أما بعد:
أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ونسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا البيت من بيوته على غير أرحام تربطنا، ولا مصالح تجمعنا، أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم موضوع جليل، فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام كان قمة سامقة تتقاصر دونها القمم، وكانت مكانته رفيعة تتوارى معها المكانة والمنزلة مهما علت وسمت، وكما نرى النجم مضيئاً مشعاً وله جماله وبهاؤه فإذا أشرقت الشمس لم يعد له أثر، فكذلك كل عظمة وكل قدر وكل مكانة لأحد من الخلق هي دون مقام وعظمة ومكانة رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ولا شك أنه شرف عظيم لنا جميعاً المتحدث والسامع أن نطرق مثل هذا الموضوع، نشنف به آذاننا، ونسعد به نفوسنا، ونشرح به صدورنا، فإن ذكر الله جل وعلا وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة حق ومقام وقدر ذات الله سبحانه وتعالى، والوقوف على مكانة وقدر رسوله صلى الله عليه وسلم مما يحيي القلوب، ويهذب النفوس، ويقوي العزائم، وقد أسلفنا حديثاً في مفتتح هذه السلسلة المباركة عن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره شعبة عظيمة من شعب الإيمان، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة، بل منزلتها ورتبتها فوق منزلة ورتبة المحبة؛ وذلك لأن كل محب ليس معظماً، فأنت ترى الوالد يحب ولده ولكنه حب تكريم وليس حب تعظيم، وحب حنو ورحمة وليس حب إجلال وتقدير وتبجيل.
فلذلك إذا جمع العبد المؤمن تجاه رسوله صلى الله عليه وسلم المحبة التي أسلفنا القول فيها ثم توجها وكملها أو أسسها وبناها على قاعدة التعظيم والتوقير للمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكون قد نال حظاً عظيماً وشرفاً كبيراً، وأتى على أمر من الأمور التي هي من أصول إيمانه، وقواعد إسلامه، ومنطلقات التزامه، ولذلك ينبغي لنا أن نفرح وأن نسعد وأن نفخر بما وفقنا الله جل وعلا إليه من الحديث في مثل هذا الموضوع، والله جل وعلا قد نادانا وذكرنا في سياق آياته إلى أهمية تعظيم وتوقير وتعزير رسوله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157] فالمعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زمرة المفلحين بإذن الله جل وعلا.
والتعزير كلمة معناها التعظيم والنصر، والتوقير كما جاء في معجم مقاييس اللغة: أصل يدل على ثقل في الشيء، فإذا قلت: إنك توقر فلاناً فمعنى ذلك أنه ذا ثقل وذا مكانة، ومنه الوقار: وهو الحلم والرزانة التي تدل على رزانة الإنسان وعدم خفته وطيشه، ووقرت الرجل إذا عظمته، ومنه قوله جل وعلا: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9] كما أسلفنا، والتوقير أيضاً بمعنى: التبجيل والتعظيم.
قال ابن جرير في تفسيره: فأما التوقير والتعظيم فهو الإجلال والتفخيم.
وقال ابن تيمية رحمه الله: التوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه من كل ما يخرجه عن حد الوقار، ولذلك تأتي هذه الكلمات كلها بمعنىً مترادف.
أحبتي الكرام! إن الحديث عن عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم حديث لا تمكن الإحاطة به، كما لا يمكن أن يجمع ماء البحر في كأس؛ فإن جوانب عظمته، ووجوه رفعة قدره وصور علو مكانته أكثر وأعظم وأشهر وأوسع من أن يحيط بها حديث في مثل هذا المقام، بل قد صنف العلماء ودونوا وتوسعوا وجمعوا وأوعوا، وما جاء ما فعلوه كذلك على ما كان وما ينبغي أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك عندما طرقت هذا الموضوع وجدت أنه لا بد لنا أن نقتصر ونختصر منه ما لعله يفي بهذا المقام، ويتناسب مع هذا الوقت، ومن هنا أردت أولاً أن نبدأ بشيء يتعلق بالمعنى والدلالة، وبالفائدة والأثر فهذا الذي أوجزناه من المعنى مقصودنا به بيان الكلام الذي يأتي عن هذه العظمة ووجوهها، ثم إن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين أساسين اثنين سنقسم الحديث عنهما لاحقاً:
عظمة في ذاته الشريفة عليه الصلاة والسلام، وما كان له من الخصائص، وما عرف به من الشمائل، وما سجلته سيرته من المواقف، وما سمت به شخصيته في كل جوانب الحياة المختلفة.
وجانب آخر -وهو في تصوري أعظم وأكبر- وهو جانب عظمة الإنجاز والثمرة، قد يكون لي خصيصة، قد يكون لي شرف نسب، قد يكون لي كثير علم، قد يكون عندي بعض الذكاء والفطنة، لكن ذلك وإن كان من وجوه العظمة لا يغني شيئاً ما لم يثمر ذلك كله نتيجةً وإنجازاً.
وفعله عليه الصلاة والسلام وأثره الباقي إلى قيام الساعة أعظم وجوه عظمته كما سيأتي.
الفائدة الأولى: المحبة والإجلال، فإنك لن تعرف شخصاً وتدرك عظمته، وتعرف علمه، وتلم بجوانب سماحته وخلقه وفضله، إلا غرست في قلبك محبته ومالت نفسك إليه.
الفائدة الثانية وهي مهمة أيضاً: التأثر والاقتداء، فالنفوس بطبيعتها مجبولة بالاقتداء والتأسي بالعظماء، ألا ترى الكثرة من البشر، لكنك في كل جيل، وفي كل أمة، وفي كل بلد ربما لا تجد إلا أعداداً قليلة هي التي تذكر في الناس وتشتهر بينهم، ويدور حديث الناس عنهم، أولئك الذين يتصدرون الناس لما لهم من وجوه العظمة، ولما لهم من بصمات وآثار الإنجاز والتأثير والفائدة والنفع، فحينئذ يكونون رواداً قواداً والناس على آثارهم مقتدون: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في الكتب السابقة، لا شك أن فيه تنويهاً وإشادة به، وتشريفاً وتكريماً له صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله في خلق آدم: فجعل الله خلق آدم وهو أبو البشر متأخراً عن خلق كثير من المخلوقات من الملائكة والجن وغيرهم، ولا يكون المؤخر إلا معظماً، ثم ذكر وجوه العظمة في خلق آدم.
والرسل والأنبياء صفوة الخلق قال عز وجل: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] ومع ذلك هذه الصفوة لا شك أن خاتمها هو صفوة الصفوة عليه الصلاة والسلام، فلما جعله الله خاتم الأنبياء فمعلوم أن الخاتم هو الأفضل والأكمل، فكانت نبوته وكانت شخصيته وكانت عظمته أتم وأكمل شيء في سلسلة ذهبية مشعة مضيئة من رسل الله وأنبيائه عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، وإن كان سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بتواضعه يقول: (لا تفضلوني على الأنبياء) ، وقال: (لا تفضلوني على يونس بن متى) لكنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة)، هذا بناء ناقص، وبقي شيء يكمله ويجمله، قال عليه الصلاة والسلام: (فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) وهذا من وجوه العظمة.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم الله جل وعلا يقول الله في نبوته ورسالته: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28] ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] بعثه الله إلى الثقلين من الإنس والجن، كل البشر منذ بعثته وإلى قيام الساعة هم من أهل أمة الدعوة التي توجه إليها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعون إلى الإسلام وإلى القرآن وإلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جابر بن عبد الله المشهور قال عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ..) إلى آخر الحديث.
إذاً: لن تكون هذه المهمة الواسعة لكل الناس، ليس هو نبياً ولا رسولاً لقوم معينين، ولا لرقعة معينة، بل للعالمين.
إذاً: هذه عظمة تتناسب مع هذه المهمة الكبيرة التي لا تحدها الجغرافيا، ولا يقطعها الزمن، ولا تتعلق ببيئة ولا بلغة ولا بثقافة، بل رسالة شاملة عامة أنيطت بخير الخلق صلى الله عليه وسلم، وهو لها أهل، ولعظمتها كان هو كذلك عظيماً كعظمة ما أسنده الله عز وجل إليه، وما كلفه به، وما ابتعثه لأجله في هذه البشرية.
لقد أقسم الله بحياته فقال جل وعلا: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر هذه الآية، رواه البيهقي وابن أبي شيبة .
ونحن نعلم وندرس في التفسير: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:1-2] نقول: هذا قسم، والله عز وجل له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، ولا شك أن هذا القسم للفت النظر إلى تعظيم هذه المخلوقات التي أقسم الله بها، فكيف وهو يقسم بحياة محمد صلى الله عليه وسلم؟! إن في ذلك دلالة على تعظيم الله لهذه الحياة ولصاحبها عليه الصلاة والسلام.
وأقسم الله عز وجل ببلده فقال سبحانه وتعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1-2] .
وأقسم الله سبحانه وتعالى بالأمور المتعلقة به كما في قوله: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3] القسم هذا كان لنفي القطيعة التي زُعمت عندما فتر الوحي قليلاً في أول ما نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومن القسم بالأمور المتعلقة به أيضاً قوله عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2] هذا القسم متعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه عظمة لا تخفى ولا تحتاج إلى تعليق.
فنحن إذا جئنا لندخل في الإسلام أو لنذكر الشهادة قلنا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وإذا ذكرنا توحيد الله وإخلاص العبادة ذكرنا نبوة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذا جئنا في الصلاة نصلي فإننا نذكر الله ثم نصلي بالصلاة الإبراهيمية التي فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكاد تجد ذكراً إلا وفيه ذكر لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يمر بك أيها المسلم يوم إلا وأنت تذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام، في الأذان تذكره، في الصلاة تذكره، في كثير من الأذكار تذكره، كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم صليت عليه مع من يصلي عليه، فذكره مما لا يكاد ينقطع منه المسلم بحال من الأحوال، وهذا من عظمة ما أكرم الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن تعظيمه تقديمه لاسمه إذا ذكر الأنبياء في القرآن كما في قوله جل وعلا: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ [النساء:163] إلى آخر الآية وكذلك قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى [الأحزاب:7] وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم.
أما حفظه عليه الصلاة والسلام فقد قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] كان النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يحرس، كان الصحابة يتناوبون حراسته ليلاً ونهاراً؛ خوفاً عليه من الأعداء، فلما نزلت هذه الآية رفع الحرس.
ومن لطائف ما ذكر من محبة وتعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر وتزوج
كذلك قال الله سبحانه وتعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:94-96].
أما حفظ الله جل وعلا لكتابه ففي قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، أما حفظ السنة التي بينت القرآن فهي تبع لذلك، وهذا لم يكن إلا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، أهل الكتاب قال الله عز وجل عنهم: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44] معنى ذلك أن الأحبار أوكل إليهم حفظ كتاب الله، فما الذي جرى؟ قال الله عنهم: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187] ، أما كتاب الله الذي أنزله الله على رسوله عليه الصلاة والسلام وهو القرآن فقال عنه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
الرسل والأنبياء في القرآن ذكروا بالنداء بأسمائهم: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] .. يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ [هود:48] .. يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:104-105]، ولا تجد في القرآن: يا محمد! أبداً إنما يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64] .. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [المائدة:67] .. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ [الأحزاب:28] خطاب الله جل وعلا لرسوله فيه دلالة على عظمة قدر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الخطاب الرباني كلام رب العالمين سبحانه وتعالى يظهر فيه هذا التعظيم، فأي تعظيم أعظم من تعظيم الله سبحانه وتعالى؟! وأي مكان ومنزلة يمكن أن تستنبط بأكثر مما تستنبط من الآيات القرآنية التي تنزلت في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في ندائه ومخاطبته؟!
لكن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكرت الأقوال عنه فإن الرد لم يأت منه، وإنما الرد من الله عز وجل فهو الذي رد عنه، وأجاب عنه، وهو الذي دافع عنه سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:22-28] .
وكذلك في سورة الحاقة تقرءون الآيات وفيها الرد والإجابة الربانية، وفي هذا إشارة إلى رفعة ومكانة وقدر وعظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومنّ الله سبحانه وتعالى بهذه البعثة عليهم لما فيه نجاح أمرهم في دنياهم وفلاح أمرهم في أخراهم بإذنه سبحانه وتعالى، والله جل وعلا يقول: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] واستطراداً أقول: انظروا إلى الآيات التي جاءت في سياق القول الرباني، ففيها تقديم التزكية على التعليم، والآيات التي جاءت في سياق القول البشري في قصة إبراهيم عليه السلام قال: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] ؛ لأن التزكية في المنهج الرباني هي أولى من العلم، وهي الثمرة التي ينبغي أن يركز عليها أهل العلم؛ لأن العلم إذا لم يثمر طهارة قلب وزكاة نفس فليس بعلم نافع للإنسان، بل قد يكون حجة عليه نسأل الله عز وجل السلامة.
أذكر أيضاً هنا حديثاً لـعبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه حيث يقول: (لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قسم الأموال في المؤلفة قلوبهم من مسلمة الفتح، وأعطاهم حتى يتألف قلوبهم ولم يعط الأنصار كما كان يعطيهم، فوجد بعض الأنصار في نفوسهم شيئاً، لماذا أعطى الرسول هؤلاء ولم يعطنا؟ كأنهم رأوا أنه أعطاهم لقرابتهم منه؛ ولأنهم من قريش أو نحو ذلك، وعلم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فجاء إلى الأنصار وقال لهم: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم وموجدة وجدتموها علي؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟ وكانوا كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ، ثم قال عليه الصلاة والسلام متأدباً ومعطياً الحق من نفسه لهم: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله؟! أجيبوني! قالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: أما إنكم لو شئتم لقلتم: ألم تأتنا فقيراً فأغنيناك؟ وطريداً فآويناك؟ أما إنكم لو قلتم لصدقتم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً وسلكت الأنصار وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الناس دثار، والأنصار شعار، ففرح الأنصار وبكوا حتى اخضلت لحاهم من الدموع) وذلك من تأثرهم، وهذا من بيان وجه منة الله عز وجل على الخلق ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف كانت منته ظاهرة في قوله لأصحابه رضوان الله عليهم، ومنته أعظم على من جاء بعد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
الله عز وجل يقول: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] والرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيما رواه الحاكم في المستدرك وصححه، والطبراني والبزار من حديث أبي هريرة: (يا أيها الناس! إنما أنا رحمة مهداة) وفي حديث أبي موسى قال: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها).
وأعطي أيضاً عليه الصلاة والسلام أنواعاً كثيرة من وجوه الشفاعة لأمته صلى الله عليه وسلم في أحاديث الشفاعة الطويلة، ولا يسمح المقام بذكر ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند مسلم : (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع) صلى الله عليه وسلم.
هذه وجوه أخرى من وجوه العظمة، وهناك وجوه خاصة بعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة، فمن عظمته في يوم القيامة حمل لواء الحمد، وأنه أول من يفتح له باب الجنة، وأول من يدخل الجنة عليه الصلاة والسلام، وهي نصوص كثيرة لعلكم ترجعون إليها وتطالعونها.
الوجه الأول: العظمة في سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، منذ أن نزل قوله جل وعلا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] ثم تلا ذلك: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:1-3] إلى قوله جل وعلا: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] قام النبي عليه الصلاة والسلام فلم يجلس، وتحرك فلم يسكن، ونطق فلم يسكت، وجاهد فلم يداهن، كانت حياته من أولها إلى آخرها دعوة، وحمل أمانة الله، وبلغ رسالة الله، وأدى أداءً عظيماً هو أجلى ما يكون في صورة الآية القرآنية التي تأتي في الكلام على الرسل والأنبياء: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35] .
ثم إذا رأينا سمو الدعوة في جانب آخر غير الجهد والجهاد والبذل والتضحية؛ فإن نوحاً عليه الصلاة والسلام ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً؛ لكن كل الابتلاء الذي مر بالرسل والأنبياء، وكل الجهد الذي بذله الرسل والأنبياء كله موجود في سيرة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سيرته ما هو جامع لكل ما تفرق من دعوة غيره من الأنبياء من إسرار وإعلان، ومن دعوة ملأ ودعوة خواص، ومن موافقين ومخالفين، ومن ابتلاء بالهجرة، أو ابتلاء بالقتال، أو ابتلاء بالكيد، أو ابتلاء بالاستهزاء، أو ابتلاء بالإغواء، أو ابتلاء بالإغراء، كل ما تفرق في سير الأنبياء جمع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كما نعلم على ذلك القدر العظيم في دعوته عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك سموه في دعوته على حظوظ نفسه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي سبى قلوب الناس وخطف أبصارهم وأمال نفوسهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، والأحداث في سيرته كثيرة جداً أذكر منها على وجه السرعة: الرجل الذي جاء والنبي عليه الصلاة والسلام نائم تحت ظل شجرة وأخذ السيف وقال: (ما يمنعك مني يا محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الله، فارتعد الرجل واضطرب قلبه وسقط السيف من يده فأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ) فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. واتفق عمير بن وهب رضي الله عنه قبل أن يسلم مع صفوان بعد بدر على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يدعي أنه يطلب أسيراً له، وهو يريد أن يغتال النبي عليه الصلاة والسلام، فلما جاء قام عمر يستأذن ويقول: دعني أضرب عنقه، ثم أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به فأسلم، وقال: (خذوا أخاكم فعلموه دينه).
وثمامة بن أثال أسر، وتمكن النبي صلى الله عليه وسلم منه، وهو سيد بني حنيفة، وربطه النبي صلى الله عليه وسلم في سارية في المسجد، ثم قال: (مالك يا
وانظر إلى مسائل أخرى في سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام في إيثاره للحق، وفي تأليفه للقلوب عليه الصلاة والسلام، والمواقف كثيرة يضيق المقام عن حصرها.
كذلك كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل؟! كيف كان رد أهل الطائف عليه عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؟! لقد ردوا عليه بأقبح رد، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم يرمونه بالأحجار حتى دميت أقدامه الشريفة عليه الصلاة والسلام.
وانظروا كيف كان شأنه يوم أحد لما دمي وجهه الشريف، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام، وهو يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
ويوم أن جاءه ملك الجبال وقال: (أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله ).
كانت الدعوة كل شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت مع كل خفقة قلب ومع كل دفقة دم في عروقه، فدعوته ورسالته ودينه كان هو أوكد همه وأعظم شغله، لقد كان ذلك في كل حركة وسكنة، وفي كل لفظة وسكوت، كان كل همه كيف يغرس تلك الدعوة في القلوب!
خذوا هذا الموقف الأخير: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على جار له يهودي، وابنه غلام في مرض الموت فقال له: قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله حتى تنجو من النار، فنظر الغلام إلى أبيه فقال له أبوه: أطع أبا القاسم -حتى الذين لم يؤمنوا كانوا يرون عظمته صلى الله عليه وسلم- قال: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام وخرج ثم لم يلبث أن مات، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد الذي نجاه بي من النار) فرح عليه الصلاة والسلام، انظروا إلى فرحه يفرح بهداية الناس، نحن اليوم إذا رأينا مخطئاً دعونا عليه بالويل والثبور والعظائم، واكفهرت وجوهنا في وجهه، وأصبحنا عوناً للشيطان عليه، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان يفتح صدره وقلبه للناس.
في مسند الإمام أحمد لما جاء ذلك الشاب يقول: (يا رسول الله! ائذن لي في الزنا)، أسلم ولكنه كان يمارس هذه الشهوة، وتعرفون قوتها وتمكنها من النفس، ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اغرب عن وجهي، لو جاءنا أحد اليوم وقال هذا الكلام لأحدنا لقال له على أقل تقدير: ألا تستحي؟! كيف تقول لي مثل هذا الكلام؟! لكنه عليه الصلاة والسلام قال: (أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟!... والناس كذلك لا يرضونه...، ثم وضع يده الشريفة على صدره ودعا له، قال الشاب: فما كان شيء أبغض إلي من الزنا).
انظر إلى هذا السمو العظيم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم!
يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه وقد ولي أمر مكة: (كنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم والله ما لنا طعام إلا ورق الشجر في أيام الحصار، يقول: وما منا اليوم إلا وهو أمير على مصر من الأمصار) خرجوا قادة عظاماً، خرج الحزم في قيادة أبي بكر ، وخرجت عدالة عمر ، وخرج حياء عثمان ، وخرجت شجاعة علي ، ومن أعظم وجوه عظمته صلى الله عليه وسلم أنه كان يعرف الرجال؛ فلذلك قال لـعمر : (لو سلك
يكفيه شعب من الأموات أحياه
أي عظمة أفضل من عظمة تخريج الرجال وصناعة الرجال؟! وليس هناك أحد صنع مثل ما صنع رسول الله عليه الصلاة والسلام في مثل هذا.
فمن أعظم وجوه العظمة: هو ما أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه البشرية من أعيان أصحابه رضوان الله عليهم، وما كانوا عليه من إيمان وتقىً وهدى وصلاح، وما كانوا عليه من قوة وحسن عمل حتى شرقوا في الأرض وغربوا، وفتحوا القلوب والبلاد وأصلحوا العباد، وكان خيرهم رضوان الله عليهم أساساً مازلنا إلى يومنا هذا نتفيأ ظلاله، وننتفع بما صنعوه خدمة لدينهم وتبليغاً لدعوتهم واتباعاً لرسولهم صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك استمساكاً بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وهذا باب واسع، وهو حري وجدير أن يكون لافتاً للنظر، بل إن بعضاً من غير المسلمين، وخاصة من المعاصرين المستشرقين أكثر ما يذكرونه في وجوه عظمته صلى الله عليه وسلم أنه استطاع أن يحول أمة عابثة لاهية قصارى ما عندها حروب فيما بينها، وليس عندها طموحات ولا آمال؛ إلى أمة ملكت ثلثي المعمورة التي كانت معروفة في ذلك الوقت، في زمن وجيز من عمر الزمان، حتى قام عقبة بن نافع يخاطب البحر ويقول: لو أني أعلم أن وراءك أرضاً وقوماً لخضتك في سبيل الله عز وجل.
وحتى بر الأمير المسلم قتيبة بن مسلم بقسمه وجاءوا له بتراب من الصين ليطأ عليه بقدمه إبراراً لقسمه.
وحتى وقفت جيوش المسلمين على أبواب النمسا في القرون القريبة الماضية، ودخلوا في عهد عبد الرحمن الغافقي التابعي إلى جنوب فرنسا.
إن هؤلاء الرجال العظام الذين خرجتهم مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم وأنجبهم الصحابة رضوان الله عليهم هم أعظم ثروة وأعظم دليل على عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال الطبري في تفسيره لهذه الآية: هذا نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع وألا يقولوا: يا محمد؛ لأن بعض الأعراب أجلاف كانوا إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم دعوه وهو في حجراته في عز الظهيرة في وقت الراحة: يا محمد! يا محمد! اخرج إلينا، فنزلت الآيات: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] .
وأيضاً قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] لا ينبغي لك أن تسارع إلى الأشياء، وأن تبدي الآراء قبل أن تعرف ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الآيات الجامعة في التوجيهات قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الأحزاب:53] فكلما يدخل في هذه الدائرة ممنوع منه.
وكذلك قوله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57] قال ابن تيمية رحمه الله في الاستدلال بهذه الآية: يستدل بها على وجوب قتل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابن تيمية ألف كتاباً مشهوراً اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ودلل فيه على أن من اعتدى على رسول الله عليه الصلاة والسلام بالشتم والعياذ بالله فإنه مباح الدم؛ لأن هذا أمر عظيم وفيه دلالات كثيرة منها:
أن الله عز وجل قرن أذاه بأذاه.
وأنه قرن طاعته بطاعته.
وأنه فرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى بقية المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] ورأيت في هذه الآية كلاماً نفيساً لبعض العلماء قالوا: ولا يجوز تبعاً لذلك رفع الصوت واللغط عند قبره صلى الله عليه وسلم، فإن حرمته ميتاً كحرمته حياً؛ ولذلك لما جاء اثنان من أهل الطائف إلى المدينة في عهد عمر، ورفعا أصواتهما عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بهما عمر فجيء بهما قال: (من أين أنتما؟ قالا: من الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً؛ ترفعان أصواتكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألم تسمعا قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2]؟).
وقد كان ثابت بن قيس خطيب النبي عليه الصلاة والسلام جهوري الصوت، ولما نزلت هذه الآية اعتزل مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، فسأله عن ذلك فقال: إني جهوري الصوت أخشى أن أتكلم فيعلو صوتي على صوتك فيحبط عملي فأهلك، فكانوا يراعون مقام وقدر وعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الذي ينبغي أن يكون في حياتنا.
ومن تعظيم القلب استشعار هيبته عليه الصلاة والسلام، وجلالة قدره، وعظيم شأنه، واستحضار محاسنه ونحو ذلك.
ثم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم باللسان، وذلك بحسن ذكره، وبدوام الصلاة عليه، والثناء عليه عليه الصلاة والسلام.
ثم تعظيم الجوارح، وأعظمه العمل بشريعته، واتباع سنته، والتزام أوامره ظاهراً وباطناً.
ومن ذلك توقير أصحابه رضوان الله عليهم، قال النووي : الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع؛ ولذلك من انتقص أحداً من أمهات المؤمنين، أو أحداً من الصحابة فإنه مغموز في دينه واعتقاده؛ لأنه طعن فيمن زكاهم الله عز وجل، وفيمن هم من ذوي قرابة النبي عليه الصلاة والسلام، وحسبك أن كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بقين في عصمته بعد أن مات عليه الصلاة والسلام، فلا يطعن في أمهات المؤمنين إلا من زاغ قلبه نسأل الله عز وجل السلامة!
وروى البيهقي في شعب الإيمان (أن الصحابة كانوا إذا كلموا الرسول صلى الله عليه وسلم خفضوا أصواتهم، ومنهم
كذلك في حديث البراء يقول: خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير من السكون والهيبة والصمت؛ إجلالاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
وعن بريدة بن الحصيب فيما رواه البيهقي قال: كنا إذا قعدنا عند الرسول صلى الله عليه وسلم لم نرفع رءوسنا إليه إعظاماً له.
وهذا عمرو بن العاص يقول: لم أكن أستطع أن أنظر إليه عليه الصلاة والسلام هيبة له.
وكانوا يقولون: ما كان أحد ينظر إليه صلى الله عليه وسلم ويملي عينه من نظره إلا أبو بكر وعمر وقلة من الصحابة، أما الباقون فلا يصنعون ذلك من هيبته.
وهذا ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام صغير ينام عند خالته زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فيقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم حذاءه، وإذا به يتأخر قليلاً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما لك أجعلك حذائي فتتأخر؟! قال
وفي حديث أنس : (أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير)، أما الآن فبعض الناس يأتيك، ويقرع عليك الباب بشدة، ويصيح عليك، ليس هناك أدب ولا توقير ولا احترام.
وروى مسلم من حديث أنس قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحالق يحلقه ويطيف به، فما تقع شعرة إلا في يد رجل) أخذوا شعر النبي عليه الصلاة والسلام.
وكذلك لما احتجم عليه الصلاة والسلام أخذ ابن الزبير الدم وشربه كما في الحديث المشهور.
وكان الصحابة في المدينة إذا رزقوا بالأولاد يذهبون بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكهم ويبرك عليهم ويدعو لهم بالبركة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء؛ حتى يغمس النبي صلى الله عليه وسلم فيها يده، ثم يرجعون به إلى ذويهم.
هذه وجوه من تعظيم الصحابة لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يعظم مقام وقدر ومكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبنا، وأن يجعلنا معظمين له في قولنا، وفي اتباعنا لسنته والتزامنا بهديه عليه الصلاة والسلام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: كلمة (أولى) نعرفها جميعاً، أنا أولى بهذا الشيء يعني: أحق به، بمعنى: أن النبي عليه الصلاة والسلام أحق بنا من أنفسنا، لو كان لنا مال فهو أحق به منا، وكذلك نفوسنا التي بين جنبينا هو أحق بها منا، وهذا ليس من قولنا، وإنما هو من قول الله عز وجل: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهذا أمر ظاهر.
الجواب: ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام جائز في حقه قطعاً، وهو دلالة لغوية بلاغية تربوية نفسية أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشعر الأنصار بمكانتهم وبقربهم منه وبمكانهم عنده؛ حتى يزيل ما خالط نفوسهم من ذلك الحزن، لما رأوا تقسيمه للغنائم في غيرهم، فلا ينبغي استشكال مثل هذه الأمور التي أحياناً ترد؛ لأننا ليس في قلوبنا ونفوسنا من التعظيم والتوقير، وليس في أذهاننا من الفهم والإدراك ما ينبغي أن نكون عليه على الوجه الصحيح.
الجواب: أبلغ الصيغ وأكملها وأتمها الصلاة الإبراهيمية، وهي التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة بالروايات المختلفة، كرواية ابن مسعود وغيره رضي الله عنه، وأما ما وراء ذلك مما فيه تعظيم مطلق فلا بأس به على ألا تكون بصياغة معينة، بعض الناس يقول: هذه صلاة فلان، وهذه صلاة فلان، ويجعلونها على صيغة معينة ويقولون: لابد أن تقول: صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة، لا، ما تعبدنا الله بذلك، ولا تعبدنا بذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن لنا أن نقول: اللهم صل على رسول الله عليه الصلاة والسلام ما تعاقب الليل والنهار، وما اختلف الملوان، وأمور تكثير الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا بأس بها إن شاء الله تعالى.
الجواب: لكل شعور تصديق من العمل.
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
هذا ضرب من الضعف في اليقين والإيمان، وضرب من الضعف في العزيمة والإرادة، ما دمنا عرفنا سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه يجب علينا تعظيمه، فما بالنا لا يقودنا ذلك التعظيم الذي في قلوبنا وفي ألسنتنا إلى أفعالنا وأحوالنا؟!
الجواب: ليس هناك إشكال ولا تعارض، النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمر وفي يده صحف من التوراة، فضرب في صدره وغضب وقال: (أفي شك أنت يا
الجواب: القول الراجح أن آخر آية أنزلت من كتاب الله قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] وفي رواية عن ابن عباس : (أنها نزلت قبل وفاة النبي عليه الصلاة والسلام بتسع ليال)، وأنا أعلم وجه السؤال، حيث إنني ذكرت قوله: اقْرَأْ [العلق:1] إلى قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، ولم أقصد أنها آخر آية ولكن أقصد أن معنى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي: الموت، وهو إلى آخر نفس من أنفاسه عليه الصلاة والسلام، فكان مرتبطاً بدعوته وتبليغها للناس أجمعين، ولذلك في مرض موته وعند آخر لحظات حياته كان يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، لا تجعلوا قبري عيداً ..) إلى آخر ما هو معلوم مما كان من شأنه عليه الصلاة والسلام.
نسأل الله عز وجل لنا ولكم الأجر والمثوبة والنفع والفائدة، وأن يعلمنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً ينفعنا، وأن يطهر قلوبنا، ويزكي نفوسنا، ويصلح أحوالنا، ويرشد عقولنا، ويهذب أخلاقنا، ويحسن أقوالنا، ويصلح أعمالنا، ويخلص نياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر