أما بعد:
ففي هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة الثالث من شهر جمادى الثانية عام 1416 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، يتم هذا اللقاء المبارك في هذا الجامع -جامع التنعيم- وعنوان حديثنا لهذه الليلة كما سمعتم: حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهو حديث حول سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، سنة أحوج ما يكون المسلمون إليها في هذا العصر وهم يتطلعون للتغيير والإصلاح، إنك لو طرحت هذا السؤال على أي فرد من المسلمين أياً كانت ثقافته، وأياً كان مستوى تدينه، وأياً كانت قيمة الدين لديه: هل ترى أن واقع المسلمين اليوم واقع شرعي يرضي الله تبارك وتعالى؟ لو طرحت هذا السؤال لأجابك الجميع بالنفي، والجميع أياً كانوا ينتظرون ويتطلعون إلى التغيير، لكن هل يدرك المسلمون وهل يعي المسلمون وهم يعيشون في هذه المرحلة التي لم يعد هناك خلاف بين من يملك قدراً من الجدية من المسلمين حول أن التغيير أصبح ضرورة، وأن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة ليس هو الواقع الشرعي، هل يدركون وهم كذلك سنن الله تبارك وتعالى في التغيير؟ وهل يدركون كيف يتم التغيير؟ إن هذه السنة من سنن الله تبارك وتعالى واحدة في الكون والمجتمعات، وهذا يدعونا إلى أن نتحدث بمقدمة ربما تطول حول هذه السنن الكونية التي جاء الحديث عنها في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل والقرآن مليء بالحديث عن هذه السنن كما سيتضح بعد قليل؛ حتى تتضح لنا قيمة هذه السنن، وحاجة المسلمين إلى مدارستها والعناية بها والأخذ بها وهم يتطلعون للتغيير، وهم يتطلعون لإصلاح هذا الواقع الفاسد.
إن لله تبارك وتعالى سنناً تحكم هذا الكون، وتحكم حركة التاريخ، هذه السنن تجعل المسلمين المستضيئين بنور الله تبارك وتعالى يفهمون الأحداث فهماً سليماً دقيقاً؛ لأنهم يطبقون هذه السنن التي جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى، والتي جاءت عن الله تبارك وتعالى الذي أمور الكون والخلق بيده عز وجل، إن هذه السنن تجعل الناس يفهمون الأحداث فهماً سليماً، وتجعلهم أيضاً يتنبئون ويتوقعون حصول الأحداث من خلال المقدمات التي يعلمونها ويدركونها، وهي أيضاً تمثل أداة لهم في سيرهم في هذه الحياة.
إذاً فهذه السنن تؤدي هذه الأدوار الهامة في حياة المسلمين، فتعين على فهم الأحداث، وتعين على التنبؤ وتوقع ما لم يحصل منها بعد من خلال مقدماتها كما سيتضح بعد قليل، وهي أيضاً تمثل منارة وقاعدة يسير عليها المسلمون في حياتهم.
ولعلنا نتساءل: لماذا تورد هذه القصص؟ ولماذا يكثر الحديث في القرآن حول قصص السابقين والغابرين أليس للاعتبار والاتعاظ؟ بلى، وإذا لم تكن هناك سنن ولم تكن هناك قواعد تحكم حياة المجتمعات فكيف يتعظ الناس؟ وكيف يتعظ الناس بقصة حصلت في سالف الأزمان وماضي الدهور إلا إذا كان ذلك يسير وفق سنن، فيقيسون حياتهم على حياة أولئك، ويعلمون أنهم إن سلكوا طريقهم فسيصيبهم ما أصابهم، وأنهم إن بذلوا جهدهم فسيحصلون ما حصل أولئك.
إن إيراد القصص للاعتبار والاتعاظ دليل كما قلنا على أن هناك سنناً ثابتة لا تتغير تحكم حياة الناس في هذه الدار.
ما قيمة أن يعلم الإنسان أن قوماً من الأقوام كذبوا فأهلكوا؟ أو أن قوماً من الأقوام آمنوا فأنجوا؟ ما قيمة أن يعلم ذلك إلا إذا كانت قاعدة مطردة فيقيس حاله على حالهم، ويكفي إيراد هذه القصص الكثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى على بيان سنن الله عز وجل في الآفاق والأنفس، وأيضاً يأتي التعليق على هذه القصص بالأمر بالاتعاظ والاعتبار، فبعد سياق كثير من هذه القصص يأتي الأمر بالاتعاظ والاعتبار بما أصاب أولئك، يقول تبارك وتعالى عن أولئك الذين أتوا جريمة من الجرائم وفاحشة من الفواحش، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، يقول تبارك وتعالى واصفاً تلك العقوبة التي حلت بهم، والتي تليق بتلك الجريمة البشعة: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83].
إذاً فلئن سلك قوم سبيل قوم لوط فهم معرضون لأن يصيبهم ما أصاب قوم لوط، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83]، ويقول تبارك وتعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب حين تكبروا وأعرضوا عن الإيمان بالله، وخانوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم في ذلك القدح المعلى في نقض عهودهم مع الله ومع أنبيائهم قبل، يقول تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].
إذاً فلو فعلتم ما فعل أولئك فيصيبكم ما أصابهم، فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى: أن من فعل كما فعل أولئك فسيصيبه ما أصابهم، لذا فعليه أن يعتبر ويتعظ، وفي سورة الشعراء يقول تبارك وتعالى تعقيباً على كل موقف من مواقف الأنبياء مع أقوامهم، وتكذيبهم ثم حلول العذاب بهم: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9]، ويقول تبارك وتعالى أيضاً في آية تتكرر في أكثر من موضع تعقيباً على هذه المواطن في سورة القمر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر:15-16] إلى غيرها من الآيات التي يعقب الله تبارك وتعالى فيها على شأن أولئك، ويأمر عباده بأن يتعظوا بمواقفهم، والتعقيب والأمر بالاتعاظ والاعتبار ليس خاصاً بمواقف العذاب والجزاء بالعقوبة وحدها، بل نراه أيضاً في مواقف الخير والإنعام من الله تبارك وتعالى على عباده، كما قال تبارك وتعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].
فمن كان كمثل ذي النون عليه السلام في صدق لجوئه وتسبيحه لله تبارك وتعالى، فكما نجاه الله عز وجل فكذلك ينجي تبارك وتعالى عباده المؤمنين، وأيضاً يقول تبارك وتعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:98]، والآيات في هذا الباب كثيرة.
إذاً فالتعقيب الذي يأتي على قصص القرآن آمراً بالاتعاظ والاعتبار دليل على ثبوت هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الناس.
ثالثاً: يأتي أيضاً في قصص القرآن التعليل للجزاء -سواء أكان بالعقوبة أو بالإنعام- بوصف مناسب كما يقول علماء الأصول، والتعليل بالوصف المناسب دليل على أنه علة؛ يقول تبارك وتعالى في شأن القوم الذين أهلكهم: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف:64]، فبعد أن حكى إهلاكهم وصفهم بأنهم كانوا قوماً عمين، وهذا يعني: أن هذه هي العلة في إهلاكهم ويعني: أن من شابههم في العلة فسيشابههم في المصير، ويصل إلى ما وصلوا إليه.
ويقول تبارك وتعالى: وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ [الأعراف:72]، فهذا دليل على أن العلة التي من أجلها قطع دابر هؤلاء: أنهم كذبوا بآيات الله ولم يكونوا مؤمنين، ويقول تبارك وتعالى في جزائه للمؤمنين: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، فماذا يعني وصف هؤلاء بأنهم مؤمنون؟ يعني: أن العلة في نجاتهم هي الإيمان، وهذا يعني: أن من شاركهم في هذه العلة فسيشاركهم في النتيجة والنهاية.
ويقول تبارك وتعالى في شأن نبي الله العفيف الطاهر يوسف عليه السلام الذي تعرضت له الفتن، وأشرعت أبوابها أمام ناظريه، فلجأ إلى خالقه تبارك وتعالى مستعيناً به عز وجل أن ينجيه وأن يخلصه قائلاً: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33]، يقول تبارك وتعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [يوسف:34]، ثم يقول تبارك وتعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
فعلة صرف السوء والفحشاء عنه أنه كان من عباد الله المخلصين، وهذا يعني: أن من كان من عباد الله المخلصين فإنه يستحق هذا الجزاء وهذا النعيم.
رابعاً: يأمر الله تبارك وتعالى في كتابه بالسير في الأرض والاتعاظ بما حصل للسابقين في آيات كثيرة، كما قال تبارك وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13]، ويقول: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10]، ويقول: أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر:21]، ويقول تبارك وتعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11].
والآيات معشر الإخوة الكرام! التي يأمر الله فيها بالمسير في الأرض والاتعاظ بمصارع الغابرين كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا يعني: أن هناك سنناً ثابتة تحكم حركة التاريخ وحياة الناس وإلا فكيف يتعظ الناس؟ وكيف يعتبر الناس؟
لقد أمر الله تبارك وتعالى عباده بأن يسيروا في الأرض ويتعظوا ويعتبروا، وهذا يعني: أنهم حين يسيرون في الأرض ويتأملون في أحوال الأمم التي مضت وخلت فإنهم سيدركون أن تلك الأمم ما آلت إلى ما آلت إليه، وما استحقت النكال والعذاب إلا لتكذيبها وإعراضها، وهذا يعني: أنهم إن ساروا على نفس الطريق فسوف يصلون إلى النتيجة نفسها، وسوف تحق عليهم السنة نفسها، وسيصلون إلى المصير نفسه.
إذاً فالأمر بالسير في الأرض والاتعاظ بمصارع السابقين والغابرين كل هذا دليل على أن هناك سنناً ثابتة، وقوانين لا تتخلف تحكم حياة الناس في تاريخهم، وتحكم حياة الناس في أفرادهم وفي مجتمعاتهم، فمن فعل مثلما فعل أولئك استحق ما استحقوه.
وتبقى هذه الآية نذيراً يلوح في الأفق أمام المؤمنين الذين ينظرون بنور الله، فيتنبئون ويتوقعون أن يحصل الهلاك والبوار لأولئك أو لهؤلاء؛ لأنهم قد فسقوا وأعلنوا فسقهم وفجورهم، وحين قالوا ذلك ليس لأنهم يعلمون الغيب، وليسوا يقرءون ما وراء الأحداث، ولكنهم يعلمون ذلك من خلال معرفتهم بسنن الله تبارك وتعالى.
وأيضاً يخبر تبارك وتعالى أن هناك سنة للمكذبين المتجبرين لا تتخلف، سنة لأولئك المعرضين عن نور الله تبارك وتعالى، المعرضين عن دعوة الله عز وجل، المستكبرين عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، وهي: أن هؤلاء يجابهون ويواجهون من يدعوهم إلى الإيمان والصلاح والتقوى لله تبارك وتعالى يجابهونه بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، يقول تبارك وتعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43] على أحد القولين في تفسير هذه الآية، ويقول تبارك وتعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:52-53].
وكأن هؤلاء لاتفاقهم على هذه المقولة كأنهم قد تواصوا على هذه المقولة واتفقوا عليها، لكنها سنة الله تبارك وتعالى في المصلحين مع أقوامهم: أن يواجههم أقوامهم المكذبون بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، واتهامهم بما ليس فيهم.
ويخبر تبارك وتعالى متوعداً متهدداً أولئك الذين نجم نفاقهم؛ أهل الإرجاف والنفاق: أنهم إن لم يئوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى فإنه ستحل عليهم سنة الله في السابقين، يقول تبارك وتعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:60-62].
إنها سنة الله التي لا تتخلف، سنة الله التي لا تتغير: أن يحل بهؤلاء المنافقين وبهؤلاء المرجفين عذاب الله تبارك وتعالى إن لم يئوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى.
وأيضاً يخبر تبارك وتعالى عن سنة من سننه عز وجل فيقول: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:42-43]، ويقول تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الحجر:10-11]، ثم يقول تبارك وتعالى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الحجر:13]، ويقول عز وجل مخبراً أنه لو تمالأ أهل الكفر على قتال المؤمنين فإن الله تبارك وتعالى سيحل بهم الهزيمة ويولي هؤلاء الأدبار وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الفتح:22-23]، سنة الله أنه حين يتمالأ ويجتمع أعداء الله على عباده المؤمنين أن تحل بهم الهزيمة، وأن يولي هؤلاء الأدبار، ثم يؤكد تبارك وتعالى أن هذه السنة لن تتبدل ولن تتغير.
ويقول تبارك وتعالى أيضاً مخبراً عن حال هؤلاء وأنهم يؤمنون حين يرون العذاب: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:84-85].
أيها الإخوة! هذا غيض من فيض، وهذه شواهد يسيرة من الحديث الكثير المستفيض في كتاب الله تبارك وتعالى عن سنن الله عز وجل، إن هذا يعطينا دلالة يقينية قاطعة أن هناك سنناً تحكم حياة الناس، وأن هناك سنناً تحكم تاريخ الناس، جدير بالناس أن يتأملوها وأن يعوها وأن يتدبروها، وجدير بأولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم أو أولئك الذين تعنيهم قضية مجتمعاتهم أن يعوا هذه السنن ويدركوها.
فهي سنة لا تتخلف: أنه حين يتنافس الناس في الدنيا، ويتنافسون في الدينار والدرهم كما تنافس الذين من قبلهم أن تهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم.
ونظر صلى الله عليه وسلم إلى السماء فقال: (هذا أوان يختلس العلم، فقال
وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم حد الله على امرأة شريفة ذات مكانة: امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع فتجحده، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يدها، فشعر بنو مخزوم وشعرت قريش أن هذا فيه إهانة لشرف هذه القبيلة ذات المنزلة العالية، فأردوا أن يستشفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها الحد، ويسقط عنها هذه العقوبة، فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكلموا أسامة ، فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب صلى الله عليه وسلم على أسامة وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!)، فالنبي صلى الله عليه وسلم عالج هذه القضية الخطيرة، والتي إن بدت في الأمة فهي نذير هلاك، أي: إن بدت فيهم المحاباة في أحكام الله تبارك وتعالى فهي نذير عقوبة وهلاك.
فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا الرد على أسامة ، ولم يكتف بإقامة الحد على هذه المرأة، بل صعد المنبر صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن
ولهذا توعد صلى الله عليه وسلم أنكم إن فعلتم كما فعل من كان قبلكم فسوف تهلكون كما هلك من كان قبلكم، إذاً هذه المادة أيضاً من الحديث هي عن السنن الكونية في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وحين اكتشف العلم المعاصر هذا القانون استطاع أن يوظف هذا القانون وأن يستثمره، فيعبر القارات، ويعبر الفضاء من خلال السيطرة على هذا القانون، وحين يكتشف العلم المعاصر المواد التي تقبل الاحتراق والتي لا تقبل الاحتراق فإنه يوظف هذه السنة في تحقيق مقصد الناس ومصالحهم في أمور دنياهم، ولهذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم يربط بين القضيتين: يربط بين السنن الكونية وبين السنن المادية، بين السنن التي تحكم حياة المجتمعات ودنيا الناس وبين السنن التي تحكم عالم المادة، ومن ذلك مثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أردوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
إن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن سنة من سنن الله تبارك وتعالى في المجتمعات، وعن سنة من سنن الله عز وجل في التاريخ وهي: أنه حين يقع الناس في المعاصي، ويتجرءون على حدود الله فإنه سيهلك المجتمع بمن فيه، ثم يربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنة وهذا القانون بقانون يراه الناس في عالم المادة: فحين تخرق السفينة التي تسير على البحر فإن هذا إيذان بأن يلج إليها الماء فتمتلئ فتغرق بمن فيها ولو كان فيها طائفة لم يكن لهم دور في خرق هذه السفينة.
وأيضاً يذكر لنا صلى الله عليه وسلم سنة أخرى من السنن المادية التي يراها الناس، فيربطها بسنة من سنن الله في المجتمعات، يقول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
إذاً ما موقف الناس وما دور الناس وما دور العلم المعاصر في التعامل مع سنن الله في عالم المادة أو ما يسمونه بقوانين الطبيعة، ما دورهم في التعامل معها؟ أترى الناس مثلاً: يستسلمون لهذه السنن وهذه القوانين أم أنهم يحرصون قدر الإمكان على اكتشافها وتفسيرها، ثم محاولة توظيفها واستثمارها والتعامل معها؟ إن هذا هو دأب الناس، وكم استفاد العلم المعاصر من ذلك، وثورة العلم المعاصر إنما قامت على استثمار هذه السنن الثابتة التي تحكم الناس في أمور معاشهم وفي دنياهم، ولكن هل نحن نصنع ذلك في تطلعنا للتغيير الاجتماعي؟ وهل نحن نصنع ذلك في قراءتنا للتاريخ الماضي وفهمنا للتاريخ الحاضر؟ وهل نحن نتعامل مع ذلك كما نتعامل مع السنن في عالم المادة؟ وكتابنا الذي لا ينطق عن الهوى مليء بالإشارة إلى هذه السنن، والحديث عن هذه السنن، ولم نكلف عبئاً في محاولة اكتشافها ودراستها.
ولهذا حين ولى الفرس عليهم امرأة قال صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، فأدرك صلى الله عليه وسلم من هذه السنة التي علمها صلى الله عليه وسلم -وهو لا ينطق عن الوحي- أن هذه أمارة ودليل على زوال الفلاح عن هؤلاء؛ لأنهم ولوا أمرهم امرأة، ومن ولى أمره امرأة فإن هذا إيذان بزوال الفلاح عنهم.
إننا نقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى ونقرأ في التاريخ عوامل نهضة الأمم وعوامل رقيها، فنحن إذاً حين نتطلع للنهضة والرقي علينا أن نسلك هذه العوامل، ونأخذ بهذه الأسباب، ونقرأ عوامل الانحطاط والانهيار وحلول العذاب والبوار. ونحن إذ نحرص على حماية أنفسنا من عذاب الله تبارك وتعالى فيجدر بنا أن نجتنب هذه الأسباب، وأن نحذر بني قومنا منها.
أليس جديراً بنا إذاً ونحن نتطلع للتغيير، ونحن نطلع للإصلاح، ونحن نسعى إلى التغيير في مجتمعات المسلمين أليس جدير بنا أن نتأمل هذه السنن، وأن نعيها، وأن ننزلها على واقعنا، وأن نسعى من خلال التعامل معها إلى التغيير في واقعنا ومجتمعاتنا؟ وهذا يضيف علينا عبئاً كبيراً، وهذا يجعلنا ندرك أن المسئولية وأن واجب الإصلاح والتغيير لا يقف عند مجرد الجهود المرتجلة، وعند مجرد أعمال مبعثرة هنا وهناك، بل حركة الإصلاح والتغيير في مجتمعات المسلمين تحتاج إلى دراسة متأنية، وتحتاج إلى بحث عن سنن التغيير والسعي إليها.
ولهذا نقف في نهاية هذا الحديث حول سنة من هذه السنن بعد أن عرفنا من خلال هذا الاستعراض أهمية السنن الكونية: أهميتها في تفسير مجرى الأحداث، وأهميتها في التنبؤ بها، وأهميتها في توظيفها واستثمارها للرقي بالأمم، ولتجنب عوامل الانحطاط، يقول تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، ويقول تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53].
وقد أشار صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية إلى هذا المعنى، فيقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لن يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت).
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ألا يهلك أمته بسنة بعامة، وسأل ربه ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعه الله تبارك وتعالى ذلك، قال: حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، ويسبي بعضاً.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن أدركتموهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا), فهذه سنة تفسر لنا ما نراه الآن في العالم المعاصر، وتبقى نذير خطر لأولئك الذين يسعون إلى إغراق مجتمعات المسلمين بالفساد والإباحية، (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالمؤنة وجور السلطان، وما منعوا زكاة أموالهم إلا حبسوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
إنها سنن كونية نراها الآن حاضرة في المجتمعات المعاصرة التي ابتلاها الله تبارك وتعالى بهذه العقوبات بما كسبت أنفسهم، إن هذا أيضاً مصداق لقوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وهو أيضاً مصداق لقوله تبارك وتعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وهو حديث يكثر في القرآن الكريم، بل إن قراءة قصص الأولين والغابرين في كتاب الله تبارك وتعالى تؤيد هذا المعنى وتشهد له، فالله تبارك وتعالى لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم إلا وقد غيروا ما بأنفسهم، ولم يكن تبارك وتعالى مغيراً سوءاً حل بقوم إلا وقد غيروا ما بأنفسهم.
النتيجة الأولى: أننا نحن المسئولون عن هذا الواقع، وأن الأمة إنما أوتيت من داخلها، فليس الكيد الخارجي والتآمر، وليس فلان أو فلان هم المسئولون عما حل بالأمة، بل نحن المسئولون عما حل بنا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، فالحال التي وصلنا إليها والواقع المر الذي نعانيه ونعيشه الآن إنما هو نتيجة للتغيير الذي غيرناه بأنفسنا حتى حل بنا ما حل.
فلنكن صرحاء مع أنفسنا ولا نحيل مشاكلنا على غيرنا، ولا نتهم بمشاكلنا ونحمل المسئولية من لا يحتملها، فنحن وحدنا نتحمل كل المسئولية، فكل ما حل في مجتمعات المسلمين من بعد عن دين الله، ومن تخلف، ومن جهل، ومن أمية، ومن فقر، ومن معاناة، ومن حروب، ومن بأس, كل هذه الظواهر التي تعاني منها الأمة إنما هي نتيجة منطقية لما كسبت أيدينا، ونتيجة لما بأنفسنا، فلا نحمل مسئولياتنا غيرنا، ولا نبحث عن شماعة نعلق عليه أخطاءنا، إن هذه سنة الله تبارك وتعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
وحين نتطلع لتغيير ما تعانيه الأمة من جهل، ومن أمية، ومن تخلف، ومن فقر، ومن حروب، ومن تمزق، ومن قلاقل فإننا لن نستطيع أن نصل إلى هذا التغيير إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا، إذاً فجدير بالأمة أن تفقه ما هو سبب معاناتها، وما هو سبب أزمتها، وأن تفقه ثانياً ما هو عامل التغيير وما هي وسيلة التغيير؟
إن التغيير يمكن أن يحصل، وإن الأمة يمكن أن تنتقل إلى عالم أفضل، وإننا حين ننظر في حال المسلمين وفي حال هذه الأمة وتعاملها مع هذه القضية ومع هذه الحقيقة نرى أن هناك أزمة تعانيها الأمة، وأنها بحاجة إلى من يقنعها بالتغيير، فالكثير من الناس يعتقد أن هذا الواقع يفرض نفسه، ولهذا حين تحدثه عما في نفسه، أو تحدثه عن قضية يعاني منها المجتمع وتطالبه أن يأخذ بيد القائمين والساعين للتغيير يقول لك: إن المفروض شيء والواقع شيء آخر، وهذا يعني: الاستسلام للواقع، والشعور بأن هذا الواقع قد فرض نفسه، وأنه ضربة لازب لا سبيل ولا مناص إلى تغييره.
ونحن نرى أيضاً إلقاء تبعة التغيير السابق أو التغيير اللاحق على الآخرين، فنحن نحمل ما أصابنا من مصائب ومن نكبات، ومن بعد عن دين الله، ومن تخلف حضاري وتأخر نحمل المسئولية غيرنا، وأيضاً نحمل مسئولية النهوض بمجتمعاتنا غيرنا، وهي صورة تنم عن جهل في فقه هذه السنن، وعن جهل في وعيها، وهي تدعو المؤمنين إلى إعادة قراءة كتاب الله تبارك وتعالى قراءة تدبر وتمعن، وتنزيل ما في كتاب الله تبارك وتعالى على واقعهم وحياتهم وعالمهم المعاصر.
ونحن نعاني أيضاً مرضاً ثالثاً: في تعامل المؤمنين مع واقعهم، ذلكم هو: تسويغ الواقع، وهو داء عضال وجريمة عظمى يرتكبها أولئك الذين يقفون حجر عثرة في سبيل أي جهد يبذل للإصلاح والتغيير، فعجباً لحال هؤلاء! إن هناك وفي هذه المرحلة وهذا الواقع من يسعى لتبرير الواقع وتسويغه، وتسويغ الانحراف الذي تعاني منه الأمة والذي لم يعد خافياً على ذي عينين، إن هناك من يدافع عن تلك الجرائم التي ترتكب بحق الأمة، إن هناك من يدافع ويبرر كثيراً من مظاهر الشرك والوثنية التي تعاني منها الأمة الآن، ويلبسها تارة لباس المصلحة، وتارة لباس الجهل، وتارة يلبسها لباس أن أولئك يفقهون ما لا تفقهون، ويعلمون ما لا تعلمون، ويريدون ما لا تريدون، وأنكم حين تنزل الحكم الشرعي على هذه الوقائع فتقرر أن هذا الأمر جريمة، أو أن ذاك العمل صد عن سبيل الله، أو أن هذا مظهر من مظاهر الكفر بالله تبارك وتعالى، أنكم حين تسعون لذلك فإنكم تسعون إلى إثارة البلبلة، وإلى تمزيق صف الأمة ووحدتها، وكأن هذه الأمة مدعوة لأن تتحد على الخنى والفجور، وأن تحافظ على هذا الاتحاد ولو كان ذلك على حساب قضية الإيمان وقضية التوحيد وقضية العفة والنزاهة.
إن هناك للأسف وفي هذا الواقع المرير الذي يدعو الأمة أجمع إلى أن تهب وأن تقوم يداً واحدة للإصلاح والتغيير، إن هناك من يسعى إلى تسويغ الواقع وتبريره، ومحاولة البحث عن المسوغات وهي جريمة أشنع وأشد من جريمة القاعدين والناكسين.
وهناك سلوك رابع خاطئ في تعامل المسلمين مع هذه القضية، وهو إفراز لشعور المسلمين أن هذا الواقع لا يمكن أن يتغير، ذلكم هو الوهم الذي سيطر على المسلمين: وهو أن حل قضيتهم في انتظار البطل القادم الذي يأتي ويحل مشاكل المسلمين.
ولهذا فالمسلمون دائماً يتساءلون ويقولون: أين ابن تيمية ؟ أين صلاح الدين ؟ أين خالد بن الوليد ؟ وأين فلان وفلان من الناس؟ وكأن هؤلاء قد شعروا بأنهم غير قادرين على أن يصنعوا شيئاً ولا أن يتقدموا خطوة، وأن هذا الواقع الذي تعاني منه هذه الأمة لا يمكن أن يتغير إلا إذا جاء هذا الفارس الموهوب، والبطل القادم الذي ليس له وجود إلا في خيال أولئك القاعدين الناكسين، مما حدا بشاعر أن ينعى على هؤلاء ويسخر بهم قائلاً:
وغاية الخشونة
أن تندبوا قمْ يا صلاح الدين قمْ
دعوا صلاح الدين في مرقده واحترموا سكونه.
فإنه لو قام بيننا حقاً ستقتلونه
إن المسلمين وهم يعيشون مرارة الهزيمة، وهم يعيشون مرارة التخلف، وهم يعيشون البعد عن دين الله تبارك وتعالى تتطلع نفوسهم للتغيير والإصلاح، لكنهم لا يجرءون على أن يحملوا أنفسهم مسئولية ما آل إليه واقعهم، ومسئولية الإصلاح والتغيير بعد ذلك، فيستسلمون لهذه الأوهام، ويتطلعون إلى أن يأتي رجل من عالم الغيب يقود الأمة لتقوم، ولو جاء هذا الرجل فإنه ما لم يقم معه الناس، وما لم يكن الناس له أعواناً، ويكن له من الناس ظهير فإنه سيقول كما قال موسى: إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25]، فحين تخلى قوم موسى عن موسى لم يكن ينفعهم، ولن يكن لينجيهم أنهم مع رسول من رسل الله من أولي العزم من الرسل، فلئن لم يتحقق ذلك لبني إسرائيل وهم مع نبي من أنبياء الله فإنه لن يتحقق لغيرهم وهم مع من هو دونه بكثير.
ولهذا فالمسلمون دائماً يتساءلون ويقولون: أين ابن تيمية ؟ أين صلاح الدين ؟ أين خالد بن الوليد ؟ وأين فلان وفلان من الناس؟ وكأن هؤلاء قد شعروا بأنهم غير قادرين على أن يصنعوا شيئاً ولا أن يتقدموا خطوة، وأن هذا الواقع الذي تعاني منه هذه الأمة لا يمكن أن يتغير إلا إذا جاء هذا الفارس الموهوب، والبطل القادم الذي ليس له وجود إلا في خيال أولئك القاعدين الناكسين، مما حدا بشاعر أن ينعى على هؤلاء ويسخر بهم قائلاً:
وغاية الخشونة
أن تندبوا قمْ يا صلاح الدين قمْ
دعوا صلاح الدين في مرقده واحترموا سكونه.
فإنه لو قام بيننا حقاً ستقتلونه
إن المسلمين وهم يعيشون مرارة الهزيمة، وهم يعيشون مرارة التخلف، وهم يعيشون البعد عن دين الله تبارك وتعالى تتطلع نفوسهم للتغيير والإصلاح، لكنهم لا يجرءون على أن يحملوا أنفسهم مسئولية ما آل إليه واقعهم، ومسئولية الإصلاح والتغيير بعد ذلك، فيستسلمون لهذه الأوهام، ويتطلعون إلى أن يأتي رجل من عالم الغيب يقود الأمة لتقوم، ولو جاء هذا الرجل فإنه ما لم يقم معه الناس، وما لم يكن الناس له أعواناً، ويكن له من الناس ظهير فإنه سيقول كما قال موسى: إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25]، فحين تخلى قوم موسى عن موسى لم يكن ينفعهم، ولن يكن لينجيهم أنهم مع رسول من رسل الله من أولي العزم من الرسل، فلئن لم يتحقق ذلك لبني إسرائيل وهم مع نبي من أنبياء الله فإنه لن يتحقق لغيرهم وهم مع من هو دونه بكثير.
وأخيراً: قد يلجأ الناس إلى الهروب من التفكير في القضية أصلاً، فيهربون من التفكير في الواقع ومرارته، أو يهربون من المناقشة الصريحة في وسائل التغيير والإصلاح، ويصرفون القضية يمنة ويسرة، وهذا فرار من المسئولية، وتخلي عن التبعة لن يفيدهم شيئاً، ولن يغني عنهم شيئاً أمام الله تبارك وتعالى.
إذاً: هذه صور تعكس شعور المسلمين أن هذا الواقع الذي يعيشونه ضربة لازب، وأنه أمر حتمي لا يمكن أن يتغير.
إن فقهنا لهذه السنن يعني أن ندرك تمام الإدراك، ونوقن تمام اليقين أن هذا الواقع يمكن أن يتغير حين يريد الناس وحين يغير الناس ما بأنفسهم.
إذاً هذا يعني: معشر الإخوة الكرام! أن قضية الإصلاح وقضية التغيير تحتاج جهداً ضخماً من القراءة في سنن الله تبارك وتعالى، ومن خلال قراءة ما في النفوس ووعيها ثم إقناع الناس بواجب التغيير وضرورة التغيير وإمكان التغيير.
فالله تبارك وتعالى لم يكن ليغير حال الناس من تدين وصلاح وتقوى إلى فجور إلا وقد غيروا ما في أنفسهم والعكس، إن هذا يدخل في هذا الأمر، وأيضاً يدخل فيه ما يعاني منه المسلمون في أمور عالمهم المادي، إن الأمة الإسلامية الآن مدرجة ضمن العالم المتخلف والذي يسمى تفاؤلاً بالعالم النامي، فهي قد بلغت القمة والغاية في الأمية، والجهل، والفقر، والتخلف، والتأخر الاقتصادي، والمديونية، والتفرق، والتمزق، إنها تحمل رصيداً هائلاً من الأمراض البشرية التي تحملها المجتمعات المعاصرة، فهي حين تريد تغيير ما بها ينبغي أن تعلم أن التغيير إنما يتم من الداخل، فإن كانت الأمة صريحة مع نفسها، وإن كانت الأمة تحمل روحاً واقعية وتأملت في نفسها فإنها يمكن أن تغير، وإن أخلدت إلى الأرض فإن هذا الواقع لن يتغير حتى يتغير ما بأنفس الناس.
إن المؤمنين يدركون جميعاً إدراكاً نظرياً هذه الحقيقة، وهذه القضية هي: أن الأمور كلها في عالمهم المادي، وغير المادي، والأمور كلها التي تحكم حياة الأفراد والمجتمعات إنما هي بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره، ويؤمنون ويدركون أيضاً أن الله تبارك وتعالى قد جعل لهذه الأمور أسباباً، وأن من تمام الإيمان بالقضاء والقدر أن يسلك الناس فعل الأسباب، إن الناس كل الناس يدركون أن الجوع والمرض أمر بقدر الله تبارك وتعالى، لكنهم يسعون إلى منع المرض عنهم، وإلى منع الجوع عنهم، وإلى دفعه عنهم بالطعام والشراب والعلاج، إنهم يدركون جميعاً أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى، وأنه لا يزيده ولا يرده حرص حريص، وأنه لن تموت نفس منفوسة حتى تستكمل رزقها، إن الناس يدركون ذلك ومع ذلك يدركون أنه لن يحصلوا رزقهم إلا إذا فعلوا الأسباب، فيجتهدون ويكدحون ويبذلون وهم يعلمون أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى.
ولكن هل نحن في أمور مجتمعاتنا وفي نظرتنا إلى واقعنا هل نحن ندرك هذه القضية وهذه الحقيقة وهي: ارتباط السبب بالنتيجة؟ وهل ندرك أن الأمور بيد الله تبارك وتعالى؟ ونحن كثيراً ما نقول: الأمور بيد الله تبارك وتعالى، ونحن كثيراً ما نقول: القضية قضاء وقدر، ونلجأ إلى الله بالدعاء، لكن هل نحن مع ذلك نفعل الأسباب؟ هل نحن نسعى إلى فعل الأسباب؟ إنه تماماً كما أنه لن نحصل رزقنا إلا بفعل الأسباب فلن ندرك التغيير أيضاً في مجتمعاتنا والإصلاح إلا بفعل الأسباب والاجتهاد في ذلك، وينبغي أن تكون الأسباب على قدر الهدف الذي نتطلع إليه ونسعى إليه.
إننا ونحن نرى في واقعنا أن الناس يجتهدون في دفع المرض عنهم وفي العلاج، فينفقون الأموال الطائلة، ويسافرون، ويفتشون يمنة ويسرة في محاولة علاج هذا المرض؛ يدركون أن ذلك من تمام الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الأمور بيد الله لكنهم يبذلون هذا الجهد، فهل نحن معشر الإخوة الكرام! نبذل هذا الجهد في تصحيح واقعنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في علاج أمراضنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في دفع الفساد الذي حل بأمة الإسلام؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في إزالة هذه المنكرات التي فشت في مجتمعات المسلمين؟ إنه من الجهل بقضاء الله وقدره أو قل: من مخادعة النفس أن نضع يداً على يد ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن نبكي ونتحسر على أمة الإسلام، إن البكاء لن يجدي ولن ينفع شيئاً، وإن الحوقلة والاسترجاع وحدها لن تنفع والدعاء وحده لن ينفع إلا إذا كان معه جهد وبذل وتضحية وتحمل.
إننا ما لم نشعر أننا يجب أن ندفع ثمناً باهظاً لإزالة المنكرات لتصحيح الواقع للنهوض بهذه الأمة، وما لم نقم بذلك فإننا غير مؤهلين للتغيير؛ لأننا لم نغير ما بأنفسنا، إننا قد أتينا من قلة فقهنا في قضية الإيمان بالقضاء والقدر، إننا قد أتينا من قلة فقهنا بالعلاقة بين السبب والنتيجة، وإن من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن جعل هناك علاقة مضطردة في حياة الناس بين السبب والمسبب؛ بين السبب والنتيجة، فكل نتيجة يوصل لها سبب معروف يعرفه الناس في أبسط قضايا الناس إلى الأمور المعقدة، سواء في عالمهم المادي أو حياة مجتمعاتهم وحركة التاريخ، وهذا يعني: أن يسعى الناس إلى اكتشاف الأسباب، وأن يسعى الناس إلى بذل الأسباب إذا كانوا يتطلعون إلى نتيجة وحصولها، فالله تبارك وتعالى قد جعل لكل شيء سبباً، والله تبارك وتعالى قد جعل لكل شيء قدراً.
إن إدراك هذه الحقائق معشر الإخوة الكرام! ضرورة لأولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير، فهل ندرك هذه الحقائق؟ وهل نسعى إلى غرسها في مجتمعات المسلمين؟ أسأل الله تبارك وتعالى أن يغير ذل المسلمين إلى عز، وأن يغير معصيتهم إلى طاعة، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ويحكم فيه بشرعك، وينتصر فيه للمظلوم والضعيف، إنك سميع قريب مجيب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
الجواب: ما أدري إذا أنا كنت قلت هذا، وما أحد يقول هذا، لكن ربما أحياناً والإنسان يتحدث قد يقول كلمة تكون سبق لسان منه، ولو كنت قلت هذا فإنني أقصد: أن هذا الأمر ليس ظلماً من الله تبارك وتعالى للناس، وإنما هو من عند أنفسنا، ولعل ما قلت في آخر الحديث يؤكد هذا المعنى من الحديث عن قضاء الله تبارك وتعالى وقدره، وليس هناك أحد يمكن أن يناقش أبداً في أن كل ما يحصل -سواء الأفراد أو المجتمعات- من أمور الدين أو الدنيا أنه كله بيد الله تبارك وتعالى، بل من شك في ذلك فعليه أن يعيد النظر في إيمانه.
الجواب: هذا جزء من أمراض الأمة، وهذه القضية أشار إليها مالك بن نبي رحمه الله؛ أشار إلى جزء من هذا فيقول: إن الأمة مصابة بالتعلق بالأشخاص، ودائماً تبحث عن حلها عند هؤلاء الأشخاص، فدائماً تتساءل عن صلاح الدين وعن فلان وفلان؛ لأنهم شعروا أن قضيتهم متعلقة بالأشخاص فقط.
الجواب: هؤلاء المثبطون إما أن يكون عندهم شبهة وعندهم إحباط، فهؤلاء ينبغي أن نسعى إلى إقناعهم، وأما أولئك المثبطون المتخاذلون، والإنسان الكسول الذي يسعى إلى ذلك لتبرير كسله فأظن أنه من إضاعة الوقت النقاش مع أمثال هؤلاء.
الجواب: قد يكون هذا وقد يكون ذاك، فقد يصيب المؤمنين أمر هو ابتلاء، وقد يصيبهم أيضاً مصائب، لكن حتى المصائب يكفر الله تبارك وتعالى بها عن عباده.
الجواب: هذا العرض الذي كنا نقول هو دعوة إلى إلغاء الاتكالية، فعلينا أن نعرف أن قضيتكم بيدكم فأنتم الذين تملكون حق تقرير المصير عن أنفسكم كما يقال، فإذا أردتم تغيير الواقع فالتغيير بيدكم فلا تخرجوه إلى غيركم ولا تلوموا غيركم، فهذه الأمة يجب أن تعي هذه القضية، والحقيقة تتحول هنا إلى بداهية: أن هذا الواقع نحن المسئولون عنه، ونحن القادرون على تغييره بإذن الله تبارك وتعالى، والله عز وجل إنما جعل التغيير بيد الناس، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
الجواب: لا شك أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب حلول العذاب، ويكفي الحديث الذي أشرنا إليه والذي رواه البخاري ، الذي شبه فيه النبي صلى الله عليه وسلم حياة الناس والمجتمع بالسفينة في قوله: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها).
الجواب: من أهم الأمور أولاً: الاقتناع بضرورة التغيير، ثم أن نقتنع بأن التغيير ممكن، فأحياناً قد نكون مقتنعين أن عندنا مشكلة، ومقتنعين أيضاً أننا ينبغي أن نغير واقعنا، لكننا غير مقتنعين أنه يمكن أن يتغير هذا الواقع، وهذه مشكلة، فيجب أن نغرس هذا الاقتناع سواء على مستوى الأفراد أو مستوى المجتمعات، نغرس فيهم أن التغيير ممكن، وأنه ليس هناك شيء أبداً يمكن أن يحول بيننا وبين التغيير، ثم بعد ذلك محاولة الدراسة المتأنية العميقة لما في النفوس؛ لاكتشاف ما هي الأسباب والعوامل للتغيير، ثم الإرادة الجازمة الجادة في ذلك؛ لأن التغيير صعب؛ لأن العوائد تأسر الإنسان فيخلد إليها، فيصبح تغييرها صعب جداً إلا إذا كان عند الإنسان إرادة قوية وجادة، فكثير من الناس مثلاً: يقع في أمور مقتنع هو أنها تضره سواء في أمور دينه أو أمور دنياه، لكنه لا يتركها والسبب هو أنه اعتاد عليها، وأسرته العادة فصار يشعر أنه لا يستطيع أن يتخلى عنها، ولو كان عنده إرادة قوية لأمكن أن يتخلى عنها.
الجواب: هذا صحيح في الآية الأولى في آية الأنفال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ [الأنفال:53]، وكذلك الآية الأخرى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، فهذه خاصة في النعم، وأما قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] فهي عامة تشمل النعم والنقم، واستدللنا على ذلك أيضاً بقوله تبارك وتعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98].
الجواب: أول شيء: قضية الجمال في الطبيعة هذا أمر الله، يعني: ليس هو القضية قدر الله، فالله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين الناس، فأناس عندهم جمال في الطبيعة، وأناس عندهم معادن، وأناس عندهم نفط، فمن فقد شيئاً عوضه الله خيراً منه.
الجانب الثاني: كونه فتح على الغرب في التقدم التكنولوجي؛ فالله تبارك وتعالى من سنته أن الناس إذا بذلوا واجتهدوا في أمور الدنيا أنه يعطيهم، وأنه تبارك وتعالى يسخر لهم.
ولهذا أولئك أدركوا السنن التي تحكم عالم المادة، واستطاعوا أن يتعاملوا مع هذه السنن ويطوعوها، ولا يستطيع الإنسان أن يعدل فيها، وكذلك لا يستطيع أن يعدل في سنن التاريخ، لكنه يتعامل معها كما ذكر ذلك مالك بن نبي رحمه الله، فيقول: إننا لن نستطيع أن نغير سنن التاريخ، لكننا نستطيع أن نتعامل معها، يقول: كما أننا لا نستطيع أن نغير سنن وقوانين المادة، لكننا نستطيع أن نتعامل معها، وضرب على ذلك مثالاً بما أشرت إليه من قانون الجاذبية.
فالمهم أن هذا جزء من سنن الله، فلم يغير الله ما بأولئك من جهل وبعد عن العلم حتى غيروا ما بأنفسهم، فالتغيير في جانب واحد: في جانب المادة إنما كان نتيجة للتغيير الذي كان في أنفسهم، فحين بذلوا الجهد واستفرغوا وسعهم مكن لهم في الدنيا، والمؤمنون شأنهم شأن غيرهم بل هم أولى وأحق بالتمكين، ومع ذلك يبقون كما قال تبارك وتعالى عنهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7]، فهذا لا يدعوا إلى أن نغتر بما عندهم، لكن لاشك أن ما حصلوه ليس بخرق للسنن الكونية، فهذا جزء من هذه السنن.
الجواب: كما ذكرنا في قصة موسى لما كان مع قومه ولم يستجيبوا: قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25].
الجواب: هناك كتاب قرأته في الإعداد لهذه المحاضرة وهو مفيد لكن عليه ملاحظات، هذا الكتاب أنصح أي أخ أن يقرأ فيه، وهذا الكتاب هو (حتى يغيروا ما بأنفسهم) حول هذا العنوان لـجودة سعيد وقدم له مالك بن نبي ، لكن فيه بعض الشطحات وبعض التجاوزات، وهو ينتمي إلى مدرسة مالك بن نبي وهي مدرسة معروفة بالمدرسة الحضارية، فهم عندهم إبداع في بعض الجوانب لكن هناك بعض الملاحظات على مثل هذه المدرسة، فالذي يملك عقلية ناقدة جيدة يمكنه أن يقرأه، لكن البعض من الناس قد لا يستطيع أن يقرأ مثل هذه الكتب التي قد يكون فيها ملاحظات، لكن أتصور أن أفضل منه كتاب للدكتور عبد الكريم بكار وهو: نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي.
الجواب: الحل أشرت إليه قبل قليل وهو: أن تقتنع أنك ممكن أن تغير، وأن تقتنع بضرورة التغيير، فكونك تملك الإرادة هذا عنصر مهم في موضوع التغيير.
الجواب: هذا دليل يا إخوان على أننا ما نفقه معنى السنن، فهذا يا أخي جزء من سنن الله، لماذا؟ لأنه حين تأخر المسلمون، وحين بذل أولئك مُكِّن لهم، فهذه سنة من سنن الله: أنه حين يتأخر المسلمون ويتقهقرون فإنه يمكن لغيرهم، وأحياناً يبذل أولئك وسعهم، فسنن الله تحتاج إلى قراءة متأنية في القرآن وإلى مراجعة وإلى تأمل، وحينها يستطيع الإنسان فعلاً -كما قلت لكم- أن يفسر الواقع تفسيراً سليماً، ويعطيه ذلك رؤية في المستقبل أفضل وأتم.
الجواب: لا، ليس المقصود مجرد أن يسافر الإنسان، لكن المقصود: التأمل والتمعن، فإذا كان لا يتم ذلك إلا بالسير فإن الإنسان يسير في الأرض، فالمقصود: أن آيات هؤلاء باقية ظاهره في الأرض؛ فإذا مر الإنسان رأى تلك البلد التي كان فيها أولئك الذين عذبوا وأهلكوا.
الجواب: هذا هو الذي تحدثنا عنه سابقاً، وهو أن نحقق التغيير، وأن نسعى إلى إقناع الأمة أنها يجب أن تحقق التغيير في أنفسها حتى يتغير ما بها.
الجواب: أولاً: لا يصح أن نقصر الدعوة على تلك المناطق النائية، فالدعوة تحتاج إلى كل مجتمعات المسلمين، ولا يجوز أن يهمل جانب لحساب جانب آخر. هذا أمر.
الأمر الثاني: أن من أهم الأدوار: أن يذهب إليها أناس يستقرون فيهان وهذا أفضل من الزيارات العاجلة القاصرة، بحيث إنه يحتسب مثلاً أحد الشباب ويتعين في التدريس أو الوظيفة أو العمل هناك ويبقى، ويكون له نشاط ومشاركة، ولا شك أن التجارب تثبت أن هؤلاء يكون لهم خير وفضل كثير بإذن الله.
وهذا لا يعني: أن الزيارات المتكررة المتقطعة ليس لها قيمة ولا أهمية، لكن لا شك أن الاستقرار والبقاء يترك أثراً أكبر وأعظم بإذن الله؛ لأن هذا الأستاذ أو طالب العلم إذا ذهب هناك وصار له دروس وصار له نشاط سيكون له تلاميذ من أهل البلد، فيتعلمون العلم ويحرصون عليه ويتربون، وينشأ من أهل تلك القرى وأهل تلك البقاع جيل يساهم في التغيير والإصلاح من أهل البلد نفسها، ولا يصبح هؤلاء عالة ينتظرون غيرهم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر