يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير من ما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد:
حديثنا اليوم بعون الله وتوفيقه سيكون بعنوان: شذا الريحان بذكر جنة الرحمن.
هذه الدار التي دندن حولها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بقوله للصحابي الجليل: (حولها ندندن).
هذه الدار التي ارتضاها الله مأوى لعباده الصالحين، هذه الدار التي غرس الله غراسها بيده، كما قال ابن عمر: إن الله عز وجل خلق جنة عدن بيده كما خلق آدم بيده، وخلق العرش بيده، وخلق القلم بيده، وخلق باقي الكائنات بكلمة كن.
فالله عز وجل خلق الجنة بيده، فرحم الله أقواماً علموا أن الرحمن غرسها بيده، فحنوا إلى ما غرسه.
خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته وأقبل مقبض بابه
خذني إلى وطني أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه
نحن اعتصرنا غيم كل طرائق الدنيا وأشعار الحنين إلى الوطن
لا ماؤها يروي ولا أشعارها تكوي ولا تنسي عدن
إنها الدار التي اشتاق إليها حرام بن ملحان في يوم بئر معونة لما طعن وسال الدم على رأسه وقال: فزت ورب الكعبة.
وهذا عامر بن فهيرة راعي أغنامٍ لـأبي بكر الصديق ، لما طعنه الجبار بن أبي سلمى يوم بئر معونة قال: فزت ورب الكعبة، فقال الجبار قاتله: بماذا فاز؟ قالوا: بالجنة، قال: فرأيت رجالاً يذهبون به في السماء علواً حتى كانت السماء بيني وبينه، ثم أسلم جبار في الحال.
هذه الدار التي قال عنها جعفر الطيار :
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
هذه الدار التي شم رائحتها أنس بن النضر رضي الله عنه لما خرج لغزوة أحد فقال له سعد بن معاذ : إلى أين يا أبا عمرو ؟ قال: إليك عني يا سعد بن معاذ ! والله إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد.
فما ظنك بالعطر في نواحيها وبالطيب في أرجائها، قال الله تبارك وتعالى: وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6] قال ابن عباس : عرفها لهم أي: طيبها لهم، والعرف: هو الطيب.
هذه الجنة عرضها كعرض السماء والأرض، فلو كنت بعيداً عن الديار ومعك العنوان ورقم الشارع، وقد تضل الطريق، فما ظنك بجنة عرضها السماوات والأرض؟
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده! لأحدهم أعرف بقصره من منزله في دار الدنيا).
بل إن هذه الدار تقرب كرامة لصاحبها على الله عز وجل، يقول تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31] يعني: قربت.
قال الله عز وجل: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11] ولم يقل هنا: أولئك المتقربون، وإنما قال: أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:11] أي: المحمولون على العناية والرعاية الكاملتين.
الجنة دار الطيبين، نعيم لا ينفد، ولا عهد للناس به في دار الدنيا، فلو أن واحداً فرش بيته ورفع الحصير وجاء بالسجاد الإيراني، فإنه نعيم صامت لا يتكلم، ولكن المولى عز وجل يزين الجنة ثم يأمرها أن تتكلم فتقول: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1].
وإن من نعيم الجنة الذي يتكلم أن تمر سحابة فتقول: ماذا أمطركم؟ يقول يحيى بن أبي كثير : أشهد الله أن لو أراني هذا الموقف لأمرت السحابة أن تمطر علينا حور عين.
وإذا عاب الناس قول من قال: اللهم ما عبدتك رغبةً في جنتك، وهذا القول قول منسوب إلى رابعة ، وهو غير صحيح، لأن الكاملة من النساء آسية زوج فرعون طلبت الجنة، فكيف لا تطلبها رابعة وهي أقل قدراً منها؟ قال تعالى: قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11].
والله عز وجل لا يرى إلا في الجنة فكيف لا تطلبها رابعة وقد طلبها من هو أكمل منها وأفضل؟
وكم سنة من عمرك تنفق على أرض الجنة هذه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض الجنة مسك خالص).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تربتها الزعفران).
وقال ابن عباس : أرض الجنة من مرمرة بيضاء، من فضة كأنها المرآة، ليست كفضة الدنيا، فإن فضة الدنيا لا تستطيع أن ترى ما بداخلها، أما فضة الجنة فهي أرض من مرمرة بيضاء في صفاء القوارير.
إذاً: أرض الجنة مسك وزعفران وفضة، سبحان مثبت العقول، فبكم تشتري هذه الأرض؟!
والله! لو كانت الدنيا ذهباً يفنى، والآخرة خزفاً يبقى، لكانت الآخرة أحق بالعمل لأنها تبقى.
إنَّ الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها فكيف تعدو خلفها؟ الدنيا لعب ولهو وزينة، والرجل العاقل لا يشتغل باللهو وإنما يتركه للصغار فهما لا يليقان بالكبار.
فإذا صار عمر الرجل أربعين سنة فإن الدنيا لا تليق به، فكيف نجري خلفها وهي جيفة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ألا نصدق قول رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أصدق من نطق: (الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة).
يكفيك من هوان الدنيا على الله عز وجل أن عذب أنبياؤه وذبح وقتل من أنبيائه فيها.
وقد قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من الدنيا في الآخرة إلا الأسماء).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن قصور الجنة: (لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر) يعني: المسك الشديد الرائحة.
ويقول: (سقفها نور عرش الرحمن) هذا عن القصور.
أما خيامها فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً) يعني: تسعين كيلو متراً.
قال: (فيها أزواج لا يرى بعضهم بعضاً) وخيام الجنة تضرب على شواطئ أنهار الجنة.
فأنهار الجنة آتية من على بعد مائة عام من السماء، ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، فخمسمائة في مائة بخمسين ألف سنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الذين في أرض الجنة) يعني: في أقل درجات الجنة (لينظرون إلى أهل الغرف سكنى كما تنظرون أنتم إلى النجم الغابر في الأفق لتفاضل ما بينهم).
أما قال الله عز وجل: وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21]، أما ترى أهل الدنيا غرقى في النعيم فما ظنك بالآخرة؟ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21].
وهذه الأنهار تجري على مسيرة خمسين ألف سنة من أعلى، ثم تنزل تحت القصور، وهذا معنى قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البقرة:25] ثم تصعد مرة ثانية إلى أهل الغرف.
فلو أن عندك نبع ماء يجري فإنه يتبعثر ولن تنتفع به، لكن أنهار الجنة قال الله تبارك وتعالى عنها: وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [الواقعة:31] قال أنس : تجري في غير ما أخدود تجري فيه، أي: ليس لها أخدود تجري فيه. فسبحان مثبت العقول. (أمسك الله حافتيها بقباب اللؤلؤ المجوف)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومجرى هذه الأنهار ليس على الطين، وإنما على المسك الأذفر، قال مجاهد : تخرج الحور العين إلى شواطئ أنهار الجنة فيغنين، فيخرج إليهن أولياء الله عز وجل، فإذا أعجب الرجل منهن بواحدة لمسها بمعصمه فتتبعه، فتنبت مكانها من النهر جارية أخرى، فأنهار الجنة تنبت الأبكار لا تنبت الحشائش.
لبن وعسل وخمر وماء؛ لبن لم يحلب من الأبقار، وعسل لم يجن من الأزهار، وخمر لم يعصر بيد الخمار، وإنما يجري على رضراض الأنهار برحمة العزيز الغفار.
في هذه الأنهار طيور كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعناقها كأعناق البخت) أي: مثل أعناق الجمال الخراسانية.
فقال سيدنا عمر : (ما أنعمها يا رسول الله! قال: أكلتها أنعم منها)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت).
قلنا: إن في الجنة خمراً ولكن ليس كخمر الدنيا تغتال العقول، وإنما خمر لذة للشاربين، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، إنما يجتمعون حولها، فلا تزيدهم إلا صحواً، رائحتها كرائحة المسك.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
والحور العين هن أزواج أهل الجنة، قال الله عز وجل: وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:54] قال العلماء: الباء زائدة هنا من الناحية البلاغية تفيد أن الزواج ليس زواجاً حقيقياً، وإنما الحور العين تقوم بمثابة ملك اليمين، أي: بمثابة الخادمة، وزوجتك من بنات الدنيا تكون بمثابة السيدة لها؛ لأن أماكن الوضوء لها تشع نوراً يوم القيامة.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحور العين: (أدنى لؤلؤة في تاجها تضيء ما بين المشرق والمغرب).
لو تعثرت لتزين لها ما بين الخافقين، لو برز بنانها لأذهب ضوء الشمس والقمر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوسين أو موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها).
وفي رواية: (خير مما بين السماء والأرض).
ولقد صورهن القرآن بأجمل وصف حسي، إذ من الممكن أن ينظر الرجل إلى وجه المرأة فيرى وجهه في صفحة خدها، وينظر الرجل فيرى مخ ساقها من خلف سبعين ثوباً من إستبرق لشفافية لونها.
قد يقول لك شخص: أنا عشت طوال حياتي لا أسمع غناءً، وأنزه سمعي عن هذا اللغو الباطل، لكن في الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحور العين لتغنين في الجنة يقلن: نحن الحور الحسان خبئنا لأزواج كرام).
وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام ينظرن بقرة أعيان. وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتن، نحن الآمنات فلا يخفن، نحن المقيمات فلا يطعن
فبعد أن نزل الناس منازلهم، يكون هذا الملك العظيم لأقل رجل يدخل الجنة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من شجرة في الجنة وإلا وساقها من خالص الذهب).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة).
فيا أخي المسلم! سبح الله كثيراً، فإن هذا الحديث صحيح، وهذه هي وصية إبراهيم عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله) فلماذا ضيعنا وصية الخليل في زحمة الدنيا ووسط التكالب عليها؟
قال ابن عباس : نخل الجنة أصوله من خالص الذهب.
وسعفها خيام أهل الجنة، ثمرها أشد بياضاً من الثلج، أحلى مذاقاً من العسل ليس فيه نوى، يغرس في أرض من فضة، ويسقى بخمر ولبن وعسل وماء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ولا ينتهي ظلها).
قال الله عز وجل: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30].
وإن هذه الشجرة يخرج منها ثياب أهل الجنة جميعاً.
ويقول سبحانه: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الواقعة:27-28] أي: شجر منزوع الشوك منه مليء بالثمار حتى يكون على الأشجار سبعين لوناً من الثمار، ما فيهن واحد يشبه لونه لون الآخر.
ويقول تعالى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29] والطلح: إما شجر نزع شوكه، قد تجمعت ثماره في سباطة تجميع النور، أو شجر النوار الحلو الرائحة الذي في البادية.
بشرها دليلها وقال غداً ترين الطلح والجبال
ويقول تعالى: وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:31-33] كان أحد الصالحين إذا مر بسوق الفاكهة ولا يستطيع شراء الفاكهة يقول: السلام عليكِ، أما فاكهة الجنة فليست بالمقطوعة ولا بالممنوعة، قال الله سبحانه: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54].
ويقول سبحانه: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا [الإنسان:14] أي: تميل عليه الشجرة حتى يأكل منها مستلقياً، ويأكل منها جالساً، ويأكل منها قائماً.
فاكهة الدنيا مقطوعة وممنوعة، أما فاكهة الآخرة فليست بالمقطوعة ولا بالممنوعة: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25] والطعم غير الطعم والرائحة غير الرائحة، لا عهد لهم به في دار الدنيا.
فإذا كانت البطائن من إستبرق، فمم تكون ظواهرها؟
قال مالك بن دينار: من نور جامد.
وقال سفيان الثوري: من نور يتلألأ.
وعلى هذا الإستبرق تجلس الخيرات الحسان، فهي خيرة جمعت بين حسن الخلق وبين حسن الخلقة.
وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة:22] يقال للمرأة: إنها حوراء إذا كانت شديدة بياض العين شديدة سوادها، يعني: أن عينها كعين المها، يقال لعين المها أو عين البقرة الوحشية؛ لأنها شديدة اتساع الحدقة، وهذه المرأة تمتاز بميزة كما قال تعالى: وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ:33].
وقال: عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:37] والعرب: جمع عروب، والعروب: هي المرأة التي تحسن تدليل زوجها، يعني: إذا تعب زوجها تحسن تدليله في الفراش، هذا بالنسبة للأسرة.
أما ارتفاع السرير فقد قال سفيان الثوري : قدر ثمانين عاماً ليشرف على أعلى ملكه.
وفي الحديث الصحيح؛ حديث عبد الله بن مسعود ، الذي رواه الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في كتابه السنة: (آخر من يدخل الجنة يرى قصراً من در أبيض فيسجد له، فيقال: مه، ارفع رأسك، يقول: كأنما رأيت ربي أو تراءى لي ربي، فيقال: إنما هذا قصر من قصورك. فما ظنك بالجنة؟! ثم يمشي في الجنة فيرى رجلاً فيهم بالسجود له، فيقول: مه ارفع رأسك، فيقول: كأنك ملك من الجنة، يقول: لا، إنما أنا قهرمانك -يعني: أنا خادمك- تحت يدي ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
وجاء في الحديث أن الرجل يعرض عن زوجته ثم ينظر إليها فتزداد في عينيه سبعين ضعفاً ويزداد في عينيها سبعين ضعفاً، والحديث صححه الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام المنذري والإمام الذهبي رحمهم الله.
هذا بعض نعيم أهل الجنة قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات:41] يفجر الرجل نبع الماء، كما قال الله عز وجل: يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6] .
فأينما أراد تفجير نبع ماء تفجر، وفي أي أرض حل من أرض الجنة تخرج له العين النضاحة والعين الفوارة أي: العين الجارية، وكلاهما منظر للعين حسن.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، أمتي منهم ثمانون صفاً) وباقي الأمم أربعين صفاً، وأمة النبي صلى الله عليه وسلم ثلثي أهل الجنة.
يا من أراد الله تبارك وتعالى لك الرفعة! وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] إن القرآن رفعة لهذه الأمة كما يقول الشاعر:
إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها
فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها
يا من أراد الله لك الرفعة حين تدخل الجنة! قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].
وليس الملائكة فقط، بل المولى عز وجل، قال تعالى: لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2].
وقال تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55]، وقال تعالى:تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44].
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].
فالمولى عز وجل هو الذي يسلم على أهل الجنة، كما تسلم عليهم الملائكة ولا يسمعون فيها إلا السلام، والكلام الذي لا لغو فيه ولا تأثيم، قال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:25-26].
واعلم أن ملك الجنة ليس له حدود، قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان:20].
زوارك فيها أنبياء الله عز وجل، والطوافون عليك فيها الولدان المخلدون: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا [الإنسان:19] أي: في جمال اللؤلؤ المكنون والمنثور. هذا الخادم فما ظنك بالمخدوم؟
فقال أعرابي كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول هذا: (والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فيها كثبان المسك -فيها جبال من مسك- فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً).
فهل هناك أحد يخرج إلى سوق الدنيا ويرجع منه وقد زاد حسناً؟ لكن أهل الجنة يزدادون حسناً وجمالاً (فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلهم: والله! لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله! لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً).
وهناك في الجنة يوم يشبه يوم الجمعة من أيام الدنيا يزورون فيه الله عز وجل، يأتي الملك فيقول: يا ولي الله! إن ربك يستأذنك في زيارتك، فيسيرون إليه، منهم من يجلس على كثبان اللؤلؤ، ومنهم من يجلس على كثبان المسك، ومنهم من يجلس على منابر من نور أمام عرش الرحمن، فيقول لهم الله عز وجل: (يا عبادي! ألكم حاجة؟ يقولون: كيف يا رب! ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتغفر ذنوبنا، وتدخلنا الجنة؟ فيقول لهم الله عز وجل: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً، فترفع الحجب فينظرون إلى مولاهم وينظر مولاهم إليهم، فما أعطي أهل الجنة شيئاً ألذ من النظر إلى وجه الله الكريم).
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وحي على روضاتها ورياضها وحي على عيش بها لا يسأم
فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم
فيا مسرعين السير بالله ربكم قفوا بي على تلك الربوع وسلموا
وقولوا: محب قاده الشوق نحوكم قضى عمره فيكم تعيشوا وتسلموا
أحبتنا عطفاً علينا فإننا بنا ظمأ والمورد العذب أنتم
وحبكم أصل الهدى ومداره عليه وفوز للمحب ومغنم
وتفنى عظام الصب بعد مماته وأشواق وقف عليه محرم
قال الإمام ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا حسن ذياك السماع وطيبه من مثل أقمار على أغصان
والشمس تجري في محاسن وجهها والليل تحت ذوائب الأغصان
فيظل يعجب وهو موضع ذاك من ليل وشمس كيف يجتمعان
وكذاك فسر شغلهم في سورة من بعد فاطر يا أخا العرفان
قوله: من بعد فاطر يعني: سورة يس قوله تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55] قال العلماء: مشغولون بفض الأبكار، يؤتى الرجل قوة مائة في الأكل والشراب والجماع.
ولا خزي فيها أيضاً، قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم:8].
والجنة رحمة قال تعالى في الحديث القدسي: (أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء)، وقال تعالى: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107].
والجنة حب وود قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
والصور جميلة قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ [عبس:38] يعني: نيرة جميلة.
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:39] .
تضيء بالسعادة وجوههم قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107].
يسعون إلى الجنة ومعهم النور قال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12].
قد جاوروا النبيين: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].
وهم في صحبة أسرهم وأصدقائهم: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد:23].
يقربهم الله عز وجل، ونعيم القرب من الله عز وجل ليس كأي نعيم ثانٍ: أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:11] ويجعلهم في عليين، ويثيبهم من رضوانه.
قال الله عز وجل: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:9] يعني: فرحين بما قدموا راضين عن جزاء الله عز وجل، راضين عن أنفسهم، يرددون دائماً: الحمد لله الذي صدقنا وعده، الحمد لله الذي هدانا لهذا، ليس لهم عند التسليم إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:26].
هي دار السلام دعواهم فيها التسبيح: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ [يونس:10].
يسمعون صوت داود وصوت ربهم وصوت غناء الحور الحسان: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46] .
والجنة فسيحة، قال الله عز وجل: وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74] فيا بائعاً هذا ببخس معجل! ارجع وعد إلى هذه الدار، واجعل كل همك أن تحصل عليها.
إن رحمة الله عز وجل عرضها السماوات والأرض، فإياك إياك ألا يكون لك قدم فيها، لمثل هذه الجنة فاعمل، لمثل هذه الدار فانشط وكد واتعب، إن من فارق الراحة وجد الراحة.
يا ابن الإسلام! من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد.
إذا قال لك الكسالى والبطالون: هلم إلى الدنيا فقل: ما عند الله عز وجل أعظم وأجل، إنما خلقنا لجوار الرحمن، للدار التي ارتضاها الرحمن مكافأةً لعباده، نسأل الله عز وجل أن يدخلنا هذه الجنة، فإن دخول الجنة محض منٍّ وكرم وفضل من الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن ينجو أحد منكم من النار بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
قال تعالى: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
لو أن رجلاً سمع برجل هو أرفع إلى الله منه، فمات ذلك الرجل غماً، ما كان ذلك بكثير على من يريد أن يرث الفردوس، فلا تقلبوا الأمر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر