ومثله قوله تعالى عن بلقيس: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23] فقوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لا يعني العموم المطلق، وإنما هو عموم بحسبه، يعني من كل شيء مما يؤتاه الملوك عادةً، من المال والخدم والحشم والأعوان والشرط وغير ذلك.
فقوله جل وعلا هنا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] هذا عموم لكنه بحسبه، ولهذا فهناك أشياء لا تفنى، وقد عدها بعض أهل العلم ثمانية، كما ذكر السيوطي:
ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم |
هي العرش والكرسي ونار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم |
(وعجب) يعني العظم الموجود في أسفل ظهر الإنسان، وذكر في بقية البيت الأشياء التي لا تفنى وهي الأرواح، واللوح والقلم، وغيرها:
فهذه ثمانية أشياء، وأما ما عداها فإنه كتب عليها الفناء والزوال، ثم استثنى وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] والآية إنما سيقت في مساق المدح فقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] ليس مدحاً، إنما يأتي المدح ويكمل إذا قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] فبعدما حكم بالزوال والفناء للمخلوقات على ظهر هذه البسيطة، استثنى وبين بقاء الله عز وجل فقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] ذلك أن الله عز وجل حي لا يموت، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: {أنت الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون} وقال الله عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] وذلك أن حياته عز وجل حياة كاملة تامة، وهي صفة لذاته بخلاف المخلوق فإن حياته حياة ناقصة، قد أفاضها عليه ربه جل وعلا، ومنحه إياها،فيسلبها منه متى شاء، ولهذا قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] وقوله: (ذو الجلال) فهذه صفة للوجه ولهذا جاءت مرفوعة بـ(ذُو)؛ لأنها صفة لـ(وجه) وهو فاعل وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] فهي صفة للوجه.
أنه وصف الوجه بقوله: ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] وهذا دليل على أنه صفة له جل وعلا.
ومنها:أنه أضافه إلى الذات- أضافه إلى ذاته العظيمة- فقال: وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] ولو كان الوجه هو الذات- كما قال بعض أهل البدع- لم يكن لإضافته إلى الذات معنى.
ومن الأدلة على أن الوجه غير الذات وأن الوجه صفة لله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عطفه على الذات، كما في حديث أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم} وذلك عند دخول المسجد، والحديث صحيح، فلو كان الوجه هو الذات، لم يكن لعطفه على الذات معنى، فلما عطف عليه عُلم أن الوجه صفة لله عز وجل وليس ذاته، وليس الوجه ذاته، فقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27].
قالوا:لأن البقاء هل هو خاص بالوجه أم لذاته- جل وعلا؟
الجواب: أنه ليس خاصاً بالوجه، بل لذاته سبحانه، قالوا:إذاً هذا دليل على أن الوجه
هو الذات وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] أي:يبقى ربك.
هذا كلام من؟
هذا كلام أهل البدع الذين أنكروا صفة الوجه، فيرد عليهم بأمور:-
منها:أن يقال إنه ذكر الوجه هاهنا وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] لأن إثبات بقاء الوجه يستلزم إثبات بقاء الذات، فحينئذ يكون المقصود بالوجه بقاء وجهه عز وجل، ويلزم من هذا بقاء ذاته.
الجواب الثاني: أن يقال:حتى على التسليم، بأن مقصود وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] أي:ويبقى ربك. فإن ذكر الوجه لله تعالى، لم يكن ليسوغ أو ليصلح لو لم يكن ثابتاً له في الأصل تعالى، فإن الإنسان يقبح منه مثلاً أن يقول: وجه الريح، لأن الريح ليس لها وجه، أو وجه الجدار؛ لأن الجدار ليس له وجه، فلما قال سبحانه: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] علم أن الوجه صفة يوصف الله تعالى بها، وتثبت له، فلهذا ذكره في السياق- هذا فضلاً عن أن هناك نصوصاً أخرى لا تقبل مثل هذا التأويل، وذلك كما في أحاديث -النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث الذي ذكرته: {أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم} وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهذا صريح في إثبات الوجه له تعالى.
ثم ذكر قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88] وهي كالآية السابقة، حكم الله تعالى فيها بالهلاك على كل شيء إلا وجهه، ففيها إثبات صفة الوجه له تعالى، وبقاء الوجه يستلزم بقاء الذات كما سبق، وذكر الوجه له حتى لو كان المقصود إلا ذاته، فذكر الوجه لم يكن ليسوغ لو لم يكن الوجه صفة ثابتة له تعالى، وهذه فائدة ينبغي أن تعرف في جميع الصفات، بمعنى أن أهل البدع قد يتمسكون بنص من النصوص، يؤولون الآية فيه على غير ما دلت عليه، فمثلاً يقولون:في قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] فإذا قلنا لهم: هذا دليل على إثبات صفة اليد، قالوا: لا، لأن الملك ليس في يده حقيقة، وإنما المعنى:في تصرفه وتدبيره.
فنقول:حتى لو سلمنا جدلاً أن هذا هو المعنى، فإن قوله: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] لم يكن ليسوغ لولا أن اليد في الأصل ثابتة له، مع أننا نستعين بالنصوص الأخرى الواردة في المقام والسياق نفسه لإثبات ما نفوه، وتحقيق ما أولوه.
لا، إنما الله تعالى له قدرة كما جاء في النصوص.
فإثبات القدرتين له مثلاُ لا يدرك بالعقول، ولا جاءت به النصوص، هذا من وجه، ومن وجه آخر فإنه لو كان معنى (بِيَدَيَّ) أي:بقدرتي أو بنعمتي أو بقوتي، وهل كان هذا يخص آدم عليه السلام؟
لا، لكان هذا عاماً لجميع الخلق، حتى إبليس نفسه خلقه الله تعالى بقدرته، بل حتى نقول:خلقه برحمته، لأن الله عز وجل هو أرحم الراحمين، وهو أعلم بما يصلح الخلق، فأعماله وأفعاله كلها حسنة.
فتخصيص خلق آدم مثلاً بأنه بقدرته أو بعلمه أو بقوته ليس له معنى، فحتى إبليس خلقه الله تعالى بقدرته وخلقه بقوته، وحينئذٍ لا يكون للتخصيص في آدم معنى، فتعين أن قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] أي:بيدين حقيقيتين له سبحانه، ولذلك تميز آدم وأمر الله تعالى ملائكته بالسجود له.
أولاً: نسبوا إلى الرسل شرب الخمور، والوقوع في الزنا، وغيرها من الفواحش ثم تجرءوا بعد ذلك على الله عز وجل فنسبوا إليه من النقائص ما ذكره تعالى في كتابه، وأيضاً نسبوا إليه أشياء لم تذكر في القرآن الكريم، لكنها موجودة في كتبهم، منها قولهم هاهنا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] أي: لا يبسطها بالإنفاق، قال الله عز وجل: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64] وهذا حكم منه جل وعلا بغل أيديهم ولعنهم بما قالوا، ولذلك فإن اليهود مغلولة أيديهم، فهم لا ينفقون، ولا تمتد أيديهم بالخير إلى الناس، وهم ملعونون ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] وعلى مدى تاريخهم الطويل كانوا أذلة، وكلما ارتفع لهم رأس سلط الله عليهم من الملوك والكبار من يسومهم سوء العذاب وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167].
ولا يغترن مغتر بتسلطهم في هذا الزمان، فإن هذه فترة استثنائية قليلة، ولو نظرنا إلى دولة إسرائيل لوجدنا أنها نشأت منذ وقت قريب منذ خمسون أو ستون سنة في ميزان الله، وليست شيئاً مذكوراً، إنما فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59] إنهم الآن يتهيؤون؛ لأن يحقق الله فيهم وعده، بأن يسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:4-8] إذاً هو وعد ثابت إلى قيام الساعة وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8].
فالمؤمن بالقرآن والسنة يوقن كما يرى الشمس بعينه أن لليهود جولة قادمة، سوف يسحقهم فيها عباد من عباد الله عز وجل، ويقتلونهم فيها قتل عاد وإرم، هذا وعد لا يقبل الشك؛ لأنه ممن لا يخلف الميعاد؛ وما ذلك إلا لبغيهم وعدوانهم ووقاحتهم وجرأتهم على الله تعالى ورسوله، ولهذا قال هاهنا: وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64].
ثم قال عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64] وهذا هو الشاهد، فإنه أثبت لنفسه أن له يدين، ووصفهما بالبسط، وهذا ولا شك دليل على إثبات صفة اليدين لله جل وعلا.
إن لله تعالى يدين كما في قوله هاهنا: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وقد يطلق الجمع على المثنى أيضاً كما في قوله تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4] (قُلُوبُكُمَا) هي اثنان، ولم يقل: قلباكما، وإنما قال: (قُلُوبُكُمَا) فهكذا هاهنا: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] والآيات والأحاديث الواردة في إثبات اليد لله تعالى كثيرة، حتى إن النصوص تزيد على مائة فيها إثبات صفة اليد لله تعالى، فنثبتها إثباتاً حقيقياً يليق بجلاله وعظمته، دون أن نشبهها بالأيدي المعروفة من أيدي المخلوقات، ودون أن نؤولها كما أولها أهل البدع.
هذا الآيات ساقها المصنف رحمه الله تعالى لبيان عدد آخر من صفات لله عز وجل الثابتة في كتابه تعالى وهي:العين، والسمع، والبصر، وساق في ذلك عدداً من الآيات، وهذا ليس كل ما ورد، ولكن بعض ما ورد، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل العينين، ويثبتون له الرؤيا والبصر، ويثبتون له السمع على وجه يليق بجلاله، من دون أن يكيفوا ذلك بكيفية مما عهده البشر وعرفوه.
لا يلزم من إثبات العين، أن تكون العيون التي عرفها البشر، من حيث حدقتها ومن حيث مكوناتها، وما أشبه ذلك، فإن هذه هي العيون التي عهدها الناس وعرفوها، فإنهم يثبتون لله العين دون أن يدخلوا في تكييف العين؛ لأنه لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه، فكذلك لا يعلم كيف صفاته إلا هو، ولكنهم يثبتونها كما جاءت في القرآن والسنة، من دون أن يكيفوها ومن دون أن يعطلوها أو يؤولها.
فيصرفوا معناها الظاهر إلى معنى آخر بعيد أو غير متبادر، خلافاً لما يفعله المعطلة وأسلافهم، فإنهم يؤولون هذه الأشياء إلى معانٍ مختلفة، فقد يؤولون السمع والبصر مثلاً بالعلم، وذلك أن العلم هو ثمرة السمع والبصر كما يزعمون، فيؤولونهما بالعلم، والواقع أن العلم صفة ثالثة، غير السمع وغير البصر، وكذلك بعضهم قد يقولون: يسمع بذاته، ويرى بذاته، فينفون عنه العين، وهذا أيضاً غير صحيح، فإن معنى ذلك أن الصفات كلها أصبحت مترادفة تدل على الذات فقط، والواقع أن الصفة تدل على معنيين: تدل على الذات بالالتزام، لأن الصفة دليل على الذات لا شك، ولكن أيضاً تدل على أمر آخر بالمطابقة، وهو المعنى الذي دلت عليه بالمباشرة.
الحكم الثاني لله عز وجل: هو الحكم القدري المتمثل في حكم الله عز وجل بالإيجاد والإحياء والإماتة والرزق وغير ذلك مما تجرى به المقادير غير ما جاء في الشرائع، أمور قدرها الله عز وجل وحدثت وخلقها عز وجل، فهذه أيضاً يجب الصبر لها؛ لأنها قد تجرى على خلاف ما يحب الإنسان.
من فقر ومرض أو هزيمة أو ضعف أو معصية أو غير ذلك، فيصبر العبد لقضاء الله وقدره إذا وقع وتحقق ذلك.
أما مسألة المعصية سواء أكانت معصية أم كفراً فقد سبق الكلام في موقف المؤمن منها وأنه يكره هذه الأشياء، ويجب عليه أن يكرهها ويكره وقوعها، وإن حدثت فعلاً وعُلم أنها حدثت بقضاء وقدر، إلا أنها مما يكرهه الله تعالى فقال: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].
فواجب على المؤمن أن يكره ما يكرهه الله تعالى من الأقوال والأفعال وغيرها، هذا معنى قوله: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور:48] يشمل الحكم الشرعي ويشمل الحكم القدري.
الأول: أن لفظ العين فيها مفرد، وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] وهو في الآيتين قبلها مجموع تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] والجمع بين هذا وهذا، أن يقال في قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] فيه إثبات العين، ولا يلزم منه المفرد بل قد يطلق المفرد ويراد به ما هو أكثر من الواحد، وكذلك الحال بالنسبة للجمع فإن أقله اثنان، وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض، فإذا ضممنا إلى ذلك ما جاء في سنن أبي داود وغيره، وهو حديث صحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58] وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عينه وإلى أذنه} وكذلك ما جاء في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: تعلمون أنني سأحدثكم وأقول لكم فيه قولاً ما قاله نبي قبلي: إنه رجل أعور وإن ربكم ليس بأعور} أي: أن الدجال رجل أعور والله تعالى ليس بأعور، عُلم بذلك أن ما هو مشهور عند أهل السنة الجماعة بإثبات العينين لله جل وعلا، أنه أمر صحيح.
الوجه الثاني الذي تختلف فيه الآية الأخيرة عما قبلها: هو أنها عديت بـ(على) في قوله:
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] بخلاف الآية التي قبلها تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] وسر هذا الفرق يتضمن أموراً لعل من أظهرها أن قوله عز وجل: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] وقوله: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] هو أمر واقع الآن، أي كأن الآية تحكي أمراً واقعاً الآن فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] أي: تجري برؤيتنا، وبمرأى منا يتضمن الحفظ والكلاءة كما سبق.
أما قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] فهو أمر مستقبليٌ أنه سيقع وسيتم على عين الله عز وجل، أي: على ما يحب وعلى ما يريد، ففي الآية معنى معين خاص الآية المتعلقة بموسى عليه السلام، وهو أن الله تعالى سيربي موسى على عينه، وعلى ما يحب ويريد؛ ليكون هو الرجل المناسب لتلك المرحلة.
وهو الذي يقوم بإنقاذ بني إسرائيل وغيرهم من كيد فرعون وبطشه، وفيها معان أخرى أشار ابن القيم رحمه الله إلى شيء منها.
اليهود لما سمعوا قول الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245] قالوا: لعمرك إن رب محمد لفقير إذاً، إذ يستقرضنا ويطلب منا القرض، وهم بهذا قصدوا أمرين:-
الأمر الأول: قصدوا النيل من الله جل وعلا، وقصدوا ثانياً: السخرية من الرسول عليه الصلاة والسلام وتكذيب دعوته وأنه يأتي بأشياء لا تقبل ولا تصدق وهي أن الله تعالى يستقرض عباده، وهذا شأن ودأب معروف من اليهود، أنهم ينتهكون المقدسات، ويستهينون بالحرمات، ويسخرون من رب الأرض والسماوات، كما سبق فيما كانوا يقولونه عن الله عز وجل وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] لذلك كتب الله عليهم الذل والصَّغار دائماً وأبداً، فلا تكاد ترتفع لهم راية إلا نكست، ولا يكاد يبين لهم أمر إلا اختفى، ولا يكاد يصل إليهم العز إلا قربه الذل، وهذا في الواقع يجعل عندنا -نحن المؤمنين الدعاة إلى الله عز وجل- ثقة كبيرة جداً لا تحد، بأن يوم اليهود آت قريب، اليوم الذي يبيد فيه المسلمون خضراءهم، ويستأصلون شأفتهم؛ لأنهم ما كتب الله لهم العز أبداً، وعلى مدى التاريخ، هم من ذل إلى ذل، والآن هم كما وصفهم الله عز وجل: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112].
فهم الآن قد تمسكوا بحبل من الناس، وربطوا العلاقات الاستراتيجية مع الغرب، حتى أصبح الغرب يصرح بأنه إنما جاء إلى هذه البلاد لحماية أمن الخليج وأمن إسرائيل بكل وقاحة وقلة حياء، وما ذلك إلا لأننا -نحن المسلمين- قد هُنَّا على الله عز وجل فهُنَّا على الناس، وهُنَّا على خلقه، فأصبحنا كما قيل:-
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهود |
ومع ذلك فإن قوماً غدروا وفجروا وسخروا برب العالمين واستهزءوا به، لا يمكن أن يتركهم بحال من الأحوال أبداً!
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]
هل ترى قوماً يقولون هذا الكلام ينصرون ويسددون ويؤيدون ويتركون؟!
أبداً! سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:181-182] فهي كالآية قبلها فيها إثبات صفة السمع لله عز وجل، وهذا على سبيل التهديد.
أما الأول: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ [المجادلة:1] فهو على سبيل التطمين، أما ذاك فهو على سبيل التهديد: أي: أن السمع سيتبعه ما يترتب عليه من عقاب هؤلاء، سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:182] إذاً: هو سمع وكتابة يتبعها حساب وعذاب.
نعم! هذا فيما يتعلق بالمشركين وأقوالهم، وزعموا أن الله تعالى لا يسمعهم ولا يعلم ما يقولون، إذا أسروا أو تناجوا فيما بينهم وبين أنفسهم، فقال الله عز وجل: (أَمْ يَحْسَبُونَ) وأم هاهنا بمعنى بل والمعنى: بل يحسبون إذ يتجرءون على الله عز وجل، وعلى المعاصي (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) الآية، والسر: هو الشيء الخفي حتى إنه قد يكون للإنسان وحده لا يطلع عليه أحداً أبداً، أما النجوى: فهو شيء خفي بين اثنين أو بين جماعة، كما في قوله عز وجل:فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً [يوسف:80] وهم جماعة يناجي بعضهم بعضاً، ويهمس بعضهم إلى بعض، ويتحدثون بصوت خافت لا يسمعه البعيد، فهذه هي النجوى، والسر أخفى منها، والله تعالى يعلم السر والنجوى، ويعلم الله ما هو أخفى من السر أيضاً، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى [الزخرف:80] أي: نسمع سرهم ونجواهم وزيادة على ذلك وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
قوله:قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] وهذا خطاب لموسى عليه السلام وأخيه هارون، فإن الله تعالى لما قالا: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:45-46].
فهذا تعليل لعدم الخوف لأن من علم أن الله معه، يسمع قوله وقول عدوه، ويرى مكانه ومكان عدوه وما يصنع به، فإنه يكون عنده اطمئنان، خاصة إذا كان على الحق، وأنه بمرضاة الله عز وجل، فإنه يطمئن ولا يصيبه شيء من الخوف أو الرعب، قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]
وفي الآيات كلها إثبات صفة السمع لله جل وعلا، وهي صفة ثابتة في الكتاب والسنة حتى وردت في أكثر من تسعين موضعاً، فنثبتها كما يليق بجلاله وعظمته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر