قوة الباطل وتعاظمت قوة الكافرين، ومهما ضعفت قوة المسلمين، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:196].

    الأمر الثاني وهو في الحقيقة أمر هام جداً: أنه لم يفهم طبيعة المعركة بين الحق والباطل، فهي ببساطة معركة بين أولياء الله سبحانه وتعالى وأولياء الشيطان، وأولياء الله سبحانه وتعالى هم الذين ينتصرون على أولياء الشيطان مهما تعاظمت قوة أولياء الشيطان، فهل من الطبيعي بالقياسات القديمة والحديثة أن يحقق المسلمون النصر في معاركهم السابقة، فينتصر اثنان وثلاثون ألف مسلم في القادسية على مائتين وأربعين ألف فارسي في بلدهم وفي عقر دارهم، وينتصر تسعة وثلاثون ألف مسلم في اليرموك على مائتي ألف رومي، وثلاثون ألف مسلم في تستر على مائة وخمسين ألف فارسي، فانتصر المسلمون فيما يقرب من ثمانين موقعة متتالية خلال سنة ونصف؟ وهل من الطبيعي كما درسنا في فتوحات الأندلس أن اثني عشر ألف مسلم ينتصرون على مائة ألف في موقعة وادي برباط؟ فهذه أمور ليست من الطبيعي أن تحدث حتى بقياسات الماضي، وهذا لغز صعب جداً لا تفهمه إلا بطريقة واحدة وهي أنك تفهم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحارب الكافرين، قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

    ويقول سبحانه وتعالى في سورة محمد عليه الصلاة والسلام: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].

    هكذا فإن الله سبحانه وتعالى يختبر المؤمنين بحربهم مع الكافرين؛ ونحن يجب ألا نظن أن ربنا سبحانه وتعالى محتاج لنصرة المؤمنين، لكي ينتصر على اليهود أو الأمريكان أو الروس .. أو غيرهم من أمم الأرض الذين اجتاحوا دول المسلمين، فمن فضل الله سبحانه وتعالى ومنِّه وجوده وكرمه أن منّ علينا أن نكون جنوداً من جنوده سبحانه وتعالى،

    أنتم تسترون قدرة الله سبحانه وتعالى في هزيمته للكافرين وتأخذون الأجر على ثباتكم في هذا الموقف أمام الكفار، فالذي يقول: إن الموقف في الماضي مخالف عن الموقف في الحاضر؛ لأن حروب الماضي مختلفة بالكلية عن حروب الحاضر، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي نصر الصحابة ونصر من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، كأنه يقول -وحاشا لله من هذا-: إن الله كان قادراً على عاد وثمود وفارس والروم، لكنه -ونعوذ بالله من ذلك- ليس بقادر على أمريكا وروسيا وإنجلترا واليهود ومن حالفهم وشايعهم من الأمم الحاضرين المقاتلين لأمة الإسلام.

    يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15].

    ويصف الله حال الكافرين، فيقول سبحانه وتعالى: اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:43-44].

    لكن المهم في الموضوع الذي يشغل الإنسان المسلم الحريص على دينه هو: أين دوره في قيام أمة المسلمين اليوم؟ وأين دوره في الانتصار الذي يشبه انتصار الزلاقة أو غيرها من مواقع المسلمين الخالدة؟ إن كان قيام أمة المسلمين بك، فأنت مأجور حتى لو لم تر نصراً، وإن كان القيام بدونك، فقد ضاع عليك الأجر حتى لو كنت معاصراً للتمكين، فالشيء الذي لا بد أن يشغل كل مسلم هو كيف يكون له دور في إعادة بنيان الأمة المسلمة، بعد السقوط الذي تحدثنا عنه في درس سابق.

    أما موقعة الزلاقة فقد كانت في سنة (479) من الهجرة، وكان قائد النصارى في موقعة الزلاقة هو ألفونسو السادس ، الذي مات في بيته بعد الموقعة بشهرين أو ثلاثة كمداً وهماً وحزناً بعد الهزيمة الساحقة لجيشه في هذه الموقعة، وقد بترت فيها ساقه، وضاع معظم أو كل الجيش الصليبي في هذه الموقعة، واستخلف على الحكم ابن ألفونسو السادس ، ومع أن الاستخلاف كان سريعاً إلا أن النصارى لم يستطيعوا أن يقيموا لهم قوة لمدة (20) سنة أو أكثر، وما وقع بين المسلمين والنصارى من المعارك كان بعد سنة (500) هجرية.

    1.   

    استخلاف علي بن يوسف بن تاشفين على دولة المرابطين بعد أبيه

    ظل يوسف بن تاشفين رحمه الله في الحكم إلى سنة 500 من الهجرة، مات في نفس السنة وهو يبلغ من العمر (100) عام، واستخلف على الحكم علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله على دولة المرابطين، وحاول المرابطون تحرير معظم الأراضي الأندلسية التي أخذت من المسلمين على مدار السنوات السابقة، فحاربوا في أكثر من جبهة، فحرروا سرقسطة وضموها إلى أملاك المسلمين، وهي في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، واقتربت حدود دولة المرابطين من فرنسا، وحاول المسلمون كثيراً تحرير طليطلة، لكنهم فشلوا في هذا الأمر؛ لأن طليطلة من أشد مدن الأندلس حصانة على الإطلاق، وإن كانوا قد أخذوا معظم القرى والمدن حول طليطلة.

    وفي سنة (501) من الهجرة، بعد موت يوسف بن تاشفين رحمه الله بعام واحد دارت موقعة ضخمة جداً بين المسلمين والنصارى وهي موقعة أقليش، تولى فيها القيادة على المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ، وتولى فيها قيادة النصارى ابن ألفونسو السادس ، وانتصر المسلمون فيها انتصاراً ساحقاً، وقتل من الصلبيين في هذه الموقعة ثلاثة وعشرون ألف صليبي، واستمرت الانتصارات للمسلمين.

    وفي سنة (509) من الهجرة فتح المسلمون من جديد جزر البليار التي كانت قد سقطت في عهد ملوك الطوائف، وأصبح المسلمون يسيطرون على جزء كبير جداً من أراضي الأندلس.

    1.   

    أسباب ضعف دولة المرابطين

    في سنة (512هـ) تحدث ثورة في داخل بلاد المغرب في عقر دار المرابطين، كان لها أثر سلبي على دولة المرابطين أدت بعد ذلك إلى هزيمتين متتاليتين للمسلمين من الصليبيين في بلاد الأندلس؛ الهزيمة الأولى: قتندة، والهزيمة الأخرى هي هزيمة القليعة.

    قامت دولة المرابطين سنة (440هـ) بقدوم الشيخ عبد الله بن ياسين ، وتدرج الأمر ببطء حتى انضم أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مع الشيخ عبد الله بن ياسين .

    وحدثت فرجة للمسلمين كانت غير متوقعة في ذلك الوقت، وحصل بعدها انتشار بسيط ثم انتشار سريع ثم فتح عظيم وتمكين، ثم دنيا وسلطان وعز كبير جداً للمسلمين، استمر من سنة (440هـ) إلى سنة (509هـ) يعني: حوالي (70) سنة.

    والشيء الطبيعي جداً والمتوقع والعادي أن يحدث انكسار جديد للمسلمين، بسبب فتنة الدنيا التي فتحت على المسلمين، وفتنة الأموال التي كثرت في أيدي المسلمين، والناس تتوقع أنه لا يمكن لهذه الدولة أن تتقهقر وتهزم، وتستغرب أن يحدث ذلك بعد وفاة يوسف بن تاشفين ولا تستغربه أن يحدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بلا شك أعظم تربية وأقوى أثراً من يوسف بن تاشفين ومن أمثال يوسف بن تاشفين ، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم البشر وأحسنهم، وأحب الخلق إلى الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فإنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حدثت الردة، وحدث انكسار كبير جداً للمسلمين، فهذه دورة طبيعية من دورات التاريخ، فالذي حدث في بلاد الأندلس أمر من الأمور الطبيعية جداً أنه بعد هذا العلو بدأ يحدث الانكسار.

    فهذه هي الأشياء التي حدثت بعد انتهاء عصر يوسف بن تاشفين وبداية عصر علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله الذي كان أيضاً مجاهداً على نسق أبيه في أول الأمر.

    اشغال المرابطين بالجهاد وإهمال تعليم الناس وتفقيههم في الدين

    استمر الجهاد في عهد علي بن يوسف بن تاشفين ولم يتوقف، فقد كانت له صولات وجولات مع النصارى في أكثر من موقعة، ومع ذلك فتن المرابطون بالدنيا مع استمرار الجهاد وكثرة الذنوب في البلاد، وإن وجد العلماء، وهذه في منتهى الغرابة ألغاز عجيبة في الظاهر، لكن عندما نحلل الموقف نجد الأمر شيئاً طبيعياً وهو افتتان الناس بالدنيا والجهاد مستمر، وكثرة الذنوب في وجود العلماء، وهذا يرجع إلى أمرين:

    الأمر الأول: الخطأ الكبير الذي ارتكبه المسلمون في دولة المرابطين -وعلى المسلمين أن يحذروا منه دائماً- هو التركيز على جانب من جوانب الإسلام وترك الجوانب الأخرى، فقد انشغل المرابطون في أرض الأندلس وفي بلاد المغرب وما حولها بالجهاد في سبيل الله عن تعليم الناس وتفقيههم في الدين، ومهمة التعليم مهمة شاقة جداً وبالذات في هذا الزمن، والناس بطبيعتها لا تحب من يعطي لها قوانين وبرامج، فهي متفلتة من التعلم ومن الالتزام بالدين، فتريد أن تبذل معها مجهوداً ضخماً حتى تعلمها أمر دينها.

    فالمرابطون انشغلوا بالجهاد في سبيل الله، وجيوشهم الكثيرة جداً تخرج في كل مكان، والناس ما تعلمت الدين كما ينبغي أن تتعلم، كما كان في عهد عبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين رحمهما الله.

    والإسلام دين متوازن لا يغلب جانباً على جانب، فقد انشغل المرابطون عن إدارة الحكم والسياسية في داخل البلد بالأمور الخارجية.

    ومن عوامل نجاح عبد الرحمن الناصر رحمه الله كما ذكرنا سابقاً أنه أقام الدولة المتوازنة في العلم والجهاد والاقتصاد والقانون والعمران والعبادة وكل شيء، وكون الدولة التي تسد حاجات الروح والجسد فسادت الدولة وتمكنت.

    وكذلك كان من عوامل نجاح الشيخ عبد الله بن ياسين في نشأة دولة المرابطين: أنه أقام الجماعة المتوازنة التي تهتم بكل جوانب الحياة وتعطي قدراً مناسباً من الجهد والطاقة والوقت والعمل، كما علمهم أن يكونوا مجاهدين علمهم أن يكونوا عابدين لله سبحانه وتعالى، وكما علمهم أن يكونوا سياسيين بارعين علمهم أن يكونوا متعاملين تعاملاً على نهج الإسلام وأصول الإسلام، حتى أنشأ ما يسمى بالجماعة المتوازنة، لكن أن يوجه المسلمون طاقتهم في دولة المرابطين في سنة (500) وما بعدها إلى الجهاد في سبيل الله وإلى أمور العبادة، ويتركوا أمور السياسة الداخلية وتثقيف الناس وتعليمهم أمر الدين، والسيطرة على المعاصي التي بدأت تنتشر في بلاد المغرب والأندلس، فهذا شيء فيه خلل حدثت من جرائه هزة في دولة المرابطين.

    كثرة الذنوب والمعاصي في بلاد المرابطين وانشغال العلماء بالمناظرات

    الأمر الثاني: أن الذنوب كثرت في أرض المرابطين سواء في أرض المغرب أو أرض الأندلس مع وجود العلماء الكثر، فكثرة الذنوب أمر طبيعي في بلاد المرابطين بعد أن كثرت فيها الأموال وانفتحت الدنيا؛ لأن معظم الذنوب تحتاج إلى أموال كثيرة لإيجاد الخمر والمخدرات ودخول الملاهي الليلية.. وما إلى ذلك من أنواع المعاصي.

    والنفوس الضعيفة التي كانت في دولة المرابطين، والتي كانت تفكر في الذنوب وكانت لا تقدر عليها، بدأت بعد أن كثرت الأموال عندها ترتكب من المعاصي الكبيرة ألواناً وأشكالاً، والناس جميعاً إلا ما رحم الله يفتنون بالمال ويقعون في الذنوب؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على لسان قوم نوح لنوح عليه الصلاة والسلام: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27]، والأراذل هم: ضعاف الناس وبسطاؤهم وفقراؤهم، وهم الذين اتبعوا نوحاً عليه السلام واتبعوا الرسل من بعده، واتبعوا كل الدعاة من بعدهم إلى يوم القيامة.

    وسبب ذلك كله هو أن العلماء انشغلوا بفرعيات الأمور وأغفلوا أساسياتها، فانشغلوا بالفروع عن الأصول، فأخذوا يؤلفون المؤلفات ويعقدون المناظرات، ويقسمون التقسيمات في أمور لا ينبني عليها كثير عمل، بينما أغفلوا أموراً لا يصح لهم أبداً أن يتركوها، وتناظروا كثيراً عن كيفية وضع اليد أثناء الصلاة، هل توضع على البطن أو على الصدر، وفي أي مكان في الصدر؟ وعن كيفية وضع السبابة أثناء التشهد، هل ترفع من أول التشهد أو في منتصف التشهد فقط؟ وهل ترفع ساكنة أم متحركة؟ وهل حركتها رأسية أفقية أم دائرية؟ وهذا في منتهى الغرابة أن تجد الناس يتجادلون كثيراً في هذا الأمر، وتناظروا طويلاً في مذهب المرجئة والمعطلة والمشبهة والمجسمة .. وأمور ما كان الناس يرونها ولا يسمعون عنها أبداً، وفتحوا على الناس أبواباً ما فتحها عليهم رسولهم صلى الله عليه وسلم.

    ونتج عن هذا التعمق في الفروع أشياء خطيرة منها:

    أولاً: وجود جدار عظيم جداً بين العلماء والعامة، فلا العامة يفهمون العلماء ولا العلماء يفهمون العامة، ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أعلم البشر وأحكم الخلق كان يتكلم بالكلمة فيفهمه كبير الصحابة والأعرابي البسيط والرجل والمرأة والكبير والصغير صلى الله عليه وسلم، لكن في عهد المرابطين الأخير لما اشتغل الناس بالفروع والتهوا بها عن الأصول، حدث أمر آخر نتيجة هذه المناظرات الطويلة وهو عزلة خطيرة للعلماء عن المجتمع، وأخذوا يتحدثون في كل هذه الأمور، وتركوا مصائب عظاماً حلت على المجتمع، فقد كانت الخمور تباع وتشترى، بل وتصنع في البلاد ولا يتكلم أحد.

    وضرائب باهظة تفرض على الناس غير الزكاة بغير وجه حق، ولا يتكلم أحد من العلماء.

    وظلم الولاة لأفراد الشعب ولا يتكلم أحد من العلماء.

    وملاه للرقص تعلن الفساد والسفور ولا يتكلم أحد من العلماء.

    وخروج النساء حاسرات بلا حجاب ولا يتكلم العلماء عن هذا الأمر.

    ففي زمن دولة المرابطين في سنة (500هـ) وما بعدها كانت النساء يخرجن من بيوتهن سافرات بلا حجاب، والعلماء لا يتكلمون عن هذه الأمور، بل هم منشغلون بالحديث عن المرجئة والمعطلة.. وغير ذلك، ويعتقدون أن هذه الأمور التي يجب أن يشغل بها المسلمون عن هذه الأمور الأقل قيمة في نظرهم.

    فحدث في أواخر عهد المرابطين غياب الشمولية في دولة المرابطين، وفتنة الدنيا والمال، وكثرة الذنوب، وجمود الفكر عند العلماء، وانعزالهم عن المجتمع، وفوق كل هذه الأمور تحدث أزمة اقتصادية حادة جداً في دولة المرابطين، وهي أن ينقطع المطر سنوات، وهذه الأزمة ليست صدفة، بل هي في قرآن الله الكريم: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].

    وقال تعالى حاكياً عن قول سيدنا نوح عليه السلام لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:10-13].

    إذاً: الله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمنين دائماً بالقحط وبالأزمات الاقتصادية الحادة عندما يبتعدون عن طريقه، فلو لاحظت في مجتمعك أن الحالة الاقتصادية بدأت تسوء والأموال تقل في أيدي الناس، والناس تشتغل وتعمل ولا تحصل ما يكفي لسد رمقهم أو ما يكفي لعيشهم عيشة كريمة، فاعلم أن هناك خللاً في العلاقة بين العباد وبين الله سبحانه وتعالى، وابتعاداً عن منهج الله سبحانه وتعالى، ولو كانوا يطيعونه سبحانه وتعالى لبارك لهم في أقواتهم.

    ثم تلا هذا الوضع الذي حدث في بلاد المرابطين هزائم متعددة من قبل النصارى؛ كموقعة قتندة سنة (514هـ)، وموقعة القليعة سنة (523هـ) والتي هزم فيها المسلمون من قبل النصارى.

    1.   

    ثورة محمد بن تومرت وقيام دولة الموحدين

    تتجه البلاد إلى كارثة أو هاوية إن لم يقم المصلحون يعدلون المسار من جديد إلى الجادة، وإلى طريق الله سبحانه وتعالى وطريق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا بد في هذا الجو أن يظهر مصلحون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فقام رجل اسمه: محمد بن تومرت من قبائل مصمودة البربرية، وقيل: إن نسبه عربي، بل إن بعض الناس قال: إن نسبه قرشي، لكن غالب الأمر أنه من قبائل البربر في هذه المنطقة.

    قامت ثورة محمد بن تومرت الإصلاحية في دولة المرابطين سنة (512هـ) وكان منهج محمد بن تومرت في التغيير مختلفاً بالكلية عن منهج الشيخ عبد الله بن ياسين رحمه الله.

    ولد محمد بن تومرت المصمودي في سنة (473) من الهجرة، ونشأ في بيت متدين في قبيلة مصمودة، وظل في هذا البيت إلى سنة (500)، وكان يبلغ من العمر (27) سنة، وكان متشوقاً جداً إلى العلم، وكان من عادة العلماء في ذلك الزمن أنهم يتجولون ويسيحون في الأرض، يتعلمون من علماء المسلمين في مختلف الأقطار، ففي سنة (500) سافر محمد بن تومرت إلى قرطبة وتلقى العلم هناك، ثم لم يكتف بذلك بل سافر إلى الإسكندرية، ثم إلى مكة فحج وأخذ يتعلم هناك على أيدي علماء مكة فترة، ثم ذهب إلى بغداد وقضى فيها عشر سنوات كاملة، وتعلم العلم على أيدي علماء بغداد جميعاً، وبغداد في ذلك الوقت كانت تموج بتيارات مختلفة، فقد كان فيها علماء للسنة وعلماء للشيعة وعلماء للمعتزلة، فتلقى على أيدي هؤلاء جميعاً، ثم ذهب إلى الشام وتلقى العلم على يد أبي حامد الغزالي رحمه الله صاحب الإحياء، ثم عاد بعد ذلك إلى الإسكندرية، ثم عاد بعد ذلك إلى بلاد المغرب.

    يقول ابن خلدون : لما عاد محمد بن تومرت سنة (512هـ) إلى بلاد المغرب العربي وعمره تقريباً 39 سنة، أصبح بحراً متفجراً من العلم وشهاباً في الدين، يعني: أنه جمع علوماً كثيرة جداً من تيارات مختلفة، وجمع أفكاراً ضخمة جداً، وأصبح فعلاً من علماء المسلمين الكبار في هذه الآونة، وفي طريق عودته من بلاد العراق وبلاد الشام بقي في الإسكندرية فترة يكمل فيها تعليمه، وهناك في الإسكندرية بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فقد كان عنده علم غزير جداً، وكان شديداً جداً في إنكار المنكر وفي الأمر بالمعروف، وكانت فيه شدة توصل إلى حد التنفير، فكان ينفر كثيراً من الناس عنه عندما يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، حتى إن أهل الإسكندرية طردوه من البلد من فظاظته، وألقوه في سفينة متجهة إلى بلاد المغرب العربي، فركب السفينة فأخذ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أهل السفينة، فكان ينهاهم عن شرب الخمور على السفينة، ويأمرهم بقراءة القرآن، ومن شدته عليهم رموه في وسط البحر الأبيض المتوسط وانطلقوا إلى بلاد المغرب وهو يسبح بجانب السفينة، فأشفق عليه أهل السفينة فأخذوه معهم على أن يصمت حتى يصل إلى بلاد المغرب العربي.

    ثم وصل إلى بلد المهدية في تونس، فنزل فيها وبدأ كالعادة من جديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بنفس الطريقة، وكرد فعل طبيعي للناس بدأت تنفر من طريقته وتبتعد، وكان محمد بن تومرت يريد تغيير كل شيء من المنكر تغييراً جذرياً مفاجئاً وسريعاً، والحق أن هذا أمر مخالف للسنن؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في مكة ما أنكر على المنكرات فجأة، بل إن الأوامر كانت تنزل من عند الله سبحانه وتعالى بصورة متدرجة كالأمر باجتناب الربا والخمور، وكالأمر بالقتال في سبيل الله، يروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما تولى الخلافة كانت هناك منكرات في دمشق وما حولها من البلاد، فابن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان شديداً جداً في الحق، فأراد أن يغير كل هذه الأمور فجأة، فوجد أن أباه عمر بن عبد العزيز رحمه الله يغير الأمور بصورة متدرجة، فشق ذلك عليه وذهب إلى أبيه وقال: يا أبي! أنت تملك الأمور، ولك هيمنة على بلاد المسلمين فيجب أن تغير كل المنكرات وتقيم الإسلام كما ينبغي أن يقام، فقال له عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يا بني! لو حملت الناس على الحق جملة واحدة تركوه جملة واحدة.

    و محمد بن تومرت لم يكن يفعل هذا الأمر، بل كان يريد أن يغير كل شيء تغييراً جذرياً وبأسلوب فظ شديد، قال الله سبحانه وتعالى وهو يخاطب نبيه الكريم: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فالرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي أحكم البشر وأعلم البشر جميعاً، لو دعا إلى الله سبحانه وتعالى بفظاظة لانفض الناس من حوله، فما بالكم بعموم الناس؟!

    التقاء محمد بن تومرت بعبد المؤمن بن علي وفكرة التغيير

    قابل محمد بن تومرت في المهدية رجلاً اسمه: عبد المؤمن بن علي وكان له شأن فيما بعد في تاريخ المسلمين في بلاد المغرب والأندلس، وكان في مدينة المهدية في تونس يبغي ما بغاه محمد بن تومرت من قبل، فهو يبحث عن العلم والدين كما فعل محمد بن تومرت برحلته في بلاد المسلمين، فسأله محمد بن تومرت عن سبب تركه لبلاد المغرب العربي وسياحته في البلاد، فقال: أبحث عن العلم والدين فقال: عندي العلم والدين.

    فالتقيا وأخذ محمد بن تومرت يعلم عبد المؤمن بن علي من علمه، فأعجب به جداً وتآخيا في الله، فتعلم عبد المؤمن بن علي من محمد بن تومرت العلم مع فظاظة الأسلوب في دعوة الناس إلى المعروف وفي نهيهم عن المنكر، وبدأ الاثنان يدعوان إلى الله سبحانه وتعالى في بلاد المغرب العربي، وانظم إليهما خمسة فصاروا سبعة.

    كان يرى محمد بن تومرت أن المنكرات قد كثرت جداً في بلاد المرابطين، فوجد أن الخمور قد فشت في أماكن كثيرة، حتى في مراكش العاصمة التي أسسها يوسف بن تاشفين رحمه الله من قبل، وكانت ثغراً من ثغور الإسلام، ووجد أن السفور والاختلاط قد انتشر، وأن الولاة يظلمون الناس ويفرضون عليهم الضرائب، ويأكلون أموال اليتامى، حتى إنه شاهد من ضمن المشاهدات أن امرأة سافرة تخرج في فوج كبير جداً وحرس .. وما إلى ذلك من الأمور، فسأل عن هذه المرأة السافرة فوجدها ابنة علي بن يوسف بن تاشفين ابنة أمير المسلمين في ذلك الزمان.

    فجلس مع الستة الأفراد الذين معه وعرض عليهم فكرته في التغيير، وقال لهم: إن الأمور قد فشت والمعاصي قد انتشرت في بلاد المرابطين وأرى أن الحل لهذا الأمر هو أن نقصي الحكام عن الحكم، فنبدأ بـعلي بن يوسف بن تاشفين ومن معه من الحكام أو الولاة والجيش، فنخرج عليهم ونقصيهم من الحكم، فنستطيع أن نغير البلاد ونحكمها بشرع الله بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يعني: هو لا يريد أن يبدأ الطريق الطويل طريق التربية الذي بدأه عبد الله بن ياسين رحمه الله من قبل، والذي سار فيه سنوات حتى تمكن من الأمور، إنما يريد أن يعزل علي بن يوسف بن تاشفين من حكم البلاد عليها، ثم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن المعلوم أن علي بن يوسف بن تاشفين كان يقيم شرع الله سبحانه وتعالى، وكان يجاهد في سبيل الله، لكن كانت عنده تجاوزات ومخالفات في هذه الفترة ما كان يجوز لـمحمد بن تومرت ومن معه من الرجال -على صدق نواياهم فيما يبدو لنا وعلى تقشفهم وزهدهم وعلمهم الغزير- أن يخرجوا عليه، بل كان عليهم أن يساعدوه على العودة إلى طريق الإسلام الصحيح، وعلى تعليم الناس وتربيتهم.

    فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه الرسالة في أرض مكة ودعا إلى الله سبحانه وتعالى وخالفه المشركون، كان من الممكن أن يفعل الأمر الذي فكر فيه محمد بن تومرت فيأمر سيدنا علي بن أبي طالب ، وسيدنا الزبير بن العوام ، وسيدنا طلحة بن عبيد الله أن يقتل كل واحد منهم رجلاً من صناديد قريش ليتملك الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم في مكة، ثم بعد ذلك يقيم شرع الله سبحانه وتعالى، لكن هذه ليست سنة الله سبحانه وتعالى في التغيير، ولذلك لم يتبعها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بل أخذ يربي الناس بالتدريج في مكة لمدة (13) سنة، ثم هاجر إلى المدينة المنورة فبدأ يربي الناس بالتدريج، ثم كانت موقعة بدر مع الكافرين، ثم كانت المواقع التي تتلو ذلك، حتى تمكن رسولنا صلى الله عليه وسلم من السيطرة على الأمور في جزيرة العرب جميعاً.

    إذاً: هذا هو النهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي سلكه الشيخ عبد الله بن ياسين رحمه الله في إقامة دولة المرابطين، لكن الذي فعله محمد بن تومرت كان مخالفاً للنهج في التغيير، وكانت عنده فظاظة وشدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    موقف علي بن يوسف بن تاشفين من محمد بن تومرت

    لما سمع علي بن يوسف بن تاشفين بـمحمد بن تومرت أنه يدعو الناس إلى الخروج عليه فكر في عقد مناظرة بين محمد بن تومرت وبين علماء دولة المرابطين في ذلك الزمن في قصر الإمارة، فأتى بـمحمد بن تومرت وبعلماء المرابطين وبدأ الفريقان في المناظرة، وكان على رأس علماء دولة المرابطين مالك بن وهيب رحمه الله كبير علماء دولة المرابطين، وكان قاضي القضاة في ذلك الوقت.

    وهذا يبين لنا أن دعوة علي بن يوسف بن تاشفين للمناظرة كان فيه خير كثير، فقد كان يمكنه أن يأخذ محمد بن تومرت ويضعه في السجن أو يقتله أو يعتقله أو يفعل به ما يشاء.

    وفي تلك المناظرة تفوق محمد بن تومرت عليهم تفوقاً عظيماً؛ لأنه كان بحراً متفجراً من العلم وشهاباً في الدين كما ذكر ابن خلدون ، فاستطاع محمد بن تومرت أن يحاجهم جميعاً في كل القضايا التي أثيرت بينه وبينهم، حتى إن علي بن يوسف بن تاشفين بكى في مجلسه لما رأى كثرة المعاصي في البلد وهو لا يدري عنها شيئاً، أو يدري عنها ولا يغيرها، لكن كانت الحدة واضحة جداً في كلام محمد بن تومرت ، وكانوا يعلمون أنه يحرض الناس على الخروج على الحاكم، فأسر مالك بن وهيب قاضي القضاة في أذن علي بن يوسف بن تاشفين وقال له: عليك أن تعتقل هذا الرجل وتنفق عليه ديناراً في كل يوم في السجن،وإلا ستمر عليك الأيام فتنفق عليه كل خزائنك دون أن تقدر عليه، لكن الوزير نصحه بعدم اعتقال محمد بن تومرت ، فقال له: لو اعتقلته ستكون متناقضاً مع نفسك، لأنك بكيت من خشية الله سبحانه وتعالى لما سمعت كلامه وحججه، وهذا يكون فيه بلبلة عند عموم الناس، وأيضاً هو رجل واحد ومعه ستة من البشر، وأنت حاكم دولة المرابطين، فكيف تخشى من هذا الرجل؟ فأطلق علي بن يوسف بن تاشفين سراح محمد بن تومرت ، ولم يحبسه دون وجه حق.

    الانحرافات العقدية والسلوكية التي وقع فيها محمد بن تومرت

    خرج محمد بن تومرت من مراكش ونزل على صديق له في بلد مجاور، ونصحه أن يذهب معه إلى قرية في عمق الجبل اسمها: قرية تينملل، هذه القرية ستكون عاصمة للدولة التي أسسها محمد بن تومرت بعد ذلك، وكان محمد بن تومرت زاهداً، وكان لا يحمل معه إلا عصا، ولا يأكل إلا البسيط من الطعام، وكان صاحب علم غزير فبدأ الناس في هذه القرية الصغيرة يلتفون حوله ويسمعون كلامه، وبدأ يؤثر فيهم ويخبرهم بكثرة المعاصي في بلاد المرابطين، فكون حوله جماعة صغيرة سماها: جماعة الموحدين، وكانت هذه التسمية خطيرة، فقويت شوكة محمد بن تومرت ، وظهرت عليه انحرافات عقائدية خطيرة جداً، والسبب في ذلك أنه تعلم على يد أناس كثيرين وتيارات مختلفة من سنة وشيعة ومعتزلة.. وغيرها في الشام والعراق ومكة ومصر.. وغيرها من البلاد، حتى ظهر عليه خليط من العقائد المختلفة، فادعى العصمة، وهذه خاصة بأئمة الشيعة، فقد أخذ منهم هذه الجزئية، فادعى أنه معصوم لا يخطئ، وادعى أمراً خطيراً آخر وهو أن المرابطين من المجسمة؛ وذلك لأنهم يثبتون لله صفاته، فقد أخذ فكر المعتزلة في نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى، ولهذا الادعاء كفر المرابطين، فقال: إن علي بن يوسف بن تاشفين ومن معه من الولاة والعلماء كافرون، ومن يعمل تحت حكمهم ويرضى بحكمهم من الكافرين.

    ونتيجة لهذا التكفير استحل دماء المرابطين وأمر بقتلهم والخروج عليهم، وأفتى أصحابه أن من قتلهم إن استطاع ليس آثماً، بل هو محرز لثواب عظيم، وكان متساهلاً جداً في الدماء، وقد أخذ ذلك عن الخوارج، فإنهم كانوا متساهلين جداً في الدماء، فقد كان يقتل العشرات من المخالفين له، حتى ولو كانوا من جماعة الموحدين.

    وادعى لنفسه بعض الخوارق، وأنه هو المهدي المنتظر، وبدأ الناس يصدقون ذلك؛ لأن علماء دولة المرابطين انشغلوا بالأمور الفرعية عن تعليم الناس أصول العقائد وأصول العبادات وأصول الدين، وصنعوا جداراً كبيراً بينهم وبين العامة.

    فالعامة ما تعرف الحق من الباطل، لما رأت رجلاً مثل محمد بن تومرت عالماً كبيراً يروي عن هذا ويروي عن هذا، ويحفظ كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم سير الصالحين والسابقين، ويعلم فقه كذا وكذا، فما كان للعامة إلا أن تسمع وتطيع لما يقوله محمد بن تومرت فاعتقدوا جميعاً بعصمته وبحل قتل المرابطين، بل والثواب الجزيل على من يقتل المرابطين الذين فتحوا البلاد وأقاموا صرح الإسلام في بلاد المغرب والأندلس سنوات طويلة، فبعد أن انتشرت بعض المنكرات في بلادهم، وبعد أن انشغلوا بالجهاد عن التعليم صاروا يكفرون ويقاتلون من قبل جماعة الموحدين!!

    وعبارة جماعة الموحدين فيها إشارة واضحة جداً من محمد بن تومرت أن غير الجماعة ليسوا بموحدين، بل هم كفار ليسوا بمسلمين.

    بدء المعارك بين المرابطين والموحدين

    بدأ محمد بن تومرت وجماعته يقاتلون المرابطين والتقوا مع المرابطين في تسعة مواقع ضخمة جداً في تاريخ المسلمين، انتصر محمد بن تومرت في سبعة مواقع منها، وهزم في موقعتين، فعلى سبيل المثال: الموقعة الأولى في سنة (518هـ) قتل فيها من المرابطين خمسة عشر ألفاً من المسلمين على يد جماعة الموحدين، أهذا هو نهج الله ونهج رسوله الكريم؟ يقتل خمسة عشر ألف مسلم من المرابطين الذين كانوا شوكة كبيرة في حلوق النصارى سنوات طويلة.

    وموقعة ثانية: موقعة البحيرة أو البستان في سنة (524هـ) انتصر فيها المرابطون على الموحدين، وقتل فيها من الموحدين أربعون ألفاً، وهكذا فإن عدد القتلى من المسلمين في جميع المواقع بين الموحدين والمرابطين يزيد على ثمانين ألف مسلم، من سنة (512هـ -541هـ) أي: في غضون (28) سنة، إلى أن قامت دولة الموحدين على دماء أكثر من ثمانين ألف مسلم، أهذا هو النهج الصحيح للتغيير الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالطريق الذي سار فيه محمد بن تومرت ومن معه مخالف للطريق الذي سار فيه الشيخ عبد الله بن ياسين ومن معه من قبل، مع أن كليهما وصل في الأخير للحكم!

    وأتعجب كثيراً كيف يسير محمد بن تومرت هذا الطريق، وقد رسم له السابقون الطريق الصحيح الذي ليس فيه دماء المسلمين، وليس فيه تشريد وقتل وذبح لأمة كبيرة من المجاهدين مثل أمة المرابطين؟

    وفي سنة (524هـ) يموت محمد بن تومرت ، وقبل آخر لحظة من حياته كان يأمر الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والزهد في الدنيا واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع نهج الخلفاء الراشدين، وعدم المكوث أبداً عن الجهاد في سبيل الله، لكن على فهمه وطريقته التي ذكرناها، وأمر الناس أن يسمعوا ويطيعوا لـعبد المؤمن بن علي ما أطاع الله فيهم.

    ويدل كلام محمد بن تومرت على أنه من أكبر علماء المسلمين ومن أكبر المجاهدين، وكان بحق من العلماء كما ذكرنا، لكن كانت عنده أشياء عجيبة في أسلوب التغيير من العنف الشديد في التغيير، والمخالفات العقائدية، والخروج عن الحكام وتكفير المسلمين وقتلهم، مع أن الحكام قد أقاموا شرع الله سبحانه وتعالى، مع وجود بعض المخالفات في بعض الجزئيات، فكان الواجب عليه أن يقومهم بالتي هي أصلح، وكانت النتيجة أن قامت للمسلمين دولة على دماء ثمانين ألف مسلم، فتولى عبد المؤمن بن علي الأمور في جماعة الموحدين من بعد محمد بن تومرت في سنة (524هـ)، واستمر يقود الجماعة إلى أن سقطت دولة المرابطين السنية المجاهدة في سنة (541هـ) على إثر مجزرة شديدة جداً داخل مراكش، قتل فيها معظم المرابطين الذين كانوا في مدينة مراكش، وتملك الموحدون الحكم في البلاد سنة 541هـ.

    نحن ندرس التاريخ لكي نتعلم، ولكي لا نكرر أخطاء السابقين، بل نكرر ما فعله الصالحون من المسلمين في سنوات الإسلام السابقة التي فيها الكثير من الصلاح، وعلينا أن نستفيد الاستفادة الكاملة من هذه الخطوات.

    فماذا حدث مع دولة الموحدين بعد أن قامت على هذه الدماء؟ وماذا فعل عبد المؤمن بن علي في قيادته لدولة الموحدين من سنة (541هـ) إلى ما بعدها من السنوات؟ وهل صلحت الأفكار التي كانت في ذهن الموحدين عن عصمة محمد بن تومرت ومهديته، وعن كونهم يفسقون غيرهم من المسلمين؟ هذا ما سوف نتدارسه في الحلقة القادمة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755976016