الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أول أحاديث هذا اليوم: هو حديث عطاء بن يسار : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة ).
هذا الحديث رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث محمد بن عمر بن واقد وهو الواقدي صاحب التاريخ عن سعيد بن مسلم عن أبي مالك عن عطاء بن يسار ، و عطاء بن يسار يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من التابعين وهو من أوائل الطبقة الثالثة أو أواخر الطبقة الثانية، وقد توفي قريب المائة، وغالباً ما يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطتين، وربما حدث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صغاره، ومراسيله هي ضعيفة.
وكذلك أيضاً فإن في هذا الإسناد محمد بن عمر بن واقد وهو صاحب التاريخ وله أحاديث يتفرد بها في أبواب السير يحملها العلماء على القبول، وأما بالنسبة للأحكام فلا يتفرد بحديث ويكون صحيحاً ولا يعرف أنه تفرد بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام وصح عنه في الأحكام، وأما روايته في أبواب التاريخ وكذلك السير فيقال: إنه يستأنس بها، وأما في الأحكام فإنه لا يحتج به سواء تفرد بلفظة أو تفرد بحديث تام، ولا أرى الأئمة من النقاد يختلفون في هذا.
كذلك أيضاً فإنه يرويه عن عطاء بن يسار أبو مالك الحضرمي ، و أبو مالك الحضرمي أيضاً فيه جهالة وهو مستور الحال، و عطاء بن يسار كما لا يخفى هو وإن كان من الفقهاء في المدينة وهو مولى ميمونة أم المؤمنين عليها رضوان الله وهو أخو فقيه المدينة سليمان بن يسار مع ثقته وجلالة قدرته إلا أن مراسيل مثله مما لا يقبلها النقاد.
وتقدم معنا في الأحاديث في هذا الباب في الأحاديث الواردة في التسليمة الواحدة وذكرنا أنه لا يثبت عن رسول الله في ذلك شيء، وأمثل ما جاء في هذا هو حديث عائشة عليها رضوان الله كما تقدم الكلام عليه.
الحديث الثاني في هذا: هو ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم عن يمينه فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وسلم أيضاً عن شماله فقال: السلام عليكم ورحمة الله ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد ، ورواه أيضاً أهل السنن، ورواه الدارقطني و البيهقي ، و الطبراني وغيرهم، وهذا الحديث جاء من حديث أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رواه عن أبي إسحاق جماعة، رواه سفيان الثوري ، و عمر بن عبيد ، و أبو الأحوص سلام بن سليم كلهم يروونه عن أبي إسحاق السبيعي واختلف اللفظ عنهم، فتارة يذكرون في ذلك اللفظ: وبركاته، وتارة لا يذكرونها.
فهؤلاء الثلاثة الذين يروون هذا الحديث عن أبي إسحاق السبيعي وهم سفيان الثوري ، و عمر بن عبيد الطنافسي ، وكذلك أبو الأحوص سلام بن سليم يروونه عن أبي إسحاق ، فبعض الروايات يذكرون فيه وبركاته وبعض الروايات لا يذكرونها.
وقد روى جماعة أخرون هذا الحديث عن أبي إسحاق ولا يذكرون هذا على الإطلاق، لا يذكرون ذلك البتة، وهذا جاء عن جماعة من الرواة وذلك كـالحسن بن صالح ، وكذلك زائدة ، و معمر بن راشد الأزدي وغيرهم كلهم يروونه عن أبي إسحاق السبيعي به ولا يذكرون في ذلك لفظة وبركاته، وهذا يدل على أن الاضطراب الذي يرد في بعض الوجوه المروية عن سفيان وكذلك عمر بن عبيد وعن أبي الأحوص سلام بن سليم إنما هو اختلاف من بعض الرواة توهماً، وذلك إما أن يكون من أخطاء النسخ، وإما أن يكون ذلك جرى على ألسنتهم كما يجري لفظ التمام في السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في بذل السلام الذي يذكره الإنسان، ولهذا نجد أن أكثر الرواة الذين يروونه عن أبي إسحاق لا يذكرون ذلك.
ثم أيضاً إن هذا الحديث جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله من غير وجه صحيحة ولم يذكر فيه لفظ وبركاته، جاء هذا عن عبد الله بن مسعود رواه علقمة ، وكذلك رواه الأسود كلاهما عن عبد الله بن مسعود ولم يذكر لفظة وبركاته، وهم في ذلك أوثق من رواية عوف بن مالك عن عبد الله بن مسعود .
ومعلوم أن الطريقة الأولى التي جاءت في بعض وجوهها عن بعض أولئك الرواة عن أبي إسحاق لم يأت فيها على الإطلاق لفظ وبركاته وإنما في بعضها، كذلك أيضاً فإنه رواه جماعة كثير يروونه عن أبي إسحاق من غير ذكر لفظة وبركاته، وكذلك أيضاً رواه مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله، ولم يذكر في ذلك لفظة: وبركاته، وإن كان الإسناد عن مسروق فيه ضعف فإنه جاء عنه من طريق جابر الجعفي ، و جابر الجعفي في حديثه له، ولكن يكفي في ذلك ما جاء في الأحاديث المروية عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى من طرق متعددة في هذا.
كذلك أيضاً فإن هذا الحديث جاء من وجوه أخر من طرق عن أبي إسحاق السبيعي من غير طريق أبي الأحوص عوف بن مالك عن عبد الله بن مسعود رواه عن أبي إسحاق جماعة، يرويه عنه يزيد بن أبي إسحاق ، ويرويه كذلك إسرائيل ، ويرويه كذلك أيضاً خالد بن ميمون وجماعة من الرواة يروونه عن أبي إسحاق على خلاف الطريق التي جاءت عنه من حديث أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله.
وبهذا نعلم أن ما جاء في هذه الطريق عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله أنها خطأ وليست بمحفوظة, ويؤيد ذلك ويعضده أيضاً أن حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله رواه الإمام مسلم في كتابه الصحيح من غير طريق أبي إسحاق فتنكب حديث إسحاق ولم يخرجه بالكلية، ولم يذكر فيه زيادة: وبركاته، وهذا من القرائن التي تشير إلى أن الإمام مسلماً رحمه الله يميل إلى إنكار زيادة: وبركاته في حديث عبد الله بن مسعود .
كذلك أيضاً فإن شعبة بن الحجاج وهو من أظهر العارفين بحديث أبي إسحاق كان ينكر على أبي إسحاق رويته لهذا الحديث، ومعلوم أن شعبة هو من خاصة أصحاب أبي إسحاق السبيعي عليهم رحمة الله.
كذلك أيضاً فإن البخاري قد روى أحاديث في هذا الباب ولم يخرج حديث عبد الله بن مسعود بالكلية وذلك لكثرة الاختلاف عليه.
ومن وجوه النكارة أيضاً: أن أحاديث السلام الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام في السلام جاءت من حديث جابر بن سمرة ، وجاء من حديث البراء بن عازب ، وجاء من حديث عقبة بن عامر ، وجاء من حديث عمار بن ياسر ، وجاء من حديث وائل وغيرها ولم يذكر فيها من وجه صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظة وبركاته، وهذا أيضاً من أمارات النكارة والإعلال.
وأما ما يحمله بعض النقاد من أن بعض الأسانيد التي جاءت من حديث سفيان الثوري ، وكذلك عمر بن عبيد وغيرهما عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن عبد الله بن مسعود جاءت أسانيد صحيحة عن عبد الله بن مسعود في هذا بذكر: وبركاته، نقول: إنه لم يثبت عن راو من الرواة وجهاً واحداً لا يثبت عنه خلافه بذكر: وبركاته، ومن جاء عنه ذكر هذه الزيادة فجاء عنه من وجه أصح من غيرها، ثم أيضاً إن من جاء عنه ذكر هذه الزيادة في بعض الطرق يأتي الزائد بهذه الزيادة عن أولئك الرواة من غير ذكر هذه الزيادة مما يدل على أنها تجري ربما على ألسنة بعض الرواة من غير عمد، وهذا يرد كثيراً.
كذلك أيضاً من وجوه النكارة: أن هذه المسألة وهي مسألة السلام في الصلاة من أظهر المسائل وأشهرها، وينبغي مثلها أن يستفيض وأن يثبت بأصح الأسانيد، ولو جاء الحديث فرداً بإسناد صحيح في مثل هذه المسألة ولم يخالفه فيه أحد لم يكن مقبولاً على طريقة النقاد، والعلة في ذلك: أن مثل هذه المسائل وهي السلام في الصلاة مما يقع في اليوم والليلة مرات عديدة، وأشهرها ما يقع بحضور الجماعة، وما كان بحضور الجماعة وذلك كالسلام ينبغي أن يثبت به الدليل بأسانيد مستفيضة، ومن يعل هذا الحديث بأحاديث في هذا الباب بأحاديث أخر هي أولى وأولى بأن يشتهر الحديث بها؟
فحديث أبي هريرة أنه صلى معه صلى الله عليه وسلم صلاة, قال: يا رسول الله، سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ هو سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء خاص به. هذا من وجوه الإعلال أن السلام أظهر، والسكتة لا تظهر لكل أحد إلا لمنتبه، فتأتي مثل هذه السكتة بإسناد قوي ولا يأتي السلام، هل هذا إحكام؟ ليس بإحكام إذا قلنا بصحة السلام، ولهذا نقول: إن هذا من وجوه الإعلال.
كذلك من وجوه الإعلال حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( كان النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما ينصرف عن يمينه بعد التسليم )؛ لأن الانصراف يشاهد، والسلام يسمع، وما يسمع أقوى وأشهر من أن يشاهد, وما كل أحد يشاهد الإمام ولكن الكل يسمعه.
وبعض الهيئات التي جاءت في حديث أبي حميد الساعدي في الجلسات في الصلاة وغيرها جاءت بأسانيد صحيحة ومتينة من غير مخالف، كذلك أيضاً التسليم وهو اشهر من تكبيرة الإحرام يحضره الجميع بخلاف تكبيرة الإحرام يحضرها البعض لأنها خاتمة، حتى المسبوق يسمع السلام فيدل هذا على أن النصوص الواردة في التكبير وفي الجلسات وفي السكتات وفي الدعاء ينبغي أن يكون ما يرد في السلام أقوى منها؛ ولهذا تجد النقاد عليهم رحمة الله يميلون إلى التشديد في أمثال هذه المسائل وذلك أن الإعلال لا ينقدح في ذهن الإنسان بنص واحد وإنما بمجموع نصوص مستفيضة، والسلام الزيادة فيه ينبغي أن تثبت بنص أقوى من لفظ الإحرام بقوله: الله أكبر، ولو جاءت فيه زيادة ولزمها النبي عليه الصلاة والسلام وجب أن تستفيض أكثر من غيرها وأشهر.
ثم أيضاً من وجوه الإعلال في هذا الحديث: أن الصحابة عليهم رضوان الله لم يثبت عنهم شيء من هذا، ومثل هذا العلم لو كان ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أولى أن يعمل به الصحابة عليهم رضوان الله لأنه يتعلق بأعظم الأعمال العملية، بأعظم أعمال الجوارح وهي الصلاة، والصحابة عليهم رضوان الله ممن يشهد مع النبي عليه الصلاة والسلام سواء كان المبصر أو الأعمى كلهم يدرك هذه الشعيرة ويدرك لفظها وينقل عنهم لو كان.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه جملة من الأدعية والأذكار التي يسر بها في صلاته نقلت عنه وهي مما يسر بها النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال هذه اللفظة وهي: وبركاته. في السلام ثم لم تثبت بإسناد صحيح ثم لم يأت بها العمل أيضاً عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وإذا كان كذلك مع استفاضة العمل عنهم وتباينهم في البلدان، وكذلك امتداد الزمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعقود طويلة ومع ذلك لم يثبت عن واحد منهم أنه كان إذا سلم قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا من أمارات الإعلال.
وبه نعلم أن من علامات إعلال الحديث المرفوع إعلاله بعدم وجود حديث موقوف يؤيده، والحديث الموقوف الذي يأتي عن الصحابة عليهم رضوان الله كلما كان أقوى وأشهر عضد الحديث المرفوع، وتلك القوة في الحديث الموقوف أو في الأثر الموقوف أن يأتي مثلاً عن الخلفاء الراشدين الأربعة، أو يأتي عن العلية من فقهاء الصحابة كـزيد بن ثابت و عبد الله بن عمر و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس ، و معاذ بن جبل ، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه المسائل ينبغي أن تشتهر وأن تستفيض.
ولهذا نكرر أن طالب العلم إذا لم يكن بصيراً بفقه السلف عارفاً بأقوال الصحابة كانت بضاعته في علم النقد قاصرة، ولهذا نقول: ينبغي لطالب العمل إذا أراد أن ينظر في مسألة من المسائل في الأحاديث المرفوعة أن يكثر من البحث في الأحاديث الموقوفة عن الصحابة، وأن ينظر في مواضع وجودها، وكذلك مدى اشتهاره.
كذلك أيضاً من وجوه الإعلال في هذا الحديث: أن حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله اجتمع فيه رواة فقهاء وذلك كحال عبد الله بن مسعود وفقهه مستفيض وهو من فقهاء الصحابة عليهم رضوان الله، كذلك أبو إسحاق السبيعي وهو من فقهاء الكوفة، كذلك أيضاً سفيان الثوري وغيره من الرواة الذين يروون هذا الحديث.
ومثل هذا القول لو كان صحيحاً عندهم لثبت عندهم من جهة الفتوى والعمل، ومعلوم أيضاً أنه من قرائن الإعلال أن الحديث إذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في إسناده بعض النقلة من المحدثين الفقهاء ثم لم يثبت عنهم ما يوافق هذا الحديث أو ثبت عنهم خلافه كان ذلك من أمارة الإعلال.
الحديث الثالث في هذا: هو حديث وائل بن حجر عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه ويقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله يقول: السلام عليكم ورحمة الله ).
هذا الحديث رواه أبو داود ، ورواه الطبراني من حديث موسى بن قيس عن سلمة بن كهيل عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث رواه عن سلمة بن كهيل جماعة واختلف في الإسناد عنه وكذلك في المتن رواه سفيان الثوري ، و العلاء بن صالح ، و محمد بن سلمة بن كهيل كلهم عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا: أن النبي صلى الله عليه وسلم يسلم في صلاته عن يمينه فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله يقول: السلام عليكم ورحمة الله، ولا يذكر فيه: وبركاته، ووقع الخلاف في هذا الحديث في موضعين:
الموضع الأول في ذلك: هو ما جاء في الإسناد وهو الزيادة, وهو أنه أسقط في ذلك علقمة ووضع مكانه حجر بن عنبس وهذه رواية الجمهور، وهذا في رواية سفيان ، وكذلك العلاء و محمد بن سلمة كلهم عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر ولم يذكروا علقمة وإنما ذكر علقمة موسى بن قيس ذكره عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن أبيه وائل بن حجر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا نعلم إن هذه الزيادة في مخالفة الجماعة أمارة على عدم ضبط المتن، وأن الراوي إذا وقع منه خطأ في الإسناد أمارة على عدم ضبط المتن، ثم أيضاً إن موسى بن قيس في روايته لهذا الحديث جرى على الجادة، والجادة في ذلك الأشهر رواية هي رواية علقمة وهي الأشهر عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الإنسان إذا سها جرى على الجادة بخلاف إذا كان حاضر الذهن فإنه يخالف الجادة، ومخالفة الراوي للجادة أمارة على استحضار ذهنه فإن الإنسان إذا كان غافلاً جرى لسانه على ما اعتاد عليه.
ثم أيضاً من قرائن الإعلال عند العلماء: أن الراوي إذا وقع لديه اختلاف في السند عن الرواة الذين يخالفونه فيه أمارة على ورود عدم حفظ عنده, فإن هذا الحديث خالف فيه موسى في هذا الحديث رواية الجماعة في موضعين: في الإسناد وكذلك في المتن، لو خالفهم في المتن من غير الإسناد لحكمنا بشذوذ روايته، وكيف وقد وجدت رواية مؤيدة في ذلك وهي المخالفة في الإسناد، وقد أعل هذه الرواية العقيلي رحمه الله في كتابه الضعفاء، وقد تكلم على موسى بن قيس وقال: إنه يروي الأباطيل عن الثقات، وهو وإن كان ثقة إلا أن مفاريده فيما يتفرد به بمثل هذه المسألة مما يرده العلماء وذلك أن هذه الزيادة مردودة من وجوه: منها:
الوجه الأول: أن موسى بن قيس خالف في ذلك الثقات.
الوجه الثاني: أن هذه الزيادة جاءت متأخرة عن موسى بن قيس ، ومثل هذا التفرد كلما تأخرت طبقة الراوي كان كانت أمارة على عدم ضبطه، وذلك أن الزيادات في الأحاديث لا تتأخر زمناً وإنما تأتي في جميع الطبقات، وإنما قلنا بتأخرها زمناً أن هذا الحديث جاء من وجوه أخر عن وائل بن حجر لم يأت في وجه من الوجوه ذكر وبركاته في هذا الحديث، فحديث وائل بن حجر في صلاة النبي عليه الصلاة والسلام جاء من طرق متعددة، وليس فيها تفصيل السلام، وإذا جاء فيها تفصيل السلام لم يأت فيها ذكر وبركاته مما دل على أنها في طبقة موسى بن قيس لا في طبقة غيره.
ثم أيضاً إن موسى بن قيس لو تفرد بهذا الحديث ولم يخالفه غيره وتفرد بهذا الحديث عن سلمة عن علقمة عن أبيه وائل بن حجر عن النبي عليه الصلاة والسلام كان ذلك مردوداً، لأن مثل هذه المسألة ينبغي أن تشتهر وأن تستفيض، لأنها سلام، ولو جاءت بإسناد واحد ورجاله ثقات هل نقبل مثل هذه المسألة بإسناد واحد؟ لا، لابد أن يكون فيه علة ويرد الحفاظ مثله.
ولهذا تجد الأئمة عليهم رحمة الله يعلون الحديث الفرد في المسألة المشهورة، وربما ردوا أحاديث لكبار الحفاظ كـالزهري وأضرابه وهو من كبار الحفاظ، ومن كبار الفقهاء أيضاً، لأن مثل هذه المسائل ينبغي أن تستفيض، لأن الشريعة نزلت للعمل، والعمل يستفيض, وإذا استفاض العمل وجب أن ينقل أولى من غيره خاصة في أمر السلام؛ لأن السلام لا يتركه النبي عليه الصلاة والسلام جماعة في الصحابة، لا في حضر ولا في سفر، النبي عليه الصلاة والسلام لا يترك جماعة الصلاة لا في حضر ولا في سفر، ومثل هذا لو سمع عن النبي عليه الصلاة والسلام لنقل واشتهر.
الحديث الرابع: هو حديث سمرة بن جندب عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم في صلاته تلقاء وجهه ثم سلم عن يمينه وعن شماله ) ، وهذا الحديث فيه ثلاث تسليمات، وهو أظهر وأشهر الأحاديث في التسليم الثلاث، وهو حديث منكر، هذا الحديث رواه الطبراني ، و الدارقطني وغيرهم من حديث روح بن عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد به روح عن أبيه، وعلته عدم سماع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة
هناك ثلاثة أقوال في سماع الحسن من سمرة: أنه سمع منه مطلقاً, لم يسمع منه مطلقاً إلا حديث العقيقة فقط.
أما من قال: إنه لم يسمع منه مطلقاً فـ يحيى بن معين، ووافقه على قوله هذا جماعة من الحفاظ.
وهذا الحديث معلول أيضاً بـعطاء بن أبي ميمونة ، وهو ضعيف الحديث، وأنكره عليه ابن عدي في كتابه الكامل، وذكره في مناكير عطاء بن أبي ميمونة ، ثم أيضاً إن رواية ابنه عنه رواية منكرة، ويتفرد روح عن أبيه بالمناكير، وقد قال فيه الإمام أحمد رحمه الله: منكر الحديث، وضعف روحاً يحيى بن معين و النسائي وغيرهم، وهو ضعيف الحديث، ولا يعرف الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سمرة إلا من هذا الوجه.
ثم أيضاً من وجوه الإعلال: أن مثل هذا الحديث في تفرد أمثال هذه الكتب به ولا يعرف في الأصول أمارة على نكارته، والعلماء يجعلون من قرائن الإعلال للحديث أن يروى هذا الحديث في كتب تعتني بالغرائب والمفاريد، ومن الكتب التي تعتني بالغرائب والمفاريد الدارقطني و البزار ، و الطبراني وأضرابها.
كذلك أيضاً من وجوه الإعلال في هذا الحديث أن مثل هذا الحديث لو جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشتهر واستفاض خاصة أن فيه ثلاث تسليمات، ونحن لم نقبل التسليمة الواحدة، فكيف يرد حديث في هذا فيه ثلاث تسليمات! ولهذا نقول: إن من وجوه إعلال هذا الحديث هو ضعف الأحاديث الواردة في التسليمة الواحدة.
ثم أيضاً من وجوه الإعلال: أن هذا العمل بالتسليم الثلاث لا يثبت عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتسليمة الواحدة أقوى من الثلاث, وذلك أن الأحاديث التي جاءت فيها متعددة على ما تقدم الكلام عليه.
ثم أيضاً إن من وجوه الإعلال في هذا: أن التسليم الثلاث في حديث سمرة يظهر أنه جمع وخلط بين عدة أحاديث إما أن يكون جاء بالتسليمة الواحدة ويظهر هذا وقد جاء معنا بمثل هذا الإسناد تسليمة واحدة من حديث روح بن عطاء عن أبيه عن الحسن عن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عن يمينه تسليمة واحدة ) ، ولعله وهم وغلط.
ثم أيضاً من قرائن الإعلال عند العلماء أن الإسناد إذا اتحد في مسألة واحدة ثم جاءت الرواية على وجهين هذا من وجوه النكارة، وقد تقدم معنا أن هذا الإسناد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر تسليمة واحدة، وقد جاء هنا بذكر ثلاث تسليمات، وهذا لا يحمل إلا مع تعدد الواقع، وتعدد الواقع عند العلماء لا يكون بإسناد فرد, وذلك أن تعدد الواقعة ينبغي أن يكون بسند عالي لا متأخر، بسند متقدم لا متأخر, وذلك أنه كلما تأخرت الطبقة ضاق احتمال تعدد الرواية، لأن الراوي إذا نقل رواية أو حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام في أكثر من واقعة ينبغي أن يروي الوجهين في سياق واحد لا أن يرويهما بلفظين متعددين.
ثم أيضاً إن تعدد الواقعة التي تأتي عن النبي عليه الصلاة والسلام في حادثة من الحوادث إذا تقدم وتأخر النص وجب أن يروى بأكثر من وجه؛ لأن الزمن إذا تأخر على رواية من الروايات وجب أن تنقل.
ثم أيضاً إن هذا الحديث في إسناده فقيه وهو الحسن البصري ولا يعرف عنه قول في هذه المسألة، ولا يعرف هذا في قول البصريين.
وذكرنا أيضاً أن من وجوه الإعلال: أن الحديث إذا وجد في بلد من البلدان ولا قائل به عندهم هذا من أمارة نكارته عند أهل ذلك البلد، فإذا وجدنا إسناداً فيه كوفي أو بصري أو عراقي أو مكي أو مدني ثم لم نجد في هذه البلدان من يقول بفقه هذا الحديث دل على نكارته عندهم، وأهل البلد إذا علمنا أنهم تركوا الحديث ولم ينقلوه فهذا دليل على عدم اعتباره عندهم، وهذا كالنص خاصة في البلدان التي يشتهر فيها الفقه كالبصرة والكوفة وبغداد ومكة والمدينة وأضرابها.
لهذا نقول: إن هذا الحديث منكر أو باطل، ونؤكد أنه ينبغي لطالب العلم إذا وقف على إسناد من الأسانيد أن يلتمس الفقهاء وأن يعرف بلدانهم ثم يلتمس في ذلك أيضاً الفقه الموجود عندهم ثم ينظر هل عملوا بهذا الحديث أو لم يعملوا به، فإذا لم يعملوا به فأحد أمرين: إما علموا به وتركوه وهذه علة، أو كان النقلة له يخفونه, وإخفاؤهم له أمارة على عدم الرغبة باشتهاره لنكارته.
ثم أيضاً من وجوه هذا الإعلال: أن للحسن البصري أصحاب كثر من النقلة عنه من الثقات، وينبغي أن ينقلوا مثل هذا الخبر عن الحسن البصري ولو كان الحسن لم يسمع هذا الحديث من سمرة بن جندب على الصحيح، وهذا من أمارات النكارة، ثم لو رواه ثقة عن الحسن البصري لأعللناه بالتفرد فكيف وقد رواه ضعيف الحديث كحال روح في روايته عن أبيه عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله ويلم على نبينا محمد وعلى آله.
السؤال: في مسألة إعلال الحديث الفرد في المسألة المشهورة، ما هو مدى قرب هذه المسألة ممن يرد حديث الآحاد من المتأخرين.
الجواب: نقول: إن مناهج النقاد في إعلال الحديث الفرد لا يعلونه لأنه آحاد، لأن الآحاد عند المتكلمين يختلف عن الآحاد عند النقاد المحدثين، عند المتكلمين يدخل في ذلك الغريب، والعزيز، والمشهور، والمستفيض، يدخل في هذا الباب وهي أحاديث الآحاد، فكل ما ليس متواتراً من الأحاديث فهو عندهم حديث آحاد ويردونه، عند المحدثين يقولون في مسألة التفرد: هو رواية الراوي وهو الغريب عند المتكلمين.
ثم أيضاً إن المحدثين إنما ردوا أحاديث الأفراد وأحاديث الغرائب أعلوها لا لتفرد الراوي, وإنما أعلوها بالأحاديث الأخرى، فنحن حينما نتكلم مثلاً في إعلال زيادة: وبركاته. نتكلم فيها هل هو إعلال هكذا أن هذا الراوي ينبغي أن يأتي ويتابعك قاعدة, أم أن الأحاديث التي جاءت فيما هو دونه بأقوى منه ينبغي أن يأتي مثلها.
إذاً: نحن نعل أحاديث الغرائب والأفراد بأحاديث أخرى مشهورة بخلاف طريقة المعتزلة مثلاً الذين يردون أحاديث الآحاد الذين يقولون إن حديث الآحاد لا نقبله لكونه آحاداً من غير تعليل وهم على درجات في ذلك, منهم من يعل أو يرد أحاديث الآحاد مطلقاً, وهذا الغلاة في هذا الباب، ومنهم من يقول: نرد حديث الآحاد في مسائل العقائد وأصول الدين ونقبلها فيما عدا ذلك، وهذه الطائفة هي أقرب من غيرها.
السؤال: هل يصح ما ورد عن الحسن في زيادة: وبركاته؟
الجواب: لا يثبت عنه .
السؤال: هل ينكر على من يقول: وبركاته؟
الجواب: لا ينكر على من يقول: وبركاته.
السؤال: ما الموقف إذا صحح أحد المتأخرين حديثاً وأعله المتقدمون؟
الجواب: ينبغي أن نعلم أن الأئمة يجتهدون سواءً كانوا متقدمين أو متأخرين وإنما الكلام من هو أقرب إلى الصواب، فمن نظر إلى طريقة المتقدمين وكذلك أيضاً إلى أهلية المتقدمين يجد أن المتقدمين من الحفاظ أقعد وأمكن في أبواب العلل من غيرهم؛ لأن الآلة فيهم أظهر وأقوى، وذلك لكثرة المحفوظ وقوته، ومعرفتهم بالرواة وأحوالهم، فإن لم يعاينوهم عاينوا تلاميذهم أو تلاميذ تلاميذهم وهم أبصر به، كذلك كثرة محفوظهم مما يزيد قوة في نقد المتون بخلاف المتأخرين.
ولهذا نقول: إن المتقدمين هم أقرب إلى الصواب، وقل ما يأتي متأخر ويصحح حديثاً أطبق المتأخرون على ضعفه ويكون صحيحاً، وقل ما يصحح الأئمة حديثاً من المتقدمين ثم يضعفه المتأخر ويكون الحديث ضعيفاً.
السؤال: هل تأثرت مدرسة المتأخرين بمدرسة الأصوليين المتكلمين؟
الجواب: نعم، مدرسة المتأخرين تأثرت بالمدرسة الكلامية في علوم الحديث، بل إن المدرسة الكلامية في أثرها على علوم الحديث ظاهر جداً؛ ولهذا نقول: إن أكثر المتكلمين هم من الشافعية، وأكثر الذين صنفوا في علوم الحديث من الشافعية، فتأثروا بهذه المدرسة، وهذه المدرسة الكلامية سواء تأثر من تأثر بمدرسة أبي الحسن الأشعري في هذا الباب في مسائل الكلام والمنطق باعتبار أن علم الحديث وقواعده لها رجوع إلى الإدراك والحس والعقل، وأدخلوا في هذا كثيراً من الأمور في هذا الباب، أو تأثروا بمدارس المتكلمين في هذا الباب وممن أخذ في ذلك الخطيب البغدادي وغيره ثم اشتهر هذا الأمر عنه عليه رحمة الله تعالى فيما بعد.
ولهذا نجد الكتب التي اعتنت بمصطلح الحديث جلها للشافعية وهم أكثر علماء الإسلام تأثراً بمدرسة المتكلمين، وقل ما يأتي من المتأخرين والمعاصرين من يتكلم على قواعد الحديث إلا ويعول على تلك المدرسة؛ لأن المدونات التي بين أيدينا إنما هي مدونات هذه المدرسة، ونجد المصنفات في ذلك، كـابن الصلاح والنووي كذلك أيضاً ابن الملقن ، و الحافظ ابن حجر ، وكذلك السيوطي ، و السخاوي وغيرهم من الأئمة، فهؤلاء من أئمة الشافعية، وتصنيفاتهم في ذلك مشهورة، كذلك أيضاً الذهبي في الموقظة ، ابن كثير في اختصار العلوم الحديث وغيرها من المصنفات في المدرسة الشافعية رجعت من جهة تأثرها إلى مدرسة المتكلمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر