أخبرنا قتيبة قال: حدثنا يزيد بن زريع عن شعبة ح وأنبأنا مؤمل بن هشام قال: حدثنا إسماعيل عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (ويل للعقب من النار) ].
هذا الحديث فيه وجوب غسل الرجلين، وأنه يجب غسل الرجلين مكشوفتين.
وفيه الرد على الرافضة الذين لا يرون وجوب غسل الرجلين، ويرون أنه يمسح ظاهر القدمين ولا يمسح على الخفين.
وهذا من أبطل الباطل؛ فإن مسح الخفين جاءت فيها أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنه أكثر من سبعين صحابياً، فغسل الرجلين ومسح الخفين متواتر قولاً وفعلاً.
قوله: (ويل للعقب) : الويل هو شدة العذاب والهلاك، وقيل: واد في جهنم، لكن الراجح والصواب أنه شدة العذاب والهلاك، والعقب: مؤخر القدم، ففيه أنه ينبغي للإنسان أن يعتني بمؤخر القدمين، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدرك الصحابة قد تأخروا عن صلاة العصر وأعقابهم تلوح، فنادى: (ويل للأعقاب من النار).
قوله: (أسبغوا الوضوء) يعني: أبلغوه كماله، وهو إتمامه وإيصاله إلى الأعضاء.
فمن توضأ ثم رأى أن العقب لم يغسل فإنه يعيد الوضوء للصلاة، فقد جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في قدمه لمعة لم يصلها الماء، فقال: (ارجع فأحسن وضوءك)، وذلك فيما إذا تأخر حتى نشف العضو؛ لأن الموالاة واجبة، وأما إذا أدرك ذلك فغسله في الحال بعد غسل الرجلين فلا بأس.
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا خالد قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني الأشعث قال: سمعت أبي يحدث عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها وذكرت (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره ونعله وترجله).
قال شعبة : ثم سمعت الأشعث بواسط يقول: يحب التيامن. فذكر شأنه كله، ثم سمعته بالكوفة يقول: يحب التيامن ما استطاع ].
والطهور بضم الطاء، (ونعله) أي: لبس نعله، (وترجله) أي: تسريح شعره، وقوله: (فذكر شأنه كله) أي: جميع شئونه عليه الصلاة والسلام، ففي دخول المسجد يقدم رجله اليمنى، وفي دخول البيت كذلك، وفي لبس النعل، ولبس الثوب والسروال وغير ذلك.
أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني أبو جعفر المدني قال: سمعت ابن عثمان بن حنيف -يعني عمارة - قال: حدثني القيسي : (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأتي بماء فقال على يديه من الإناء فغسلهما مرة، وغسل وجهه وذراعيه مرة مرة، وغسل رجليه بيمينه كلتاهما) ].
في هذا الحديث الوضوء مرة مرة وهذا أقل ما يجزئ، فيغسل يديه مرة، ويغسل وجهه مرة، والتثليث أفضل، ويجوز مرتين مرتين، ويجوز الوضوء مخالفاً، فعضو مرة وآخر مرتين، وهكذا .
وفيه غسل الرجلين باليدين، فلا بأس بأن يغسل رجليه بيديه أو بيد واحدة.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثني يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير -وكان يكنى أبا هاشم ، ح وأنبأنا محمد بن رافع قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا سفيان عن أبي هاشم عن عاصم بن لقيط عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا توضأت فأسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع) ].
هذا الحديث فيه مشروعية إسباغ الوضوء، وأن إسباغ الوضوء -ولا سيما مع المكاره- مما يغفر الله به الخطايا، ويكفر به السيئات، وإسباغه إتمامه وإبلاغه وتعميم الأعضاء، والتخليل بين أصابع اليدين والرجلين كذلك مشروع بأي كيفية.
أخبرنا محمد بن آدم عن ابن أبي زائدة قال: حدثني أبي وغيره عن أبي إسحاق عن أبي حية الوادعي قال: (رأيت
هذا الحديث فيه مشروعية التثليث، وأن هذا هو المستحب وهو الأفضل.
وفيه أن الرجلين تغسلان ثلاثاً كسائر الأعضاء، وهذا هو الأصل، والواجب مرة، وأما الرأس فإنه يمسح مرة واحدة ولا يثلث، وأما الأعضاء الأخرى فالواجب فيها مرة واحدة والتثليث أفضل، وإن غسلها مرتين فلا بأس، وإن غسل مخالفاً فغسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثاً فلا بأس، فكل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع -واللفظ له- عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عطاء بن يزيد الليثي أخبره أن حمران مولى عثمان أخبره (أن
هذا الحديث رواه الشيخان في الصحيحين، وهو أكمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء.
وفيه أنه غسل كل عضو ثلاثاً.
وفيه أن من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء، وفي اللفظ الآخر: (يقبل فيهما بقلبه ووجهه على الله إلا غفر الله له)؛ كان ذلك من أسباب المغفرة لمن اجتنب الكبائر، وهذا فضل عظيم.
وفيه ما ترجم به المؤلف في حد الغسل، وهو أنه يغسل اليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، أو أن المراد به حد التثليث، وهو أنه يغسل الوجه ثلاثاً واليدين ثلاثاً والرجلين ثلاثاً ولا يزيد.
ولم يذكر في هذا الحديث مسح الأذنين؛ لأن الأذنين تابعتان للرأس، فإذا لم يذكرا فإنهما داخلتان في الرأس؛ ثم إن الأحاديث الأخرى فصلت فذكرت مسح الأذنين، وهذا مجمل، والأحاديث يضم بعضهما إلى بعض.
أخبرنا محمد بن العلاء قال: حدثنا ابن إدريس عن عبيد الله ومالك وابن جريج عن المقبري عن عبيد بن جريج قال: قلت لـابن عمر : (رأيتك تلبس هذه النعال السبتية وتتوضأ فيها! قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويتوضأ فيها) ].
النعال السبتية: هي التي ليس فيها شعر، وهي مأخوذة من السبت وهو القطع، ففيه أنه لا بأس بلبس النعال التي لا شعر فيها والوضوء فيها، وأنه لا يمسح على النعلين، فإذا توضأ في النعلين فلا بد من أن يغسل الرجلين، وإنما المسح على الخفين، وأما النعلان فإنهما يستران الرجل، فلا بد من غسل الرجلين ولو كان فيهما نعلان.
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا حفص عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (أنه توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: أتمسح؟ فقال: قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح، وكان أصحاب عبد الله جرير جرير
جرير رضي الله عنه الله تعالى عنه أسلم بعد نزول المائدة، والمائدة من آخر ما نزل، وإنما كان يعجبهم إسلام جرير لأن فيه الدلالة على أن مسح الخفين لم ينسخ؛ لأن المائدة فيها آية الوضوء، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، والمسح على الخفين كان بعد نزول المائدة، فدل على أنه باق لم ينسخ، والمائدة من آخر ما نزل، فلهذا كان يعجبهم إسلام جرير ؛ لأنه سئل فقيل له: (هل كان مسح النبي صلى الله عليه وسلم بعد المائدة؟ فقال: وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة؟!).
وأحاديث المسح على الخفين من الأحاديث المتواترة، وكذلك غسل الرجلين، فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين صحابياً، ومع ذلك أنكر الرافضة غسل الرجلين، فأوجبوا مسح ظهور القدمين، وأنكروا المسح على الخفين، فلهذا يذكر العلماء في كتب العقائد المسح على الخفين للرد على الرافضة الذين ينكرون ذلك، وإلا فالأصل أنها مسألة فرعية من المسائل الفقهية، لكن تذكر في كتب العقائد للرد على الرافضة.
والرافضة معروف عنهم توسلهم بآل البيت، وهذا شرك، ويكفرون الصحابة ويفسقونهم، وهذا أيضاً تكذيب لله، وكذلك يعتقدون أن القرآن لم يحفظ، وأن هناك بقية ضاعت، وهذه ردة نعوذ بالله، فمن يعتقد هذا الاعتقاد لا شك في كفره، وإذا أظهر الإسلام ولم يظهر من ذلك شيئاً فإنه يعامل معاملة المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل عبد الله بن أبي ، فإن ظهر منه شيء فإنه لا يصادق ولا يعاشر.
أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم وسليمان بن داود -واللفظ له- عن ابن نافع عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم و
كل هذه أحاديث متواترة معروفة.
وأما لفظة (الأسواق) الواردة في هذا الحديث فقد رويت بالفاء، أي: الأسواق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا سليمان بن داود والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع -واللفظ له-، عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر عن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه مسح على الخفين).
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا إسماعيل -وهو ابن جعفر - عن موسى بن عقبة عن أبي النضر عن أبي سلمة عن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين: (أنه لا بأس به).
أخبرنا علي بن خشرم قال: حدثنا عيسى عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته، فلما رجع تلقيته بإداوة فصببت عليه فغسل يديه، ثم غسل وجهه، ثم ذهب ليغسل ذراعيه فضاقت به الجبة، فأخرجهما من أسفل الجبة فغسلهما ومسح على خفيه، ثم صلى بنا) ].
حديث المغيرة قد سبق، وفيه جواز لبس الضيق، وجواز لبس الثياب التي من بلاد الكفار.
قوله: (ثم صلى بنا) يحتمل أن يكون في حادثة أخرى غير التي صلى فيها عبد الرحمن بن عوف .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث بن سعد عن يحيى عن سعد بن إبراهيم عن نافع بن جبير عن عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج لحاجته فاتبعه
أخبرنا محمد بن منصور قال: حدثنا سفيان قال: سمعت إسماعيل بن محمد بن سعد قال: سمعت حمزة بن المغيرة بن شعبة يحدث عن أبيه رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: تخلف يا
هذا الحديث استدل به المؤلف رحمه الله على مشروعية المسح على الخفين في السفر، وهو كذلك؛ فإن مسح الخفين ثابت، وهو من الأمور المتواترة في الحضر وفي السفر، فالنبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه في الحضر وفي السفر، ففي السفر يمسح على خفيه ثلاثة أيام بلياليها، وفي الحضر يمسح يوماً وليلة، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة.
وفيه جواز الإعانة في صب الماء للمتوضئ، وأنه لا بأس أن يعين المرء أخاه فيصب عليه الماء وهو يتوضأ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المغيرة أن يصب، فكان يصب عليه الماء وهو يتوضأ، فإذا كان الإنسان يصب عليه الماء فيغسل وجهه، ثم يصب عليه فيغسل يديه، ثم يصب عليه فيمسح رأسه، ثم يصب عليه فيغسل رجليه؛ فلا حرج، كما استعان النبي صلى الله عليه وسلم بـالمغيرة في صب الماء، وإنما الخلاف في كون الإنسان هو الذي يوضئه، بمعنى أنه يمسح أو يغسل أعضاء غيره، فإذا كان المرء مريضاً فلا بأس، فينوي المريض الوضوء والذي يعينه يغسل وجهه إذا كان لا يستطيع، ثم يغسل يده اليمنى، ثم يده اليسرى، وأما إذا كان صحيحاً فإنه يتولى هذا بنفسه، ولا بأس بأن يصب عليه غيره الماء.
وفيه دليل على جواز لبس الثياب التي ترد من الكفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية من بلاد الشام، وكانت بلاد الشام في ذلك الوقت بلاد كفار، ولم تفتح إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه لا حرج في أن يلبس الإنسان الملابس التي وردت من الكفار، ويستعمل السيارات التي جاءت من عندهم.
وفيه دليل على أنه لا بأس بلبس الثوب الضيق الكمين، ولهذا ضاقت هذه الجبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يغسل يديه ضاقت عليه فأخرجهما من أسفل.
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا سفيان عن عاصم عن زر عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (رخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن) ].
هذا الحديث فيه توقيت المسح على الخفين للمسافر، وأنه يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، وللمسافر -كذلك- أن يقصر الرباعية، فيقصر الظهر والعصر والعشاء، وله أن يفطر في رمضان.
وفي هذا التوقيت دليل على أنه إذا مضت المدة يجب نزع الخف، وأنه تبطل الطهارة بمضي المدة، وهذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء؛ لأن هذا هو معنى التوقيت، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يوقت ثلاثة أيام ولياليهن دليل على أنه إذا مضت المدة يجب نزع الخف، ثم يتطهر ويتوضأ، ثم يلبسهما بعد ذلك، فإذا لبس الخف ثم نزعه انتقضت الطهارة، وكذلك إذا مضت المدة، فإذا مضى يوم وليلة للمقيم انتقضت الطهارة، وعليه أن يخلع، وإذا مضت ثلاثة أيام ولياليها في السفر كان عليه أن ينزع الخف لمضي المدة؛ لأن هذا هو معنى التوقيت.
وإذا لبس المرء الجوربين ثم لبس عليهما الخفين فحكمهما واحد في المسح، وأما إذا لبس الجوربين ومسح عليهما ثم لبس الخفين بعد ذلك فالحكم للجوربين، ولا يضر نزع الخفين.
هذا فيه دليل على أن مسح الخفين يكون من الغائط والبول والنوم إذا لبس الخفين على طهارة، ففي حديث المغيرة لما كان يصب على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين)، فدل على أنه لا بد من اشتراط لبسهما على طهارة، فإذا لبسهما على طهارة فإنه يمسح عليهما ثلاثة أيام ولياليهن إذا كان مسافراً، ويوماً وليلة إذا كان مقيماً، ويمسح عليهما إذا أحدث من غائط أو بول أو نوم أو أكل لحم الجزور، وأما إذا أصابته جنابة فإنه لا يمسح على الخفين، بل يجب نزعهما، ولهذا قال: (إلا من جنابة) سواء أكان في سفر أم في حضر، وإنما يمسح عليهما من الحدث الأصغر، كما إذا أحدث من البول والغائط والنوم وأكل لحم الجزور ومس الفرج باليد، ففي هذه الأحوال يكون الحدث حدثاً أصغر، فيمسح على الخفين، أما إذا أصابته جنابة فإنه لابد من أن ينزع الخفين ويعمم جسده بالماء.
والنوم الذي ينقض الوضوء هو النوم المستغرق الذي يزول معه الإحساس، بحيث لا يشعر بمن حوله، ولو خرج منه حدث لا يشعر، أما خفقان الرأس والنعاس الذي يسمع معه من حوله، ولو خرج منه حدث علم به فإنه لا يضر، فقد كان الصحابة ينتظرون صلاة العشاء وتخفق رءوسهم فيصلون ولا يتوضئون.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا عبد الرزاق قال: أنبأنا الثوري عن عمرو بن قيس الملائي عن الحكم بن عتيبة عن القاسم بن مخيمرة عن شريح بن هانئ عن علي رضي الله عنه قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، ويوماً وليلة للمقيم) يعني: في المسح ].
هذا واضح، وفيه التوقيت بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا هناد بن السري عن أبي معاوية عن الأعمش عن الحكم عن القاسم بن مخيمرة عن شريح بن هانئ قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين فقالت: ائت علياً ؛ فإنه أعلم بذلك مني، فأتيت علياً فسألته عن المسح، فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثاً) ].
واشتراط لبسهما على طهارة هو في حق من أراد أن يسمح عليهما، وأما من لم يرد فلا حرج عليه.
[ باب: صفة الوضوء من غير حدث.
أخبرنا عمرو بن يزيد قال: حدثنا بهز بن أسد قال: حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت النزال بن سبرة قال: (رأيت
هذا الحديث فيه ذكر نوع آخر من تجديد الوضوء، وهو مسح الأعضاء الأربعة: الوجه واليدين والرأس والرجلين، بأن يأخذ كفاً من ماء فيكتفي به ويمسح وجهه ويديه ورأسه ورجليه، فهذا وضوء من لم يحدث، وأما طهور المحدث فلا بد فيه من غسل الأعضاء بالترتيب: فالوجه، ثم اليدان، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرجلين.
وقد جاء ما يدل على أن تجديد الوضوء يكون وضوءاً كاملاً، فعلى هذا يكون التجديد نوعين: نوع يسبغ فيه الوضوء، ونوع يمسح فيه الأعضاء الأربعة.
والمسح يأتي بمعنى الغسل الخفيف، لكن الأصل أنه المسح المعروف، وهنا ذكر أنه أخذ الماء بكف واحد، وهذا يدل على أنه مسح، وإلا فالمسح يأتي بمعنى الغسل الخفيف، ومنه قول العرب: تمسحت للصلاة. وبه أجيب عن قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6].
فقيل: المراد: امسحوا برءوسكم وامسحوا بأرجلكم، وهو الغسل الخفيف.
وقد جاء في حديث: (من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات) وهذا الحديث ضعيف، لكن إذا أحب المرء أن يجدد من باب النشاط كان له ذلك، كما فعل علي ، وكما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآية في تأوليها أقوال للمفسرين ذكرها الحافظ ابن كثير رحمه الله وغيره، حيث قال بعضهم: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] أي: إذا قمتم محدثين فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6].
وقال بعضهم: إن قوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ يعني: إن كنتم محدثين فالوضوء واجب، (فاغسلوا وجوهكم) وجوباً، وإن كنتم غير محدثين فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة:6] استحباباً.
والمقصود أن النصوص في السنة بينت هذه الآية، وأن الوضوء إنما يجب على المحدث، وأما غير المحدث فلا يجب عليه وإنما يستحب له، كما فعل علي رضي الله عنه الله تعالى عنه وقال: (هذا وضوء من لم يحدث)، فالذي لم يحدث له أن يجدد الوضوء، وله أن يمسح الأعضاء الأربعة.
وفيه دليل على جواز الشرب حال القيام، كما فعل علي رضي الله عنه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب قائماً في حجة الوداع، وذلك حين جاء إلى زمزم وهم يسقون، فأعطوه دلواً من ماء فشرب قائماً.
وأما الأحاديث التي فيها النهي عن الشرب حال القيام فهي محمولة على التنزيه جمعاً بين النصوص؛ لأن القاعدة عند أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء ثم فعله دل على أن النهي ليس للتحريم وإنما هو للتنزيه، وهذا هو الصواب في هذه المسألة.
وقد ذهب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد إلى تحريم الشرب حال القيام، وهذا ليس بجيد، والصواب جوازه؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعله لبيان جوازه، وأما النهي فهو محمول على التنزيه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر