إسلام ويب

صفات عباد الرحمنللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من أعظم أنواع التذكير هو: التذكير بالآيات الكونية والقرآنية، وقد ذكر الله منها الكثير في كتابه كما في سورة الفرقان التي ضمت هذين النوعين، ومن الموضوعات التي تضمنتها هذه السورة بيان حال عباد الرحمن وذكر صفاتهم، وقد تناول الشيخ هذه الصفات في ثنايا هذه المادة مبيناً خلال ذلك أسباب الكفر والشرك، وداعياً العباد إلى الاعتبار بآيات الله.

    1.   

    في رحاب سورة الفرقان

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، اللهم لك الحمد بالإسلام، اللهم لك الحمد بالإيمان، اللهم لك الحمد بالقرآن، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به من أخوة الإيمان ومحبة التقوى، ولك الحمد على ما جمعت به وله هذه الوجوه الخيرة الطيبة، ولك الحمد أولاً وآخراً، ولك الحمد حتى ترضى ولك الحمد بعد الرضا، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك، وصفوتك وخيرتك من خلقك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى آله وأصحابه أجمعين، الذين فرضوا وسنوا سنة الأخوَّة في الله، والتآخي في ذات الله، والمحبة والتزاور في جلال الله تبارك وتعالى، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليهم، واجعلنا ممن يقتفي أثرهم، وينتهج نهجهم، ويسير على خطاهم، إنك على كل شيء قدير.

    أما بعــد:

    شيوخنا العلماء، وآبائي شيوخ القبائل الكرام، وإخواني الكرام أجمعين -الصغير منهم والكبير في هذه القبيلة الطيبة بني كنانة، وفي هذه المنطقة عامة- إن اللسان ليعجز عن التعبير، وإن البيان ليتلعثم ويتردد عندما يكون الموقف مثل هذا الموقف، ماذا نقول لهؤلاء الآباء والإخوة الكرام، الذين أنزلونا منزلةً لا نستحقها، ولكن هكذا أرادوا وهكذا دفعتهم محبتهم وليس في إمكاننا إلا أن نقول: اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون واجعلنا خيراً مما يظنون.

    نعم. إنّ اللقاء في الله، والمحبة فيه، والاجتماع لذكره هو خير ما يسعى له العبد المؤمن، فاغتفرنا -من أجل ذلك وفي سبيله- كل ما يقال وكل ما لا نرضى، ولو أُقررنا أو أُخذ رأينا فإنا لا نقره.

    وإنما نريد من جميع ومن الإخوان أكرمهم الله وجزاهم الله خيراً ثمرة اللقاء وخلاصته؛ وهي الدعوة بظهر الغيب لكل من يدعو إلى الله عز وجل؛ ونريد من الإخوة الكرام وفيهم الأولياء والصالحون والمتقون بإذن الله أن ينصروا دين الله تبارك وتعالى، فهو أعظم من الأشخاص وأجل منهم -وإن كان من سنة الله ألا يقوم الدين إلا بأفراد وأشخاص-.

    ونريد من آبائنا وإخواننا وهم سلالة تلك النخبة الطاهرة النقية من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلماء الأمة وخيارها، والتابعين لهم بإحسان، والمجددين في كل القرون، أن يجعلوا -بإذن الله- هذه العواطف الجياشة، وهذا الشعور الفياض؛ قوة دافعة لرفع كلمة الله، ولإعلاء دين الله، ولمؤازرة من يدعو إلى الله، ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل قرية وفي كل قبيلة وفي كل مكان من أرجاء المعمورة، وإنهم لأهل لذلك بإذن الله.

    إنّ الجميع يشكرونكم -وأنا لا أعبر عن مشاعري وحدي- ويرون في وجوهكم وملامحكم مشاعر الصدق والأخوة والمحبة الخالصة، والجميع يريدون -بإذن الله تبارك وتعالى- أن نكون يداً واحدة من أجل إعلاء كلمة الله، فلا نريد دنياً ولا جاهاً ولا مالاً ولا فخراً ولا خيلاءً ولا مباهاةً.

    وإنما نريد جميعاً وجه الله تبارك وتعالى، ونريد الدار الآخرة وما أعد الله تبارك وتعالى لعبادة المتقين وأوليائه الصالحين: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]... فشكر الله لكم أولاً، وشكر لكم آخراً، وجزاكم عنا كل خير، ونخص بالذكر والشكر أخانا الكريم ابن هذه القبيلة الشيخ عبد العزيز حفظه الله وجزاه عنا كل خير، فقد كان له الفضل، وقد كنت أقول لأهل هذه القبيلة عامة: إن ما قام به جزاه الله خيراً يكفي وينوب لا عن قبيلة بني كنانة خاصة بل عن زهران كافة؛ ولكن كرمكم أصر وألح إلا أن يكون له لقاء ويكون لكم لقاء، فجزاكم الله وإياه خير الجزاء.

    ثم أيها الإخوة الكرام -كما تفضل الإخوة- إنما غرض الاجتماع واللقيا هو التواصي بذكر الله: التواصي بالحق والتواصي بالصبر.

    وإن الإنسان عندما يأتي إلى أمثالكم يتحير في أي موضوع يتحدث فيه، وأي وصية يريد أن يوصي بها، وأي مقال يتكلم به، ولكن كل مرة أجد نفسي لا بد أن أتكلم من وحي الوحي، من وحي كتاب الله تبارك وتعالى، فكلما تأمل الإنسان هذا الكتاب العظيم، والذكر المبين، والصراط المستقيم، الذي لا يمل منه القُرَّاء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الترداد، فإنه لن يرضى غيره بديلاً.

    وعندما قرأ الإمام -حفظه الله وجزاه خيراً- هذه الآيات البينات من أواخر سورة الفرقان، ذهب كل موضوع واستجمع الذهن كله إلا أن يكون الحديث عن هذه الآيات البينات، بل عن شيءٍ ونزر يسير مما توحي إليه هذه الآيات العظيمات من كتاب الله تبارك وتعالى.

    فهذا الكتاب هو الذي يجب أن يكون في أيدينا وفي قلوبنا، ملء أسماعنا وأبصارنا، نعظ به أنفسنا، وندعو الناس به وإليه؛ كما قال الله تبارك وتعالى لعبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيد [ق:45] وجاء في الآيات الأخرى في سورة إبراهيم قول الله تعالى لموسى عليه السلام: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم:5].

    ومن أعظم أنواع التذكير: التذكير بالقرآن وبالآيات المشاهدة المحسوسة من أيام الله.. ومن وقائع الله تبارك وتعالى في الذين من قبلنا، وفي مصارع الأمم ومهالكها.

    فمن لم يعتبر ويتعظ بالقرآن ولا بأيام الله في الذين خلوا من قبلنا كقوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم قروناً بعد ذلك كثيرة؛ فبماذا يتعظ وبماذا يعتبر؟

    معنى تبارك وتعالى

    والله تبارك وتعالى في هذه الآيات البينات يقول: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً [الفرقان:61] سبحان الله وتبارك! هذه الكلمة ككثير من ألفاظ القرآن، خير ما تفسرها به هي نفسها، فلو قلت: ما معنى تبارك؟

    فإنك لن تجد أفضل من أن تقول: تبارك الله، فهي كلمة واضحة والقلب يستشربها ويستشعرها من غير أن يفسرها، وفي قوله تعالى: تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] وقوله: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1] وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1] فتبارك الله، أي: تعالى وتقدس، وهي بذاتها -كما قلت- كافية.

    الرد على الكفار في إنكارهم للرحمن

    إنّ الله تبارك وتعالى -في أواخر هذه الآيات العظيمة- يريد أن يرد على الكفار الذين أمروا بأن يعبدوا الله، وأنه تبارك وتعالى من أعظم وأجل أسمائه اسم الرحمن، فقال: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110] أي: اسم الله أو الرحمن، وهما أعظم أسماء الله عز وجل؛ لكن ماذا قال المشركون: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً [الفرقان:60] وقال بعضهم: "لا نعرف رحماناً إلا رحمان اليمامة" مكراً واستهزاءً وسخرية؛ فذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات العظيمة دلائل كونه الرحمن تبارك وتعالى.

    1.   

    مظاهر الرحمة

    والدلائل على أنه الرحمن وعلى أنه المعبود الحق تأتي على نوعين:

    النوع الأول : الدلائل والآيات الكونية

    وهي آيات عظيمة باهرة عجيبة! قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:75-76] فنجد آيات عجيبة في هذا الكون الممدود أمامنا! ولذلك عندما تتأمل في أي شيء يرتد إليك البصر خاسئاً وهو حسير.. فانظر إلى الآفاق أمامك! وانظر إلى الجبال! وانظر إلى السحاب والسماء! ماذا ترى من آيات الله تبارك وتعالى!

    ترى آيات كونية عظيمة، فالكواكب والنجوم والمنازل التي هي البروج، عجز العلماء في كل زمان ومكان -حتى في عصر المكبرات والمقربات والمراصد الضخمة- عن أن يعرفوا أبعاد ونهايات هذا الكون وهذه الكواكب والشموس؛ وهذه المجرات العظيمة، فيقولون: إنها لا نهاية لها، ونحن نعلم أن لها نهاية، غير أن كل ما لا يستطيعون إدراكه يقولون عنه: لا نهاية له، من شدة أبعاده.

    فنقول: كل ذلك في حدود السماء الدنيا؛ فما بالك بالسماوات السبع؟!

    فما بالك بالكرسي؟!

    فما بالك بالعرش وهو أعظم المخلوقات؟!

    وفوق العرش رب العالمين تبارك وتعالى فسبحان الله! ما أعظم الله! وما أعظم الدلائل البينة على قدرته وكماله وعلوه وقهره تبارك وتعالى! فهذه البروج هي دلائل عجيبة.

    ثم ذكر الله تبارك وتعالى آيتين صغيرتين نراهما نحن كبيرتين، وهما في الحقيقة صغيرتان بالنسبة إلى الكون العظيم، وإلى خلق الله، وملك الله، وهما: الشمس والقمر، فهما آيتان عظيمتان، ولولا أن العقول البشرية إذا تكرر عليها شيء، فإنها تنساه حتى لا تكاد تذكره؛ لكان أعظم شيءٍ في هذه الدنيا هو الشمس؛ ولولا أنها تتكرر كل يوم؛ لكان الناس كل يوم يجلسون في بيوتهم ينتظرونها متى تظهر ويتعجبون منها! فقد أصبح الكثير منا لا ينظر إليها ولا يدري متى أشرقت أو متى غربت، ولا شك أن هذا من الغفلة! لكن لو تأمل الإنسان في هذه الشمس لرأى عجباً! ما هذا السراج الوهاج؟!

    ما هذه الأشعة؟

    ومن أين يأتي هذا الضوء من مسافات هائلة بهذه الدقة، وبهذه المواعيد؛ لتستقيم حياتنا ومعاشنا، فتنضج الثمار ويكبر الصغار، وتكون الحياة، وتكون عملية التبخر، وعملية إنشاء السحاب الثقال، والأمطار والزهور والورود.

    عمليات كثيرة جداً، منها ما يتكلم عنه علماء الأحياء والطبيعة، ومنها ما لا يتكلمون عنه، ومنها ما يراها العامي، ومنها ما يدركها الفلاح، ومنها ما يدركها العالم الكبير، وتزداد الأيام والليالي توسعاً في هذا العلم عن هذه الآية العظيمة من آيات الله، ولا تنتهي أبداً فهذه الشمس وهي: فهي السراج.

    أما القمر فكما قال تعالى: وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61] أي: إن للقمر نوراً، فالله تعالى قد جعل الشمس ضياءً وسراجاً، وجعل القمر نوراً، فهو ليس سراجاً أي: مشتعلاً؛ وإنما هو نور يعكس -بقدرة الله تبارك وتعالى- ضوء الشمس.

    وأنت لا تدخل مكتباً من مكاتب الدنيا لموظف أو عامل إلا وأمامه تقويم من أجل المواعيد، ومعرفة الأيام؛ لأن الله تعالى يعرف حاجتنا إلى أن نعرف عدد السنين والحساب كما قال سبحانه: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس:5] فقد جعل لنا هذه العلامة -القمر- تقويماً عجيباً جداً اختص به المسلمين، ولكن مع الأسف -وهذا من جملة أمور كثيرة تركناها من الأصالة وهي من الدين ومن الخير والفضيلة، ثم أخذنا نتشبه بالكفار- تركنا تقويمنا وأخذنا نحسب بأشهر الكفار.

    فنقول: هذه آية عظيمة، فالإنسان إن كان عامياً أو كان فلاحاً، إن كان في البادية أو كان في أي مكان، فإنه يستطيع أ، يعرف أن هذا نصف الشهر أو آخره؛ وكذلك جعل الله تبارك وتعالى الحج، وجعل العبادات كالصيام والصلاة مرتبطة -أيضاً- بالشمس، وبهذا الذي هو تقويم في كبد السماء، واضح جلي عجيب، فهو يراه كل الناس فيعرفون نعمة الله تبارك وتعالى عليهم، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه فقال: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12] فالله سبحانه وتعالى فصّل لنا تلك الآيات، وامتن علينا بها، فالشهر كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هكذا أو هكذا} أي: إما ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً "بحسب النظر والرؤية للقمر لا بشيء آخر غير ذلك، فهذه من أعظم نعم الله تبارك وتعالى، ولا نطيل فيها ولا في تعدادها لأننا نريد أن ندخل في الأمر الذي نحن نحتاجه وقلوبنا ظمأى إليه.

    النوع الثاني: الاستدلال بعباد الرحمن

    وأما الدليل الآخر غير الدلائل الكونية فهو: الاستدلال على الرحمن بعباد الرحمن، سبحان الله! كيف يكون هذا؟!

    إن العاقل البصير يستطيع أن يستدل على أي ملكٍ أو مالكٍ لشيءٍ من الأشياء، ومن كان له صحبة أو فئة أو جماعة أو أتباع؛ بأتباعه وصحبته أو بمن ينتمي وينتسب إليه.

    ولذلك عندما نعلم أن أفضل الخلق هم الصحابة بعد الأنبياء، وعندما نرى سيرة صحابي واحد من الصحابة؛ فإننا نجد أحدهم آية من آيات الله تتحرك على الأرض، ثم كيف بمجموع الصحابة، ومن الذي رباهم؟!

    فنستدل بذلك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أفضل الخلق أجمعين، وأفضل المربين، والمعلمين، كما قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه: (بأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أفضل منه ) أي: لا يمكن أن يكون هناك معلمٌ للخير أفضل أو مثل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فكذلك أيها الكفار المكذبون بالرحمن، انظروا إلى عباد الرحمن! وانظروا إلى من ينتسب إلى عبودية الرحمن وانظروا ما هي صفاتهم، لتعلموا أنه الرحمن حقاً!

    1.   

    من صفات عباد الرحمن

    وقد تعجبون عندما تبدأ الصفات التي قد تكون أقل شأناً بالنسبة لما بعدها، فأعظم صفات المؤمنين هي: أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، لأنهم موحدون لله، وهذه أعظم صفة من صفات المؤمنين، وكلنا نعلم ذلك، فأصل كل شيء هو الإيمان وإخلاص التوحيد لله تبارك وتعالى، لكن هنالك حكم عظيمة في تقديم الأقل أحياناً ثم التدرج إلى الأعلى.

    والصفة التي جعلت الكفار يكفرون بالرحمن ويزيدهم نفوراً، وجعلتهم يتمردون على أوامر الله، ويستكبرون عن طاعة الله؛ فلا يقبلون قول الله ولا قول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والعصاة لهم تبع في ذلك- هي: صفة الكبر -والعياذ بالله- فالمتكبر يستكبر على الله، ويستكبر على الإيمان، والحق، والدين، فهو يستكبر بسلطانه، ويستكبر بماله وأولاده وبمقامه عند الناس، ويفتخر بآبائه وأجداده.

    وكل أنواع الكبر كان أول من سنها هو إبليس الذي أبى واستكبر وكان من الكافرين، وذلك عندما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

    وكذلك كفار قريش عندما قالوا: كيف ينزل القرآن على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

    ولماذا لم ينزل على رجل من القريتين عظيم؟

    وهما: الوليد بن المغيرة -أو الحكم بن هشام- وعروة بن مسعود من الطائف، لوجود معايير الكبر عندهم دائماً؛ ولذلك تجد القلوب العادية أو التي لم تتفقه في دين الله دائماً تهتم بالكبير؛ وفي الحقيقة أنه: كم من كبير عند الناس وهو صغير عند الله تبارك وتعالى.

    ولهذا عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه، عندما وقف وخطب وتذكر ما كان عليه الصحابة من قبل وما عانوا وما لاقوا، ثم تذكر ما أعطاهم الله تبارك وتعالى؛ قال: [وما منا اليوم إلا من هو أمير على مصر من الأمصار، قال: وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي كبيراً وعند الله صغيراً]، أي: لا ينفعه ذلك وهو الصحابي رضي الله تعالى عنه.

    فهذه الصفة -الكبر والعياذ بالله- أكبر حائل وأكبر مانع عن الحق.

    التواضع

    لذلك كانت أول صفة من صفات عباد الرحمن هي: التواضع، قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] فقوله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] فالإنسان قد يقابلك ولا يكلمك؛ -لأنه ليس شرطاً أنك كلما قابلته أن تكلمه أو يكلمك- ومع ذلك فمن كيفية سيره ومن مشيته؛ تستطيع أن تحكم عليه، لأنك تعرف صفات عباد الرحمن من أول ما تراه، ومن سيره ومشيته كما أنك قد ترى من مشية بعض الناس أنه مستكبر، فهو ليس من عباد الرحمن -عياذاً بالله- وليس من أهل الطاعة ولا من أهل الإيمان، ولا من أهل الخير والصلاح، سواءًَ خاطبته أو رأيته فقط؛ فإنك ترى أنه متكبر، ولهذا جاء هذا الوصف الظاهر الذي يراه كل أحد في قوله سبحانه: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63].

    الإعراض عن الجاهلين

    وأما الصفة الأخرى فهي: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] الله أكبر! الآن -مع الأسف- بعض الناس يخاطبه الأخيار ويخاطبه الأفاضل ويخاطبه دعاة الخير والحق والهدى، ولا يقول: سلاماً، مع أن عباد الرحمن إذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً؛ أما إذا خاطبهم الفضلاء والأخيار؛ فهنالك حسن البشاشة والاستقبال والأخوة والمحبة؛ لكن الجاهلون: هم جاهلون في تصرفاتهم، وفي ألفاظهم وتعاملاتهم، وجاهلون بربهم عز وجل وهو أعظم الجهل، وجاهلون في معاييرهم وفي موازينهم وفي قيمهم التي يقدرون بها الأشخاص أو يقدرون بها المواقف، فقوله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] يعني: كان جوابهم جواب المسالم، الذي يدفع السيئة ويدرؤها السيئة بالحسنة، كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون:96] وهكذا يعلمنا الله تبارك وتعالى وقال سبحانه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] فلو توقفت عند كل جاهل لتخاطبه أو لترد عليه، لِتُبين له أنه مخطئ في كلامه؛ لما عملت عملاً في حياتك، أو لربما تقطعت بك الأيام والليالي ولم تنجز عملاً واحداً ؟!

    لأن هذا يخاطبك بلون وهذا بلون آخر، وهذا يستهزئ ويسخر وذاك يغتاب وينم وهذا ينظر نظرات زائغة، وهذا... وكل ذلك داخل في الجهل؛ فلا تبال بهم وأعرض عنهم، فأعرض عن الجاهلٍ مطلقاً؛ لأنك تنظر بنور الله، وتنظر إلى ما عند الله وتريد ما أعد الله؛ وهؤلاء الجاهلون بالله هم أعداء بطبيعتهم لدين الله، ولما أنزل الله تبارك وتعالى؛ فلا تبالِ بهم ولا تعبأ بشأنهم؛ وإنما عليك أن تقول لهم: سلاما -والقول يأتي في لغة العرب بمعنى: العمل- أي: أن تعمل عملاً أو تصرفاً هو سلام مع هؤلاء، فقوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55].

    وقد يكون باللفظ وقد يكون بالعمل، فقوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] أي: نحن لا نريدهم حتى لا ندخل معهم في مشاكل ولا ندخل معهم في معارك، حتى لو وقفوا أمامك في الطريق حجر عثرة، فلا يردوك عن أن تتجاوز وأن تعمل وتهدي وتدعو؛ بل غض بصرك وامش وتجاوز عنهم، والله تعالى سيعينك عليهم، وتذكر قوله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] وآيات الله كثيرة والدلائل والعبر كثيرة من صفات هؤلاء ومن غيرها.

    قيام الليل

    ثم يقول تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64] والليل له معنىً خاص، فمن حكمة الله، أنه: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، فالليل يعني: الهدوء والسكون والرهبة التي كان يشعر بها الناس، ولا سيما قبل هذه الكهرباء والأضواء؛ ولو ذهبت إلى ساحل البحر أو ذهبت إلى رأس جبل من الجبال وحدك وابتعدت عن الأضواء؛ فإنك تشعر بشعورٍ لا تجده أبداً وأنت هاهنا في الليل، سبحان الله! فماذا يفعل المؤمنون في الليل؟

    إن الليل مطية المؤمنين إلى الدار الآخرة، ومطية المتقين إلى الجنة؛ لأنهم في النهار مثل الناس -في الغالب- يكدحون ويعملون ولكن هذا الليل له أمر خاص وعلاقات خاصة؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قد اختصهم به، فقال: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] فلماذا لا تعلم؟!

    لقد بين الله تبارك وتعالى لنا ما أعده في الجنات من الحور والنعيم والخير، وهذا واضح، لكن هناك أناس يعبدون الله خفية وهم مستترون، بينهم وبين الله استغفار، قال الله عنهم: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] أي: قياماً وسجوداً وركوعاً، فهؤلاء بقدر ما تكون العلاقة خاصة مع الله في الليل وحيث لا يراهم أحد، بقدر ما يكون الجزاء أيضاً.

    وانظروا إلى واقعنا نحن اليوم فإنه إذا مر أحد منا بمكان أعجبه -بجبل، أو غار، أو شجرة مثمرة لها ظل- يقول: لو أننا نأكل هاهنا أو نجتمع هاهنا... الله المستعان! فهذه حياتنا.

    وأما أسلافنا فقد كان الرجل منهم إذا مر بمكان أعجبه، قال: ما أحلى هذه الشجرة وما أحلى هذا الغار ليتني أدخل وأصلي فيه ركعتين، لماذا؟

    لأن قلوبهم متعلقة بعبادة الله، فهمهم وراحتهم ولذتهم وطمأنينة حياتهم هي في تقوى الله وطاعته وعبادته؛ وهذه الطمأنينة والراحة تتم بتمامها في الليل، فإذا نام الناس وسكن الكون وهدأ كل شيء؛ قاموا يناجون الله تبارك وتعالى ويسألونه ويستغفرونه ويدعونه؛ وبذلك يظهرون بتلك المنزلة العظيمة؛ فهم يجدون لذة لا يجدها أهل اللذة جميعاً مهما اجتمعوا عليها، وهذه هي جنتهم، وكما قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: '' إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة '' نعم -والله- جنة عظيمة! قال فيها بعضهم: '' لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف'' '' نعيم لا يعلمه الكثير، وأهل الدنيا مساكين! غاية ما عند أحدهم أن يلعب ورقة، أو أن يسكر -والعياذ بالله- فيطير عقله، أو يتفرج فيما يسمى العبث والسخافة والفسق والفجور أو الغناء والطرب، فهذه هي الليلة المفضلة عندهم؛ فسبحان الله أي: شيء وأي نعيم وأي راحة في تلك الأعمال؟!

    والله إنها نكدٌ وظلمة في الوجه، وإنها حسرة في القلب، وإنها تكدر العلم وتمحق البركة في الرزق أيضاً، وهكذا مما في المعاصي من أضرار وأخطار، وأما المؤمن فإن الليل مطيته، والعبادة لذته وراحته.

    1.   

    نماذج من سلف الأمة

    فمن الكرامات التي تؤثر عن ثابت البناني رحمه الله أنه سأل الله تبارك وتعالى، فقال: [[اللهم إن كنت أعطيت أحداً أن يصلي في قبره، فأسألك يا رب أن تعطيني الصلاة في قبري]] سبحان الله! الواحد منا يريد الرجوع إلى أهله كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].

    وأما إذا كان من أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة- فإنه يقول: ربِّ أقم الساعة حتى أرى أهلي في الجنة؛ لأنه يفتح له فيرى مقعده من النار، ويقال: هذا مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة ويرى أهله في الجنة فيقول: يارب! أقم الساعة حتى يرجع إلى أهله ويراهم، لكن هذا يتمنى أن يصلي حتى في القبر سبحان الله! يخاف لو مات أن تنقطع لذة الصلاة، وأن تنقطع ثمرة العبادة حتى وهو في نعيم الجنة، كأنه يقول: أنا أريد -ما بين الفترتين- في البرزخ أن أصلي، فلما توفي رضي الله تعالى عنه -وهذه من الكرامات الثابتة، وهي كثيرة والحمد لله، ولا نحتاج إلى الخرافات- ذهب أصحابه ليدفنوه، قال أحدهم: فسقطت عمامتي في القبر -أراد الله أن تتحق الكرامة، فسقطت- فرفع قليلاً وأدخل يده ودنا لأخذها، وإذا بالقبر مد البصر من النور، وإذا به ثابت البناني قائم يصلي! سبحان الله! نعم، أولئك عرفوا لذة العبادة وقيمتها.

    توفي أحدهم رضي الله تعالى عنه وإذا بابنة -جارية- لجاره تقول: يا أبتاه، أين الخشبة التي كان ينصبها جيراننا فوق سطحهم؟

    فقال: يا بنية، أي خشبة؟!

    قالت: خشبة كنت أراها كل ليلة فوق السطح، وإذ بها ليست خشبة بل كان صاحب البيت يقف فيقرأ المائتين والمئات من الآيات كل ليلة، والطفلة تراه فتظن أنه خشبة! فأين الخشبة وأين ذهبت الخشبة؟ الله أكبر!

    وأحدهم يبكي ويصلي من الليل، فتقول أمه: يا بني! لعلك قتلت نفساً فإن الله غفور رحيم، وإذا قتلت نفساً لعل الله يغفر لك - كانت تظن أنه لا يبكي ويتعبد إلا إذا ارتكب قتل نفس- فيقول: نعم يا أماه! قتلت نفسي بالذنوب والمعاصي، فهذه هي النفس المقتولة.

    لقد كان الليل هو خلوتهم وراحتهم وسعادتهم، ومهما تحملوا من هموم النهار؛ ففي الليل تأتي المناجاة واللذة والطمأنينة، ويقوم الواحد في اليوم الثاني نشيطاً في أعز راحة ونعمة؛ لأنه غسل كل الهموم والأدران والتعب، بتلك الصلاة والاستغفار والذكر لله تبارك وتعالى في جنح الليل.

    وأما الإنسان الذي يكدح للدنيا فهو كما جاء في الحديث: (حمار بالنهار، جيفة بالليل)أي: أنه ينام وعنده عشرة هموم ويقوم في الصباح فيجدها صارت عشرين, وينشغل بكذا وكذا؛ ثم تأتيه الأمراض من هنا ومن هنا؛ فلا يستطيع مقاومتها؛ لأنه مسكين لا يتحمل، فالمخ لا يتحمل، والمعدة لا تتحمل والأعصاب لا تتحمل، وهذه المشاكل كلها من: الدكان، والتجارة، والأولاد، والزوجة، والوظيفة، والراتب، والتقاعد، والترقية، والترفيع ومشاكل كل يوم، لا يغفل عنها أبداً.

    وأما المؤمن: فلو بلغه أن الدنيا كلها قد اجتمعت عليه فهي لا شيء بالنسبة له، قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]

    فحسبنا الله ونعم الوكيل هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وهي كلمة واحدة من ذكر الله، يدعو بها الإنسان في جوف الليل، فتذهب كل تلك الهموم والأحزان؛ بل ربما انقضت كأعظم صاروخ في الدنيا على أعداء الله عز وجل فدمرتهم أجمعين.

    ولهذا أقول: يا شباب الصحوة يا شباب الدعوة، نريد أن يكون لهذه الصحوة المباركة الطيبة أولياء عباداً أتقياء تتزلزل الجبال إذا رفعوا أيديهم بالدعاء إلى الله عز وجل، والحمد لله فالالتزام والتمسك والخير كثير في المظهر والملبس والمحافظة على صلاة الجماعة، لكننا نريده أعمق وأعمق وأعمق.. نريد قلوباً مخبتة منيبة.. نريد الرجل الذي إذا رفع يديه لا يردها الله تبارك وتعالى إلا وقد حقق له ما يريد، وإن الله تعالى حيي كريم كما جاء في الحديث: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً).

    فلا أحد يرفع يديه إلى الله ويردها صفراً؛ لكننا نريد شيئاً أخص من ذلك، نريد الذي يدعو على جبار فيقصمه الله عز وجل، نريد من يدعو على دولة من دول الكفر؛ فيدمرها رب العالمين، نريد من يدعو على ظالم من الظلمة؛ فينتقم الله منه ويجعله عبرة وآية للعالمين، وهكذا.

    ضرورة التضرع لله

    ونريد مثل محمد بن واسع وهو من موالي زهران، أي أنه من هذه القبيلة الخيرة الطيبة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {مولى القوم منهم}.

    إن قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله، كان يعد الجيوش لحرب أكبر جبهة كانت في تاريخ العالم الإسلامي وفي تاريخ الفتوحات، وهي الجبهة الشرقية حيث الهند والصين والترك، وهي أعتى الشعوب في القتال؛ فكان يريد أن يقاتل وأن يجاهد هؤلاء، فأعد العدة المادية كاملة وبقيت العدة الأخرى، لأنه لا ينسى أحدٌ من قادة المسلمين وصية عمر بن الخطاب لـسعد بن أبي وقاص: [[واعلم أن المسلمين إنما ينصرهم الله تبارك وتعالى بطاعتهم لله وبمعصية عدوهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية؛ كان لهم الفضل علينا في القوة]] أي: فنحن عدتنا الطاعة، وكفى بها عدة، ففي تلك الليلة أعد كل شيء وبيت للهجوم ثم قال: اذهبوا فالتمسوا هل في المسجد أحد -هكذا نريد مثل هؤلاء تقي خفي لا يدري عنه أحد، ولكنه يأتي بدعوة هي خير من هذه الجيوش كلها، أو رديفة ومساندة لهذه الجيوش كلها- قالوا: ما وجدنا فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه -أي: يدعو بإصبع واحدة- قال: إصبعه تلك أحب إلي من ثلاثين ألف فارس.

    وذلك لأنه إذا قال: يارب، استُجيب له بإذن الله تبارك وتعالى؛ لأنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، ويفزعون إليه تبارك وتعالى، فهم جنده، والدين دينه والدعوة دعوته، والجند جنده والعباد عبيده، والأعداء أعداؤه.

    إذاً: لا بد أن يفزعوا إليه ولا بد أن ينادوه وأن يتضرعوا إليه.

    وهنا ننبه إلى أدب عظيم من آداب الدعاء، وكلكم تعرفون الضرع، فكيف التضرع؟

    أرأيتم العجل الصغير من البقر أو من الإبل أو من أي شيء، كيف يرضع! وكيف يفعل إذا لم يرضع! أرأيتم تلك الحالة؟

    وكيف يرتفع وينزل ويحاول ويحاول ويمتص ويحرص وهكذا، فالضراعة مأخوذة من ذلك؛ فالواحد لا يرفع يده اللهم اغفر لي، ويمر منها كبعض الناس، بدون تضرع، بل اجعله دعاء ضراعة وتضرع والتمس الخير من عند الله لعله أن ينزل عليك، وبنفس الحرص والرغبة والشدة القلبية التي يفعلها هذا الصغير من الحيوان وهو يأخذ من الضرع، واطلب ذلك سواءً أكان مطراً أم غيثاً، أم رحمة أم نصراً أم رزقاً أم توفيقاً أم أي شيء.

    تضرع إلى الله فبالضراعة يدفع الله تبارك وتعالى العذاب؛ ولهذا يقول سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76] أي: لو أن الناس استكانوا لربهم -والاستكانة هي الطمأنينة والخضوع الكامل الذي يناسب الهون، الذين يمشون على الأرض هوناً أي: مستكينين- وتضرعوا إلى الله عز وجل؛ لكشف الله تعالى عنهم العذاب كائناً ما كان.

    وليس الحال كحالنا اليوم: إذا نزل العذاب جرينا وراء الأسباب، وانتقلنا من سبب إلى سبب إلى سبب، حتى نضيع في أودية لا نهاية لها، والطريق سهل والاتصال بالله تبارك وتعالى ميسور؛ ونتضرع إليه فيكون كل ما نريد بإذن الله تبارك وتعالى من خيره وفضله.

    وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64] أي: وهاتان الحالتان في الصلاة؛ أما السجود فأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد؛ وأما القيام فأفضل الصلاة طول القنوت والقيام، وهو الذي يجعل الإنسان مثلما رأت تلك البنت أو الجارية ذلك الرجل كأنه خشبة.

    فبالسجود وبالقيام وبالدعاء وبتدبر الآيات والتفكر فيها في القيام ترى العجب، وبالبكاء في السجود ترى العجب الآخر، سبحان الله العظيم!

    ولهذا جاء عن بعض السلف في تدبر الآيات وفي قراءة آية واحدة من كتاب الله مواقف عجيبة جداً وكيف تفعل الآية في القلوب؛ فكيف بك إذا قرأ المئات من الآيات، حتى كان بعضهم يريد أن يصلي بعض الليل أو ثلثه، ولا يشعر إلا وقد طلع عليه الفجر، فإلى الفجر وهو ما يزال واقف لا يشعر بالوقت؛ لأنه يستغرق بعمق في هذه الآيات وفي معانيها.

    وكما قرأ بعضهم قول الله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:54] فكيف حيل بينهم وبين ما يشتهون.

    فيشتهي الإنسان في هذه الدنيا، المال والراحة والزوجة والبيت وهو في هذا التعب كله ويعمل فيه، فتأتي لحظة ثم يحال بينهم وبين ما يشتهون، ولو فكر الواحد كيف يحال بينهم في لحظة واحدة يسلب هذا كله الملك، والمال، والمنصب، والسلطان، والزوجة، والبيت وكل شيء فإذا حيل بينك وبين ما تشتهي وبدأت تفكر: ماذا قدمت وماذا أمامك؟

    فهذه هي العبرة، لو فكر الإنسان وتأمل، كيف أنه يحال بينه وبين ما يشتهي وبين ما تعب.

    فسنوات من عمرك وأنت تزين هذه العمارة، ومالك كله قضيته وأنت تتفنن في هذه الحديقة، وفي اختيار هذا المنزل، ثم يقال لك: ارجع إلى ما أترفت فيه، لماذا تركض؟

    ولماذا تذهب؟

    فحيل بينهم وبين ما يشتهون، أي: بنـزول الموت وبنزول العذاب ينتهي كل شيء؛ ثم يحاسب عليها ويتمنى أنه سلم منها -على الأقل- حتى يخفف عليه الحساب؛ لكنه يحاسب عليها، ويتمتع بها غيره؛ وهذا من ضيق الدنيا وخستها وحقارتها إذا قورنت بالآخرة.

    حقيقة الدنيا عند السلف

    وهذا الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، تأمل في قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الدخان:40-42].

    إن هذه الآية كأنها استجمعت واستغرقت ذهنه الليلة كلها، فيفكر فقط! كيف إن يوم الفصل ميقات الناس أجمعين، الأولين والآخرين -من آدم عليه السلام، إلى آخر مخلوق يخلقه الله عز وجل- فيأتون جميعاً حفاةً عراةً غرلاً بهماً كيوم ولدتهم أمهاتهم، وتدنو منهم الشمس مقدار ميل، فذلك موعدهم وميقاتهم أجمعين، ثم يكون الحساب والفصل، سبحان الله!

    الواحد منا إذا رأى أباه أو جده وقد صار كبيراً طاعناً في السن، وتأمل هذا الكبير المنحني الظهر مرت به أيام مثل الحلم، كان طفلاً صغيراً وكان يرى جده وهو كبير طاعن في السن مثله، وذلك الجد كذلك...، سبحان الله! وكأنك ترى مجموعة هائلة لا نهاية لها كلهم شِيبة إلى مالا نهاية؛ لكن أنت شباب والحمد لله ولكنها لحظات كالحلم، فتمر أيام معدودة، وإذا بك نفس الشيء، وإلى نفس الحالة.

    ولهذا يوم الفصل يجتمع هؤلاء جميعاً، الذي كان يقول: هؤلاء أحفادي، والذي كان يقول: هؤلاء أجدادي، وكم من قرون خلقها الله، عاد وثمود والذين من بعدهم -لا يعلمهم إلا الله- قال تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً [الفرقان:38] فكلهم يجمعهم الله عز وجل كما ذكر سبحانه: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40].

    وهناك: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً [الدخان:41] ولا ينفع الإنسان هناك

    إلا العمل الصالح، قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] أي: لا ينفع مال ولا سلطان، ولا منصب ولا جاه، فكل شيء يذهب ولا يبقى، إلا ما قدمت وما عملت، فتجده أمامك، قال سبحانه: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

    حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع العبادة

    وأما زرارة بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه فكان يقرأ قوله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:8-10] فسقط رضي الله تعالى عنه في المحراب فوجدوه قد مات رحمه الله من هذه الآية، وكذلك ما حصل لـعمر رضي الله عنه حين سقط وهو يقرأ من سورة الطور.

    فالكل لهم في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظيم الأسوة وعظيم القدوة، فقد كان صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأز كأزيز المرجل، أي: كالقدر الذي يغلي؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أقوى الناس قلباً، وانظروا كيف جمع الله له هاتين الخصلتين! أقوى الناس قلباً وأثبتهم جناناً، وفي نفس الوقت أكثرهم اعتباراً وتأثراً فهو متوازن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالاعتبار عظيم جداً؛ لكنه لا يغلب قوة قلبه صلوات الله وسلامه عليه؛ فهو ثابت واقف، فيأز صدره كأزيز المرجل -الذي يغلي- من الخشية والخشوع والتدبر والتفكر؛ وكذلك كان خيار أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله.

    فإذا ضعف القلب -وأحياناً يضعف- يسقط مثل ما فعل زرارة وغيره، فيسقط ولا يستطيع أن يتحمل هذه العبرة، أو هذه الآيات.

    وأما إذا ضعف اليقين أو ضعفت العبرة فماذا يحصل؟

    لا يأز الصدر ولا يتحرك الجنان، فذلك مثل حالنا نحن الآن، نقرأ الآيات ونسمع السور ونسمع العبر، فلا نتأثر، لأن الوارد ضعيف، ولم يرد على القلب شيء قوي، بل ورد عليه شيء ضعيف، وهو قاس -نسأل الله العافية- أو مريض أو فيه تحجر فلا يتأثر؛ فلذلك كان كمال العبادة في هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو له كمال القوة والثبات مع كمال الاتعاظ والاعتبار صلوات الله وسلامه عليه.

    والآيات عظيمة وعبرها كثيرة ونريد من أبي عبد الرحمن -يحيى اليحيى- حفظه الله -وقد زارنا هذه الليلة- أن يشارك ولا نسامحه ولا نعفيه، وإن كان بعض من حضر لا يعرفه حفظه الله، وأنا أكره حقيقة الحديث على الإنسان بحضوره سواء فيّ أو في غيري، لكن نعرفكم بهذا الشيخ، ونسأل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحفظه وأن يبارك في عمره، فقد تخرج على يديه من حفاظ الكتاب والسنة الجمع الكبير -ولله الحمد- وهو معروف حفظه الله في القصيم وما حولها، وإنها حقيقة لسعادة وشرف لنا نحن أبناء هذه المنطقة أن نراه وأن نسعد به، ولا بد أن نستمع إليه ولعلنا إن شاء الله نكمل هذه العبر والدلائل في لقاء آخر بإذن الله، وأمامنا كم هائل من الأسئلة فلا نطيل، ولكن نسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من عباد الرحمن.

    اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، اللهم اجعلنا من أوليائك الصالحين، اللهم اجعلنا من المخبتين، اللهم اجعلنا من المنيبين، اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من المخلصين، إنك سميع مجيب.

    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.

    1.   

    كلمة للشيخ يحي اليحيى

    بسم الله الرحمن الرحيم

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعــد:

    فلم آتكم متحدثاً ولا مذكراً، وإنما أتيتكم زائراً ملبياً لدعوتكم، مشاركاً في هذه السنَّة التي أدين الله أنها سنة حسنة، وما أن سمعت بأن هناك اجتماعاً مضمونه اللقاء بعلم من أعلام الإسلام، حتى وجدت قلبي ونفسي تميل إلى الجلوس كل الميل، فمضيت قُدُماً إلى هذه البلاد وإلى هذه الأراضي المباركة، لعلي أن أكون معيناً على البر والتقوى، والله تعالى يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وإن هذا الاجتماع قطعاً قطعاً قطعاً تعاون على البر والتقوى.

    أيها الفضلاء النبلاء: إن كلماتي التي سأقولها، ولدت في تلك الدقائق السالفة، ولدت لما رأيت هذه الوجوه النيرة الطيبة، التي أبت كل الإباء إلا أن تحضر هذا الاجتماع، وهذا المكان لتشارك أهل الخير في خيرهم، ولقد تشنفت آذاننا وآذانكم وأطربت أرواحنا وأرواحكم، في هذا الاجتماع، ومثل هذا الكلام هو تجديد للإيمان، فلقد تجدد إيماننا، إي والذي نفسي بيده، ففي مثل هذه المجالس يتجدد الإيمان، وأنا على يقين أن الكثير الكثير سيئوب إلى بيته وقد ازداد يقينه وإيمانه وإحسانه بالله تعالى.

    ولما رأيت هذا الاجتماع وهذا الجمع الطيب، تذكرت قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـحكيم بن حزام، كما روى ذلك البخاري ومسلم من طريق عروة، قال: (أخبرني حكيم بن حزام أنه سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، أرأيت أموراً كنت في الجاهلية أتحنث بها، من صدقة أو عتاقة -أي وعتاقة- أو صلة رحم، أفيها أجر؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسلمت على ما أسلفت من خير).

    وأنا أقول يا معاشر زهران: لقد أسلمتم على ما أسلفتم من خير، ولقد قدَّمت هذه القبيلة، لا أقول عشرات من رجال الحديث بل ولا أقول مئات، بل بالآلاف، فقد قدمت هذا القبيلة رجالاً لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولست بصدد بيان الرجال الذين ضحوا بمهجهم وأرواحهم وأنفسهم حتى قدموا لهذه الأمة هذا المعين الصافي من ميراث نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    ولقد كان من رجال هذه القبيلة شيوخاً للبخاري ومسلم رحمهم الله تعالى.

    إنكم يا معاشر زهران، لا زلتم تتفيئون ظلال تلك الدعوة النبوية الخالدة المستمرة، التي لفظ بها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أُتي إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل: (يا رسول الله! ادعُ على دوس، لأنهم أَبَو، فقال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهم اهدِ دوساً، وأتِ بها) خاف أبو هريرة، وخاف الطفيل، أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، لكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا ربه لهذه القبيلة، فلكم نصيب من ذاك الرءوف، الذي سماه الله رءوفاً رحيماً: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

    فقال: (اللهم اهدِ دوساً وأت بها ) فهدى الله دوساً، وأتى بها، ولا زالت دوساً تهتدي سنة بعد سنة، وقرناً بعد قرن، وها أنا أرى جمعاً كبيراً من هذه القبيلة العريقة، في شعاب الزمن، منظر لفت نظري إي والله، ما هو هذا المنظر؟ إنه التمسك بالسنة رجالاً وصغاراً خاصةً وعامةً، إنني أرى الجلّ ممن أعفى لحيته، وأحفى شاربه، وقصر ثوبه، لا تكاد، إنه غريب بينكم ذاك الذي يحلق لحيته، ويطيل ثوبه، فيا لله ما أعظمها من خصلة! إنه يحق لكم أن تعتزوا، ويحق لكم أن تفرحوا وأن تستبشروا وأنتم تحيون سنة قد أميتت.

    وأنتم تعيشون هذا الشعور، في زمان يغربل الناس فيه غربلة: لقد أسلمتم على ما أسلفتم فيه من خير، إنكم اليوم تسجلون سنة حسنة، فالله الله، في المزيد في الهداية والسداد، هذا هو الذي أريد أن أقوله في بدئ الأمر.

    فأقول أيها الفضلاء، أيها الكرام، أيها الشجعان، وهذا شيء وأمر معروف، ولا خلاف فيه، أقول: هكذا ينبغي الاحتفاء بالعلماء، والاحتفاء برجالات الإسلام، الذين وضعوا أرواحهم على راحتهم، هكذا ينبغي، إن أمة تحتفي بعلمائها، أمة مرحومة، وأمة خيرة مباركة.

    وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت ولا زالت ترفع من قيمة العلماء، وترفع من قيمة الدعاة، وتضحي بالغالي والنفيس من أجل الذود عنهم، وعن أعراضهم، وتضحي بكلما أوتيت انشروا صفحات التاريخ، اقرءوا الصفحات التي سجلت بالأمس، كيف كان المسلمون يقفون مع علمائهم؟

    وبنظرة سريعة إلى عالم الأمس، تجد فعلاً أن الأمة أمة مرحومة مباركة خيرة.

    أيها الإخوة: إنني أشعر أني مأمور أمر وجوب لكي أتكلم مثل هذا الكلام، كيف وقد أمرني فضيلة الشيخ سفر بارك الله فيه وفي علمه، إني أراه بالنسبة لي واجب، لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].

    فمن هم أولو الأمر؟

    ذهب جمهور المفسرين إلى أن أولي الأمر هم الأمراء والعلماء، الأمراء الذين يطيعون الله، ويطيعون الرسول، والعلماء الذي يخشون الله، وهم ربانيون بما يعلِّمون الناس.

    أيها الإخوة: كما أننا نحتفي بالعلماء، فينبغي أن نسعى جاهدين من أجل أن نخرج علماء، ودعاة، وأنتم والحمد لله خرجتم، وهاأنتم تدفعون ضريبة الإسلام، وهاأنتم تزكون إسلامكم، وهذا هو ابن من أبنائكم، وولد من أولادكم، أصبح بُعبعاً في كل أرض ينزل فيها، وكلماته دوّت وسمعها القريب والبعيد، وما بينكم وبينه إلا بضع كيلو مترات، فالجدير أيضاً أن تواصلوا الجهود، والحمد لله، نسمع أن هناك كواكباً من طلبة العلم، هم في هذا الطريق، قد اجتهدوا وجدوا، ولكن نريد الزيادة، فهذه أرض خصبة لا نقنع بواحد أو باثنين أو بثلاثة أو بأربعة أو بخمسة، بل نريد عشرات، بل مئات، فعلى الأولياء أن يجندوا أولادهم للذود عن هذا الدين العظيم، وأن يحيوا ما كان عليه أسلافهم، فعليهم أن يشجعوا أولادهم على طلب العلم الشرعي، بدءاً بحفظ القرآن الكريم، وتثنيةً بحفظ سنة النبي الكريم، وهكذا، وهذا هو المظنون وهو المنتظر في قرية أو إقليم أو في أرض، أو مدينة لها مالها في دين الإسلام.

    أيها الأحباب: إني أقول وأنا على يقين إنكم قد سئمتم من كلامي، وإني متطفل في كلمتي هذه، إنكم الآن تنظرون إلى فضيلة الشيخ سفر، وقد اشرأبت أعناقكم إليه للاستماع إلى مزيد من أجوبته النافعة، وأنا معكم، ولا ألومكم، فأترك المجال لكي أستفيد وتستفيدون أنتم من حديثه العطر، أسأل الله تعالى أن يجمعنا في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، أسأل الله ألا يجعل هذه الأقدام التي سارت إلى هذا المكان، تسير خطوة واحدة إلى النار.

    أسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوالكم، وأن يأخذ بنواصينا ونواصيكم إلى الخير وإلى الصراط المستقيم، وأن يحيينا على الإسلام، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يميتنا على الإسلام، وأن يدخلنا الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

    ولا أنسى أن أقول لمن تسبب في هذا الجمع جزاك الله خيراً، وأصلح الله نياتك وذرياتك، اللهم وفقه على الخير، اللهم أصلح له أولاده، اللهم سدد خطاه، اللهم بارك له في ماله، اللهم بارك له في أولاده، اللهم بارك له في حياته، اللهم اغفر له بعد مماته، اللهم اجعله من الأولياء الصالحين، ومن الأولياء المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    تعقيب للشيخ سفر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والصلاة والسلام على خير خلق الله.

    أما بعــد:

    أيها الإخوة الكرام: شكر الله لأخينا الشيخ الحبيب: يحي بن عبد العزيز اليحيى، وأثابه على ما تفضل به، وعلى ما حض به هؤلاء الآباء الكرام وهؤلاء الشباب الذين نسأل الله تعالى أن يجعل فيهم الخلف الطيب والنشء الصالح، إني أحب أن أعقب تعقيباً بسيطاً قليلاً فقط، على كلامه أثابه الله، لتعلموا مغزاه.

    إن الشيخ حفظه الله، قد أقام حفلاً عظيماً، وأقول بحق، إنني لم أشهد قبله ولم أشهد بعده مثله، حفل أقيم في مدينة بريدة وكان الاحتفال بحفظة الصحيحين -البخاري ومسلم- وكان المحفظ هو الشيخ حفظه الله، ولا أقصد بذلك أن أثني عليه في حضوره، وهو -ولله الحمد- يستحق ذلك وأكثر، لكن أريد أن أبين لكم أن شهادته لهذه القبيلة -لقبيلة زهران- شهادة العالم المطلع، وعندما يخبركم عن كثرة الحفاظ، والشيوخ والعلماء منها فهو العليم وهو الخبير بأحوال هؤلاء الرواة، وهو يحدثكم بهذا الحديث ويريد منكم -كما حظكم- أن تكونوا أبناء سائرين على هذا الطريق، وأن تُخرج هذه القبيلة -بإذن الله والقبائل الأخرى- الحفاظ لدين الله تبارك وتعالى، الذين يحفظونه بسيوف الجهاد، ويحفظونه أيضاً علماً ومسائل في صدورهم وقلوبهم.

    وأنا لو قلت هذا الكلام، أو قاله غيري لربما كانت الشهادة مجروحة، لأننا من أبناء المنطقة، أو كانت في غير محلها، لأن التخصص مختلف، أما أن يصدر هذا الكلام منه حفظه الله، فهو يتطلع إلى أن يكون في الخلف وفي هذا الجيل من يعيد سيرة أولئك الآباء الكرام الفضلاء وما ذلك على الله بعزيز، فبارك الله فيكم علموا أبناءكم وحفظوهم كتاب الله، وحفظوهم سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واهتموا بهم واعتنوا بهم، واعلموا أنه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، وكما تفضل بالحديث الذي ذكره الشيخ: (أسلمت على ما أسلفت من خير) فنسأل الله تعالى أن يبارك في هذا الجيل الجديد، وأن يجعل فيهم من يعيد سيرة أولئك الأباء الفاتحين، والعلماء العاملين إنه سميع مجيب.

    1.   

    الأسئلة

    حديث: أنهلك وفينا الصالحون

    السؤال: عندما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث} وقال الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] فهل الذي ينجي الأمة هو أن يكونوا من المصلحين الصالحين؟

    وما هو الدور الذي يجب أن يقوم به المسلم تجاه نفسه ليكون من الصالحين، وتجاه الأمة ليكون من المصلحين؟

    الجواب: هذا سؤال عظيم، وما ذكره الأخ السائل هو حق، فما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {نعم إذا كثر الخبث} وكان ذلك لما سألته أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، {أيهلكنا الله وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث}.

    فالمانع والحائل من نزول العذاب هو الإصلاح لا مجرد الصلاح، فيجب أن يكون الإنسان صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره، واعلموا أنه إن لم يكن مصلحاً، فإنه لا يكون صالحاً؛ لأن حقيقة الصلاح وتمامه إنما تكون بالإصلاح؛ ولذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو قدوة المصلحين وإمامهم صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا كان أصحابه من بعده يدعون إلى الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

    ولقد اختل مفهوم الصلاح والفساد، في هذا الزمان عند الناس مفهوم الصلاح والفساد، وهذا وحده يحتاج إلى لقاء خاص؛ لأن كثيراً من الناس لا يمنعه من قبول الصلاح إلا الالتباس في هل هذا صلاح أم فساد؟

    ولهذا بعض الناس إذا وعظته أو أعطيته أي شيء ترى أنه خير له، وتقسم له أن هذا من صلاحه إلا أنه لا يدري أهذا صلاح أم فساد؟!

    فالأمور تلتبس على الناس، فمن أين نأخذ المعيار والميزان الذي نعرف ونعلم به الصلاح من الفساد، ونعرف المصلح من المفسد؟

    من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله وأما لو أخذناه من معيار ثانٍ فماذا نجد؟

    ماذا قال فرعون عن موسى عليه السلام؟

    ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] فكيف يصبح فرعون هو الناصح الأمين المشفق الخير، وموسى داعية الفساد؟!

    ولو أخذنا معايير الصلاح والفساد من الأبواق الإعلامية، أو من أفواه المنافقين والمفسدين ومن المرجفين أو من الصحافة الغربية ومن الإذاعات العالمية؛ فسنجدها نوعاً آخر تماماً والله المستعان! فالمتطرف عندهم والإرهابي هو المصلح الصالح، والمعتدل والمثقف هو من يحبون من أهل الفساد، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718694

    عدد مرات الحفظ

    764878691