الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس، وما أقبح آثار الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ولما قال الله جل وعلا في الكتاب العزيز: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
[النساء:59] قال علماؤنا في التفسير: المراد بأولي الأمر: بها العلماء العاملون، الذين يعلمون الوحي ويعملون به ويعلمونه للناس، وأشهد الله العلماء على أعظم حقيقة في هذا الكون، وفضَّلهم بالشهادة عليها على الملائكة، فقال الله جل وعلا:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ
[آل عمران:18] هذه أعظم حقيقة أيها الإخوة، من أشهد الله عليها؟ أولو العلم، ونفى الله المساواة بين العلماء والجهال، فقال جل وعلا:
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
[الزمر:9].
وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، إذ أن هؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم أولياء الله جل وعلا، فإذا لم ينتقم من أعداء هؤلاء العلماء فممن ينتقم؟! وقد أخبر أن من أسمائه المنتقم.
فهؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم شهداء الله في أرضه، والأمناء على وحيه، وأهل خشيته، والأنوار في الظلمات، والمنائر في الشبهات، وهم وارثو علم الأنبياء.
وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
[فاطر:28] فشهد لهم بأنهم هم الذين يخشونه حق الخشية، علماؤنا -أيها الإخوة- من السلف والخلف الملجأ إليهم بعد الله عند نزول الملمات، عند حلول الكربات، هم الذين يفرجون عن عباد الله ظلمات الجاهلية، ويرفعون عن الناس ظلمات الجهل، إليهم الملجأ بعد الله إذا اشتد الخطب في الأمة.
وعندما غزا التتر بلاد الإسلام وولغوا في دماء المسلمين، من الذي أنقذ الله الأمة على يديه؟
إنه مجدد الأمة في عصره الإمام ابن تيمية رحمه الله، فالعالم -أيها الإخوة- في البلد كمثل عين عذبة يرتوي منها كل الناس، وكان علماؤنا في الماضي لهم مكانة عظيمة، وكانت مجالسهم في مدن المسلمين مشهورة مزدحمة، فهذا مجلس عاصم بن علي شيخ البخاري كان يحضره ما يزيد على سبعين ألف إنسان، وكان من ضخامته أنه يكون فيه أناس يسمعون غيرهم، لأن هؤلاء السبعين ألفاً كانوا لا يستطيعون كلهم السماع مباشرة.
ليس أي أحد يلجأ إليه في مثل هذه الأمور، وقد صنف علماؤنا في بيان صفات أهل العلم مصنفات عديدة وليس هذا الدرس مكاناً لذكر صفات العلماء بالتفصيل ولكن نعرج عليها بسرعة:
وكذلك من صفات العلماء العمل بالعلم، فإن الله ذم اليهود؛ فقال جلَّ وعلا: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ
[الجمعة:5] العالم من اليهود
ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً
[الجمعة:5] ولذلك كان علماؤنا يحرصون على العمل بالعلم، فهذا الإمام أحمد كان يحرص على ألا يدع حديثاً في مسنده الذي كان مسنداً ضخماً بلغت أحاديثه تقريباً أربعين ألف حديث كان لا يضع حديثاً حتى يعمل به ولو مرة واحدة، وقال عن نفسه: احتجمت فأعطيت الحجام ديناراً؛ لأنه ثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً.
وكانت محبتهم للظهور معدومة، ما كانوا يحبون الظهور بمعنى: المراءاة والتباهي بالعلم، إذا غابوا لم يفتقدوا، كانوا بعيدين عن الأضواء، والمقصود بالأضواء ليس مخالطة الناس، وإنما مجتمعات الثناء والتكريم.. مجتمعات الأعطيات والأموال والهدايا الثمينة كانوا يبتعدون عنها.
وكانوا يتصفون بصحة العقيدة، فإذاً العالم الحق هو الذي يكون صحيح العقيدة، ولا يشترط أن يكون العالم مجتهداً ملماً في جميع الأمور؛ بل قد يكون العالم مختصاً بنوع من أنواع العلوم، ومع ذلك يعتبر عالماً.
هذا شيخ الهند في عصره وعالمها الإمام صديق حسن خان، كان بينه وبين عبد الحي اللكنوي، منافسات شديدة، فلما توفي اللكنوي تأسف صديق خان بموته تأسفاً شديداً، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وقال حفيده: إنه أمر بإغلاق مدينة بهوبال التي هو ملكها؛ لأنه كان ملكاً عالماً ثلاثة أيام حزناً على الشيخ أبي الحسنات اللكنوي، وقال: اليوم مات ذوق العلم.
وقال: ما كان بيننا من منافسات إنما كان للوقوف على المزيد من العمل والتحقيق.
وهذا شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لا يكاد يجد فرصة يذكر فيها أحد علماء العصر إلا ويثني عليه، تواضعاً منه وما حباه الله به من هذه الصفة العظيمة، فتراه مثلاً يقول عن محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، يقول: لا أعلم تحت أديم السماء رجلاً أعلم منه بالحديث، ولا أشد اشتغالاً ولا تفرغاً ولا عناية به من أحد من أهل العلم بالحديث، وهذا كلام سمعته منه بنفسي، وقد نفى أنه قال: ليس تحت أديم السماء أعلم من الألباني بالحديث، قال: أنا لا أقول بهذا، أنا أقول: لا أعلم شخصياً، يقول الشيخ: لأن الإحاطة لله جل وعلا.
ويثني على الشيخ الشنقيطي رحمه الله، ويثني على الشيخ ابن عثيمين في المجالس، وعلى الشيخ الفوزان وبقية العلماء.
التواضع صفة لازمة، قال الله جل وعلا نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
[يوسف:76] ولذلك كانوا يكثرون من قولة: لا أدري، إذا سئلوا عن مسألة لا يعلمونها، يقول أحدهم: لا أدري، وكان لا يستحون من ذكر هذه الكلمة، بل إن ذكرها أيها الإخوة دليل اطمئنان وارتياح للعالم الذي يقولها، لأنك تثق من كلامه عندما يقول في المسألة: لا أدري، لا يزعم الإحاطة والعلم بالأمور ويفتي بغير علم.
وقد سألته مرة حفظه الله: هل الغيرة من الحسد أم لا؟ فلبث ملياً متفكراً، ثم قال: لا أدري، قد يقول قائل: هذه مسألة لا علاقة لها بالفقه وليس فيها أحكام، ولكن فيها درس لكل عالم ولكل طالب علم بالتورع عن القول بما لا يدري، وعن الوقوف ولا ينزل من شأنه أن يقول: لا أدري، وهذا الإمام مالك سئل عن ثمانية وأربعين مسألة فأجاب عن ست وثلاثين منها: لا أدري، فقال له السائل: ماذا أقول للناس إذا رجعت إليهم قال: قل لهم: يقول مالك: لا أدري.
فكانوا يختبرون علماءهم قبل أن يأخذوا عنهم، قال البخاري رحمه الله تعالى في أول كتاب الفرائض من صحيحه: قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: [ تعلموا قبل الظانين ] قال البخاري: أي قبل الذين يتكلمون بالظن، قال النووي في مقدمة المجموع ما معناه: تعلموا العلم من أهله المحققين الورعين قبل ذهابه ومجيء أقوام يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي.
لذلك لا بد من الحرص على لقاء العلماء قبل أن يذهبوا، والعالم إذا مات انثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا مجيء عالم مثله.
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وأمد في عمره: والعلماء الذين يصح أن يقال عنهم علماء هم الذين تفقهوا في الإيمان وأخذوا علمهم من الكتاب والسنة وليس العالم هو المقلد لفلان أو فلان، أو الذي يعرف مختصراً من المختصرات، أو كتاباً من الكتب فيقلد، ولا يدري عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ عبد العزيز: فهذا لا يعد من العلماء بإجماع أهل العلم، وقال في موضع آخر في مناسبة أخرى: ليس العالم من حفظ متخصر خليل أو زاد المستقنع، العالم من ورد حوض الكتاب والسنة فنهل منهما.
هذا الأخير نوع مهم من الواجب معرفته، صاحب العبادة التقي الورع الذي يداوم على الصلاة والصيام، حاله على الرأس والعين، لكن إذا جئنا إلى قضية الأخذ لا نأخذ منه، فرق بين العابد والعالم، العلم لا يؤخذ عن العباد ولكن يؤخذ عن العلماء، وكثير من الناس يغترون بشخصيات من هذا القبيل، فيبدو على رجل ما سمات الصلاح والتقوى، فيأتي إليه أخونا هذا فيسأله وليس هو بمحل للسؤال، ولذلك يقول الإمام مالك في كلام مشهور: من شيوخي من أستسقي بهم -أي: أطلب منهم أن يدعوا الله بالسقيا- لأني أظن أن دعاءهم مستجاب، ولكني لا آخذ حديثهم.
فالورع والصلاح شيء والعلم الشرعي شيء آخر، أقصد شيئاً آخر في معرفة ممن يتلقى، لكني لا أعني التفرقة بينهما بحيث أن العالم لا يشترط فيه أن يكون صالحاً ولا ورعاً ولا زاهداً، بل سبق الكلام أنه لا بد أن يكون كذلك.
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: ما حكم الأخذ عن فاسق؟
فقال: ينبغي أن يتحرى الصالحين الطيبين، وإن وجد فائدة عن فاسق أو حتى كافر لا يردها بل يأخذها، فإن الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها.
المقصود بالفائدة: أي فائدة صحيحة، لكن هذا لا يعني أن نأخذ العلم عن المبتدعة وأهل الأهواء، كلا وحاشا، وإذا اجتمع اثنان فأكثر فيجب على الإنسان الاجتهاد في أعلمهم، والبحث عن الأعلم والأورع والأوثق ليقلده إن كان لا يحسن البحث في كتب أهل العلم، ولا سؤال العلماء ومعرفة الأدلة.
يقول الذهبي رحمه الله تعالى في السير: الفقيه المبتدئ والعامي الذي يحفظ القرآن أو كثيراً من السنة لا يسوغ له الاجتهاد أبداً، فكيف يجتهد؟ وما الذي يقول؟ وعلام يبني؟
أي: يبني اجتهاد الفتوى على ماذا؟ ماذا عنده أصلاً؟ وكيف يطير ولما يريش؟ الطائر الذي لم ينبت له ريش هل يطير؟ فكيف يطير هذا ولما يريش، والريش هو أدوات الفتوى والاجتهاد؟
فإن قال قائل: فما وظيفة طلبة العلم إذاً؟
هل طلبة العلم لا نأخذ عنهم وليس لهم مكانة بيننا؟
كلا. فإن لطبلة العلم دوراً مهماً جداً في المجتمع، نظراً لقلة العلماء وعدم تيسر البحث والاتصال بهم في كثير من الأحيان أو الوصول إليهم، خصوصاً لغير العالمين بأحوالهم، فإن طلبة العلم عليهم واجب عظيم ألا وهو تبليغ الناس أقوال أهل العلم وفتاويهم.
هم الجسور والقنوات التي تصل بها المعلومات من أهل العلم إلى الناس؛ لأن كثيراً من الناس لا يتصلون بالعلماء ولا يسمعونهم؛ إما لضعف أو هوى أو عدم مقدرة على ذلك، أو جهل بقيمة العالم وهو الغالب، فيبحث عن أي شخص ويسأله، وهذا ما يفعله جهلة الحجاج، تجدهم عندما تعرض لهم مسألة في الحج يستوقف أي رجل عنده لحية ويسأله، يظن أنه يعلم: ما حكم كذا؟ وبعض الجهلة من هؤلاء إذا سئل وهو لا يدري يفتي بغير علم، فيضل ويضل.
العلماء الآن ليسوا على مرتبة واحدة في جميع درجات وأنواع العلوم، فبعضهم يحسن شيئاً لا يحسنه الآخرون، ويفقه في أشياء من العلم لا يفقه فيها العالم الآخر مثله، لذلك دع كل صانع وصنعته، لا بد من اللجوء إلى أهل الاختصاص، فعندما يكون عندك حديثاً لا تعرف حاله اذهب للعالم بالحديث واسأله عنه، ولا بد إن كان في مسألة فقهية تحتاج إلى فقه اذهب إلى رجل مشهور بالفقه واسأله، وإن كان هناك مسألة أصولية اذهب لأهل الاختصاص في الأصول واسألهم، وإن كان هناك مسألة تتعلق بالواقع المعاصر والمذاهب الهدامة، فاذهب إلى العالمين بقضية المذاهب الهدامة وخطرها على الناس، أو ما يتعلق بالواقع المعاصر واسألهم، فليس كل أحد يجيد أي شيء، وهذا واضح، هذا الكلام الذي أقوله ليس بدعاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دل في كلامه على بعض أحوال الصحابة في أشياء تشبه هذا، فمن قوله مثلاً: قال: (أرأف أمتي بأمتي
فالصحابة كان عندهم تخصص، فمنهم من برع بالفرائض، ومنهم من برع بالحلال والحرام، ومنهم من برع بالقضاء والفصل في الخصومات بين الناس، ومنهم من برع بعلم القراءات، فلا بد من الذهاب إلى أهل الاختصاص قدر الإمكان.
ومرة سئل الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله تعالى عن هذه الورقة التي ظهرت بين الناس، وموجودة هذه الأيام بكثرة ورقة المحاسبة، هل صليت الفجر في جماعة؟ هل اتبعت جنازة؟ هل زرت مريضاً؟ هل كذا؟ وتضع صح أو خطأ، وبعد ذلك تجمع العلامات وتنظر أنت في أي حالة؟ فأجاب بأن هذه الورقة بدعة، وأن السلف ما كان هذا حالهم في المحاسبة، وقال: والعجيب أن من كتب هذه الورقة صدرها بآية اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
[الحشر:18] فقال هل هذه الآية نزلت في زمن بعد الصحابة والسلف؟ كلا. هل نحن نعلم بها أكثر من الصحابة؟ كلا. فإذاً لماذا لم يفعل السلف هذه القضية؟ قال: ما كانت هذه هي طريقة السلف، وأجاب عن أشياء في نقد هذه الورقة، ثم قال معقباً: وما أحسن ما يأتي به أحد الناس إلى العلماء بمثل هذه الأشياء فيطلعهم عليها، ويقول: ما رأيكم فيها؟ ما رأيكم في مثل هذه الأشياء ومثل هذه الرسائل ومثل هذه الأوراق؟
تشيع بين الناس وتنتشر مثل الوصية المزعومة المكذوبة المنتشرة في هذه الأيام لخادم الحرم النبوي، بأنه من لم يصورها ولم يطبعها يحصل له من المصائب كذا وكذا، وللشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة خاصة في نقد هذه الرسالة والرد وتأثيم من ينشرها بين الناس، وبيان كذب ما يوجد فيه.
المقصود: هو الذهاب إلى العلماء في عرض مثل هذه الأشياء.
كذلك من واجبنا نحو العلماء الجري ورائهم، والبحث والتنقيب عنهم، هذا موسى عليه السلام رحل من أجل أن يلقى الخضر عليه السلام ويسأله ويتعلم منه.
العلم يؤتى ولا يأتي، قد لا يكون للعالم فرصة في التجوال على الناس على مجالس الناس، لا بد أن نذهب نحن إليهم ونجري وراءهم، نحن نذهب إلى أماكن وجودهم إلى بيوتهم.. إلى مساجدهم.. نتصل بهم هاتفياً.. نكتب إليهم الرسائل، نحن نجري لأننا نحن أصحاب الحاجة، لا بد من الجري وراءهم.
لذلك كان عبد الله بن عمر يقول: [قل لطالب العلم يتخذ نعليه من حديد، حتى لا تحفى قدميه في الجري وراء العلماء، وطلب العلم] وكان معاذ بن جبل رحمه ورضي عنه يقول وهو على فراش الموت: [اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل -أي: القيام- ولظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر] لا بد من مزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، فيذهب إليهم الإنسان، لا أقصد المزاحمة، أي: التضييق عليهم؛ لا. لكن نجري وراءهم ونتعلق بهم ونحرص على لقياهم حتى ولو كان في ذلك السفر إليهم، وفي السفر في طلب العلم مصنفات.
العلماء أحياناً إذا ما جاءهم الناس ما قصدوهم ولا سألوهم قد يموت العلم عندهم، وقد تبرد الحماسة في نفس العالم، يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الموضوع: "وقد ظهر في بلاد الإسلام حركات تنشد الحق، وتطلب الدليل، وتعنى بالكتاب والسنة"، هذه المسألة كان الناس في غفلة عنها.. تقليد وتعصب، وجهل، يقول الشيخ: ".. وإن وقع تقصير من العلماء فعلى طالب العلم أن يسأل العالم ويشجعه على نشر العلم، فإن العالم إذا سئل واتصل به طلبة العلم فإن هذا يعينه على العناية بالعلم ومراجعة الآيات والأحاديث والاستعداد للإجابة ولإظهار العلم، فإن غفل هذا وغفل هذا -يعني العالم وطالب العلم- فمن يبقى؟ يموت العلم".
كذلك عدم نقل كلام بعضهم إلى بعض لإغارة الصدور، لا تذهب إلى عالم وتقول: قال عنك فلان كذا، قد يكون يجهل ما قال فيه فلان، أو لا يدري عنه، تقول: انظر! فلان يقول عنك: لا أدري عنك ولا سمعت فيك، أنت مجهول بالنسبة إليه، يجب نقل الكلام الطيب، وثناء أهل العلم بعضهم على بعض، حتى يحصل بينهم اتصال قلبي، من ثمرته المحبة، لأن مسألة التحاب بين العلماء هدف سام وخطير وكبير ولكن دور طلبة العلم يعتبر دوراً عظيماً في ذلك.
كذلك عدم مجادلتهم وإعنافهم بالسؤال، يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين: فربما وجد بعض المتعلمين قوة في نفسه لجودة ذكائه -طالب العلم يكون فيه جودة في ذكائه وحدة في خاطره، فيقصد من يعلمه بالإعناف له، والاعتراض عليه، والازدراء به، فيكون كمن تقدم به المثل السائر:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني |
فلا يجوز لطالب العلم الذي عنده ذكاء واجتهاد وحدة خاطر، أن يكون غرضه للقعود في حلقات العلم هو الاعتراض على العلماء، والازدراء بههم، والتنقيب عن أخطائهم، وإظهار جهلهم أمام الناس، هذا مرض خطير، ولكن يذهب إلى العالم ويقول له بالمناصحة بينه وبين نفسه: يا أخي، أنت أخطأت في كذا، أنت قلت كذا، فإن لم يصحح العالم بعد ذلك على الملأ، فإنه يكون له الحق في إظهار الحق، لأنه لا يجوز كتم العلم.
وقضية السؤال لوحدها أدب قائم بنفسه في العلاقة بين طلبة العلم والعلماء، قال عليه الصلاة والسلام: (هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) ما الذي يشفي الجهل ويذهب الحرج؟ سؤال تقع في مسألة أو مأزق، ولا تعرف كيف تتصرف، ما هو الحل؟ السؤال، ولهذا قال بعض السلف: "العلم خزائن، والسؤالات مفاتيحها"، وقيل: "حسن السؤال نصف العلم"، ومع ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أناساً آخرين بعدما أمر أناساً بالسؤال، فقال: (أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم وكثرة السؤال، فإنما هلك من قبلكم بكثرة السؤال) هل بين هذه الأحاديث تعارض؟ كلا.
فإنما أمر في الحالة الأولى بالسؤال لمن كان قصده بالسؤال علم ما جهل، جاهل يريد أن يتعلم، لا بد أن يسأل، ونهى في الحالة الثانية عن السؤال إذا قصد بالسؤال إعناف من يسمع منه، أو كان السؤال في غير موضعه، أو المقصود بالسؤال إثارة الشبهات والشكوك، فعند ذلك لا يجوز السؤال، وقيل لـابن عباس: بم نلت هذا العلم؟ فقال: [بلسان سئول، وقلب عقول].
وكان من الأسئلة التي وجهت إلى الشيخ ابن باز: إذا سألت عالماً فهل يجب عليَّ أن أتبعه ولا أسأل غيره أو أسأل حتى يطمئن قلبي؟
فقال: هذا القول ليس بصحيح، ويجب على طالب العلم أن يتحرى الأعلم فالأعلم، والأورع فالأورع، وأن يسأل حتى يطمئن قلبه، لأنك قد تسأل ولكن الإجابة لا تشفي غليلك ولا تكفيك، ويظل في نفسك شيء وحرج، وهل الشيخ فهم السؤال أو لم يفهم السؤال؟ هل وقع الجواب على مسألة بعينها أو على مسألة أخرى ما فهمها؟ فلا بأس أن تسأل مرة أخرى وثالثة ورابعة، حتى تطمئن نفسك، هذا إذا كان في نفسك شيء من الشك أما من يذهب ويسأل عالماً معتبراً ثم يفتيه في قضية فلا تعجبه لهوى، يقول: والله هذا الجواب صعب، دعنا نسأل آخر ونرى ماذا عنده! أو تأتي تقول: سألت الشيخ فلان، يقول: يا شيخ، دعه فإنه متشدد، اسأل فلاناً الذي في المسجد الفلاني.
قال ابن عباس: [ إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ] تأخذ علمك ممن؟ تسأل أي واحد؟ ليس كل إمام مسجد أهل للإفتاء والاجتهاد، بل نادر منهم في هذا العصر وهم ندرة جداً، وحسبك أن ينقل إليك أقوال العلماء.
وعن حكم افتراض المسائل والسؤال عنها، يقول سماحة الشيخ: إذا سأل عن مسألة يخشى أن يقع فيها فلا بأس بذلك، أما أ، يسأل عن مسائل افتراضية لا يمكن أن تحصل، لإضاعة الوقت، فهذا منهي عنه، فإذا سأل عالماً ثم سأل عالماً آخر وتنبه أحد طلبة العلم إلى خطأ في الجواب فهل يجوز له أن يتكلم؟
يجوز له أن يتكلم إذا كانت الفتوى باطلة، أو يعلم بطلانها، إذا امتنع يعتبر من كتم العلم، أما إذا كانت الفتوى ليست باطلة فعند ذلك لا يجوز له أن يتكلم، إذا كان المفتى به قولاً معتبراً من أقوال أهل العلم معلوم بالدليل الواضح.
فالخلاصة أن الذين يسألون تتبعاً للرخص وبحثاً عن المتساهلين من العلماء، ويقلبون الحقائق كما يفعل بعض الناس حين يسأل، فلا يعجبه الجواب، فيذهب لشيخ آخر ويغير السؤال، يريد أن يحصل على جواب يوافق هواه، فإن هذا ضلال وزيغ وفعل محرم.
لا. قول فلان ليس دليلاً!! الدليل قال الله وقال رسوله وقال الصحابة، هذا هو العلم، هذا هو الدليل، أما قال فلان وفلان فليس بدليل، هذا نقل للفتوى.
فإنه ربما غالى بعض الأتباع في عالمهم حتى يروا أن قوله دليل وإن لم يستدل، حتى لو لم يأت لهم بدليل، وأنه اعتقاده حجة وإن لم يحتج، فيفضي به الأمر إلى التسليم له فيما أخذ عنه، هذا نص كلام الماوردي.
وهنا طرفة تحضرني الآن: بعضهم يناقش الآخر قال: ما حكم النوم بعد صلاة العصر؟ قال: والله ما فيها شيء، قال: ما هو دليلك على ذلك؟ قال: أنا ذهبت للشيخ ابن باز بعد العصر فوجدته نائماً!!
أي: هل أصبح هذا دليلاً على قضية حكم النوم بعد صلاة العصر! فالواجب أن نفرق بين فعل العالم لنفسه والحكم، ولذلك قال بعض العلماء: إنك ترى العالم يفعل لنفسه أشياء، فإذا قلت له: هات الدليل، توقف، لأنه قد يجتهد لنفسه في أشياء لكن لا يجوز لنفسه أن يفتي بها الآخرين.
فالعالم ليس رسولاً، يكون تركه حجة، وفعله حجة، وأقواله كلها حجة، لا. كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الإمام ذلك مالك وهو في الحرم النبوي.
كذلك بعض العلماء عظَّم حق العالم حتى قدمه على حق الوالد، حتى قال بعض الشعراء:
من علم الناس كان خير أب ذاك أبو الروح لا أبو النطف |
الأب أبو النطفة، والعالم أبو الروح، هو الذي يشفي روحك ويسمو بها في عالم القرآن والسنة.
إذا قرب منك العلم فلا تطلب ما بعد، وإذا سهل من وجه فلا تطلب ما صعب، وإذا حمدت من خبرته فلا تطلب من لم تختبره، فإن العدول عن القريب إلى البعيد عناء، وترك الأسهل بالأصعب بلاء، والانتقال من المفضول إلى غيره - الذي خبرته - سقط.
لا تلح على العالم إذا فتر، أحياناً العالم يفتر مثلاً أو يفتي ويفتي ثم يتعب لا تأتٍ أنت في وقت التعب وفي وقت الراحة وتزعج الرجل، هذا من الأدب مع العالم، لا تأخذ بثوبه إذا نهض، لا تشر إليه بيدك، لا تفش له سراً، لا تمش أمامه، ولا تتبرم منه من طول صحبته، فإنما هو بمنزلة الرحمة فانتظر ما يسقط عليك منه منفعة.
حتى صفة القعدة أوضحها أهل العلم، فقالوا: لو قعد كما قعد جبريل عليه السلام عندما وضع يديه على فخذيه وانتصب أمام العالم احتراماً وإجلالاً له.
كان أحد السلف يجمع ويحفظ من أخذ عنه من أهل العلم فيدعو لهم كل ليلة واحداً واحداً قبل أن ينام، والتواضع لهم، والقيام على خدمتهم، وقد يكون العالم ما عنده وقت لأن يأتي ببعض الأشياء الضرورية له، وقد يجهل مكانها، فأنت تذهب وتقدم له شيئاً يسهل له شيئاً من أمور حياته.. القيام على خدمته، هذا من الأدب نحو العلماء والتقرب إلى الله بذلك، والتواضع له.
أخذ ابن عباس على جلالة قدره بركاب زيد بن ثابت الأنصاري، وقال: [هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا] كذلك تعظيم حرمتهم والرد على من يغتابهم أو يتكلم فيهم، فإن عجز الإنسان عن ذلك يجب عليه أن يقوم ويفارق المجلس، لا يجلس مع أناس يتكلمون ويلغون في أعراض العلماء.
كذلك التحري في إدخال السرور على قلوب العلماء، وإتحاف أولادهم استلطافاً لهم، حتى يتعدى الاحترام التوقير والمنفعة إلى ولد العالم، فتستلطف أولاد العالم مثلاً حتى تتقرب إلى قلب العالم وتنال من محبته.
أبو حنيفة على جلالة قدره قال هذه العبارة في أي مناسبة؟ قال: إذا أتى العلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة أخذنا به، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.
نقول: أولاً: ما قالها عن الصحابة ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: قالها عمن عاصرهم من التابعين ولحق بآخرهم، لكن أن يأتي الآن بعض الجهلة صغار الناس ويقول: نحن رجال وهم رجال، كيف ذلك؟!
أيها الإخوة! يجب الإنكار على قائلها، وهذا ليس في قلبه أدنى احترام للعلماء الذي يقول مثل هذه الكلمة، ومن التأدب مع العلماء عدم الإفتاء بحضرتهم، أحياناً يأتي شخص يسأل الشيخ وتلقى شخص آخر خرج من بين الناس وأعطى الحكم مباشرة، أو يكون هناك زحمة على الشيخ فيأتي أحدهم يريد أن يسأل الشيخ، فيقول له رجل آخر: ماذا تريد؟ وعن أي شيء تسأل؟ فيفتيه مباشرة والعالم موجود، وقال أحدهم: لا يفتى ومالك في المدينة، وكان بعض الصحابة لا يفتي، يقول بعضهم: إن أحدكم يفتي بالمسألة لو أتت على عمر لجمع لها أهل بدر.
والإفتاء الآن كل تجد شخصاً يفتي على كيفه، وبحضور العالم للأسف!! وبعض العلماء لقن أحد طلبته درساً طيباً، فكان جالساً في مجلس وسأل أحدهم سؤالاً في اللغة، فقام الطالب مباشرة وأجاب، فقال له عبارة جميلة قال له:
تزببت وأنت حسراً ، الآن العنب أول ما يكون حامضاً، ثم يصبح في آخر أمره زبيباً، فقال له: تزببت وأنت حسراً، فهذا من مخالفة الأدب أن يتكلم الرجل ويفتي بحضرة العلماء.
قال بعضهم عن شيخ الإسلام رحمه الله: كان له حدة يقهرها بالحلم.. حليم يقهر الحدة، وكان له حدة تعتريه حال البحث والسؤال والمناظرة، فيتحمل الطالب إذا شد عليه الشيخ ولا يتركه ويذهب، لا. يصبر على جفوته، بل يبدأ بالاعتذار حتى لو كان الخطأ من العالم، ولا يدخل عليه في مجلسه إلا بالاستئذان، ولا يطلب القراءة عليه في وقت يشق على الشيخ، أو لم تجرِ عادته بالإقراء فيه، ولا يطرق عليه الباب، بل ينتظره حتى يخرج، ولا يوقظه إن كان نائماً، كان ابن عباس يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتى يستيقظ، فيقال له: ألا نوقظه لك، فيقول: لا، وربما طال مقامه وقرعته الشمس في الصباح، وكان يقول: أجلس عند باب أحدهم فتسفني الريح على وجهي ثم يخرج، فيقول زيد: يا ابن عم رسول الله، أنا أحق أن آتيك، فأقول: لا. أنا آتيك، العلم يؤتى ولا يأتي.
وعن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: ما دققت على محدث بابه قط، بل كنت أصبر حتى يخرج إلي، وتأولت قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ
[الحجرات:5] وروى الخطيب بسنده عن عبيد الله بن عبد الكريم قال: سمعت أحمد بن حنبل وذكر عنده إبراهيم بن طهمان وكان من علماء السلف، وكان متكئاً من علة، الإمام أحمد كان يؤلمه جسده فكان متكئاً فلما ذكر إبراهيم بن طهمان، اعتدل فاستوى جالساً، فقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون ونحن متكئون.
وقال الشافعي: "كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً دقيقاً، هيبة لها، لئلا يسمع وقعها"، يعني: حين يقلب أوراق الكتاب أمام مالك -وكان يطلب العلم عند مالك- كان يقلب الورق برفق لئلا يزعج الشيخ بقلب الأوراق، وكانوا كما ذكرنا سابقاً يذهبون ويسافرون من أجل طلب العلماء والبحث عنهم، والعلماء في أوجه من أوجه الشبه مثل الكعبة يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء، يكون العالم جالساً بجنبك في نفس البلد فلا تذهب إليه ولا تعرف قدره، لكن الذي يسمع عنه من بعد يأتي ويحرص، مثل الكعبة يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء.
ولا يكثر الكلام عند العالم من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه أو ما فيه بذاءة، أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب.
ونقل مثل هذا عن الشافعي رحمه الله تعالى، كان لا يظهر عليه أنه يعرف الأشياء، لذلك من الخطأ أن تجد بعض طلبة العلم في الحلقات يظهر أنه متشاغل وأن هذا كلام معاد ومكرر، فلا يصغي وينشغل ويظهر أنه يعلم الأشياء التي تقال، وبالتدبر قد يظهر للإنسان في الشيء المعاد أشياء لم تظهر له من قبل.
كتاب الرسالة للشافعي، قال بعض العلماء: قرأتها قرابة خمسمائة مرة، ما قرأتها مرة إلا وظهر لي فيها أشياء جديدة، هناك ملاحظة:
هذا الكلام أيها الإخوة في توقير العلماء وفي الأخذ عنهم كذا.. إلى آخر ما ذكرناه -وهذا في حدود الشرع- فلو أتى العالم بما يخالف الشرع أو لم يأتِ على كلامه بدليل، أو وجد من كلام العلماء الآخرين ما هو أقوى منه، يترك ويؤخذ بالكلام الأقوى والكلام الذي يوافق الدليل.
كذلك هنا نقطة جديرة بالتنبيه أن بعض الناس قد يتكلمون على توقير العلماء والأخذ منهم وو...إلى آخره، لكن مدار كلامهم إذا أردت أن تعرف نهاية الكلام ماذا يقصد هذا، تجد أنه يقصد أمراً عجيباً، يقصد التعصب للعلماء، أي: أن التوقير والاحترام للعالم أي التعصب له وعدم الخروج عن رأيه، ونبذ الدليل، وهذا كلام فارغ، واحترام العلماء فيما أتوا به إلينا من الكتاب والسنة، إذا خالفوا أو ببدع أو أتوا بأخطاء فنحن نتبع الحق، فمن كلام علي: [الرجال يعرفون بالحق، وليس الحق يعرف بالرجال] أي: الحجة للحق على الرجال وليس الحجة للرجال على الحق.
قال سعيد بن المسيب: [ليس من شريف ولا عالم، ولا ذي فضل، إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه].
هناك حديث استشهد منه ابن حجر في الفتح استشهاداً جميلاً جداً في هذا الموضوع، تعليقاً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه -أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف هذه المشقة والحرج- فقال: حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه) ما يرتفع شيء إلا وضعه، الكمال لله، فقال الصحابة في رواية أخرى: خلأت القصواء، قيل: القصواء هي العضباء، وقيل: ناقة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة) قال ابن حجر: وفي الحديث جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها ويرد على من نسبه إليها.
عالم صوابه كثير لكنه أخطأ مرة، نأتي ونشنع عليه بهذا الخطأ.
كان عنده شيء من الظاهرية وبعض الأخطاء، لكن كيف أثنى عليه؟ ثم قال: فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار، ثم قال: ولي أنا ميل إلى أبي محمد -أي ابن حزم- لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يكتب من الرجال والعلل، وأقطع بخطأه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين وأخضع لفرط ذكائه وسعة علمه.
انظر الآن كيف تجد الذهبي رحمه الله تكلم عن ابن حزم على ما فيه من بعض الأخطاء، كيف أتى بهذا الأسلوب، هل تخرج أنت أيها السامع بالنفور من هذا الرجل؟ وتصد نفسك عن القراءة من أي شيء له؟ لا. بل تجد فيه محاسن، معرفته بالحديث الصحيح واتباعه له في كثير من الأحيان، وكان رأساً في علوم الإسلام.. إلى آخر هذا الكلام.
فانظر كيف اعتذر له عن خطأه، لأن ابن حزم كان في الأندلس فما تيسر له أن يقدم إلى مكة ويحج.
الخلاصة أيها الإخوة: موضوع العلماء هذا موضوع خطير، والتساهل فيه في الناس كبير، وحقوق العلماء في هذه الأيام ضائعة وللأسف! فيجب علينا القيام بحقوقهم، والقيام على شئونهم وخدمتهم وحسن التلقي عنهم.
وفقنا الله وإياكم لعمل الطاعات، والأخذ عن العلماء المعتبرين، وأن يوفقنا للبحث عنهم والجلوس إليهم، وأن يكون علمنا من الكتاب والسنة وألا نرجع فيه إلى أهوائنا وإلى عقولنا القاصرة، نسأل الله حسن الخاتمة، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الجواب: هذا الموضوع يحتاج إلى محاضرة كاملة أو أكثر، وأظن الإجابة عليه الآن هي نوع من القصور وغير مناسبة، ولكن رأس العلم مخافة الله والإخلاص في القول والعمل، هذه هي الوصية الأساسية لكل طالب علم.
الإخلاص: أن يكون التعلم لوجه الله، لا للدنيا، وكثير من طلبة العلم يفتقد هذا الأساس، لذلك سأقتصر على ذكر هذه الميزة فقط، وأبقي الموضوع إن شاء الله إلى فرصة أخرى في المستقبل، هناك شريط في الكلام عن صفات طالب العلم للشيخ ابن عثيمين، جزاه الله خيراً.
الجواب: سبق البارحة نقاش مع الشيخ عبد العزيز بن باز حول هذا الموضوع، كان السؤال: لو ظهر غيم في السماء فحجب الشمس فما عدنا نرى الشمس ولا نعرف حالها، لكن علمنا من الجرائد ومن الأخبار أنه حدث كسوف اليوم فما هو العمل؟
فقال الشيخ: لا تصلوا حتى تروا الشمس، فإن لم تروها لا تصلوا، طبعاً حتى لو شوهد الكسوف في مكان آخر ما انطبق الحكم على الناس في هذا المكان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الكسوف خرج فزعاً إلى الصلاة، فالكسوف يحدث في نفس المسلم فزعاً، فإذا لم نر الكسوف كيف نفزع أساساً إلى الصلاة؟ فلذلك كما هي فتوى الشيخ، كما حدث في أغلب المساجد والحمد لله الناس لم يصلوا لأنهم لم يروا، وهذا الذي كلفنا به.
الجواب: تنبيه طيب جزاك الله خيراً، لكن أنا أحسن الظن بكل من قام أنه قام لحاجة - يتوضأ مثلاً، أو يريد أن يذهب إلى الخلاء لقضاء حاجة- أما ترك الحلق للهوى ففيه خطر عظيم، كما في الحديث أن رجلين حضرا عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب الثالث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه) لكن إذا كان الإنسان يريد أن يذهب في حاجة ضرورية، لماذا لا يذهب؟ يذهب إن شاء الله مغفوراً له.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر