إسلام ويب

تفسير سورة الفاتحة [9]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الملك في الدنيا والأخرى لله سبحانه، فهو مالك الملك وهو المتصرف في ذلك كيف يشاء، فلا يكون في ملكه إلا ما يشاء، ولا يحصل في ملكه ما لا يشاء سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)

    قال الله تعالى: [ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قرأ بعض القراء: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ وقرأ آخرون: (مالك)، وكلاهما صحيح متواتر في السبع ].

    يعني: أن القراءتين متواترتان: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف ومَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ بلا ألف، فقرئ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، وقرئ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقال: ملك بكسر اللام وبإسكاتها ].

    بالكسر مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ وبالإسكان مَلْكِ يَوْمِ الدِّينِ فتكون القراءات ثلاث: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، و مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، و ملْكِ يَوْمِ الدِّينِ .

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقال: مليك أيضاً، وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ: ( ملكي يوم الدين ) ].

    قراءة (مالك) و(ملك) قراءتان مشهورتان، وأما (ملْك يوم الدين) و(مليك يوم الدين) فالأقرب أنهما قراءتان شاذتان.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد رجح كلاً من القراءتين مرجحون من حيث المعنى، وكلتاهما صحيحة حسنة ].

    يعني (مالك) و(ملك).

    قال: [ وقد رجح الزمخشري (ملك) لأنها قراءة أهل الحرمين، ولقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]، وقوله: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ [الأنعام:73].

    وحكي عن أبي حنيفة أنه قرأ (مَلَكَ يوم الدين) على أنه فعل وفاعل ومفعول وهذا شاذ غريب جداً ].

    نعم، هذا قراءة شاذة لا يقرأ بها فملك هو الفعل، والفاعل هو الله، ويوم هو المفعول.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئاً غريباً حيث قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي حدثنا عبد الوهاب بن عدي بن الفضل عن أبي المطرف عن ابن شهاب : أنه بلغه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرءون: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4])

    قال ابن شهاب : وأول من أحدث (ملك) مروان ].

    هذا ليس بصحيح، وقد سبق أنه في: (ملك يوم) قراءتان مشهورتان، فهذا الأثر لا يعول عليه، لأنه منقطع.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قلت: مروان عنده علم بصحة ما قرأه، لم يطلع عليه ابن شهاب، والله أعلم ].

    يعني: أنه يعلم أنها قراءة ثابتة، وليس هو الذي أحدثها.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مردويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأها: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، ومالك مأخوذ من الملك، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40] ].

    الملك مصدر، والمصدر هو الأصل، هذا إذا أراد الاشتقاق من الملك.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ [الناس:1-2]، وملك: مأخوذ من الملك، كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] ].

    لأن هذا أصل الاشتقاق، فيكون مالك أصله ملك، ومالك وملك في اشتقاقها مأخوذة من الملك؛ لأنه مصدر وهو أصل الاشتقاق، فيقول: إن مالك هي نفس ملك، يعني: حذفت الألف من مالك وهي بمعنى ملك.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ [الأنعام:73]، وقال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان:26].

    وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه؛ لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين؛ لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئاً، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38]، وقال تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه:108]، وقال تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105].

    وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] يقول: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكماً، كملكهم في الدنيا ].

    ملكه ليوم الدين ليس معناه أن الله تعالى لا يملك غيره، بل هو مالك الدنيا والآخرة، فهو رب العالمين، وإنما الحكمة والسبب أنه في ذلك اليوم تزول الأملاك كلها، ولا يبقى ملك إلا لله، ولا يتكلم أحد إلا بإذن الله، وجاء في بعض الأحاديث أن الرب سبحانه ينادي العباد ويقول: (إني أنصت لكم منذ خلقتكم، فأنصتوا لي الآن) أو كما جاء عن الله عز وجل.

    ففي ذلك اليوم تزول الفوارق، وتزول الأملاك، ولا أحد يتكلم، وليس لأحد سلطان، ويأتي الناس كلهم يقفون بين يدي الله ليس معهم شيء من الدنيا، ولا يكون الفرق إلا بالحسنات والسيئات، وكل ينتظر قضاء الله، فلذلك قال سبحانه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] و(ملك يوم الدين)، فالفوارق بين العباد تزول كلها، وليس لأحد ملك، وأما الدنيا ففيها اختلاط الحابل بالنابل، واختلاط الكفار بالمؤمنين، والفجرة بالمتقين، وهناك ملوك في الدنيا وعبيد وأسياد، وأغنياء وفقراء ووضعاء وشرفاء، وأما في يوم القيامة فتزول هذه الفوارق كلها، ويكون التصرف لله عز وجل، ولا أحد يتصرف ولا أحد يتكلم إلا بإذن الله، والرسل حينما يجوزون على الصراط كلمتهم: اللهم سلم سلم.

    قال سبحانه وتعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:17-19].

    فإن قيل: أيهما أفضل: مالك أو ملك؟ قيل: الذي يظهر أنه ملك، والمعنى واحد.

    معنى: (يوم الدين)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ويوم الدين، يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر إلا من عفا عنه].

    يدينهم: من أدان يُدين، وأما يَدَين من فهو دان، يدين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف، وهو ظاهر، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى أن تفسير مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] أنه القادر على إقامته، ثم شرع يضعفه، والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم، وأن كلاً من القائلين هذا القول وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر ولا ينكره ].

    لا شك أنه سبحانه القادر على إقامة يوم الدين، وهذه الآية إثبات البعث والجزاء والحساب، وأن الله يحكم بين عباده بالعدل؛ لأن الدين هو الجزاء بالعدل، وفيها الرد على منكري البعث من المشركين والفلاسفة والوثنيين وغيرهم.

    وفيها إثبات الجزاء على الأعمال، وأن الله يجازي على الأعمال بالعدل، وهو أعدل العادلين سبحانه وتعالى، وهو أحكم الحاكمين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا، كما قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان:26].

    والقول الثاني يشبه قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ [الأنعام:73]، والله أعلم.

    والملك في الحقيقة هو الله عز وجل، قال الله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23] ].

    من القراءات: مَلِك يوم الدين، وفيها: إثبات اسم الملك؛ لكن هنا أتى مضافاً إلى (يوم الدين).

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك، ولا مالك إلا الله) ].

    أخنع: أوضع، وفي لفظ: (أخبثه)، فأخنع وأوضع اسم من تسمى بهذا الاسم الذي هو من خصائص الله، أي: جعله الله وضيعاً حقيراً ذليلاً؛ لتجاوزه حده وتسميه بما لا ينبغي له، كما أن مسيلمة الكذاب لما تسمى بالرحمن لزمه وصف الكذب وصار ملاصقاً لاسمه، فلا يذكر مسيلمة إلا ويقرن اسمه بالكذب فيقال: مسيلمة الكذاب ؛ لأنه تجاوز حده وتسمى بما لا يليق به، فكذلك من تسمى بملك الأملاك جعله الله وضيعاً حقيراً ذليلاً.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، وفي القرآن العظيم: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].

    فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247]، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف:79]، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20]، وفي الصحيحين: (مثل الملوك على الأسرة) ].

    ومن ذلك: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف:54]، وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ [يوسف:43]، لكنه ملك قاصر مؤقت، والملك الكامل إنما هو ملك الله، وهذا من الأسماء المشتركة، فمن أسماء الله الملك، والمخلوق يسمى ملكاً، وكذلك من أسماء الله السميع، والمخلوق يسمى سميعاً، ومن أسماء الله البصير ويسمى المخلوق بصيراً، ومن أسماء الله الحي والمخلوق حي.. وهكذا؛ لكنها في حق المخلوق أسماء ناقصة تليق بالمخلوق، وهي في حق الله كما يليق به.

    ومن أسماء الله قسم لا يسمى به إلا الله: كالله، والرحمن، والرب، ومالك الملك، وملك الأملاك، وخالق الخلق، والمعطي المانع، والنافع الضار، فهذه لا يسمى بها إلا الله.

    وأما قوله: إنها في حق المخلوق مجاز، فالصواب أنه ليس في اللغة مجاز، كما سبق.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والدين: الجزاء والحساب، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [النور:25]، وقال: أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53] أي: مجزيون محاسبون.

    وفي الحديث: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) أي: حاسب نفسه ].

    هذا الحديث فيه ضعف، ولكن معناه صحيح.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما قال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] ].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755821202