ومن جامع برمضان نهاراً بلا عذر شبق ونحوه فعليه القضاء والكفارة مطلقاً، ولا كفارة عليها مع العذر: كنوم، وإكراه، ونسيان، وجهل، وعليها القضاء، وهي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت.
وكره أن يجمع ريقه فيبتلعه، وذوق طعام، ومضغ علك لا يتحلل، وإن وجد طعمهما في حلقه أفطر، والقبلة ونحوها ممن تحرك شهوته.
ويحرم إن ظن إنزالاً، ومضغ علك يتحلل، وكذب وغيبة ونميمة وشتم ونحوه بتأكد.
وسن تعجيل فطر، وتأخير سحور، وقول ما ورد عند فطر، وتتابع القضاء فوراً.
وحرم تأخيره إلى آخر بلا عذر، فإن فعل وجب مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم، وإن مات المفرط ولو قبل آخر أطعم عنه كذلك من رأس ماله، ولا يصام، وإن كان على الميت نذر من حج، أو صوم، أو صلاة ونحوها سن لوليه قضاؤه، ومع تركة يجب، لا مباشرة ولي .
فصل: يسن صوم أيام البيض، والخميس والإثنين، وست من شوال، وشهر الله المحرم، وآكده العاشر ثم التاسع، وتسع ذي الحجة، وآكده يوم عرفة لغير حاج بها.
وأفضل الصيام صوم يوم وفطر يوم.
وكره إفراد رجب والجمعة والسبت والشك، وكل عيد للكفار، وتقدم رمضان بيوم أو بيومين ما لم يوافق عادة في الكل.
وحرم صوم العيدين مطلقاً، وأيام التشريق إلا عن دم متعة وقران.
ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه بلا عذر، أو نفل غير حج وعمرة كره بلا عذر].
يتكلم الفقهاء في كتاب الصوم على من يلزمه الصيام، ثم بماذا يلزم؟ ثم يتكلمون عن المفطرات، وعن غير المفطرات مما يظن أنه مفطر أو نحوه، ويتكلمون أيضاً عن المكروهات في حال الصيام، ثم يتكلمون عن صيام التطوع، وما يلزم فيه وآكده ونحو ذلك، ثم بعدما ينتهون من باب الصيام يتبعونه بالاعتكاف؛ لما له من الصلة بالصيام.
ذكر هاهنا ما يفطر به الصائم، الصيام في الأصل يكون: عن الأكل والشرب وعن الجماع، ولذلك قال الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ [البقرة:187] فأباح بالليل المباشرة والأكل والشرب إلى أن يتبين الفجر، ثم أمر بالإمساك عن هذه الأشياء -الأكل والشرب والوطء- إلى الليل: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، لكن لما كان الأكل هو إدخال الطعام إلى الجوف تكلم الفقهاء على ما يلحق به مما يدخل إلى الجوف، فقالوا: إن من أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان فإنه يفطر؛ وذلك لأنه شبيه بالتغذي، ولأن الغذاء هو إدخال الطعام إلى الجوف عن طريق الفم عادة أو عن طريق الأنف أو غير ذلك.
هناك أسباب متفق على الفطر بها وأسباب مختلف فيها، وهذا من المختلف فيه، فقيل: يفطر؛ لأنه أدخل شيء إلى مجوف وهو الدماغ فإنه جوف الرأس، وقيل: لا يفطر، ولعل الأقرب أن هذا معالجة جرح، وليس بغذاء، ولا يسمى آكلاً ولا شارباً إذا أدخل إلى دماغه دواء.
قوله: (كدماغ أو حلق) لا شك أن الحلق يوصل إلى الجوف؛ لأن الطعام يدخل عن طريق الحلق إلى المريء الذي هو مدخل الطعام والشراب، فإذا وصل إلى حلقه فإنه يعتبر داخلاً في جوفه، فيفطر ولو بقطرة أو قطرات من ماء أو نحوه.
قوله: (من أي موضع كان غير إحليله) الإحليل: هو مخرج البول، يعني: الثقب الذي في رأس الذكر، فإذا أدخل منه شيئاً فإنه لا يفطر به، لماذا؟ لأنه لا يصل إلى الجوف، والبول الذي يخرج من الإحليل (من هذا الثقب) ليس من الجوف، وإنما هو من المثانة، والمثانة ليس لها منفذ، وإنما يأتي إليها البول عن طريق الرشح، بمعنى أنه يجتمع البول في أسفل البطن، ثم تمتصه هذه المثانة، فيدخل إليها عن طريق الرشح، مثل رشح القربة التي في جوفها ماء وليس فيها خروق، ولكن لابتلالها يرشح الماء من ظاهرها.
فعلى هذا لا يكون الإحليل منفذاً، فإذا أدخل منه شيئاً فليس داخلاً إلى الجوف، بخلاف ما إذا أدخل من دبره.
أما الإدخال من الأذن ففيه أيضاً خلاف، وكذلك الإدخال من العين، ذكر الأطباء أن في العين عرقاً يتصل بالخياشيم، ولذلك إذا اكتحل في عينه فإنه يحس بأثر الكحل في خياشيمه، وكذلك إذا قطر في عينه قطرة حارة أو حامضة أو مالحة أحس بطعمها أو أحس بحرارتها في خياشيمه؛ فتصل إلى الفم، ولكن هل يسمى هذا أكلاً أو شرباً؟
لا يسمى أكلاً ولا شرباً إذا جاء عن طريق العين أو عن طريق الأذن، ومع ذلك فإن أكثر الفقهاء قالوا: إذا أحس بطعم القطرات -التي في عينه أو في أذنه- في خياشيمه فإنه يفطر إذا كان متعمداً، ورجح شيخ الإسلام أنه لا يفطر؛ لأن العين والأذن ليستا منفذاً محسوساً للأكل والشرب بخلاف الفم والأنف، فإنه منفذ محسوس، ومعلوم أن الماء إذا دخل في الخياشيم (المنخرين) دخل إلى الجوف، وقد ثبت في حديث لقيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).
قوله: (أو ابتلع نخامة بعد وصولها إلى فمه) النخامة تارة تخرج من الرئة (من الجوف) فتصل إلى حلقه، فإذا أخرجها فوصلت إلى لسانه ثم عاد وابتلعها فقد ابتلع شيئاً له جرم فيفطر، وكذلك لو نزلت من رأسه ثم أخرجها عن طريق الفم فوصلت إلى فمه ثم أعاد ابتلاعها؛ لأنه ابتلع شيئاً له جرم.
وكذلك إذا استمنى بيده -وهو ما يسمى بالعادة السرية- فإنه يجب عليه القضاء؛ وذلك لأنه عالج شهوته بيده، فيكون بذلك متسبباً لقضاء شهوة، والصائم يجب أن يتجنب ذلك، قال الله في الحديث القدسي: (ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي).
وكذلك إذا باشر فأمنى أو أمذى، والمباشرة هي: مباشرة الزوجة ولو من وراء ثوب أو من وراء إزار، فإذا باشرها فحضرت شهوته فأمذى أو أنزل -يعني: خرج منه مذي أو مني- فإنه يعتبر قد فعل الشهوة، فيكون عليه القضاء.
وكذلك إذا كرر النظر إلى امرأة أو إلى صورة في أفلام أو نحو ذلك فحصل منه الإمناء (المني) فإنه عليه القضاء.
وقد اختلف في خروج المذي، ولعل الأقرب أنه لا يقضي إذا وقع منه المذي؛ وذلك لأن الكثير من الشباب الذين معهم قوة شهوة يحصل من أحدهم المذي بمجرد نظرة، أو بمجرد فكرة، أو بمجرد رؤية لما يثير الشهوة؛ فيشق عليهم التحفظ من ذلك، فأما إذا خرج المني فإنه يفطر، وهو الذي يخرج دفقاً بلذة، ويكون لونه أصفر بخلاف المذي، فالمذي رقيق أبيض معروف.
ومما يفطر أيضاً: النية، ولو لم يتناول شيئاً، فإذا نوى الإفطار، ونوى قطع الصيام بالنهار، وعزم على أن يفطر ولو لم يتناول، ثم عزم على أن يتم؛ بطل صومه؛ لأن الصيام نية، فإذا نوى تركه بطل الصوم.
وبكل حال إذا احتجم فالاحتياط أنه يفطر ويقضي، وكان كثير من الصحابة يؤخرون الحجامة إلى الليل، فإذا أراد أحدهم أن يحتجم أخر حجامته إلى الليل، وفي هذا دليل على اعتبارهم أن الحجامة من المفطرات.
والذين قالوا: إنها لا تفطر قالوا: إنما الفطر بما أدخله لا بما أخرجه، والدم إنما هو شيء يخرج من الإنسان، والجواب: أن الفطر قد يكون أيضاً بما يخرج، كفطر الحائض بدم الحيض، مع أنه شيء خارج، ومع ذلك لا يصح صومها، وليس لها عذر إلا هذا الخارج، فكذلك أيضاً إخراج الدم بالحجامة، ويلحق بها أيضاً جميع أنواع إخراج الدم: كالفصد والشرط وما أشبهه.
وفي هذه الأزمنة يقام بإخراج الدم للتبرع، فإذا أخرج دماً كثيراً للتبرع لمريض أو نحوه ألحق بالحجامة، وكذلك إذا أخرج دماً كثيراً للتحليل، أما إذا كان يسيراً فلا يلحق بالحجامة، والذي يخرج بالتحليل عادة يكون شيئاً يسيراً يمكن أن يقدر بأنه أقل من فنجان الشاي، فإذا كان أقل من ذلك فإنه لا يعتبر ملحقاً بالحجامة.
وفطر الحاجم؛ لأنه كان يمص الدم، كانت المحجمة مثل القعب، ولها طرف دقيق، فيلصقها بالبشرة بعدما يجرحها جروحاً، فيخرج منها الدم لامتصاصه الهواء الذي في داخلها، ومع امتصاصه يخرج منه دم يختلط بريقه، فيكون ذلك سبباً في إفطاره، حيث إنه لابد أن يختلط بريقه ولو مجه، وأما فطر المحجوم فلإخراجه لهذا الدم.
وفي هذه الأزمنة توجد حجامة بدون امتصاص، يعني: كالإبر التي يستخرج بها الدم، أو آلات تمسك بدون أن يمصها، فلذلك نقول: إذا احتاج إنسان إلى حجامة لمرض أو نحوه فالحاجم إذا لم يمتص بمحجمه فلا قضاء عليه.
واشترطوا في هذه الأشياء كلها -يعني: في إدخال شيء إلى جوفه أو في ابتلاع النخامة، أو القيء أو الاستمناء أو المباشرة أو تكرير النظر أو الحجامة- أن يكون عامداً، فإذا كان مخطئاً فلا يفطر، هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: أن يكون مختاراً بخلاف ما إذا كان مكرهاً، بأن يدخل إلى جوفه قهراً عليه كالمريض المغمى عليه.
الشرط الثالث: لابد أن يكون ذاكراً لصومه، فإذا كان ناسياً فلا يفطر.
كان مشايخنا الأولون يمنعون منها، فكان المرضى إنما يعالجون في الليل، ويضربون الإبر في الليل، وقد عهدنا من سنة أربع وسبعين إلى خمس وتسعين أنهم لا يضربون الإبر لأحد إلا بالليل، ويمنعون منها بالنهار، كالشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، والشيخ عبد الله بن حميد ، وكذلك الشيخ ابن باز كان يمنع منها، ولما كثرت الشكايات، وذكر الأطباء أن كثيراً من الإبر لا يحصل منها وصول إلى الجوف، وإنما هي إبر موضعية؛ فلذلك رخصوا في الإبر إلا أن تكون مما يصل إلى الجوف، كالإبر التي في الوريد (في العروق) فإنها تنتشر بسرعة، وكذلك إبر التغذية والتقوية، فأما التي في طرف البدن أو في طرف الجلد لتهدئة أو نحوها فرخصوا فيها بعد ذلك.
مما ذكروا أنه لا يفطر: لو تصور المرأة، وفكر فيها، فثارت شهوته؛ فأنزل، فهذا شيء قهري لا يفطر به، وكذلك إذا طار إلى حلقه ذباب أو غبار غير متعمد له فلا يفطر، وكذلك إذا تمضمض أو استنشق ومع ذلك دخل شيء من ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى حلقه وهو غير متعمد فلا يفطر، مع أنه منهي عن المبالغة، ولكن لو قدر أنه بالغ أو قدر أنه زاد على ثلاث في المضمضة أو في الاستنشاق فدخل إلى جوفه أو حس بطعمه فابتلعه فلا يفطر بذلك؛ لأن الممضمضة مأمور بها شرعاً.
والذي تجب فيه الكفارة هو الوطء الحقيقي الذي يوجب الحد في الزنا، ويوجب الغسل في الجماع، ولو لم يحصل به إنزال.
والكفارة مثل كفارة الظهار على الترتيب:
أولاً: عتق رقبة، والصحيح أنها لابد أن تكون مؤمنة؛ لأن الله اشترط الإيمان في كفارة القتل، وأطلق في كفارة الظهار، فيحمل المطلق على المقيد.
ثانياً: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4] فلابد من التتابع.
ثالثاً: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4] لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من شعير أو غيره، وقيل: بل نصف صاع من الجميع: من الأرز أو البر أو نحوه، وهو الأحوط.
قوله: (فإن لم يجد سقطت) استدلوا بقصة ذلك الرجل الذي قال: (هلكت! وقعت على أهلي في رمضان، فقال: هل تجد رقبة؟ قال: لا، قال: هل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق الزنبيل- فيه تمر فقال: أين الهالك؟ خذ هذا وتصدق به، فقال: أعلى أفقر مني؟! ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فقال: أطعمه أهلك) ولم يأمره بالقضاء إذا أيسر، فدل على أنها سقطت عنه.
أما المرأة فاختلف في الكفارة عليها، فإن كانت معذورة كأن يطأها وهي نائمة، أو أكرهها وقهرها، أو كانت ناسية أو جاهلة؛ فلا كفارة عليها، وإن كانت مختارة ومطاوعة وعالمة ومتعمدة وعارفة بالحكم فعليها كفارة مثله، ويلزمهما قضاء ذلك اليوم الذي أفسداه.
ومن المكروهات: مضغ العلك الذي لا يتحلل، ويحرم مضغ العلك الذي يتحلل، والعلك هو ما يمضغ في الفم لتسلية أو نحوها، وأكثره من اللبان الشجري المعروف، وليس له طعم عادة، وإنما يمضغ؛ لأنه يسبب نكهة أو رائحة أو نحو ذلك، فإذا كان لا يتحلل فهو مكروه، وإن كان يتحلل منه أجزاء فتختلط بالريق وتبتلع فهو حرام، فهناك كثير من العلوك تمضغ وتتحلل، وقد يكون فيها شيء من الحلاوة ونحوها، فإذا وجد طعم العلك في حلقه أفطر، أما إذا لم يجد فلا يفطر، ولكنه مكروه.
وبهذا يعرف أنه لا يستحب الوصال، وهو: صلة الليل بالنهار، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يواصل فقد اعتذر بأنه يبيت يطعمه ربه ويسقيه، والصحيح أن معنى ذلك: أن الله تعالى يقويه، فيفتح عليه أنواع الإلهامات وأنواع الواردات التي تغنيه عن الأكل، ولم يرخص للصحابة بالوصال، ولكن لما رأوه يواصل استمروا في الوصال؛ فواصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: (لو تأخر لزدتكم، كالمنكل لهم) فالوصال يفوت هذا الخير المذكور في قوله: (أحب عباد الله إليه أعجلهم فطرا).
كذلك يسن تأخير السحور، والسحور: هو أكلة السحر في آخر الليل، وفيها أيضاً فضل، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) وورد حديث: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) وأحاديث أخرى مذكورة في كتب الفضائل.
ويسن عند الإفطار أن يدعو بما ورد من الأدعية، مثل أن يقول: اللهم إني لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي، ويا واسع الرحمة ارحمني، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله، أو يدعو بما تيسر من الأدعية، ويرجى إجابة ذلك، وقد ورد في حديث: (للصائم عند فطره دعوة لا ترد).
وقد يقال: إن عائشة كان يكون عليها الصوم من رمضان فلا تقضيه إلا في شعبان، واعتذرت بأن ذلك لمكان النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لمكان خدمته، وحاجته، وكثرة سفرها معه، ونحو ذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك كل عام، ويمكن أنه وقع مرة أو مرتين، وإلا فالغالب أنهن يبادرن بالقضاء.
وإذا أخره لعذر إلى رمضان بأن مرض واستمر مرضه أو استمر سفره حتى أدركه رمضان آخر؛ فليس عليه إلا القضاء، فإن كان لغير عذر فإن عليه القضاء والكفارة، وهي إطعام مسكين لكل يوم، واستدل بعضهم على ذلك بقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] والأكثرون استدلوا بأن هذا مروي عن كثير من الصحابة، فإنهم أمروا بالكفارة: إطعام مسكين عن كل يوم، ويجوز في هذا الإطعام تفريقه، ويجوز سرده، أي: يجوز إعطاؤه مسكيناً، ويجوز إعطاؤه مساكين دفعة واحدة.
الإطعام من رأس ماله، فيطعمون عليه عن كل يوم مسكيناً، ولو تبرع أحدهم أن يصوم عنه هل يصام عنه أم لا؟
أكثر الأئمة يجوزون أن يصام عنه، فيصوم عنه ولده الذكر أو الأنثى أو زوجته أو أخته، وذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يصام عنه ما أفطر من أيام رمضان؛ وذلك لأنه ثبت عنده أن الحديث الذي في قضاء الصيام عن الميت إنما هو صيام النذر، فتلك المرأة قالت: (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأقضي عنها؟ قال: نعم) وفي رواية: رجل، ولكن جاءنا حديث صحيح واضح في أنه يقضى عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ولا شك أنه يعم صيام الفرض وغيره، فصيام النذر ورد تشبيهه بالدين مع أنه لم يجب بأصل الشرع، وإنما أوجبه المرء على نفسه، فصيام الفرض الذي أوجبه الله أولى بأن يقضيه عنه أحد أولاده أو أهله.
فالصحيح أنه يقضى عنه، فإن شاءوا صاموا عنه، وإن شاءوا أطعموا عنه، وأما النذر فالمشهور أنه يلزم القضاء عنه، فيصوم عنه أحد أقاربه.
وإذا قلنا: يجوز الصيام عنه فهل يلزم أن يكون الصائم واحداً أم يجوز أن يكونوا عدداً؟ يجوز أن يكونوا عدداً، فإذا كانت عليه عشرة أيام، وأولاده عشرة: خمسة ذكور وخمسة أناث، فقالوا: نصوم عنه يوماً واحداً كلنا، فأصبحوا صياماً يوماً واحداً، ونووا أن صيامهم عن أبيهم، فالصحيح أن ذلك يجزئ.
قوله: (وإن كان على الميت نذر من حج أو صوم أو صلاة ونحوها سن لوليه قضاؤه) إذا كان عليه نذر كأن يقول: إن شفاني الله تعالى أو رد غائبي، أو عافاني من هذا المرض، أو ربحت في هذه التجارة، أو جاء ولدي من غيبته؛ فعليَّ أن أصوم عشرة أيام، أو أن أحج حجة واحدة، أو أن أصلي عشرين ركعة، أو أن أتصدق بمائة، أو أن أقرأ القرآن في ليلة، أو أن أذكر الله في هذا اليوم ألف مرة، أو نحو ذلك من القربات، فهذا يعتبر نذر طاعة يجب الوفاء به، فإذا مات ولم يقضه قيل: يسن لوليه القضاء، وقيل: يجب، وإذا كانت له تركة وجب أن يخرج من تركته ما يقضي نذره، فيقال لأحد الناس: حج عن فلان فإن عليه نذراً، أو يقال لولده: صم عنه، أو صل عنه، واجعل صلاتك عوضاً عن صلاته التي نواها ولم يقدر، ففي هذه الحال يجب الصوم على الولي، وكذلك الصلاة والحج والقراءة والذكر وما أشبه ذلك.
قوله: (ومع تركة يجب لا مباشرة ولي) أي: إذا كانت للميت تركة فيجب أن يقضى عنه ولو بأجرة، كأن يعطى من يحج عنه ونحو ذلك.
لا شك أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، ووردت فيه عدة أحاديث، وجعل ذلك عدلاً لصيام الدهر؛ لأنه إذا صام ثلاثة أيام فكأنه صام الدهر، فيكون كمن صام كل شهر، فالحسنة بعشر أمثالها، ولا شك أن الإثنين والخميس أكثر من الأيام الثلاثة؛ لأنه إذا صام الإثنين والخميس يصوم من كل شهر ثمانية أيام أو أكثر، وسبب تفضيل هذين اليومين ما روي أنه صلى الله عليه والسلام كان يحافظ عليها، ويقول: (إنها ترفع فيها الأعمال، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) فدل هذا على فضل هذه الأيام.
وتكلم العلماء أيضاً على ما إذا كان عليه قضاء فهل يبدأ بالقضاء أو يبدأ بأيام الست؟
ومن كان عليه قضاء فليبدأ بالقضاء، ولو استغرق القضاء صيام الشهر، فلو أن امرأة نفست في رمضان فأفطرت الثلاثين يوماً، ولم تطهر إلا في عشر من شوال، فصامت عشرين يوماً من شوال قضاء عن رمضان وانتهى شوال، وبقي عليها من رمضان عشرة أيام، وصامتها في ذي القعدة، فهل تفوت عليها هذه الست؟
الصحيح أنها تقضيها وتصومها من ذي القعدة؛ لأن رمضان في حقها صار في شوال، وهكذا: من أفطر لعذر، مثلاً: رجل استمر به المرض، وأفطر رمضان كله للمرض، وشفي في شهر محرم أو في شهر صفر فإنه يقضي في شهر صفر ثلاثين يوماً، ثم يتبعه بصيام الست؛ حتى يحصل له صيام الدهر، فيصومها بعد الانتهاء من قضائه.
اليوم العاشر يسمى يوم عاشوراء، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة مختلفة اختلافاً كثيراً، يمكن أن تنظر في منتقى الأخبار وشرحه نيل الأوطار، ولعل السبب أنه دخل فيها الكذب، وسبب الكذب أن الرافضة لما قتل الحسين في يوم عاشوراء ولدوا فيه الأكاذيب الكثيرة، وأنه يوم شؤم؛ لدرجة أنهم إلى هذا اليوم يحزنون فيه، ويذكرون أنه يوم مشئوم، ويعملون فيه مآتم وأشياء محرمة.
ثم إنه قابلهم من يعرفون بالنواصب، فوضعوا فيه أحاديث أخرى كثيرة، وأنه يوم شريف، وأن يحصل فيه كذا، وأن من اكتحل فيه ومن ادهن فيه، ومن وسع فيه على أهله، ومن تطيب فيه... إلخ، يريدون بذلك مراغمة الرافضة، فصار هذا اليوم لعبة بين هؤلاء الضدين: الروافض والنواصب، فأولئك كذبوا، وهؤلاء كذبوا؛ فلأجل ذلك توجد فيه الأحاديث المختلفة.
والذي صح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الصيام، وأنه كان يصومه ويأمر بصيامه، ويخبر أن صيامه يكفر سنة، فأما تلك الأشياء المختلفة فهي من وضع هاتين الطائفتين، ولا يلتفت إلى أقوالهم.
في صحيح مسلم أنه قيل: يا رسول الله! إن اليهود يصومونه، يعني: إنك تصومه الآن موافقاً لهم، فقال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن التاسع ناسخ للعاشر، وفهموا ذلك من هذا الحديث، لكن لعله غير ناسخ، وأن الحكم باق في أنه يصوم التاسع والعاشر، ثم ورد أيضاً: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده وخالفوا اليهود) وفي رواية: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)، هذا هو الذي صح فيه.
قوله: (وآكده يوم عرفة). يوم عرفة هو آكد أيام التسع، وهو اليوم التاسع، ويسن صيامه إلا للحجاج الذين وقفوا بعرفة، فإن الأفضل للحاج أن يفطر ولا يصوم فيه إلا لسبب كما إذا لم يجد الهدي وصام السابع والثامن والتاسع، أما غيرهم فإن الأفضل لهم أن يفطروا؛ ليتقووا على الدعاء، ولأنهم ضيوف الله تعالى، والكريم لا يجوع ضيوفه، فأما غير الحاج فإن صومه فيه فضل، حتى ورد أنه يكفر السنة الماضية والسنة الباقية.
ويكره إفراد شهر رجب بالصوم؛ وذلك لأن فيه عادات جاهلية، ومنها إفراده كله بالصيام، فهذا من العادات الجاهلية.
ويكره إفراد يوم الجمعة، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) إلا لسبب، وكذلك يوم السبت، وقد ورد فيه أيضاً: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء شجر فليمضغه) وقوله: (فيما افترض عليكم) يعني: فيما شرع لكم واستحب لكم صيامه، ولا يفهم منه أن المراد الفريضة في رمضان.
ويجوز صوم الجمعة والسبت لأسباب كما إذا كان أحد أيام ذي الحجة الأول، أو كان يوم عرفة يوم جمعة أو يوم سبت، أو وافق اليوم الذي يصومه، فإذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصام يوم الجمعة أفطر السبت، أو صام يوم الخميس وأفطر الجمعة وصام يوم السبت، فمثل هذا لم يتعمد صيامه، وإنما وافق صيامه، وكذلك إذا كان عاشوراء يوم سبت أو يوم جمعة جاز صيامه.
ويوم الشك هو: الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو لا؟ ومثاله: إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان لم ير الهلال فيها، فهل يجوز أن يصومه بالتحري؟
نعم، وقد كان يصومه بعض السلف ويقولون: لأن أصوم يوماً من شعبان أفضل من أن أفطر يوماً من رمضان، ولكن ورد فيه حديث عمار المشهور: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
فليلة الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال فيها فإنه لا يصام، وليلة الثلاثين من رمضان إذا لم ير الهلال يلزم الصوم.
وكذلك يكره صيام عيد الكفار؛ لأن في صيامه شيئاً من التشبه بهم، فكأنه عظّمه موافقة لهم.
وكذلك يكره صوم اليومين الأخيرين من شعبان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين، إلا أن يكون صوماً يصومه أحدكم فليصمه) فإذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ووافق اليوم الذي يصومه آخر يوم من شعبان فلا بأس بذلك؛ لأنه ما صامه على أنه تحري، ولا صامه على أنه من رمضان، فإنه كان ينهى عن وصل رمضان بغيره، فلا يوصل رمضان بيوم قبله ولا بيوم بعده، بل يلزم إفطار يوم العيد، وكذلك يتأكد إفطار يوم الثلاثين من شعبان.
ويحرم صيام يومي العيدين؛ وذلك لأنهما عيد المسلمين؛ ولأنه يفصل بها بين الأيام التي تصام والتي لا تصام، ولا يجوز صيامها ولو لنذر، ولا يجوز صيامها ولو لكفارة وغيرها.
أما أيام التشريق -وهي الثلاثة الأيام التي بعد عيد النحر: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر- فلا يجوز صيامها؛ لأنها عيد، وفي الحديث: (يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)>
ويجوز صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي، فإذا كان عليه دم تمتع أو دم قران في حج المتمتع أو القارن ولم يجد الهدي يصوم ثلاثة أيام في الحج فإذا لم يتمكن من صيام الثلاثة قبل العيد صام الثلاثة بعد العيد.
قوله: (ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه بلا عذر) يعني: إذا دخل في قضاء يوم من رمضان، فيحرم قطعه بلا عذر، أما إذا كان هناك عذر كمرض أو سفر أو نحو ذلك، فإنه لا بأس بأن يفطره، فأما إذا لم يكن هناك عذر فإنه يتم صيامه؛ لأنه دخل في فرض، وأما إذا كان في نفل فإنه يكره بلا عذر، فإذا دخل في صيام نفل كره قطعه بلا عذر، أما نفل الحج ونفل العمرة فإنه لا يجوز تركه، فإذا أحرم بحج أو بعمرة لم يجز تأخيره ولا إبطاله، بل يلزمه الإتمام كما سيأتينا في الحج إن شاء الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر