إسلام ويب

الأمة الوسطللشيخ : عمر الأشقر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المتفق عليه أن الخصيصة الأولى والمقوم الأساسي للأمة الوسط هو كونها أمة ربانية، وهذه الخصيصة خاصة بهذه الأمة لا تشاركها فيها الأمم الأخرى، فالأمة الإسلامية أمة ربانية في عقيدتها وتصورها وتشريعها وأخلاقها وقيمها؛ لأن هذا كله منزل من عند الله تبارك وتعالى.

    1.   

    موقع أمة الإسلام بين الأمم ومعنى وسطيتها

    إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فأسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في جهودكم، وأن يجعلكم طليعة هذه الأمة الوسط، التي تقود البشرية في حاضرها كما قادها أسلافها في ماضيها، وفي ظني أن القائمين على المؤتمر قد وفقوا أيما توفيق في اختيار الموضوع الذي تدور حوله هذه الندوات والمحاضرات: الأمة الوسط.

    وسر التوفيق في ظني: أنها دعوة للباحثين والمفكرين ولأبناء هذه الأمة ليعيدوا النظر في موقع أمتهم بين الأمم، ونحن اليوم -أيها الإخوة- في ذيل الركب الإنساني، نحن الآن نصنف في العالم المتخلف الثالث، فهذا هو موقع أمتنا، وهذا الموقع الذي تعيشه الآن، هو الموقع الذي شاء الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أن تكونه، لكن انظروا معي نظرتين، انظروا معي في ماضي هذه الأمة، كيف كانت؟ ثم قارنوه بحاضرها، أي: كيف هي الآن؟ ستجدون فرقاً هائلاً وبوناً شاسعاً، وانظروا معي نظرة أخرى إلى واقع هذه الأمة اليوم، ثم انظروا إلى الدور الذي رسمه القرآن لهذه الأمة من خلال نصوص آيات الكتاب، ومن خلال أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتدبروا الآية التي هي شعار هذا المؤتمر: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا البقرة:143]، فهذه الآية تحدد دور هذه الأمة وتبين موقعها بين الأمم، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ، والوسط في لغة العرب: الخيار والأفضل والأكمل، قال تعالى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أي: خيرهم لَوْلا تُسَبِّحُونَ [القلم:28]، وفي الحديث: (الفردوس وسط الجنة وأعلى الجنة)، والوسط في أصله: الجزء بين الشيئين، والنقطة المتوسطة بين طرفين، وكانت النقطة المتوسطة هي أفضل شيء؛ لأنها مركز الاعتدال، ولأنها بعيدة عن التطرف، ولأن العوار والفناء كما يقول الزمخشري إنما يصيب الأطراف أولاً، فلا يصل إلى المركز إلا بعد أن تفنى الأطراف.

    فهذه الأمة خير وأعدل وأفضل الأمم، وذلك ما قرره الحق تبارك وتعالى، بل إن القرآن يصرح به في آية أخرى وهي قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فهذه أمتنا من خلال كتاب ربنا، وأريد أن تستعيدوا معنى قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، وقوله في الآية الأخرى: جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، فقوله: (جعلناكم) ما مفهومه؟ أو ما معناه؟ أمعناه خلقناكم أمة وسطاً؟ لا، فالأمة مخلوقة قبل أن تكون أمة وسطاً، وإنما المراد: صيرناكم أمة وسطاً، وبم صرنا أمة وسطاً؟ بهذا الإسلام، وما الذي أخرجها فأصبحت خير أمة أخرجت للناس؟ إنه هذا الدين، الذي رسم عقيدتها ووضع شريعتها، وبيّن أخلاقها وجاء بقيمها وتصوراتها، فعندما استقامت على منهج الله تبارك وتعالى، وحققت الإسلام في أنفسها، واصطبغت بصبغة الإسلام؛ أصبحت هي الأمة الفاضلة والأمة الخيرة، وعندما يتناقص هذا ثم يفنى في الأمة فإنها تنحدر من خيريتها، ويصبح حالها كحالها اليوم، وعندما تسامت هذه الأمة في مطلع الدعوة في عقيدتها وسلوكها ومنهجها أصبحت خير أمة.

    والوسطية والخيرية ليست لقباً يعطى من غير مضمون؛ إنما هو عنوان لحقيقة تجسدت في الأمة، حقيقة تراها في الرجل الأول في هذه الأمة، في محمد صلى الله عليه وسلم، وتراها في أبي بكر الصديق ، وتراها في عمر بن الخطاب ، وتراها في جيل الصحابة، وتراها في جيل التابعين، وتراها في العلماء والمفكرين، وفي الدعاة والمصلحين، فأصبحت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

    1.   

    كل أمة تدعي الخيرية

    الموقع المراد لهذه الأمة هو أن تكون أفضل الأمم، وأن تكون خيرها، وأن تكون قائدة لركب البشرية، ومعلمة لها، وأن تحكم البشرية في عقائدها، وفي تصوراتها، وفي أخلاقها، وفي قيمها.

    والأمة ينازعها في ذلك غيرها، فكل أمة تدعي ذلك، وتزعم أنها أفضل الأمم، وكل أمة تبذل في سبيل تثبيت خيريتها وأفضليتها، تبذل من وقتها ومالها وفكرها، بل إنها تدفع أبناءها في ميدان الحرب والقتال لتقرر ذلك، وقد واجه الصحابة هذه الحالة في عصرهم، ثم واجهها المسلمون بعد أن قامت دولة الإسلام، متمثلة في الدول الكبرى، وفي الديانات القديمة، وفي الملل والنحل، فالفرس يقولون: نحن خير الناس، والروم يقولون: نحن خير الناس، اليهود يقولون: نحن أفضل الناس، والنصارى يقولون: نحن أفضل الناس، قال تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، وقال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ -وهم المشركون- مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:113]، وهذه هي سنة الله في البشر، أي: أنه زين لكل أمة عملهم، ومن هذا التزيين ينشأ الاختلاف والصراع، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهذا قد يزلزل يقين المسلم في دوره في الحياة، وقد يجعله يهتز ويضطرب، ولا يصلح لقيادة ركب البشرية، وهكذا من لم يوقن بدوره ومركزه في واقع الحياة.

    هذه الآية وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا هي أول الآية الثانية من الجزء الثاني من القرآن، والجزء الأول أكثره بيان لموقف أمة تزعم أنها خير الأمم، وتدعي أن الذي فضلها هو الله تبارك وتعالى، ألا وهم اليهود، فكانت جولة طويلة مع اليهود الذين يزعمون هذه الدعوى، أي: وأنهم أفضل الناس من أخيرهم، وبين الله لهم أن هذا صحيح إذا استقاموا على خصائص الوحي الإلهي، قال تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47]، ثم بيَّن لهم كيف أنهم انحدروا في عقيدتهم وتصوراتهم وأخلاقهم وقيمهم، وانحرفوا عن هذا المركز، وتحولوا عنه؛ لأنهم لم يثبتوا عليه، وكشف نقضهم للعهود والمواثيق، وتحريفهم للكتاب، وسفك بعضهم لدم بعض، وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم، واتباعهم للسحر وللشياطين، فعندما فقدوا الخصائص التي تجعلهم خير أمة أخرجت للناس، كأنه قال لهم: لقد تحول الميزان، وتحولت القيادة منكم، وجاءت أمة جديدة تملك هذه الخصائص، أمة لها دينها الغض الحي، ولها قيمها وموازينها وهذه هي الأمة الفاضلة، أما أنتم فقد فقدتم دوركم؛ لأنكم فقدتم خصائص الأمة الصالحة الطيبة.

    وتأتي هذه الآية في جولة مع اليهود عندما شككوا في هذا الدين، فقد حول الله تبارك وتعالى القبلة من بيت المقدس إلى البيت العتيق؛ لأن الأمة الفاضلة لا يجوز أن تكون تابعة لغيرها من الأمم في قبلتها، فأراد الله تبارك وتعالى أن يخص هذه الأمة بقبلة تميزها: فقال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [البقرة:150]، وكان اليهود يقولون: محمد والمسلمون تبع لنا يتوجهون إلى قبلتنا، فخص الله هذه الأمة بقبلة تميزها، هي خير جهة؛ لأنها تتجه إلى البيت العتيق الذي بناه إبراهيم عليه السلام، فشكك اليهود في هذا، فوصفهم الله بالسفهاء، وقال: هذه هي الأمة الفاضلة التي اخترت لها هذه القبلة الطيبة، قبلة إبراهيم عليه السلام.

    فهذه أمتنا من خلال ما رسمه القرآن الكريم، وهذا واقعنا الذي نعيش فيه، وبين الدور الذي رسمه القرآن والواقع الذي نعيش فيه فرق كبير كالفرق بين الثرى والثريا، وكالفرق بين الأرض والسماء! وإذا ما عادت هذه الأمة إلى خصائصها، وما استقامت على عقيدتها وشريعتها ومثلها وقيمها، فستعود تلك هي الأمة الوسط، وتعود خير أمة أخرجت للناس.

    1.   

    القناعة تورث سلوكاً صواباً أو خطأ

    كلمة الشيخ عبد الله المصلح : أيها الإخوة في الله! أبدأ حديثي إليكم بتحيتكم بتحية الإسلام، تحية أهل الجنة كما قال تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    وأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشكره وحده، فله المنن العظمى المتتالية، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، ويوم أن نتذكر آلاء الله علينا ونعمه السحاء، فلن ننسى نعمة هذا اللقاء المبارك بكم، وأسأل الله أن يجعله لقاءً نافعاً في السير إليه على بصيرة من أمرنا، إنه على كل شيء قدير، وبعد:

    ليست التصورات الاعتقادية والمناهج الإيمانية مما يفرض على الناس بالأمر، وما كانت هناك عقيدة تعتقدها أمة، ولا منهج إيماني استقر في كيانها تصديقاً وإيماناً واعتقاداً عن طريق الأمر الجبري، بل إنما تعتقد ذلك إذا اقتنعت، وهي لن تقتنع إلا إذا سارت في الدرب الموصل لها إلى القناعة، وكيف لا يصل هذا الدين إلى الطريق الواصل للقناعة الإنسانية في الإنسان؟! والذي أنزل هذا الدين وارتضاه لنا هو من خلق هذا الإنسان وعلم حقيقة تكوينه، قال الله: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فالعلم هو الطريق الموصل إلى إثبات القناعات، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، ولقد بوب الإمام البخاري باباً قال فيه: بابٌ: العلم قبل القول والعمل، ثم استشهد على ذلك بقول الله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.

    فالقناعة أو العقيدة إنما تورثها الأدلة والمعلومات، فيوم أن يأتي علم راشد فيستطيع أن يولد عقيدة راسخة، وهذه العقيدة الراسخة هي بدورها ينبثق منها سلوك الإنسان في حياته، فأنتم ما جاء بكم إلى هذا المقام إلا علم كان قد وصل إليكم، فاستقر قناعة في أعماقكم، وتولد منه هذا السلوك الذي أشهده الآن في هذا الاجتماع المبارك. هذه الحقيقة الأولى، والحقيقة الثانية: أن العالم اليوم لا يخرج عن واحد من اثنين:

    فريق يرى أن لهذا الوجود خالقاً خلقه، فله رب وإله، وفريق آخر يرى أن ما يشهده ويحسه من الموجودات هي مخلوقات بلا خالق، ولقد نتج عن هذا تساؤلات بدأت تطرق بقوتها على عقول القوم مظهرة أسئلة لم يستطيعوا بعد الإجابة عليها، وهي: من أنا؟ ولماذا جئت؟ وأين المصير؟ وكيف جئت إلى هذه الحياة؟ وما مصيري بعدها؟ قضايا لن تستطيع العقول البشرية أن تجيب عليها؛ لأن الله لم يمكنها من ذلك.

    1.   

    القواعد التي قام بها الدين الإسلامي

    وقضية الإيمان لا يمكن أن تقوم إلا على قاعدة العلم الراسخ، وقد قام هذا العلم على القواعد التالية:

    القاعدة الأولى: أن الإنسان في أصل تكوينه الفطري واستعداده الجبلي مفطور على الإيمان بالله عز وجل، وعلى أن يعتقد أن الله خالقه، وقد أقام هذا الدين هذه القاعدة على شقين: قضية الفطرة وقضية العقل، فكل مخلوق من الناس مفطور أصلاً على أن يعرف الله عز وجل، ورد في صحيح الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله: لقد خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه).

    فالإسلام يبني قاعدته الإيمانية على تصور أن هذا الإنسان طبعه الأساسي قابل لها، قال تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، وهذا القبول هو الأصل في هذا الإنسان، بل إن هذا الدين ليجزم أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنساناً يعيش معاني الإنسانية الحقيقية إلا إذا سار في طريق هذا الدين، وفي طريق هذه العقيدة، وإذا حاد عنها فقد خرج عن كيانه الإنساني ليصبح شيئاً آخر ينتج عنه أشياء أخرى.

    أما القاعدة الثانية: فهي قضية العلم الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وشهد له الإعجاز، وجاء به الأنبياء بدءاً من آدم وانتهاءً بسيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وقال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].

    فالتصور الإسلامي عن الأمم السابقة هو: أنه ما من أمة إلا وقد بعث الله لها رسولاً أو نبياً يبلغها عن الله عز وجل مراده من خلقه وهدايته إلى الناس، ثم هؤلاء الرسل أنزل الله عليهم كتباً، وفي هذه الكتب عقيدتهم التي يجب عليهم أن يعتقدوها، وشريعتهم التي يجب عليهم أن ينفذوها، أمراً يستجيبون له أو نهياً ينتهون عنه، ثم إن الله عز وجل أكرم كل رسول بإعجاز ليكون ذلك الإعجاز دليلاً قوياً وقاطعاً على أن ما جاء به ذلك الرسول ليس من عنده، وإنما هو من عند الله عز وجل، وما جاء به يستحيل أن يأتي به إنسان من الذين يشهدونهم من حولهم.

    1.   

    معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله

    قضية الإعجاز منحة من الله عز وجل للأمم السابقة عن طريق رسلها، ولنا عن طريق نبينا وحبيبنا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الإعجاز للرسل السابقين إعجازاً مادياً، تمثل فيما شهدوه من خوارق العادات، وإبطال السنن الكونية للأشياء المألوفة؛ فإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كان أكبر من ذلك، لقد وقع على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإعجاز ما كان إعجازاً مادياً عطلت فيه سنن الكون، وشهد بذلك صحابته من حوله.

    الإعجاز التشريعي

    من إعجاز الرسول صلى الله عليه وسلم: الإعجاز التشريعي، والإعجاز البياني، والإعجاز العلمي.

    سلامة البشرية كلها هو في منهج الإسلام التشريعي، ويستحيل أن تسعد البشرية إلا تحت ظلال هذا الدين، وانبثاقاً من شريعته السمحة الشاملة الكاملة الخالدة، وفي كل قضية من قضاياها.

    ومن أجل أن يبقى هذا التشريع مكتوباً له الديمومة والخلود والقدرة على حل المشكلات الطارئة في حياة الأمة؛ فقد جعل الله في هذا التشريع قواعد كلية وقضايا عامة، ثم كانت قضية الاجتهاد التي جاءت لنوعية خاصة من الناس، وهم الذين توافروا على هذا العلم فأدركوه لغة وفهماً للقرآن والسنة، ولمقاصد تشريعاته، فيأتي هؤلاء المجتهدون وقد أخذوا وعلموا علم اليقين تلك القواعد فيقيسون عليها الحوادث الجزئية الطارئة المتجددة، فيقولون الحكم في كل قضية تطرأ في حياتهم.

    وإذا كانت هذه الشريعة قد اتسعت لأمة ضاربة من جاكرتا شرقاً إلى طنجة غرباً في يوم عزها، فإنها تستطيع أن تنقذ البشر اليوم بعد أن جرب ويلات البعد عن هذا المنهج، بل وويلات تطبيق المناهج الأخرى، وسيكون للشريعة قبول أكثر بعد أن جربت الأمم الجاهلية وويلاتها.

    وما أكثر شهادة العلماء والعقلاء وذوي الحصافة حتى من غير المسلمين لنا في هذا الجانب، حتى أن ذكرها يعتبر من باب الأمور المألوفة التي سمعها الناس كثيراً، واستفاضت في أوساطهم، ولا مانع أن أذكر لكم كلمة بعد حوار أجريناه في مدينة من مدن ألمانيا في قضية الاقتصاد الإسلامي، وخرج معنا نخبة من كبار أساتذة الاقتصاد الإسلامي في العالم الإسلامي كله، خرجنا لنتحاور مع فريق من علماء الاقتصاد الغربيين، وكان على رأسهم عالم اسمه البروفيسور ألبخ ، وهو من جامعة كولون في ألمانيا الغربية، وبعد حوار دام عشرة أيام في قضية اقتصادية، وقف هذا الرجل يقول: لست رجلاً شرقياً تحركني العواطف، ولكني رجل يلزمني إقراري بالحقائق العلمية، فأقول لكم: إن إنقاذ العالم من مأساته الاقتصادية هو من عندكم معشر المسلمين، لكني علمت من خلال استماعي لكم أن المنهج الاقتصادي مرتبط ارتباطاً عضوياً بالعقيدة الإسلامية، فكأنكم تقولون لنا: اسلموا لنحل مشكلتكم الاقتصادية.

    هذا الرجل يفطن لما لم تفطن له كليات التجارة في عالمنا الإسلامي، التي تقرر قضايا الربا وقضايا أخرى فيها انحراف معين.

    الإعجاز العلمي

    الإعجاز العلمي لهذا الدين -ولله الحمد- يظهر في كل يوم بجديد، وقد توافر لهذا الأمر نخبة كانوا في جامعة الملك عبد العزيز في المملكة العربية السعودية، وسعدت بأن صحبتهم فترة بتمثيل جامعتي في هذه اللجنة، وكنت أستمع إلى الإعجاز العلمي الموجود في القرآن، والتقيت ببعض العلماء في المؤتمرات العلمية البحتة كالشيخ محمد الصالح العثيمين ، وذلك في المؤتمر الطبي السعودي الثامن، واستمعنا إلى الحقائق التي اكتشفها العلم، ثم تعرض على العلماء في آيات قرآنية وأحاديث نبوية، فيذهلون منها، وفي آخر المؤتمر الطبي السعودي الثامن أسلم عالم من كبار علماء الأجنة، أعلن إسلامه وقال: يستحيل أن تكون هذه الحقائق التي استمعنا إليها في علم الأجنة قد جاءت بحكم الصدفة أو أنها من عند بشر؛ لأني أعلم أنا ومن معي من العلماء أن علم الأجنة ما أصبح علماً يدرس كعلم يعترف به إلا قبل نحو خمسين أو ستين عاماً، وهذه الحقائق توجد عند المسلمين من قبل ألف وأربعمائة سنة!

    وقد أثبت المتخصصون في هذا الجانب أكثر من سبعين حقيقة علمية في علوم مختلفة تحدث القرآن أو السنة الصحيحة عنها قبل ألف وأربعمائة سنة! من ذلك قول الله تعالى: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:15-16]، كنت من قبل أتساءل: كيف تكون الناصية -وهي مقدمة الرأس- كاذبة خاطئة؟! وكنت أقول في نفسي: لو قال: لسان كاذب خاطئ، أو يد كاذبة خاطئة؛ لكان ذلك معقولاً، لكن قوله: ناصية أمر غريب! وكنت أقول: آمنا بالله، فإني لم أدرك معنى ذلك لقصوري، حتى التقى أحد إخواننا بعالم من كبار علماء العقل، وإذا به يحدثه عنه فيقول له: إن العقل مقسم إلى عدة فصوص، والفص الجبهوي منه -الذي في مقدمة الجبهة- هو الفص الذي يصدر الأوامر السلوكية لكل الحواس، فهو الذي يأمر اللسان بالكذب، ويأمر اليد بالبطش أو السرقة، فصدق الله إذ يقول عن هذه الناصية التي فيها القيادة العليا، واللجنة المركزية: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:16].

    1.   

    المخلوقات آثار دالة على صفات الخالق

    هناك الحجج العقلية القاطعة التي تدل على أن كل ما نشهده مخلوق لخالق قادر سبحانه وتعالى، فهذه الحجج تتمثل في أن لكل فعل فاعلاً، وأن الفعل مرآة لقدرة فاعله ولبعض صفاته، فأنا أستطيع أن أتصور أن هذا الكأس صنع في مصنع، وهذا المصنع فيه الأدوات الأولية لتصنيع البلاستك، وفيه مجموعة من الكئوس المصنعة الموجودة، ثم جيء به إلينا في هذا المكان، فهذه التصورات استطعت أن أتعرف عليها من خلال معرفتي لهذا الكأس، فأنا أعرف الصانع من خلال مصنوعه.

    ويوم أن أشهد هذا الإنسان في خلقته السوية، أعلم أن من رحمة الله به أن خلقه في أحسن تقويم، فإنه فجر فيه أنهاراً أربعة في الوجه: دمع في العين، ولعاب في الفم، ومخاط في الأنف، وشمع في الأذن؛ فأعلم أن وراء هذه الحكمة حكيم، وأن هذه الحكمة لا تكون إلا من الله الخالق الرازق المدبر سبحانه وتعالى.

    كل هذه الأدلة بأجمعها أدلة تشهد بأن الله هو ربنا، وأن المبلغ عن الله عز وجل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن ما طلب منا أن نستجيب له هو هذا الدين الذي نستسلم له.

    وهي أصول ثلاثة أقام هذا الدين عقيدة المسلم الإيمانية وتصوره الاعتقادي عليها.

    فهو يشهد أن الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي منبثقاً من شهادته اليقينية أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    1.   

    الأمة الربانية

    الأستاذ عمر : أيها الإخوة! لا يشاركنا أحد من غيرنا من الأمم في الوقت الحاضر في أننا أمة ربانية في عقيدتها وتصورها وتشريعها وأخلاقها وقيمها؛ لأن ذلك كله منزل من عند الله تبارك وتعالى، حتى ثقافة هذه الأمة إنما هي نتاج تفاعل هذه الأمة مع هذا الدين وهذا التشريع، والأمم الأخرى تصوغ تشريعها ثم يحكمها تشريعها تماماً، كما كان ينحت المشركون الصنم ثم يسجدون للصنم، وكذلك هم الآن ينحتون تشريعاً وقانوناً ثم بعد ذلك يحكمون القانون في رقابهم، إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17]، فمما يخلقه البشر هو هذه التشريعات والقوانين.

    وفي الماضي كانت توجد أمم لها تشريع إلهي رباني، أما في الوقت الحاضر فلا يوجد ذلك إلا في أمة الإسلام، فاليهودية دينها حرف، والنصرانية دينها حرف، وبقية الأمم لا تزعم أن لها ديناً ربانياً سماوياً، وبقي التشريع الوحيد الصافي الخالص الذي لم يخالطه دخن، والذي لم يتأثر بتشريعات البشر؛ هو ما احتواه كتاب الله تبارك وتعالى وسنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

    إذاً: فالإسلام هو الذي صاغ عقيدتنا، وهو الذي صاغ شريعتنا، وقيمنا، وهو الذي رسم سلوكنا، فنحن أمة ربانية تنتسب إلى الله تبارك وتعالى في ذلك كله، فمن يشاركنا في ذلك؟ ومن يطاولنا أو يفاخرنا فيه؟

    الأمم وضع أخلاقها، وقيمها، وتشريعاتها، ومفكروها، وعباقرتها، وأساتذة القانون فيها، والعادات والتقاليد التي ورثوها عن الآباء والأجداد، أما نحن فصنعنا الله تبارك وتعالى بهذا الدين، كما قال لعبده ورسوله موسى عليه السلام: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، وهذه الأمة عندما تستقيم على منهج الله يكون الإسلام قد صنعها، وتكون أمة ربانية سماوية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756173117