الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى : [ وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره: عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ].
قال المؤلف رحمه الله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً) هذه معطوفة على قوله: (ونؤمن بملك الموت)، وهذا المقطع من هذه الرسالة فيه ذكر ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيما يتعلق باليوم الآخر، وتقدم لنا أن اليوم الآخر هو كل ما أخبر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، ومن أول ما يكون بعد الموت ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من العذاب والنعيم الذي يكون للناس في قبورهم، فإن الناس في قبورهم معذبون أو منعمون، يقول رحمه الله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً) أي: نؤمن بعذاب القبر، (لمن كان له أهلاً) أي: لمن كان له مستحقاً، واكتفى بذكر عذاب القبر؛ لأنه محل إنكار من أنكر من المعتزلة وأشباههم الذين أنكروا عذاب القبر، وعذاب القبر ثابت ثبوتاً لا مرية فيه، وقد دلت الأدلة على عذاب القبر ونعيمه، أما الكتاب ففيه من الأدلة ما تقدم ذكر بعضها، ومن ذلك قول الله جل وعلا: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:45-46]، ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [غافر:46]، فالعرض قبل قيام الساعة: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، وأما السنة فإن الأحاديث في عذاب القبر متواترة لا ينكرها إلا منكر، فأدلة ثبوت عذاب القبر في السنة مستفيضة قد بلغت حد التواتر، واشتهر ذلك عن الصحابة اشتهاراً لا يمكن إنكاره، ففي كلامهم ما يدل على إيمانهم بأن القبر محل للعذاب والنعيم مما لا يمكن دفعه؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله:(على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله عنهم) فقول المؤلف رحمه الله: (وعن الصحابة رضي الله عنهم) ليس فيه أن ثبوت ذلك إنما كان عن طريق الصحابة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كسائر الأمة يتلقون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس قولهم حجة لكن إجماعهم حجة، وليس قول أحدهم حجة إلا من جعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله متبعاً، وجعل له سنة متبعة كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون المهديون، فإن لهم من الخصوصية ما ليس لغيرهم، لكن قوله رحمه الله: (وعن الصحابة) أي: أن هذا الأمر تلقي عن الصحابة تلقياً مستفيضاً حتى صار مجمعاً عليه عندهم، فهو كما لو قال: على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليه الأمة، فإنه قد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على نعيم القبر وعذابه، ومن ينكره إنما ينكره بعقله، وليس له دليل وليس له مستند يعتمد عليه في نفي العذاب والنعيم في القبر.
واعلم أن العذاب والنعيم في القبر غالبه على الروح، وقد ينال البدن من ذلك شيء، ودليل أن البدن يناله من التعذيب والتنعيم شيء ما جاء في ضمة القبر، وهو أن القبر ينضم على صاحبه حتى تختلف أضلاعه، فدل ذلك على أن البدن يناله مما ذكر في القبر من نعيم وعذاب، وهذه الضمة كتبها الله على كل أحد، (لو سلم منها أحد لسلم منها
القسم الأول: عذاب دائم لا انقطاع له، وهذا عذاب أهل الكفر والشرك، وقد يكون لبعض أهل المعاصي ممن عظمت ذنوبهم واشتدت خطاياهم، أما دليل دوامه فقول الله جل وعلا: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:45-46]، إلى متى؟ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [غافر:46]، فدل ذلك على أن هذا العرض وهذا العذاب مستمر بهم، ويدل له أيضاً حديث ابن عباس في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين ثم قال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه -وفي رواية: لا يستتر- من البول)، وهذا فيه عقوبة أهل المعاصي؛ لأنه إنما ذكر معصيتين، ولو كان عندهما كفر لاستقل بالذكر، ولما كانت هذه المعاصي موجبة لهذا العذاب الدائم، لكن الذي يظهر أنهما قبرا رجلين مسلمين، وعلى كل حال الشاهد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ جريدة رطبة فوضعها في القبر، ثم لما سئل عن ذلك قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)، فدل ذلك على استمرار العذاب، وأن ما جرى ببركة وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الجريدة الرطبة هو مجرد تخفيف لا رفع.
القسم الثاني: عذاب منقطع، وهو الذي يكون لأهل السيئات والمعاصي، فيعذبون بقدر ما يكون معهم من السيئات. ثم هذا التعذيب الذي يكون في القبر -نسأل الله السلامة منه- يخفف به عن أهل الإيمان وأهل التوحيد، فلا يؤاخذون بسيئاتهم يوم القيامة، ويكون ما نالهم من عذاب القبر مكفراً لهم، حاطاً لسيئاتهم وخطاياهم، كما أن التنعيم والتعذيب في القبر متفاوت تفاوتاً عظيماً لا يدرك حده؛ وذلك بتفاوت أعمال الناس في الصلاح والفساد.
الجواب: نعم، يجري له ما ذكر من العذاب إن كان مستحقاً للعذاب، ومن النعيم إن كان مستحقاً للنعيم، ويجري له ما ذكر من سؤال منكر ونكير.
ذكر ذلك ليرد على المنحرفين من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون: إن البعث ليس بعثاً للأجساد، إنما هو بعث للأرواح فقط، وأما بعث الأجساد فليس كائناً ولا واقعاً.
إذاً: ذكر البعث في جملة اعتقاد أهل السنة والجماعة ليرد على من أنكر بعث الأجساد، وهم الفلاسفة الذين قالوا: إن ما أخبرت به الملائكة إنما هو تخييل، يعني وهم وخيال ليس له حقيقة، قالوا: والبعث لا يكون للأبدان إنما يكون للأرواح ، وعلى هذا ابن سيناء ومن سار في طريقه من المتفلسفة المنتسبين للإسلام، فإنهم ينكرون ما أخبرت به الرسل من بعث الأرواح والأبدان، وأنه تعاد الأرواح إلى الأجساد، ويقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وهذا يدل على البعث للجسد والروح، وبهذا البعث يكتمل اقتران الأرواح بالأبدان؛ لأن اقتران الأرواح بالأبدان متفاوت؛ ففي الدنيا الحكم للبدن والروح تابع، وفي البرزخ الحكم للروح والبدن تابع، وفي الآخرة يكتمل اقتران الروح بالبدن، فما يكون من نعيم للبدن ينال الروح منه نفس النصيب، وكذلك العكس، لكمال الاقتران بين الأرواح والأبدان يوم القيامة.
هذا البعث ما حكمته؟ ما غايته؟ ما المراد منه؟ هو ما ذكره رحمه الله بقوله: (وجزاء الأعمال يوم القيامة) أي: ونؤمن بجزاء الأعمال يوم القيامة؛ لأن البعث ليس لمجرد البعث، بل هو ليلقى الإنسان مقابل عمله، فقول المؤلف رحمه الله: (جزاء الأعمال)، جزاء في اللغة هو الغنى والكفاية، وهو ما يكون مقابل العمل، وقوله رحمه الله: [الأعمال] جمع عمل، والعمل يطلق على العمل الصالح والعمل السيئ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [طه:112]، فالعمل يطلق على العمل الصالح والعمل السيئ، والغالب في العمل أن يكون مقترناً بنية خلافاً للفعل، فالفعل قد لا يكون بنية؛ ولذلك لم يذكر الله جل وعلا في كتابه الإثابة على الأفعال إنما الإثابة للأعمال، والعمل يصدق على القول وعلى الفعل، وعلى العمل الضار والعمل النافع، وعلى عمل الجوارح، كل هذا يصدق عليه أنه عمل، وجزاء الأعمال أي: ثوابها، ومقابلها الإساءة بمثلها، وذلك يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، وسمي يوم القيامة بهذا الاسم؛ لأنه تقوم فيه الأبدان لرب العالمين، قال الله جل وعلا: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، وأيضاً سمي بيوم القيامة لأنه يقوم فيه الأشهاد، فالأشهاد يقومون ويشهدون، ولأنه تقام فيه الموازين، فيوزن فيها الأعمال والعمال كما سيأتي.
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الميزان ميزان حقيقي له كفتان يزن الله به الأعمال، ودلت الأدلة أنه توزن السجلات، وأنه يوزن العمال، فالوزن ورد أنه للعمل وهذا هو الأصل، وورد أنه للسجلات الحاوية للأعمال، وورد أنه للعاملين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ابن مسعود لما ضحك الصحابة من دقة ساقيه: (إنهما أثقل في الميزان من جبل أحد)، وهذا الثقل ثقل الأعمال، وأما الكفار فقال الله جل وعلا عنهم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، فيأتي الرجل العظيم من أهل الكفر لا يزن عند الله شيئاً؛ لأن الوزن في حقيقته للعمل، وقد أنكر الميزان المعتزلة وأشباههم حيث قالوا: الميزان كناية عن العدل، فالمراد بالميزان عندهم في قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، العدل، وهم في هذا كاذبون محرفون للقرآن.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
الجواب: الفضل الخاص ما يلزم منه التعليل والقياس، ومسألة الفضائل والأجور ليست مما يدخل في القياس، فإذا قلنا: إن الشهيد لا يفتن في القبر للأدلة على ذلك، لا يلزم منه أنه لا يفتن الصدِّيق، بل النص ورد في الشهيد، وهذا فضل خاص، والفضائل وأجور الأعمال ليست محل قياس لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر