إسلام ويب

الإخلاص بين الصوفية والسلفللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإخلاص شرط في قبول العمل، فلا يقبل الله عز وجل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، فهو سبحانه وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه مع الله تعالى غيره تركه وشركه، وقد ضلت الصوفية في هذا الباب فعرّفوا الإخلاص بما يذهب بالإخلاص، واختلقوا في طريقه عقبات موهومة فقالوا: إن طلب النعيم والجنة ينافي الإخلاص .. وغير ذلك من خرافاتهم.

    1.   

    الصيام عنوان الإخلاص

    إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًعبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    أيها الإخوة الكرام: الصيام عنوان الإخلاص، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن الله تبارك وتعالى: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، ونعلم ضرورة أن الصيام للعبد أيضاً، فكل عمل ابن آدم له حتى الصيام؛ لأنه إذا لم يصم عوقب، فدل ذلك على أنه إذا عمل فهو له، وإنما استثنى الله عز وجل الصيام دون الصلاة -والصلاة هي رأس الأمر بعد الشهادتين- لأن الصيام عنوان الإخلاص، لا يتأتى فيه الرياء مثلما يتأتى في الصلاة.

    إن العبد قد يتوضأ في بيته ويخرج إلى المسجد ويرائي الناس بصلاته؛ لكنه لا يستطيع ذلك في الصيام، فقد يكون في البيت وحده فيشتد به العطش حتى يكاد أن يهلك، ومع ذلك لا يستطيع أن يشرب .. هذا هو معنى الإخلاص.

    إن الإخلاص في العبادة شرط باتفاق العلماء، والعمل الذي يخلو من الإخلاص لا قيمة له، قال الله تبارك وتعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]؛ لأنه خالٍ من الإخلاص.

    الإخلاص يرفع صاحبه من أسفل سافلين فيجعله في أعلى عليين، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:145-146].

    1.   

    تعريف الصوفية للإخلاص

    هل يشعر المرء إذا كان مخلصاً أم لا؟ من العجب أن بعض الصوفية عرّفوا الإخلاص تعريفاً يذهب بالإخلاص، عرفوا الإخلاص تعريفاً يكاد المرء يشك في نفسه، فقال قائلهم: إذا شهدوا في إخلاصهم الإخلاص؛ فإن إخلاصهم يحتاج إلى إخلاص.

    أي: إذا أحس المرء أنه أخلص في عمله، فإن هذا الإحساس مضيع للإخلاص، فشرط الإخلاص: ألا يشعر بأنه مخلص أبداً.

    نسوا إرادة العبد للإخلاص، فكيف يتأتى الفعل بدون إرادة؟! هذا مستحيل! لأن هذا أمر يجده المرء من نفسه، ولا يختلف فيه أحد، فالمخلص يجب أن يعلم أنه مخلص، فكيف يقال: إذا شعرت بأنك مخلص فهذا قدح في إخلاصك؛ أو إخلاصك يحتاج إلى إخلاص؟!

    حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار يرد على الصوفية في تعريفهم للإخلاص

    يكفي أن يُرد على هؤلاء بحديث واحد ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح لفاعله، وإن لم يفعله أحد من هذه الأمة، ولكنه حدث في بني إسرائيل، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خرج ثلاثة ممن كانوا قبلكم يرتادون لأمرهم، فأخذهم المطر، فآواهم المبيت إلى غار، فلما دخلوا الغار سقطت صخرة من أعلى الجبل مما يهبط من خشية الله، فسدَّت عليهم باب الغار، فالتفت بعضهم إلى بعض وقالوا: سقط الحجر وعفي الأثر، ولا حيلة لكم إلا بالله، فادعوا الله بصالح أعمالكم.

    فقال الأول: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً)، والغبوق: هو الشراب بالعشي، يقول: كنت لا أسقي بالعشي أحداً قبلهما، والشراب في الصباح اسمه: صبوح، (فنأى بي طلب -أي: الشغل- يوماً، فلم أرد عليهما، فجئتهما وقد ناما، فوقفت على رأسهما ولم أوقظهما، ووضعت الإناء على كفي والصبية يتضاغون -أي: يصرخون من الجوع- تحت قدمي، وأنا أكره أن يشرب أحد قبلهما، فما زال ذلك دأبي ودأبهما حتى برق الفجر، فاستيقظا وشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.

    وقال الثاني: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأصابتها سنة، فجاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ثم جاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فرضيت، والتمست لها مائة وعشرين ديناراً، فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه! فقمت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت لها المال، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.

    وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجراء استأجرتهم على فرق من أرز -أو ذرة- فاستقل أحدهم أجره فذهب مغضباً وتركه، فثمرته له حتى كان منه البقر والإبل والغنم، فجاءني وقال: يا عبد الله! ادفع إلي حقي ولا تبخسني حقي، فأخذته على سقف البيت وقلت: انظر! كل الذي ترى لك، هو من مالك، فقال: يا عبد الله! لا تسخر بي، قال: هو كما أقول لك، فاستاق النعم كلها ولم يترك منها شيئاً؛ اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون).

    فهؤلاء علموا أنهم أخلصوا في هذا العمل، فدعوا الله عز وجل بما يتيقنون أنهم أخلصوا فيه، فإن الكذب على الله جريمة من أعظم الجرائم، فكيف يقول لله عز وجل وهو كاذب: اللهم إن كنت تعلم! ويكذب في الموضع الذي يبتغي فيه النجاة؟!!

    فعليه نعلم أن المضطر مخلص في اضطراره، حتى لو كان مرائياً في غير ذلك، قال الله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ ُُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يونس:22-23]، وقال تبارك وتعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، وقال تبارك وتعالى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان:32].

    فالعبد يخلص إذا أصابه الاضطرار، وهل تخلّص العبد من الاضطرار، وحياته كلها أزمات، وكلها محن ومصائب؟! فهو محتاج إلى ربه دائماً، وهو مضطر دائماً، فلِمَ يخلص في موضع ويرائي في آخر؟!

    1.   

    الإخلاص شرط في قبول العمل

    قد أمرنا الله عز وجل بالإخلاص في العمل، وأعلمنا أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي أحداً تركته وشركه)، وهذا تقرير لمعنى الإخلاص، قال تبارك وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] .. إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر:2] .. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر:11-14] .. هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:65] .. قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29].

    فلا يقبل الله عز وجل عمل عامل إلا بالإخلاص.

    1.   

    عقبات موهومة في طريق الإخلاص عند الصوفية

    إن في طريق الإخلاص عقبات موهومة وعقبات حقيقية، وأكثر الناس مبتلى بالعقبات الموهومة، فيشتبه عليه العمل أهذا إخلاص أم رياء؟ فيبتلى في آخر الأمر بالنفاق، فتكون عاقبته وخيمة، والذين يضخمون هذه العقبات هم الصوفية، يضخمونها حتى يشك المرء في نفسه.

    وكما وردت المقولة: إذا اعتقدت أنك مخلص فإخلاصك يحتاج إلى إخلاص!! يقول رويم بن أحمد الصوفي الشهير فيما رواه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمته: (رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين!!) سبحان الله! فلو صدر الرياء من أكبر رأس على وجه الأرض لكان رياءً مذموماً، ولو صدر الإخلاص من أدنى رجل لأُجر عليه، فكيف يقال: إن رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين؟! هناك فرق هائل، وهل حسنات الأبرار كسيئات المقربين؟ ومتى كانت الحسنة سيئة؟! إن الله تبارك وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، ليس هناك مداهنة إطلاقاً، فأدنى رجل إذا فعل الطاعة قبلت منه، قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)، لا يعرف رسماً ولا اسماً، ولا يؤبه له، ومع ذلك إذا أقسم على الله أن يفعل كذا أبر قسمه.

    إن الله تعالى هو الخبير الذي لا يعرف أخبار خلقه إلا هو .. ترى الرجل فتزدريه بعينيك وهو من الأولياء، وترى الرجل يشار إليه بالبنان، ويتبركون به، وهو من أهل النار، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، حتى إذا كان بينه وبينها قيد ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة)، والفارق هو الإخلاص.

    طلب النعيم الأخروي

    إن أول العقبات الموهومة كما تزعم الصوفية: هي طلب النعيم الأخروي، ويرون أن ذلك قدح في الإخلاص، يقول رويم بن أحمد هذا: (الإخلاص ألا تطلب على عملك عوضاً في الدارين، ولا جزاء من الملكين)، وهناك كلمة ينسبونها إلى رابعة العدوية عابدة أهل البصرة: (اللهم إن كنت عبدتك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، وإن كنت عبدتك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك طمعاً في لقاء وجهك فلا تحرمني).

    ويقول أبو حامد الغزالي صاحب الإحياء، الذي ضيع علم السلوك بهذا الكتاب، يقول: إن من عمل للجنَّة وخاف من النار كمثل الأجير السوء، إذا أُعطي عمل وإذا مُنع لا يعمل، ودرجته بمنزلة البنجي. أي: الحمقى.

    ضلال الصوفية في جعلهم النعيم الأخروي منافياً للإخلاص

    إن الأنبياء كانوا يدعون الله عز وجل أن يدخلهم الجنة، وكانوا يتعوذون من النار، والله تبارك وتعالى أثنى على عبادٍ له ونسبهم إلى نفسه تشريفاً لهم، قال الله عز وجل: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63]، وهؤلاء يتعوذون من النار: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:65-66]، والذين وصفهم الله عز وجل بالعقل من جملة البشر وهم أولو الألباب، تعوذوا من النار، قال تبارك وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] .. ومن جملة قول هؤلاء: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192]، وقبل ذلك بآيات: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ آل عمران:185]، وهذا كلام الله وحكمه: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].

    لكنهم يقولون: هذه عبادة التجار! فالذين يعبدون الله طمعاً في جنته وخوفاً من ناره عباد سوء!! فجعلوا طلب الأجر عقبة من عقبات الإخلاص، ومن هو الذي يستطيع أن يحقق ما يقولون وقد كان سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يدعو بالنجاة من النار وهو ساجد؟! وجاءه رجل -كما روى أبو داود في سننه- فقال له: (أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ -أي: أنتم تتكلمون كثيراً، وهذا الدعاء لا أفهمه ولا أتقنه ولا أحفظه- لكنني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن)، أي: حول طلب الجنة والعياذ من النار ندندن.

    فكل الذكر وكل الدعاء إنما هو لطلب الجنة والنجاة من النار ..

    إن هؤلاء يظنون أن الجنة فاكهة ورمان فحسب، لا. إن أعظم ما في الجنة النظر إلى الله عز وجل، فينسبون إلى رابعة قولها: (وإن كنت أعبدك طمعاً في لقاء وجهك فلا تحرمني)، سبحان الله! وهل يرى العبد ربه خارج الجنة؟! هل هناك مكان ثالث غير الجنة والنار؟! قال الله عز وجل: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، قال الشافعي رحمه الله: (لو لم يكن من العقوبة إلا الحجاب فلا يرون الله لكان كافياً).

    فهذا أعظم من عذاب النار، وهو ألا يرون الله، كما أن رؤية الله عز وجل أكبر من كل نعيم الجنة، كما في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استقر أهل الجنة في الجنة، يقول الله عز وجل لهم: يا عبادي! هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا! وكيف لا نرضى وقد جنبتنا السعير؟! قال: أفلا أعطيكم ما هو أكبر من ذلك؟ قالوا: يا ربنا! وما هو أكبر مما نحن فيه؟! قال: فيكشف الحجاب، فيرون الله عز وجل، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى الله عز جل).

    إن أعظم نعيم في الجنة هو أن يرى العبد ربه، فكيف يقولون: (وإن كنت أعبدك طمعاً في وجهك فلا تحرمني من وجهك) ولا يرى العبد ربه إلا إذا دخل الجنة؟! هذا غلط وقعوا فيه، وشيدوه، وبنوا عليه أصولاً في علم السلوك، وتمسك به كثير من الذين تأثروا بـأبي حامد الغزالي .

    فاحذروا باب السلوك وباب العقيدة في إحياء علوم الدين، فهذا الكتاب لا يحل لأحد أن يقرأه إلا إذا كان عالماً، ففيه طامات وحيات وأفاعي بين السطور كم أردت من قتيل! وقد حذر العلماء من هذا الكتاب.

    لقد جعل الصوفية طلب النعيم الأخروي عقبة في طريق الإخلاص، فإذا كان الرجل يطلب من الله الجنة ويستعيذ به من النار، يقولون له: أنت لست بمخلص، وإخلاصك يحتاج إلى إخلاص! فضيعوا الإخلاص على جماهير المسلمين.

    الجزاء حافز وداع إلى العمل

    لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا لم ينصب له جائزة فإنه لا يعمل، والنبي عليه الصلاة والسلام أخذ هذا المعنى من القرآن، فعندما ذكر الله عز وجل أن الجنة للمتقين وأن النار للعاصين، جعل حافزاً وجزاءً، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة لقيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها غلام، فرفعته وقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟! قال: نعم، ولك أجر)، والمرأة لم تسأل عن الأجر، إنما سألت عن الحج، وكان الجواب كافياً بنعم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أردف ذلك وقال لها: ولك أجر؛ لأن العبد إذا علم أنه يؤجر عمل، وزادت همته.

    ونضرب مثلاً للأعمال والأجور: موظفو القطاع العام يأخذون الراتب سواء عملوا أو لم يعملوا، ولذلك كثر فيه الغش والخداع، بينما القطاع الخاص نادر؛ لأنه يربط الأجر بالإنتاج، فإذا أنتج رجل قطعة أخذ مقابلها أجراً، فتجده يجد ويعمل ابتغاء الأجر.

    فهذا شيء خلقه الله عز وجل في فطر الناس، فإذا علم الإنسان أنه لن يؤجر؛ فترت همته، وقل عمله، لكن إذا علم أن الله عز وجل سيجزيه ويعطيه؛ فإنه يعمل ويجد ويجتهد، فكيف غفلوا عن هذه الخصلة الموجودة في بني آدم وخاطبوا عبداً مجرداً من الإحساس؟!

    وقد جاء أن أحد الصحابة قال للنبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر وكان يأكل تمرات: (يا رسول الله! مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة! وذكر الجنة ونعيمها، وحورها وشجرها، فقال: إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات، فرمى بالتمر ودخل في الصف فقاتل حتى قتل).

    ولو أن هذا الصحابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما لي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: لا أجر لك! فهل سيضحي الرجل كما ضحى ورمى التمرات وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات؟!! ما الذي جعله يضحي بنفسه ويدخل في غمار الصف؟! إنه الجزاء والأجر الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.

    الناس في الدنيا نماذج كثيرة، فرجل يعمل ويبني عمارات ومصانع .. لأجل ماذا؟ وآخر تزوج ولم ينجب ومنذ سنين وهو يذهب إلى الأطباء وهم يرخون له الحبل، ويستدرجونه بالأماني: هناك أمل إن شاء الله!.

    وقد حدث هذا الأمر لطبيب أعرفه، تزوج بابنة خاله، وكان يحبها حباً شديداً، ويتمنى منها الولد، وظل سنيناً طويلة يبحث عن ولد، وهم ينسجون له حبال الأماني: هناك أمل! والرجل معتمد على الله عز وجل؛ لأنه قيل له أن هناك أملاً، وفي حياة طويلة على مدار عشرين عاماً، وهي نسبة ذهابه إلى الأطباء في أنحاء العالم رجاء الولد، وخلال ذلك وهو يبني ومعه عقارات، ومعه عيادتان، وفي آخر مرة رجع من بلد أوروبي وقد قال له الأطباء: لا أمل على الإطلاق! فلما رجع بدأ يبيع العقارات والعمارات، وباع عيادة من العيادتين، فسألوه عن ذلك، فقال: لمن أتركها؟!

    إذاً: لماذا كنت تعمل طيلة عشرين عاماً؟ لمن كنت تبني وتعمّر؟! لقد كان عنده أمل، فلما فقد الأمل أنفق ما جمع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، والفسيلة: هي النخلة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحض على الزراعة، فيقول لأحدنا: إذا كان بيدك فسيلة فاغرسها قبل أن تموت، لا تقل: لمن أزرعها؟ والمرغوب فيك أنك لا تعمل إلا لهدف، فخالف طبعك واغرسها، ولماذا لا يغرسها؟ سيقول: لأن الساعة قد قامت، فمن سيأكل منها إن أنا غرستها؟ فكأنه قال له: خالف ما هو مغروس فيك واغرسها.

    إذاً: العبد لا يعمل إلا إذا جعل له الأجر، أما إذا لم يجعل له أجر فترت همته.

    فجعل هؤلاء طلب النعيم الأخروي عقبة من عقبات الإخلاص، فضيعوا معنى الإخلاص على سواد الجماهير من المسلمين.

    الاقتداء بالصحابة أمان من الفتن والضلالات

    إن أولياء الله عز وجل من الصحابة رضي الله عنهم قد حققوا الإخلاص غاية التحقيق، وضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك، وبهم نقتدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ [التكوير:2] أي: تساقطت، فعندها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.

    إذاً: بقاء النجم في السماء علامة أمان، فطالما أنك ترى النجوم فأنت في أمان، لكن إذا سقطت النجوم فليس بعدها إلا القيامة .. (النجوم أمنة في السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)، فإنه لما ذهب الصحابة زادت الفتن في هذه الأمة، وكم من المحن التي حلت بالأمة مما يندى لها الجبين!

    إذاً: بقاء الصحابة كان علامة أمان لهذه الأمة، فإن ذهب الصحابة أتى هذه الأمة ما توعده.

    إذاً: العودة لهدي الصحابة أمان، واستحضارك لعمل الصحابة وأقوالهم أمان، وهذا هو المذهب الذي نريده.

    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756004797