إسلام ويب

الطامة الكبرىللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله تعالى خلق الخلق في هذه الدنيا ليبتليهم، وليرى أعمالهم، فهذه الدنيا دار ابتلاء واختبار وامتحان.

    ثم جعل الله بعد ذلك يوماً يحاسب فيه كل نفس بما عملت وبما صنعت، وذلك هو يوم القيامة.

    وفي ذلك اليوم يجد كل إنسان ما قدم من عمل. فلا ينفع مال ولا منصب ولا جاه ولا نسب، ولكن من تزود في هذه الدنيا فهو الفائز.

    1.   

    إنكار المشركين ليوم المعاد

    الحمد لله رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

    وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم من معلم أنار الله به أفكار البشرية، ونَّور به أفئدة الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان.

    أمَّا بَعْد:

    أيها الناس.. لم يكن لنا تاريخ قبل الإسلام ولم يكن لنا نور ولم تكن لنا معرفة ولا ثقافة، كنا نعيش لكن بلا هداية وبلا حبل يصلنا بالله عز وجل، حتى بعث الله فينا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] فعلمنا وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وفهمنا وأدبنا ورقى بنا عليه الصلاة والسلام.

    إن البرية يوم مبعث أحمد     نظر الإله لها فبدل حالها

    بل كرم الإنسان حين اختار من      خير البرية نجمها وهلالها

    لبس المرقع وهو قائد أمة     جبت الكنوز فكسرت أغلالها

    عنوان هذا الدرس: الطامة الكبرى.

    الطامة الكبرى في القرآن والسنة: هي يوم القيامة، يوم العرض الأكبر على الله، وهي القضايا الكبرى التي عالجها عليه الصلاة والسلام للوثنيين من العرب، الذين فهموا كل شيء إلا الطامة الكبرى، وعرفوا كل شيء إلا الطامة الكبرى، وما استعدوا أن يتنازلوا أبداً ليفهموا اليوم الآخر الذي أتى به عليه الصلاة والسلام.

    فهموا كل الجزئيات إلا قضيتين اثنتين: قضية الألوهية: توحيد الباري تبارك وتعالى في العبادة والتوجه، وقضية اليوم الآخر فقد أنكروها تماماً وقَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون:82] وهذا استنكار منهم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى وهو يعالج هذه القضية ويدمغ أدمغتهم بهذه الأساسية الكبرى في الإسلام: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].

    طرق تناول القرآن لليوم الآخر

    يقول بعض العلماء: إن القرآن يتناول قضية اليوم الآخر على ثلاثة أضرب: إما بضرب الأمثلة، وإما بالابتداء الجازم، وإما بالقصص.

    وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في مجلس مع قوم من الناس، فقدم العاص بن وائل بعظم يحته في يديه ثم نفخه، وقال: {يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذا بعد أن يميته؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم ويدخلك الله النار، ثم أنزل الله قوله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79]}.

    وضرب الأمثلة: هو أن يضرب الله عز وجل من حياة الناس ومن استقرائهم وسبرهم ما يرونه عياناً بياناً أمامهم يدلهم على اليوم الآخر، وكثير من الناس يؤمن لكن إيمان الظن أن الله سوف يبعث من في القبور، لكن هذه القضية لو آمنا بها حق الإيمان ما كذبنا ولا غششنا ولا احتلنا ولا خادعنا ولا تأخرنا عن الصلوات ولا أكلنا الربا ولا فشا فينا الزنا، ولا جعلنا مجالسنا مسارح للغيبة، ولا هتك بعضنا عرض بعض، ولا أساء جار إلى جاره ولا أُخِذَت حقوق الناس، ولا سُلِبت أموالهم لأن هناك يوم آخر.

    قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[والذي نفسي بيده لولا اليوم الآخر لكان غير ما ترون]]. أي: لتغيرت الموازين ولسطا القوي على الضعيف ولهتك الظالم عرض المظلوم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يقرر قضية الطامة الكبرى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:9-11] ثم يقول الله بعد ذلك: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6] وهذه من قضية الاستقراء وضرب المثل.

    وأما التقرير بالقصص في البعث والنشور، فيا لقصص القرآن من قصص! يقول بعض أهل السير: دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه المسجد في خلافته وبيده درة -قطعة عصا يخرج بها شياطين الجن من بعض الرءوس- وإذا برجل كبير في سنه يحدث الصحابة على كرسي من خشب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: من هذا؟ قالوا: قاص. قال: بماذا يقص؟ قالوا: يقص على الناس من كتب دانيال -وهو رجل عاش في قدم التاريخ وهذه القصص من أساطير الأولين وفيها خرافات- فأخذ عمر درته وتقدم إلى الرجل يضربه على رأسه ويقول: ويلك يقول الله عز وجل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3] وأنت تقص قصصك على الناس؟!

    من قصص القرآن في البعث والنشور

    اسمع إلى أحسن القصص في قضية البعث والنشور، قضية الطامة الكبرى أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259] هذا رجل من بني إسرائيل قيل: إنه رجل صالح، وقيل: إنه نبي على اختلاف بين المفسرين، والمقصود أنه مر بحماره على قرية بين بيت لحم وبيت المقدس، وكان عهده بالقرية أنها حية، أطيارها وحيواناتها وبشرها وحدائقها وبساتينها، ولكن الله عز وجل أهلك من فيها، فنظر إليها وقلب طرفه في السماء وضرب يمناه بيسراه وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259] فأراد الله أن يجري قضية الإماتة والإحياء عليه، قال بعض العصريين: أدخله الله بحماره المختبر. أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259] ميتة لا حركة فيها ولا حياة قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة:259] قال بعض المفسرين: أماته الله ضحى، وبعثه بعد مائة سنة في وقت العصر، فلما انتبه عصراً؛ ظن أنه ما نام إلا من الصباح إلى العصر، فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً -ثم استدرك- فقال: أو بعض يوم. فقال الله له: قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ [البقرة:259] وكان عنده في خرجه على حماره طعام -الله أعلم به- ومكث الطعام عنده مائة سنة ولم يتغير، فسبحان الذي ما غير الطعام ومن طبيعته أن يتغير! وسبحان من أمات هذا في لحظة وأحياه بعد مائة سنة وقد بلي!

    ثم أحياه الله قال: كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِك >) [البقرة:259] كان حماره ميتاً فلما قام بحث عن حماره فوجد الجلد أصبح بالياً متقطعاً على التراب، فقال: أين الحمار؟! فأراه الله أنه قد أصبح في عالم آخر وأصبح رفاتاً ليريه الله عز وجل كيفية الإحياء، فركبه الله بكلمة "كن" إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ركب العظام أمامه، ثم قال للحم: كن لحماً فكسا العظام لحماً، ثم ركب الجلد على الحمار، ثم نفخ الروح في الحمار فهز رأسه ومشى، ثم قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] أي انتبه لا يخالجك شيء من شك أو ظن أو أوهام أو حدس: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] وأن الله سوف يبعث من في القبور وأن هذه القضية الكبرى هي التي أتت بها الأنبياء والرسل بعد التوحيد.

    القرآن يقرن كثيراً بين التوحيد والإيمان باليوم الآخر؛ لأنها القضية التي إذا ما رسخت في القلوب والعقول صلحت الأمة بإذن الله.

    خرج إبراهيم عليه السلام إلى ضفاف نهر -قيل: دجلة، وقيل: غيره- فرأى بقرة منحورة على شاطئ الماء وقد أتت النسور والغربان والذئاب والكلاب تأكل من هذه الفريسة، قال: يا رب! أنت تعيد الخلق يوم القيامة، وكذلك الحيوانات، فكيف تعيد هذه البقرة؟! فقد أصبح لحمها في بطون السباع والكواسر من الطيور، فلما قال ذلك؛ ذكر الله قصته، فقال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260] هو لم يشك لكن يقول كما قال عليه الصلاة والسلام: {ليس الخبر كالمعاينة} وعند البخاري في كتاب الأنبياء يقول عليه الصلاة والسلام: {نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام} والمعنى عند المحدثين على طريقتين:

    قيل: لو كان يشك فمن باب أولى أن نشك نحن؛ لأننا أقل إيماناً منه وهذا على وجه التواضع، فهو لم يشك إذاً.

    وقيل: ما دام أنه خاطر قلبه هذا الوارد، فنحن لا نأمن على قلوبنا أن يأتينا مثله. والمعنى الأول هو الصحيح قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى -يعني آمنت- وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] قال الله: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] قيل: ضمهن وقال بعضهم: قطع رءوسهم، فقطع الطيور ولا يهمنا أن تكون كما قال صاحب الخازن وغيره: وزاً أو بطاً أو حماماً أو دجاجاً

    خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه     كلا جانبي هرشى لهن طريق

    المقصود أنها طيور حية قطع رءوسها وأخذ الرءوس في يده ونثر لحومها وريشها وأجنحتها ودماءها على الجبال ثم نزل في السهول، وقال: تعالي بإذن الله؛ فأتى العظام والريش والأجنحة وتركب كل جزء من أجزاء الطائر ثم طارت قال الله: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260].

    القرآن يتحدث عن اليوم الآخر

    تعال إلى القرآن وهو يتحدث عن اليوم الآخر الذي ينبغي أن نعيشه في حياتنا، يقول ابن كثير في كتابه البداية: مر عمر رضي الله عنه وأرضاه فسمع أبي بن كعب يقرأ بالناس قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [الصافات:24-25] فوضع الدرة من يده ووقع على الأرض وحمل إلى بيته ومرض شهراً كاملاً يعودونه لا يدرون مرضه! هذا أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه.

    وقال الذهبي في المجلد التاسع من سير أعلام النبلاء: عن ابن وهب وقد ألف كتاب أهوال يوم القيامة، فأتى يقرؤه على الناس فسقط مغشياً عليه ثلاثة أيام ثم مات في اليوم الرابع! فهذا عبد الله بن وهب عالم مصر، وهو من رواة الصحيحين، محدث شهير جهبذ كبير، يروي مائة ألف حديث، قال عنه الإمام أحمد: ما رأينا أعبد منه. هذا الرجل سقط مغشياً عليه بعد أن ألف كتابه أهوال يوم القيامة فنسأل الله عز وجل أن يسهل علينا وعليكم أهوال يوم القيامة.

    إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي     عملتم وكل في الكتاب مرتب

    وماذا كسبتم في شباب وصحة     وفي عُمُرٍ أنفاسكم فيه تكتب

    فيا ليت شعري ما نقول وما الذي     نجيب به إذ ذاك والأمر أصعب

    إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا     وفي كل يوم واعظ الموت يندب

    يقول تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] وتنكير اليوم تعظيم له، ولم يضفه ولم يعرفه بأل وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].

    من ميزة هذا اليوم أنه اليوم الذي يعود الخلق فيه إلى الله، وهذا أسلوب القرآن كلما أراد أن يذكر اليوم الآخر ذكر الرجعة؛ لأننا بدأنا من هناك وسنعود إلى هناك يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30] والله يقول: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى [الأنعام:94].

    يقول بعض المفسرين: سبب نزول هذه الآية أن أبا جهل عليه غضب الله يقول: يزعم محمد أن لربه تسعة عشر من الملائكة أنا أكفيكم بعشرة وأنتم اكفوني بتسعة..! فقال الله عز وجل: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى [الأنعام:94] وقيل هذه القصة سبب لقوله تعالى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30] ثم قال: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [المدثر:31].

    وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى راداً على من قال: يأتي بحشمه وجنوده وأبنائه إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95].

    مثل لنفسك أيها المغرور     يوم القيامة والسماء تمور

    هذه القصيدة قالها الواسطي لـنور الدين محمود زنكي سلطان الشام، وكان قد عمل مهرجاناً جمع فيه الجيوش في دمشق فلما اجتمع الناس وظهرت الزينة واستعرض الجيش، خرج عليه الزاهد الواسطي فألقى عليه هذه القصيدة قالوا: فأغمي عليه من البكاء وسقط مغشياً عليه حتى رش بالماء..! يقول فيها:

    مثل لنفسك أيها المغرور     يوم القيامة والسماء تمور

    إن قيل نور الدين جاء مسلماً     فاحذر بأن تأتي وما لك نور

    حرمت كاسات المدام تعففاً     وعليك كاسات الحرام تدور

    1.   

    الطامة الكبرى وتباين الناس فيها

    أيها المسلمون: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] هذه هي الطامة الكبرى، وليوم القيامة أسماء منها: الغاشية والزلزلة والقارعة والطامة الكبرى والصآخة والحآقة، وغيرها من الأسماء يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] قال سيد قطب: نعرض مجردين مكشوفي السرائر والضمائر، الجسم مكشوف، والتاريخ مكشوف، والسجل مكشوف لله رب العالمين؛ فنسأل الله أن يسترنا وإياكم يوم الفضائح، وأن يغفر لنا ولكم الزلات، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.

    حال الصحابة مع الطامة الكبرى

    {أتى أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث سنده جيد- فقال: يا رسول الله! أين ألقاك يوم الزحام؟ (أي يوم العرض الأكبر)؟ فقال عليه الصلاة والسلام: في إحدى ثلاث مواطن لا أغادرها: إما عند الصراط، أو عند تطاير الصحف، أو عند الميزان}.

    علم الصحابة كان علم اليقين وأما علمنا فهو ظن، والفارق بيننا وبينهم أنا نسمع عن اليوم الآخر ونعرف أن هناك يوم آخر ولكن هم يعملون ويكدحون ويتهيئون له، فأما نحن فقاعدون غافلون، هذا هو الفارق العظيم.

    من الذي جعل جعفر الطيار رضي الله عنه يأتي إلى مؤتة فتقطع يمينه ويساره ويحتضن الراية بعضديه ويقول:

    يا حبذا الجنة واقترابها     طيبة وبارد شرابها

    والروم روم قد دنا عذابها     كافرة بعيدة أنسابها

    من الذي جعل أنس بن النضر يقول لـسعد بن معاذ: [[إليك عني، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]]. قال أهل التاريخ -وأصل الحديث عند البخاري في كتاب الجنائز: باب البكاء على الميت-: لما حضرت معركة أحد أتى عبد الله بن حرام الأنصاري والد جابر رضي الله عنه وأرضاه، فتمنى على الله الشهادة ورأى في المنام أنه أول قتيل في المعركة، وحضر معركة أحد بعد أن لبس أكفانه وسأل الله قبل المعركة بقوله: اللهم خذ هذا اليوم من دمي حتى ترضى. وقتل رضي الله عنه.

    قال جابر: فأتيت الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي مسجىً في ثوب، وأنا أبكي والناس ينهونني عن البكاء والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، فقال جابر -وقيل عمة جابر أخت عبد الله كما قال الشوكاني - قالت: يا رسول الله أأخي في الجنة فأصبح محتسبة أم هو غير ذلك؟ قال: {إنها لجنان كثيرة وإن أخاك في الفردوس الأعلى}.

    ثم قال عليه الصلاة والسلام: {يا جابر! أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ قال: لا. يا رسول الله. قال: والذي نفسي بيده! لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان فقال: تمن يا عبدي. قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية. قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون؛ فتمن. قال: أتمنى أن ترضى عني؛ فإني قد رضيت عنك. قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً}.

    وقال سبحانه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:27] قيل: يا ليتني اتخذت الرسول صلى الله عليه وسلم سبيلاً وطريقاً اهتدي به، وأل في الرسول هنا للعهد وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أي: يا ليتني اتخذته إماماً وقدوة، وقد أغلق الله أبواب الجنة بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام فلا تفتح إلا من بابه.

    حال المعرضين عن الطامة الكبرى

    يتعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لـابن الريوندي الملعون، أحد الزنادقة والفلاسفة الكبار، وهو محسوب على المسلمين وله بعض الكتب ويقولون عنه: فيلسوف الإسلام وهو عدو الإسلام، هذا الفيلسوف وقف على نهر دجلة ومعه كسرة خبز، فمر أحد العبيد بخيول وإبل، فقال: يا رب! ترزق هذا العبد الخيول والإبل وأنا فيلسوف الدنيا ما أجد كسرة!! هذه قسمة ضيزى، ثم رمى بالخبز في النهر. هذا الملعون لما عرض له ابن تيمية قال: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.

    ويقول في مختصر الفتاوى: كل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض مغضوب عليها، وكل قلب لا يرى شمس هذا الدين فهو قلب ملعون -(أو كما قال)- وهذا هو الحق لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] وعند مسلم في الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار -وفي لفظ آخر- ولا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار} هذه دعوته.

    يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه     فالخلف يحرم في دنيا المحبينا

    أراك تأخذ شيئاً من شريعته     وتترك البعض تدويناً وتهوينا

    خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به     أو فاطرحها وخذ لبس الشياطين

    فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:27-28] وهم جلساء السوء وأدعياء الضلالة وعصابات الإجرام الذين وقفوا في طريق الأنبياء والرسل فصدوا عن سبيل الله، بالدسائس وبالأغراض وبالأذى، وبكل ما يصد عن منهج الله عز وجل: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:29].

    وهذه سنة الله عز وجل: أن يبقى الصراع أبدياً بين أهل الخير وأهل الشر وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] أي: هادياً يهدي القلوب ونصيراً ينصر أولياءه.

    ويقول سبحانه عن الطامة الكبرى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه:102-104] وهذا مشهد من مشاهد يوم القيامة يأتي أهل الدنيا والأعمار الطويلة والساعات الفارغة التي صرفوها في الغناء الماجن وفي الغيبة والنميمة وفي شهادة الزور ومتابعة السهرة الحمراء والمجلة الخليعة والصد عن منهج الله.

    يقول الله لهم: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:112-116] أي نزه الله نفسه عما يعتقده البعض أن الله خلق الناس عبثاً.

    حال الملوك عند الموت

    دفن الخليفة العباسي المهدي وقد كانت ميزانيته كما يقول الذهبي: ثلاثمائة ألف ألف دينار في خزائنه، ثم سلب في صباح يوم باكر قال بعض المؤرخين: إنه شرب ماء بارداً فشرغ بالماء وغص به، وعنده الأطباء مثل ابن بختيشوع وأطباء الدنيا، ولكن:

    مات المداوى والمداوى والذي     صنع الدواء وباعه ومن اشترى

    فمات على فراشه والوزراء على رأسه والعلماء والأطباء والأمراء، يقولون: إنه كان يقول وهو يشرغ: أأموت الآن؟ قالوا: نعم تموت. فحملوه إلى المقبرة قال أبو العتاهية:

    نح على نفسك يا مسكيـ     ـن إن كنت تنوح

    يقول: الذي يبطح الرجال له يوم يبطحه الله على رءوس الرجال، فهذا البطاح الذي كان يبطح الملوك في الأرض بطحه الله

    كل بطاح من الناس له يوم بطوح     ستر الله بنا أن الخطايا لا تفوح

    وأتى ابنه هارون الرشيد فبنى قصراً عظيماً في الرقة، وستره بالستور وجعل فيه الحدائق والزهور وأجرى فيه الماء، وأخذ فيه الحيوانات والطيور، ثم قال للشعراء: ادخلوا وامدحوا القصر؛ فدخل أبو العتاهية بين الشعراء فقال لـهارون الرشيد:

    عش ما بدا لك سالماً     في ظل شاهقة القصور

    قال: هيه (زد).

    قال:

    يجري عليك بما أردت     مع الغدو مع البكور

    يقول: بما تريد من الدنيا من المطعومات والملبوسات والمفروشات أنت في راحة.

    قال: هيه.

    قال:

    فإذا النفوس تغرغرت     بزفير حشرجة الصدور

    فهناك تعلم موقناً      ما كنت إلا في غرور

    قالوا: فخلع الستور، ونزل من القصر، وسكن بغداد.

    يقول الوليد بن عبد الملك وهو في سكرات الموت ويلطم وجهه ويقول: يا ليت أمي لم تلدني يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:27-29] لكن أهل التقوى وأهل البصيرة وأهل الولاية لا يقولون ذلك.

    حال الصالحين عند الموت

    في ترجمة سعيد بن المسيب، عالم التابعين وزاهد الأمة لما حضرته الوفاة بكت ابنته فقال: [[لا تبكي علي، والله ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في مسجد محمد عليه الصلاة والسلام]].

    هنيئاً لك:

    تلك المكارم لا قعبان من لبن     شيباً بماء فعادا بعد أبوالا

    هذه مؤهلات المخلصين: صلاة في المسجد جماعة وذكر وتلاوة وخشوع وزهد.

    أما الأعمش سليمان بن مهران فإنه: لما حضرته الوفاة قال لابنته: "لا تبكي علي، فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة ستين سنة"! هذه هي المؤهلات التي تنجي أصحابها.

    أما الخليفة عبد الملك بن مروان الخليفة لما حضرته الوفاة بكى وقال: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما توليت الملك ولا عرفت الخلافة. قال سعيد بن المسيب: " [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم]].

    هذه القضية الكبرى علمها قوم علم الظن وعلمها قوم علم اليقين، فأما الذين علموا هذه القضية علم اليقين فحافظوا على الصلوات الخمس، وبروا مع الله، ووصلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، وصدقوا، وأكثروا من ذكر الله، واجتنبوا الحرام، وأما أهل الظن فإنهم يصلون -ربما- مع الناس، ويصومون -ربما- مع الناس، ولكن سهرات مائعة وليال حمراء، وفجور ومراوغة لحدود الله وانتهاك لحرمات الله.

    في صحيح البخاري: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام تناول ذراع الشاة فنهش منه نهشة فقال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة. أتدرون مما ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إذا جمع الله الأولين والآخرين يقوم الناس إلى آدم فيقولون: يا آدم! اشفع لنا عند ربك أما ترى ما نحن فيه -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح فيقول: اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إلى إبراهيم فيعتذر ويقول: نفسي نفسي، فيأتون موسى فيعتذر، فعيسى فيعتذر، فيأتون الرسول عليه الصلاة والسلام فيقول: أنا لها، أنا لها}. قال حافظ الحكمي رحمه الله:

    واستشفع الناس بأهل العزم في     إراحة العباد من ذي الموقف

    وليس فيهم من رسول نالها     حتى يقول المصطفى أنا لها

    وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون صلى الله عليه وسلم، والذي ندعو له به في أدبار كل أذان: {اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته}. هذه هي الدعوة التي ندعو بها لرسولنا عليه الصلاة والسلام، وهذا هو المقام العظيم في الطامة الكبرى.

    في الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس: {إذا جمع الله عز وجل الناس، يقول الله يوم القيامة: يا بن آدم جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فما أطعمته، أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا بن آدم مرضت فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده، أما إنك لو عدته وجدت ذلك عندي... الحديث} وفي الحديث دروس منها: أن من فعل خيراً وجده فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] ومنها: أن أقرب الناس من رب الناس أنفعهم للناس وهناك حديث يحسنه بعضهم مثل السخاوي: {الخلق عيال لله عز وجل، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله} وكثير من أهل العلم من المحدثين يضعفون هذا الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، ولكن معناه صحيح.

    مواقف من استعداد السلف للطامة الكبرى

    الطامة الكبرى كانت قضية متحركة في أذهان الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم وفي أذهان السلف، يقولون عن سفيان الثوري رحمه الله: مكث يردد إذا زلزلت الأرض زلزالها من بعد صلاة العشاء إلى الفجر، وهذا في سيرته رحمه الله، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى [النازعات:34-35] والطامة هي التي لا أكبر منها ولا أعظم وهي التي تطم من هولها على الناس، وهي مأخوذة من الطم: وهو تراكم الشيء بعضه على بعض والله أعلم بمراده.

    ويقول سبحانه: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ [عبس:33] من الصوت الصاخ؛ وهي التي تصخ الآذان بصوتها يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36] والزاد هناك تقوى الله عز وجل.

    دخل سعيد بن جبير على الحجاج والحجاج قد حكم على سعيد بن جبير بالإعدام غيابياً، وظل مطارداً منه ما يقارب اثنتي عشر سنة، ذكر المباركفوري في تحفة الأحوذي المجلد الأول قصة رائعة بديعة في مقابلة هذا الإمام مع ذاك الطاغية، فقال: "دخل سعيد بن جبير على الحجاج، فقال الحجاج له: من أنت؟ -والحجاج يعرف أنه سعيد بن جبير علامة التابعين، وزاهد الدنيا، والعابد الكبير- قال: أنا سعيد بن جبير. قال: أنت شقي بن كسير. فقال: أمي أعلم إذ سمتني. فقال: شقيت أنت وشقيت أمك. فقال سعيد: ليس هذا إليك. قال الحجاج: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى. فقال سعيد: لو أعلم أن ذلك عندك لاتخذتك إلهاً.

    فأحضر الحجاج له المال من الذهب والفضة ونثره أمامه ليرى ما هو تعليق سعيد بن جبير، فلما رأى الذهب والفضة قال: يا حجاج! إن كنت اتخذت هذا المال لتكف به عذاب الله عنك؛ فنعم ما فعلت، وإن كنت أخذته رياءً وسمعة؛ فاعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئاً.

    فقال الحجاج: علي بالعود؛ فأتوا بجارية تغني وتضرب العود فبكى سعيد. فقال الحجاج: بكيت من الطرب؟ قال: لا والله، لكن بكيت يوم رأيت عوداً قطع في معصية وجارية سخرت في غير طاعة. فقال الحجاج: اقتلوه.

    فلما قاموا لقتله، قال: ولوه لغير القبلة. فقال سعيد: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] قال: اطرحوه أرضاً. فقال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55] قال: اذبحوه. قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، خذها يا حجاج حتى ألقاك بها عند الله غداً: اللهم لا تسلطه على أحد بعدي؛ فلما ذبحه ثارت ثائرة كالبثرة أو الدرهم -في كف الحجاج ومرض- فأخذ يخور كما يخور الثور وظل على هذه الحالة شهراً كاملاً لا يهنأ بنوم ولا بطعام ولا شراب، ويرى في المنام أنه يسبح في الدم حتى أخذه العزيز المقتدر".

    أما والله إن الظلم شؤم      وما زال المشوم هو الظلوم

    إلى ديان يوم الحشر نمضي     وعند الله تجتمع الخصوم

    شهادة فيلسوف على يوم المعاد

    يقول الفيلسوف الألماني عالم النفس " كانت " في مذكرة مترجمة له: "في النظر إلى الوجود دليل على أن هناك حياة أخرى غير هذه الحياة". هو لا يعرف القرآن ولا يعرف السنة بل يعيش كالحيوان يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] لكن نظر بالاستقراء والسبر، فقال: في النظر إلى الوجود دليل على حياة أخرى، قيل له: كيف؟ قال: لأن مسرحية الحياة لم تنته. أي: أنه رأى كم من الظلمة ظلموا الناس ثم لا ينتصف منهم، وغالب ومغلوب ثم لا يحكم على الغالب، وتنتهي الحياة، لابد من حياة أخرى وهي حياة يوم الدين.

    وقفة مع سورة القارعة

    يقول سبحانه: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2] وسميت القارعة؛ لأنها كما قال ابن كثير وغيره من المفسرين: تقرع القلوب بهولها، وتقرع أبواب السلاطين والأغنياء والكبراء مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:2-3].

    يقول أهل العلم: إذا قال الله للرسول صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَدْرَاكَ [القارعة:3] فسوف يخبره، وإذا قال: (وَمَا يُدْرِيكَ) فلن يخبره، فلما قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:3] أخبره، وهناك يقول: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب:63] ولم يخبره، أما هنا فقد أخبره بقوله: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:4-5] هذه صورة ذكرها الله للناس ليتأملوها، ووالله الذي لا إله إلا هو إنها سوف تمر بنا رأي العين وسوف نراها جهاراً نهاراً لا لبس فيها.

    ولو أنا إذا متنا تركنا     لكان الموت غاية كل حي

    ولكنا إذا متنا بعثنا     ويسأل ربنا عن كل شيء

    فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم في الحياة وعند الموت وفي اليوم الآخر يقول تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    ساعات الاحتضار ثبات وخذلان

    يتحدث ابن القيم في الجواب الكافي عن سوء الخاتمة للمجرمين الذين يخزيهم الله بأعمالهم، فذكر أن رجلاً حضرته سكرات الموت، فقيل له: قل لا إله إلا الله. قال:

    أين الطريق إلى حمام منجاب

    قالوا: قل لا إله إلا الله. قال:

    أين الطريق إلى حمام منجاب

    فبحثوا عنه فوجدوه، كان مطبلاً مغنياً مطرباً لاهياً لاغياً لا يعرف كتاب الله ولا فرائضه.

    ويقول ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين: حضروا رجلاً من التجار انهمك في الدنيا فقالوا: قل لا إله إلا الله. قال: 5×6 كم تساوي؟ قالوا: قل لا إله إلا الله. قال: 5×6 كم تساوي؟ نسأل الله أن يحسن خاتمتنا.

    يقول الذهبي في كتاب التذكرة في ترجمة أبي زرعة المحدث الكبير الذي كتب ألف ألف حديث -أي: مليون- بالآثار والمراسيل والمقطوعات والموقوفات فقال: حضرت أبا زرعة الوفاة فأغمي عليه ولم يقل: لا إله إلا الله، فخاف أبناؤه وتلاميذه وبكوا عليه قالوا: سبحان الله! يغمى عليه وهو المحدث ولا يقول لا إله إلا الله! فاستفاق فقالوا: دعونا نذكره بحديث معاذ: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة}.

    وأبو زرعة يروي هذا الحديث من عشر طرق، فأرادوا أن يذكروه فضيعوا السند من خوف موت الإمام يقول الأول: حدثنا الربيع بن سليمان وقال الثاني: حدثنا غندر، وكلاهما خطأ، فأتى هو فجلس فقال: حدثنا هشيم عن فلان عن فلان عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} ثم مات.! وهذه من كرامات الأولياء وهي من التثبيت لعباد الله الصالحين، فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم يوم يضل الله أعداءه.

    مواقف من جحود المشركين

    خرج عليه الصلاة والسلام -والحديث صحيح- وإذا بكفار قريش جلوس في المسجد الحرام، ومنهم: أبو جهل، فقال عليه الصلاة والسلام: قولوا لا إله إلا الله. فقال أبو جهل: أقسم باللات والعزى لا أؤمن لك حتى تشق لي هذا القمر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفئن شققته بإذن الله تؤمنون؟ قالوا: نعم. فدعا الله أن يشق له القمر، فشق الله له القمر فلقتين، فقال لهم: آمنوا. فنفضوا ثيابهم وقاموا يقولون: سحرنا محمد سحرنا محمد. ولذلك من أسلوب السخرية بهم يوم العرض الأكبر يعرض الله لهم النار ويقول: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:15] أهذا سحر مثل القمر أو غير ذلك؟ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16].

    فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى معلقاً على هذا الموقف: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [القمر:1-3].

    يقول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2] وفي الآية قضايا:

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ولم يقل يا أيها الذين آمنوا؛ لأن الخطاب عام يدخل فيه كل من كان إنساناً، فهو للمؤمنين ولغيرهم.

    يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج:2] والمرضعة هي التي ترضع في التو والحال ابنها وطفلها وتضعه على ثديها ثم تقوم الساعة؛ فلا تدري من الهول فيقع الطفل في الأرض ولا تدري أنه وقع على الأرض..!

    وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى [الحج:2] قالوا: سكارى من الخوف الشديد ومن هول الأمر وليس من الخمر، أي لم يسكروا من الخمر وإنما من هول ما رأوا، فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت.

    قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يتحدث عن أصناف من المشركين الذين أعرضوا عن اليوم الآخر وكذبوا به وتولوا عنه واستهزءوا بالبعث بعد الموت وهم ثلاثة: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو جهل. أما الوليد بن المغيرة فرزقه الله عشرة أبناء منهم خالد بن الوليد سيف الله المسلول: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الروم:19] فالميت هو الوليد والحي هو خالد، حي بالإيمان، وكان خالد قبل الإسلام ميتاً، كان ميتاً يوم ما عرف لا إله إلا الله، ولم ير النور حتى هداه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] فلما رأى النور وأبصر الضياء وعرف لا إله إلا الله أصبح حسنة من حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاض في الجاهلية وفي الإسلام مائة معركة ما هزم في معركة واحدة!!

    تسعون معركة مرت محجلة     من بعد عشر بنان الفتح يحصيها

    و خالد في سبيل الله مشعلها     و خالد في سبيل الله مذكيها

    ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم     ولا رمى الروم إلا طاش راميها

    وأبوه كفر بالله، وأعرض عن لا إله إلا الله، وكان ليله غناء وزنا وشرب خمر وربا وتخلفاً عن فرائض الله، ونهاره سفكاً وسلباً وتكذيباً، قال الله حاكياً عنه:: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:11-17] قال أهل العلم: "صعودا" جبل في النار -نعوذ بالله منه- يصعد فيه المعذب مائة عام فإذا قارب أن ينهي رأس الجبل سقط على أم رأسه في وسط جهنم ثم عاد من جديد.

    أما العاص بن وائل فقد كان له سيوف يصقلها عند خباب بن الأرت وخباب عبد ومولى وكلنا عبيد لله، ولكن خباب أصبح منارة من منارات الإسلام.

    بلال وخباب وسلمان من أهل الجنة، وأبو جهل والعاص وأبو لهب من جثث جهنم، فهذه الأنساب ألغاها محمد صلى الله عليه وسلم إذا كانت تمييزاً عنصرياً، وإذا كانت استعراضاً للأسر.

    فذهب خباب بن الأرت إلى العاص بن وائل فقال: أعطني أجرة السيوف التي صقلتها. قال: أتؤمن باليوم الآخر؟ - يستهزئ به- قال: نعم أؤمن. فذاك يؤمن باليوم الآخر وهذا لا يؤمن، قال: فإذاً دعني، فإذا بعثني الله وإياك في اليوم الآخر سوف أقضيك هناك فعندي أموال وأولاد؛ فأنزل الله رداً عليه: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً [مريم:77-80] فهذه قضية العاص بن وائل المجرم، الذي كفر باليوم الآخر، وهو صاحب العظم الذي حته أمام الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ويقول أبو جهل: يا معشر قريش.. لا يهمكم -محمد عليه الصلاة والسلام- يتوعدكم بالزقوم يوم القيامة، أتدرون ما الزقوم؟ قالوا: ما ندري! قال: الزقوم: التمر والسمن. فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:43-49] يقول -سخرية به- ذق هذا الزقوم سواء كان تمراً أو سمناً، وفسره أنت كما تريد وكما تتصور فوالذي لا إله إلا هو لتذوقنه؛ لأنك كنت عزيزاً بجاهليتك وكفرك في قومك.

    1.   

    التزود من الصالحات هو النجاة يوم الطامة الكبرى

    تزود للذي لابد منه     فإن الموت ميقات العباد

    أترضى أن تكون رفيق قوم     لهم زاد وأنت بغير زاد

    والزاد: العمل الصالح، وأجمع الصالحون على أنه لا أعظم من تقوى الله عز وجل وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] قال الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور: أجمل بيت قالته العرب

    الخير أبقى وإن طال الزمان به     والشر أخبث ما أوعيت من زاد

    وسوف يرى الناس بماذا تهيئوا وماذا حصلوا وماذا جمعوا يوم يجمعهم الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان -وهذا الكلام هو كلام يليق بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالى- فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار فاتقوا النار ولو بشق تمرة).

    وذكر عليه الصلاة والسلام أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة، وهذا يوم الطامة الكبرى: عالم وجواد وشجاع. يقول الله للعالم: أما علمك الله العلم؟ قال: بلى. قال: فماذا فعلت فيه؟ -والله أعلم- قال: علمت الجاهل وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر. فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقال: إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل؛ خذوه إلى النار. ثم يقال للجواد كذلك وللشجاع كذلك. وهذا مصداق قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] فأول الزاد الإخلاص: أن تقصد الله بالعمل، وأن تحذر من الرياء والسمعة كما قال تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف:29] وقال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3].

    وعند مسلم عن جابر قوله عليه الصلاة والسلام: (يقول الله عز وجل: من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان له خالصاً كما قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] قيل: أي: أصوبه وأخلصه، ومعنى أخلصه: أن يكون خالصاً لوجه الله، وأصوبه: أن يكون متابعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فأول شرط: الإخلاص لوجه الله.

    والشرط الثاني: أن يكون إمامك في العمل محمداً صلى الله عليه وسلم، فلا تتبع غيره ولا تقتدي بسواه، ولا تبتدع من عندك شيئاً فإن المحدثات لا يقبلها الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ [الكهف:110] وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4] ويقول عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

    إذاً فعليك أن تتعلم العلم الشرعي وهو الشرط الثاني من شروط القبول لتنجو من الخسارة والخذلان والعياذ بالله.

    ومنها: أن تكثر من السجود، روى مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: (كنت أبيت مع رسول صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سل. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: أو غير ذاك؟ قال: هو ذاك يا رسول الله. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) وعند مسلم عن ثوبان: (فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة).

    مواقف السلف في التزود للآخرة

    أتدرون كم كان الإمام أحمد يصلي من غير الفرائض؟ يقول الذهبي وابن كثير وصاحب الحلية وهو شبه إجماع بين أهل السير: كان يصلي من غير الفرائض ثلاثمائة ركعة، وهو إمام أهل السنة والجماعة وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] قال ابنه عبد الله: فلما جلد أبي كان يصلي مائة وخمسين ركعة. رحم الله الإمام أحمد وجمعنا به في دار كرامته فهو إمام أهل السنة والجماعة، ذاك الرجل الذي وقف في وجه الباطل حتى نصره الله نصراً مؤزراً ما سمع التاريخ بمثله..!

    سئل ابن تيمية في المجلد العاشر من الفتاوي: ما هو أفضل عمل بعد الفرائض؟ -سأله أبو القاسم المغربي - فأجاب بجواب عظيم وقال: أما أفضل الأعمال بعد الفرائض فما أعلم أفضل من ذكر الله عز وجل. وهو شبه إجماع بين أهل العلم، وهذا الذكر هو أسهل الأعمال وأيسرها وأنفعها للعبد أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ودل عليه القرآن والسنة والأثر قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41].

    ويقول عليه الصلاة والسلام عند أحمد وأهل السنن: {ألا أنبئكم بأفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ذكر الله} فهو أفضل الأعمال.

    فناد إذا سجدت له اعترافاً     بما ناداه ذو النون بن متا

    وأكثر ذكره في الأرض دأباً     لتذكر في السماء إذا ذكرتا

    والذكر يكون بالتهليل والتسبيح والتحميد والاستغفار والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعظم الذكر تلاوة القرآن.

    وأما بالنسبة للذكر الكثير المذكور في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41] فقد قال ابن الصلاح: ذكر الله دائماً هو الذكر الكثير، وقال ابن تيمية: من ذكر الله بالأذكار الشرعية التي علمها معلم الخير عليه الصلاة والسلام فقد ذكر الله كثيراً، وقال ابن عباس: أن تذكر الله في السراء والضراء، والحل والترحال -(أو كما قال)-. وأولى الأقوال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـابن بسر لما قال له: {يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي؛ فدلني على شيء أتشبث به قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} فالله الله في كثرة الذكر، والله الله في التزود بالصالحات للقاء الله عز وجل.

    ومما يجعلك تعيش هذه القضية الكبرى (الطامة الكبرى): قصر الأمل، بأن تكون قصير الأمل، وأن تستعد للموت كما مثله الحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وقال ابن عمر -وبعض المحدثين يرفعونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم-: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]].

    يذكرون عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: [[والله ما نقلت قدمي من الأرض إلا خشيت ألا أضعها من فجاءة الموت]] -أو كما قال-. وقالوا عن الربيع بن خثيم أنه قال: [[أنا أتحرى الموت مع الأنفاس]]. ولما بلغ سفيان الثوري الستين اشترى كفناً وقال: "حق على المسلم إذا بلغ ستين سنة أن يشتري له كفناً" أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] قالوا: النذير هو الشيب، وقيل محمد، وقيل القرآن، وقيل النذير الموت، ولكن الشيب هو نذير للموت

    إذا الرجال ولدت أولادها     وأخذت أسقامها تعتادها

    وكثرت من مرض عوادها     فهي زروع قد دنا حصادها

    يقول الإمام أحمد: والله ما وصفت الشباب وفواته إلا بشيء كان في يدي ثم سقط

    بكيت على الشباب بدمع عيني     فلم يغن البكاء ولا النحيب

    ألا ليت الشباب يعود يوماً     فأخبره بما فعل المشيب

    اللهم تولنا فيمن توليت، واجعل خاتمتنا في مرضاتك وعلى سنة رسولك عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    أسباب معينة على التزود للآخرة

    تجديد التوبة

    ومما يعين على التزود لليوم الآخر: تجديد التوبة دائماً وأبداً؛ فإن العبد خطاء، ومن مذهب السلف أنهم يصبحون تائبين ويمسون تائبين وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] وعند ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: {جاء رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله إني رجل مقراف للذنوب -أي كثير الذنوب والخطايا- قال: تب إلى الله. قال: فأعود. قال: تب إلى الله. قال: فأعود. قال: تب إلى الله. قال: إلى متى يا رسول الله؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المدحور} قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] فحق على العبد إذا أصبح أن يجدد توبته دائماً وأبداً.

    وعند أبي يعلى بسند فيه نظر يقول عليه الصلاة والسلام: {يقول الشيطان: أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله وبالاستغفار} ولذلك طالما يقرن الله عز وجل بين التوحيد والاستغفار فيقول: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فإنه لا يصلح الحال إلا بإخلاص الموحد المعبود وباستغفار من التقصير الموجود، ويقول سبحانه عن ذي النون: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] فالاستغفار دائماً يكون مقروناً بالتوحيد وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.

    رد المظالم إلى أهلها

    ومن أسباب التزود للآخرة: رد المظالم على الناس، وهي المظالم التي أخذت من الأعراض والأموال والحقوق وذلك بأن ترد على أصحابها قبل ألا يكون درهم ولا دينار ولكن حسنات وسيئات، يؤخذ من سيئات الناس وتوضع عليك ويؤخذ من حسناتك وتدفع إلى الناس.. وهذه هي المقاصة عند الله يوم القيامة فلا درهم ولا دينار.

    صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق؛ لقي الله وهو عليه غضبان قالوا: ولو كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك} وهذا الحديث من رواية سعيد بن زيد بن نفيل، وله قصة فقد كانت له مزرعة في العقيق والعقيق ضاحية من ضواحي المدينة فأتت امرأة عجوز فشكته إلى مروان بن الحكم، وقالت: هذا اغتصب أرضي ومزرعتي، والمزرعة له، فدعاه مروان والي المدينة وقال: أتأخذ حقها؟ قال: ما كان لي أن آخذ من حقها شيئاً بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان} ولكن ليس له بينة وكان عليها أن تحلف أو تقسم.

    فأقسمت العجوز أن الأرض لها فأخذت الأرض. فقال سعيد بن زيد: [[اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في مزرعتها]] فعمي بصرها وذهبت تأخذ ماءً فوقعت في البئر ميتة. وهذه من كرامات الأولياء، والمقصود من هذا أن على العبد أن يرد مظالم الناس التي أخذها من عقار ودار ومال وأعراض بسب أو شتم وأن يستغفر لهم ويتوب من ذلك وأن يستسمحهم قبل العرض الأكبر وقبل الطامة الكبرى.

    هذه جولة عن هذه القضية التي يجب على الإنسان أن يعيشها صباح مساء، وأن يتأملها وأن يعلمها علم اليقين أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:1-8] اللهم هون علينا السؤال يوم العرض الأكبر، ويسر علينا الوقوف يوم الحشر، وتولنا فيمن توليت.

    وأسأل الله أن يصلح أحوالنا الظاهرة والباطنة، ونسأله -كذلك- سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يصلح ولاة الأمر وأن يهديهم سواء السبيل، وأن يصلح علماءنا وأمراءنا وقضاتنا وموظفينا، ويصلح أمتنا وبيوتنا وشبابنا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    زكاة الحلي

    السؤال: هل في الحلي زكاة؟

    الجواب: قبل أن أجيب على هذا السؤال أحب أن أبين للإخوة أن الأحكام والمسائل الفرعية يختلف فيها أهل العلم والاختلاف وارد.

    يذكر ابن تيمية في مختصر الفتاوى كلمة يقول فيها: الإجماع حجة قاطعة والاختلاف رحمة واسعة، ويذكر في رفع الملام عن الأئمة الأعلام أسباباً لاختلاف أهل العلم، في هذه المسائل؟

    والحمد لله أن الأمة لم تختلف في أصول دينها، ولا في معتقدها، والصحابة والتابعون وسلف الأمة أجمعوا على أصول الدين والمعتقد، أما المسائل الخفيفة فاختلفوا فيها توسيعاً للأمة ورفعاً للحرج، ومن تلك الأسباب:

    أن الحديث أو الدليل قد يبلغ عالماً ولا يبلغ الآخر.

    ومنها: أن الحديث قد يصح عند عالم وهو ضعيف عند عالم آخر.

    ومنها: أن هذا الحديث قد يكون ثابتاً عند هذا العالم منسوخاً عند العالم الآخر.

    ومنها: أن يفهم العالم من الدليل غير ما يفهمه العالم الآخر؛ فلا مشاحة، ولا منازعة.

    ولا يقول القائل: لماذا يختلف العلماء؟ وما هذا الاختلاف؟ وما هذا التموج؟ وما هذا التشويش؟ لا، الحمد لله.. كل على بصيرة، وكما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فكلهم مجتهد وكلهم يطلب الحق، لكن بعضهم يوفق للصواب وبعضهم يخفى عليه.

    والذي يظهر والله أعلم من أقوال أهل العلم ومن النصوص أن في الحلي زكاة لأدلة منها: أن بعض العلماء أخذوا من عموم القرآن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] وهذا عموم، ودلالة العموم على أفراده وارد، ومن أفراده زكاة الحلي.

    الأمر الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {أيما صاحب ذهب وفضة لا يؤدي زكاته إلا صفحت له صفائح يكوى بها جنبه وظهره وجبهته يوم القيامة -أو كما قال عليه الصلاة والسلام-} وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام عند الحاكم وأبي داود بسند صحيح: {أن امرأة دخلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بسوارين في يديها فقال صلى الله عليه وسلم: أتؤدين زكاتها؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار!} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وعند أبي داود بسند حسن أن أم سلمة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: {أكنز هذا يا رسول الله؟ قال: أتؤدين زكاته؟ قالت: نعم. قال: فليس بكنز}.

    وأيضاً حديث فاطمة بنت قيس وحديث عائشة عند البيهقي وغيرها من الأحاديث التي تدل على وجوب زكاة الحلي، ثم الاعتبار أن هذا مال وأنه من النقدين العالميين وأنه من الأحوط على العبد أن يزكي عليه، فهذا هو الرأي الصحيح إن شاء الله، فعلى المسلم أن ينبه أهله على الأمر بزكاة الحلي -سواء لبس أم لم يلبس- على رأس الحول فعليه أن يثمنه بثمن ويخرج من النقود في الألف ريال خمسة وعشرون ريالاً وفي المائة ريال اثنين ونصف ريال.

    مسافة قصر الصلاة

    السؤال: ما هي المسافة التي يقصر فيها المسافر؟

    الجواب: هذه المسألة مثل سابقتها فيها كلام طويل، وأحسن من تكلم فيها ابن تيمية فيما يقارب مجلداً كاملاً، والصحيح -كما قال- أن الله لم يحد ولا رسوله عليه الصلاة والسلام مسافة القصر لا بالأميال ولا بالكيلومترات وإنما الذي يسمى سفر عند الناس فهو سفر، وما تعارف عليه الناس أنه سفر فهو سفر، يقصر فيه، ويفطر فيه الصائم؛ لأن الله أطلق السفر في القرآن ولم يحده بمسافة فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] فما تعارف عليه الناس أنه سفر فهو سفر، كأن يقول القائل منا مثلاً: أريد السفر من هذه المنطقة إلى منطقة أخرى.. فهذا سفر، لكن أن يأتي إلى منطقة قريبة ويقول: أريد السفر إلى المنطقة هذه فلا يسمى سفراً. والأصل في ذلك أن ما يسمى سفراً في اللغة وفي عرف الناس فهو سفر.. والله أعلم.

    أحكام المسح على الخفين

    السؤال: ما هي كيفية المسح على الخفين؟

    الجواب: للخفين شروط أربعة عند المحدثين منها: أن تلبس على طهارة، ومنها: أن تكون مما يسمى خفاً في الشريعة، ومنها: ألا تتجاوز المدة، ومنها: ألا تخلع في أثناء مدة المسح. هذه هي الشروط الأربعة، أما الشروط التي وضعها بعض الناس رحمهم الله وأنها تسعة شروط أو ثمانية، وقال: أن يكون قائماً بنفسه، جلداً، ساتراً، لا ينفذ الماء. يقول ابن تيمية: هذه من الآصار والأغلال التي جاء محمد صلى الله عليه وسلم لرفعها عن الأمة، فالصحابة كان لهم خفاف مشققة ويمشون عليها وربما لا يستطيعون المشي عليها ويمسحون عليها.

    فما ستر محل الفرض من قماش ونحوه فيمسح عليه بشرط أن يلبس على طهارة لحديث المغيرة: {دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين} وألا يخلعهما في أثناء المدة وألا تتجاوز المدة. وهذا هو القول الراجح، وللمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها لحديث صفوان بن عسال وعلي: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقت للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام} رواه مسلم.

    أما كيفية المسح: فبعد أن يلبس الخفين على طهارة، فإذا أحدث وأراد أن يتوضأ، فعليه أن يرش يده بالماء ثم يمسح برأس أصابعه من رأس أصابع الرجل إلى ظهر القدم وكذلك اليسرى، وذكر بعض العلماء في بعض حواشي الفقه أن: اليد اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى وهذا جائز لكن الأفضل أن يمسح اليمنى ثم اليسرى بعدها تيامناً.

    كفارة اليمين

    السؤال: ما هي كفارة اليمين؟

    الجواب: كفارة اليمين ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بقوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89] فالأول على التخيير والثاني على الترتيب -بعد فمن لم يجد- إما إطعام عشرة مساكين، وجبة كاملة تكفيهم غداءً أو عشاء أما الفطور فهو رخيص ولا يدخل فيه لكن الغداء والعشاء مما يكفيهم وهذا في عرف الناس مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ -كسوة كاملة- أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89] وفي قراءة ابن مسعود (متتابعات) وهو رأي الجمهور أن تكون متتابعة وهو الصحيح.. وهذه الكفارة تكون إذا حلف العبد على شيء ولم يفعله أو حلف ألا يفعل شيئاً وفعله.

    كيفية الغسل من الجنابة

    السؤال: ما هي كيفية الغسل من الجنابة؟

    الجواب: الغسل الكامل من الجنابة كما ورد في حديث عائشة وميمونة أن يتوضأ صاحب الجنابة الوضوء الكامل وضوءه للصلاة، فإذا انتهى من الوضوء؛ بدأ فغرف ثلاثة غرف على رأسه وأوصل الماء إلى أصول الشعر وأروى البشرة، ثم أفاض على رأسه ثلاث مرات، ثم غسل الميامن قبل المياسر وما على من جسمه قبل ما سفل، وهذا هو الغسل الكامل.

    أما الغسل المجزئ فهو أن يعمم جسمه بالماء ولا يتوضأ قبل، وإذا نوى الوضوء دخل فيه وهو الصحيح إلا إذا مس فرجه فإنه يعود للوضوء. وأورد الشوكاني عن حذيفة يقول: من لم يطهره الغسل فلا طهره الله؛ لأن بعض الناس يقول: لابد من الوضوء مع الغسل، لكن إذا نوى دخول الوضوء في الغسل فإنه يكفي.

    أضرار العصبية

    السؤال: هل لك أن تحدثنا عن أضرار العصبية؟

    الجواب: السائل يقصد العصبية القبلية الجاهلية التي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمها ولقطعها وإزالتها قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103] وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].

    وقال صلى الله عليه وسلم: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه}.

    العصبية الجاهلية طاغوت وصنم موجود في بعض الأماكن والمجتمعات القبلية التي يكثر فيها القبائل، والتحزبات القبلية، وذكر مناقب القبيلة على حساب القبيلة الأخرى، وتربية الأطفال عليها فيرضعونهم مع اللبن العصبية الجاهلية والتمييز العنصري، يقول: أنا ابن فلان وهذه من دستور أبي جهل وفرعون وهامان وقارون، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإنه منها بريء، ولا إله إلا الله كم شتت من القلوب! وكم فرقت من الأرواح! وكم سفك في سبيلها من الدماء! وكم انتهكت في طريقها من المحارم، وهي من العادات الجاهلية التي لا تنتشر إلا في المجتمعات المتخلفة التي ما رأت نور الوحي، ولا سمعت بدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام أو سمعت سماعاً في الجملة.

    وعلى كل حال: فالله الله في التآخي وأخذ مقياس الإسلام، ففي حديث -فيه نظر- عن أسماء بنت يزيد: {أن الله إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة يقول: يا أيها الناس إني وضعت أنساباً ووضعتم أنساباً، فوضعتم نسبي ورفعتم أنسابكم (أي في الدنيا) اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم} قلت: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وقلتم: أكرمنا فلان بن فلان وبالفعل قالها أبو جهل يقول: إنه سيد العير والنفير، وبلال مولى يباع، لكن أتى الإسلام فقال: لا.. بلال سيد وأنت حقير زنديق رعديد لأنك كفرت بلا إله إلا الله.

    وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه جلس مع نفر من العرب، يريدون أن يكبتوا سلمان وهو في العراق فقال رجل: ممن أنت؟ قال: من بني تميم، والثاني من غطفان، والثالث من فزارة، ولما أتى الكلام إلى سلمان قال:

    أبي الإسلام لا أب له سواه     إذا افتخروا بقيس أو تميم

    يذكر ابن القيم في طريق الهجرتين كلاماً معناه: قالوا لـأبي جهل: من أبوك؟ قال: العير والنفير، من أنت؟ قال: سيد أهل الوادي، ماذا تريد؟ قال: أريد الرئاسة أو ما يشبه ذلك. وقالوا لـسلمان: ما زادك؟ قال: التوكل على الله. قالوا: وما عصاك؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. قالوا: من إمامك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: ماذا يريدون؟ قال: يريدون وجهه. قالوا: أين مسكنهم؟ قال: المسجد. قال: {دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها}.

    حكم بيع التقسيط

    السؤال: زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل. هل فيه شيء؟

    الجواب: لا أعلم فيه بأساً، زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل لا بأس فيه، وصورته أن تبيع سيارتك إلى أجل أو إلى ستة أشهر أو سنة ديناً فترفع القيمة من أجل الدين؛ لأنه لا يستوي البيع نقداً وديناً، فالدين مثلاً تقول هذه السيارة ديناً بمائة ألف ونقداً بخمسين ألف، فالمائة ألف كانت بسبب زيادة الأجل، وابن القيم يرى أن حديث أبي داود الذي فيه {نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة} ليس معناه هذه الصورة، ولو أن بعض الفقهاء مثل محمد حامد الفقي من العصريين ذكروا هذه الصورة.. لكن يقول ابن القيم: البيعتان في بيعة هي بيع العينة، أما زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل فوارد.

    لكن هناك صورة محرمة لابد أن ينتبه إليها، يعرفها كثير من الناس، وهي ما إذا أتى الرجل يطلب منك ثمن سلعته فتقول: لا أجد. فيقول: أزيد من الثمن وأزيد عليك الأجل، وهذا من فعل الجاهلية الذي تقول فيه عائشة: تقضي أو تربي. هل تقضيني الآن أو أمهلك وأزيد عليك في الثمن، فهذا محرم ولا يجوز.

    أما بيعتان في بيعة فهي بيع العينة التي هي محرمة، وصورتها أن يشتري رجل من رجل سلعة ديناً وبعد فترة يشتريها الأول نقداً بأقل من الثمن؛ فهذا أمر محرم، ويفعله بعض الناس، نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم.

    حكم الإيداع في البنوك

    السؤال: ما حكم الإيداع في البنوك؟

    الجواب: هذا يتكرر كثيراً، الإيداع في البنوك الربوية محرم، وقد أفتى كثير من علمائنا كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وقال: هذا من التعاون على الإثم والعدوان، ولا يجوز الإيداع في هذه البنوك التي تتعامل بالربا، فلا الإستقراض منها ولا الإيداع فيها ولا التعامل معها يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء}حديث صحيح رواه مسلم عن جابر.

    وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755934151