إسلام ويب

البدعة - حكم قراءة القرآن على القبورللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن القرآن الكريم كتاب هداية وشفاء، ينتفع به الأحياء والأموات، وعليه فلا مانع من قراءته على الأموات والقبور، كيف لا وقد فعله الصحابة الكرام وقال به الأئمة الأعلام، ومن وصف ذلك بالبدعة فقد جانب الصواب؛ لأن كل ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل لا يدخل في رسم البدعة، ويلحق بهذه المسألة تلقين الميت بعد الدفن.

    1.   

    وقفات مع القائلين ببدعة قراءة القرآن عند القبور

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد: فتقدم معنا أن من صفات عباد الرحمن الذين يعمرون بيوت ذي الجلال والإكرام من صفاتهم الخوف من ربهم، وهذه الصفة اتصفوا بها بعد أن أحسنوا حالهم ومعاملتهم مع الله جل وعلا ومع عباده, فهم الذين لم تلههم البيوع والتجارات، وهم الذين عظموا رب الأرض والسموات, وهم الذين أحسنوا إلى المخلوقات، ومع ذلك يخشون رب الأرض والسموات, حقيقة هؤلاء هم الرجال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].

    إخوتي الكرام! كنا نتدارس أسباب خوف المكلفين من رب العالمين, وهي على كثرتها يمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب:

    أولها: إجلال الله وتعظيمه.

    ثانيها: خشية التفريط والتقصير في حق الله الجليل.

    وقد تقدم الكلام على هذين السببين مفصلاً بأدلته.

    والسبب الثالث من أسباب خوف المكلفين من رب العالمين: خوفهم من سوء الخاتمة.

    وتقدم معنا أن لسوء الخاتمة سببين معتبرين:

    السبب الأول منهما: الأمن على الإيمان من الاستلاب والفقدان. فما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه إلا سلبه عند موته. نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    والسبب الثاني من أسباب سوء الخاتمة: اغترار المكلف بالحالة الحاضرة, واغتراره بما يصدر منه من طاعات ناقصة قاصرة، مع الغفلة عما فيه من بليات مهلكات، وتقدم معنا أن أشنع تلك البليات ثلاث بلايا ورزايا:

    أولها: النفاق, وثانيها: البدعة, وثالثها: الركون إلى الدنيا.

    وكنا نتدارس ما يتعلق بالبدعة, وقلت: سأتكلم عليها ضمن ثلاثة أمور: في تعريفها, وفي النصوص المحذرة منها، وفي أقسام البدعة, وسبب كون البدعة سببا لسوء الخاتمة.

    إخوتي الكرام! أما الأمر الأول فقد مضى الكلام عليه, وقلت: إن حقيقة البدعة: الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مما لم تشهد له أدلة الشريعة الحسان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن.

    وبينت هذا التعريف سابقاً وشرحته, وقلت: انقسم الناس نحو البدعة إلى ثلاثة أقسام:

    مهتدون صالحون, عند حدود الله وقافون، فما ينطبق عليه أنه بدعة حكموا عليه بذلك، وما لا ينطبق عليه أنه بدعة اتقوا الله في أنفسهم وفي أمة نبيهم عليه الصلاة والسلام وحملوا أحوال الناس على الاستقامة والسداد والحسنى.

    وفريق أهل شطط متهورون, فما لا يروق لأذهانهم ولا يدخل في فهمهم حكموا عليه بأنه بدعة, فوسعوا دائرة البدعة, ونبزوا عباد الله الصالحين بهذا اللقب المشين.

    وفريق قابلهم ففرطوا كما أن أولئك أفرطوا, فقالوا: لا بدعة في الدين ولا وجود للمبتدعين, وكل ما يفعله الإنسان ويرى أنه يتقرب به إلى رب العالمين فهو خير وهدى.

    ولا شك أن الفرقة الثانية التي أفرطت والفرقة الثالثة التي فرطت كل منهما على ردى، وكنا نناقش الفرقة الأولى من هاتين الفرقتين الضالتين، وهي الفرقة التي وسعت مفهوم البدعة، وقلت: إن هذا التوسيع له حالتان:

    الحالة الأولى عندهم -وهي حالة ضلال-: حكموا على ما شهد له الدليل وقال به إمام جليل بأنه بدعة, وهذا ضلال كما تقدم معنا, وضربت لذلك مثالاً من الأمثلة الشرعية التي شهدت لها نصوص الشريعة الإسلامية وقال بها بعض أئمتنا الكرام: موضوع قبض الشمال باليمين ووضع اليمين على الشمال بعد الرفع من الركوع, وبينت أن الدليل الشرعي يحتمل هذه الكيفية, وقد قال بها بعض أئمتنا الكرام، فلا يجوز أن ندخلها في دائرة البدعة.

    وقلت: إنهم وسعوا البدعة أيضا إلى ما هو أشنع من ذلك, فحكموا بالبدعة على ما دل عليه دليل صحيح صريح, كما تقدم معنا في صلاة التراويح وقلنا: إنها عشرون ركعة, ويوتر المسلمون بثلاث كما قررت هذا بأدلته وبفعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه والخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وجمهور أهل العلم، فجمهور أمة نبينا عليه الصلاة والسلام على هذا العدد في صلاة التراويح.

    إذاً: فقد شهد لذلك دليل صحيح وقال به أئمتنا الكرام, ثم وجد في هذه الأيام من ينبز هذا الفعل ومن يفعله بأنه بدعة والفاعل مبتدع, وليس بعد هذا الضلال ضلال.

    إخوتي الكرام! ومما يدخل في هذا الأمر - أعني: في توسيع مفهوم البدعة والحكم على عباد الله بالبدعة- مسألة سنتدارسها هنا وهي مسألة لها ذيول, ألا وهي قراءة القرآن على القبور, والمسألة يتبعها عدة مسائل, يتبعها حكم التلقين بعد الدفن، ويتبعها بيان الحق في سماع الأموات وعلمهم بزيارة الأحياء, وشعور الميت شعوراً أدق من شعور الحي، فهو يعلم ويبصر ويرى ويسمع من يزوره وما يجري حوله، وأقرر هذا بالأدلة الصحيحة الصريحة من كتاب الله ومن أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ومما أجمع عليه سلفنا الكرام، ثم وجد من ينبز هذا بالبدعة في هذه الأيام.

    والأمر الرابع الذي يتعلق بهذه المسألة: إهداء القربات إلى الأموات؛ سواء كانت تلك القربات والطاعات بدنية أو مالية أو مركبة منهما.

    هذه المسائل الأربع إخوتي الكرام! تتعلق بالمسألة الأولى وتتفرع عنها, ألا وهي قراءة القرآن على القبور.

    إخوتي الكرام! استحضروا التعريف, ولا يغيبن عنكم طرفة عين في هذه الحياة، كل ما لم يشهد له دليل مستقيم وما لم يقل به إمام كريم فهو بدعة، وما شهد له الدليل الشرعي وقال به إمام تقي خرج عن رسم البدعة وحدها، ومن رمى ذلك الفعل بالبدعة فهو المبتدع الخارج على أمة نبينا عليه الصلاة والسلام.

    فلا بد من ضبط هذا، وإذا أراد الإنسان أن يتكلم في هذا العصر فينبغي أن يسند كلامه إلى النصوص الشرعية وإلى علماء هذه الأمة المرضية، وأما أن يأتي ويقول: هذا الذي يظهر لي وهذه هي السنة وهذه هي السلفية فهذا قول مردود على قائله أياً كان.

    قراءة القرآن على القبور: هذه المسألة استحبها علماء الإسلام, ونقلت عن السلف الكرام، ومع هذين الأمرين ترى في هذه الأيام من يرفع لسانه على أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فيصف قراءة القرآن على القبور بأنها بدعة، ويحكم على القارئين بأنهم مبتدعون. وهذا الأمر -حقيقة- مما يفطر الأكباد في هذه الأوقات، أمر نقل عن السلف الكرام من صحابة وتابعين ومن بعدهم وقرره أئمة الإسلام -كما سيأتينا- ثم يوجد في هذه الأيام أهل شطط ينبزون من فعل ذلك بأنه مبتدع مخرف صاحب أوهام، فمن المخرف؟ هل هو من يخرج عن هدى السلف أو من يلتزم بهديهم؟

    فإذا كان هذا نقل عن السلف الصالح وقرره أئمتنا وهو مسطور مزبور في كتبنا وفي كتب شريعتنا فعلام بعد ذلك التشويش على الناس؟!

    إخوتي الكرام! وإذا كان الأمر في هذه الصورة -وهو كذلك؛ أناس يرفعون أصواتهم بأن هذا بدعة وبتبديع من يفعل ذلك- إذا كان الأمر كذلك في هذه الأيام فلا بد من وعي هذه المسألة على التمام وبيان العلم فيها بشكل تام.

    وهذه المسألة لها أمران: ‏

    قراءة القرآن مشروعة في كل مكان وزمان إلا ما استثناه الشرع

    الأمر الأول: لو لم يرد دليل في هذه المسألة بخصوصها يجيز قراءة القرآن على مقابر المسلمين وبين مقابر المسلمين وعلى موتى المسلمين لما صح أن يحكم على هذا الفعل بأنه بدعة وأنه ضلال وأنه ذميم, ووجه ذلك: أن قراءة القرآن يؤمر بها الإنسان في كل زمان ومكان إلا ما نهاه عنه الشرع المطهر، فنحن نهينا أن نقرأ القرآن إذا كنا مجنبين, ونهينا أن نقرأ القرآن راكعين وساجدين، والحديث ثابت بذلك في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً وساجداً ).

    ولا يجوز أن يقرأ القرآن في الحمامات عند انكشاف العورات؛ فالله طيب لا يذكر إلا في مكان طيب، وما عدا هذا ما ينبغي أن يمنع الإنسان من قراءة القرآن إلا إذا أتيته بدليل يمنعه, فهوانا يتبع شرع مولانا ولا نحكم عقولنا في ديننا, فما نهانا عنه ربنا ونبينا عليه الصلاة والسلام انتهينا عنه.

    فأنت أيها الإنسان! يا من تريد أن تمنع قراءة القرآن على موتى المسلمين! ما دليلك بأن هذا منهي عنه كما أننا نهينا عن قراءة القرآن في الركوع والسجود وحال كوننا مجنبين؟ فإذا أردت أن تمنع من قراءة القرآن على المقابر فينبغي أن تقيم الدليل على ذلك, وأن يكون هذا الدليل ظاهراً بيناً واضحاً.

    قراءة القرآن على الميت بقصد حصول البركة

    فإن قال قائل: إن الذي يقرأ القرآن على الأموات يقصد بذلك أن تحصل البركة لهم، ولا بد من دليل على ذلك, نقول: سبحان الله! إلى هذا الحد وصل بك الانحطاط, وأي حرج في قراءة القرآن على الموتى لتحصل لهم البركة؟ إن من مقاصد إنزال القرآن أن يتبرك به الرجال والنساء, والمرضى والأصحاء, والأموات والأحياء, فما الحرج في ذلك؟ أو ليس هذا القرآن بكتاب مبارك؟: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50]. وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]. هذا الكتاب مبارك, وكما أنزل ليكون لنا هداية في هذه الحياة كذلك نتبرك به ونستشفي به من أمراضنا، ونقرؤه لتحصل به البركة على موتانا.

    وقد كان الصحابة الكرام يفعلون هذا ويتعالجون بالقرآن, والحديث ثابت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة: في الصحيحين والسنن الأربع، وهو من أصح الأحاديث وأعلاها رتبة، فهو في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه في قصتهم عندما ذهبوا بعثاً غزاة وسرية من السرايا, ( فمروا بطريقهم على حي من أحياء العرب, وطلبوا منهم أن يضيفوهم فأبوا ضيافتهم ولم يقروهم، ثم لدغ زعيم الحي في تلك الليلة فجهد أهل القبيلة أن يعالجوه بأنواع العلاجات, فما نفع ذلك فيه, فأتوا إلى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, فقالوا: هل فيكم راق؟ فإن سيد الحي قد لدغه ثعبان ذات سمى وحمى, قال أبو سعيد الخدري : نعم, فينا راق, لكننا طلبنا منكم أن تضيفونا فما أضفتمونا, لا نرقي سيدكم إلا بجعل تجعلونه لنا، فاتفقوا على أن يعطوهم ثلاثين رأساً من الغنم، فذهب أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وبدأ يقرأ سورة الفاتحة ويتفل على هذا اللديغ حتى قام كأنما نشط من عقال، فأخذوا جعلهم وأرادوا أن يقتسموه بينهم, فقال أبو سعيد رضي الله عنهم أجمعين: حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلما سألوه قال: وما أدراك أنها رقية؟ اقتسموا واجعلوا لي معكم سهماً )؛ من أجل أن يطيب قلوبهم, وأن ما أخذوه حلال حلال.

    إذاً: قرئ القرآن لتحصل البركة ويعالج هذا المريض, وهكذا يقرأ القرآن لتحصل البركة على الميت وللميت, وليخفف عنه العذاب أو ليرفع عنه, أو ليزيد الله في النور الذي يحصل له في قبره, وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.

    فالقرآن شفاء بنص القرآن، يقول الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]. و(من) في قوله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ [الإسراء:82] لبيان الجنس, فالقرآن كله شفاء من سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس, وليست (من) للتبعيض.

    فمعنى قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ [الإسراء:82], أي: ننزل القرآن شفاء للناس, فليستشفوا به من أمراض قلوبهم ومن أمراض أبدانهم.

    فـ(من) هنا لبيان الجنس, كقول الله جل وعلا في سورة الحج: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] فـ(من) هنا لبيان الجنس, وليست تبعيضية, وجميع الأوثان رجس ونجس, لا خير فيها ولا طهارة ولا بركة، فقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [الحج:30], أي: اجتنبوا الرجس التي هي الأوثان القذرة النجسة.

    وهكذا قول الله جل وعلا في آخر سورة الفتح: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]. (من) لبيان الجنس, لا للتبعيض، لا أن بعض المؤمنين الصالحين الذين يطيعون رب العالمين وعدوا بذلك والباقي ليس كذلك، لا ثم لا.

    وهكذا قوله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82].

    فإذا قرئ القرآن على الأموات لتحصل لهم البركة بعد موتهم حققنا مقصود القرآن، والقرآن من مقاصد إنزاله أن يتبرك به الرجال والنساء، والأموات والأحياء، والمرضى والأصحاء، فنتبرك بتلاوته في جميع أحوالنا.

    إذاً: هذا الأمر الأول: ما ينبغي أن يغيب عن أذهاننا, لو لم يرد في هذه المسألة دليل بخصوصه في شريعة ربنا وأنه يجوز قراءة القرآن على الموتى لما صح أن نمنع إلا بدليل من كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام.

    ورود قراءة الصحابة للقرآن عند القبور

    والأمر الثاني، وهو الذي يوضح لنا حقيقة الأمر الأول: هذه المسألة - أعني جواز قراءة القرآن على الأموات- نقل عن الصحابة الأبرار من مهاجرين وأنصار, وتبعهم على ذلك أئمتنا الكرام الأخيار، فأي دليل تريده بعد ذلك يا عبد الله؟!

    فإن قيل: من الذي فعله من المهاجرين؟

    فنقول ثبت في سنن البيهقي في كتاب الجنائز وبوب عليه الإمام البيهقي : باب قراءة القرآن عند القبر, والأثر في الجزء الرابع من سنن البيهقي في صفحة 56, ورواه أيضاً الإمام الخلال في جامعه وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهو آخر شيء في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهو كتاب في حدود مائتي صفحة، هذا في صفحة تسعين ومائة, وهو آخر الأبواب باب قراءة القرآن عند القبور.

    والإمام الخلال هو الذي قرر مذهب الإمام أحمد وجمع نصوصه, وكانت قبل ذلك مفرقة, وقد توفي هذا العبد الصالح سنة إحدى عشرة وثلاثمائة للهجرة، يعني: بعد الإمام المبجل أحمد بن حنبل بسبعين سنة رضوان الله عليهم أجمعين.

    والإمام الخلال ينقل هذا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, عن العباس بن محمد الدوري قال: قلت لـيحيى بن معين : هل ورد شيء في قراءة القرآن على القبور؟ وهل يجوز أن نقرأ القرآن على القبور؟ ويحيى بن معين هو قرين الإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين, فقال يحيى بن معين : حدثني مبشر الحلبي عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه قال لبنيه: إذا مت (مت) -بضم الميم وكسرها- ووضعتموني في اللحد فقولوا: باسم الله وعلى ملة رسول الله عليه الصلاة والسلام, ثم سنوا علي التراب سناً, -يعني: ضعوه برفق, فالميت يتأذى مما يتأذى منه الحي- واقرؤوا عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها؛ فإني سمعت ابن عمر يوصي بذلك ويستحبه. وابن عمر شيخ الإسلام في الصحابة الكرام, وهو من المهاجرين. وهذا الأثر قال عنه شيخ الإسلام الإمام النووي في الأذكار في صفحة سبع وثلاثين ومائة: إسناده حسن، وقال عنه الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الثالث صفحة أربع وأربعين: رجاله موثقون. وكما قلت هو في السنن الكبرى للإمام البيهقي ورواه الخلال ورواه الإمام الطبراني أيضاً.

    إذاً هذا أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين بأنه أوصى بأن يفعل ذلك به, واستحبه للأموات, أن يقرأ عند رءوسهم بعد دفنهم بفاتحة البقرة وخاتمتها.

    وهذا الفعل الذي نقل عن هذا الصحابي المهاجري رضي الله عنهم أجمعين نقله الإمام الخلال في جامعه وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونقله أيضاً عن الإمام الخلال الإمام ابن القيم في كتاب الروح في صفحة عشرة, قال الخلال : قال الشعبي : وكان الأنصار إذا مات لهم ميت يختلفون إلى قبره فيقرءون عنده القرآن.

    فهذا فعل الأنصار وهذا فعل المهاجرين.

    وقد نقل ذلك الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمات رب البرية عن الصحابة، كما في مجموع الفتاوى في الجزء الرابع والعشرين صفحة ثمان وتسعين ومائتين, وقال: القراءة عند الدفن ثابتة في الجملة عن الصحابة، وقد أوصى بعضهم أن يقرأ عنده سورة البقرة.

    وهذا الذي فعله المهاجرون والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين روي مرفوعاً عن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه لكن بإسناد ضعيف, والأثر رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، ورواه ابن شاهين في كتاب القبور، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة في المغني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات أحدكم فلا تحبسوه ولا تؤخروه عن قبره، فإذا دفنتموه فليقرأ عند رأسه بفاتحة الكتاب وعند رجليه بخواتيم سورة البقرة ). والحديث فيه يحيى بن عبد الله البابلتي , وقد حكم عليه الإمام الهيثمي بأنه ضعيف، وهكذا الإمام ابن حجر في التقريب بأنه ضعيف، وقد أخرج البخاري حديثه معلقاً في صحيحه, فهو من رجال البخاري ، لكن ما أخرج له في الأحاديث المتصلة، وهو أيضاً من رجال سنن النسائي .

    ويحيى بن عبد الله البابلتي , هو ابن امرأة الإمام الأوزاعي عليهم جميعاً رحمة الله، وتوفي سنة ثماني عشرة ومائتين للهجرة, فلو لم يكن هذا في إسناد الحديث لكان الحديث صحيحاً.

    إذاً: أوصى نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث -الذي قلت: إسناده ضعيف- أن يقرأ عند رأس الميت بفاتحة الكتاب وعند رجليه بخواتيم سورة البقرة.

    لكن -كما تقدم معنا- أثر ابن عمر ثابت, وقد حسنه شيخ الإسلام الإمام النووي في الأذكار، ونقل هذا عن الأنصار الأبرار، وروي مرفوعاً عن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه لكن بإسناد ضعيف.

    1.   

    رأي أئمة الإسلام في قراءة القرآن عند القبور

    هذا الأمر الذي ورد فيه هذا الدليل المنقول انتبه لأئمة الإسلام كيف تلقوه بالقبول! لترى بعد ذلك من الذي يخرج عن هدى السلف؟ وهل يجوز لإنسان أن يحكم على فعل نقل عن المهاجرين والأنصار وثبت عن الصحابة في الجملة واستحبه أئمتنا الأخيار وقرر هذا أئمتنا في كتبهم هل يجوز أن يحكم عليه بالبدعة وعلى فاعله بأنه مبتدع؟

    رأي الشافعي في قراءة القرآن عند القبور

    وانظر إلى سيد المسلمين وإلى فقيه المحدثين ومحدث الفقهاء أبي عبد الله الشافعي رحمة الله ورضوانه عليه! يقول في كتاب الأم في الجزء الأول صفحة اثنتين وثمانين ومائتين يقول هذا العبد الصالح: وأحب أن يقرأ القرآن عند القبر وأن يدعى للميت, وليس في ذلك دعاء مؤقت.

    وهذا الكلام الذي قرره الإمام الشافعي ينقله محقق المذهب الشافعي الإمام النووي في الأذكار وفي رياض الصالحين وفي المجموع وفي كتاب الروضة, فيقول: نص الشافعي على أنه يستحب قراءة القرآن عند الدفن, ووافقه جميع الأصحاب على ذلك, قالوا: ولو قرءوا القرآن كله كان حسناً. هذا الكلام في الأذكار صفحة سبع وثلاثين ومائة, وهو في المجموع في الجزء الخامس صفحة إحدى عشرة وثلاثمائة, وهو في روضة الطالبين للإمام النووي عليه رحمة الله في الجزء الثاني صفحة تسع وثلاثين ومائة, وهو في رياض الصالحين.

    قال المعلق على رياض الصالحين صفحة سبع وأربعين وثلاثمائة: هذا الكلام الذي نقله الإمام النووي عن الشافعي قال: غريب لا أعرفه, ثم قال: أنا في شك كبير من نسبة ذلك إلى الإمام الشافعي , هذه النسبة فيها نظر. أي نظر فيها أيها المعلق؟ فالذي ينقل هذا عن الإمام الشافعي هو محقق المذهب, ألا وهو الإمام النووي في أربعة من كتبه, ثم أنت تأتي تعلق على عبارته بأن هذه النسبة فيها نظر! وأنت في شك كبير من نسبة ذلك إلى الإمام الشافعي ! سبحان الله! هلا سألت شافعياً في هذه الأيام؛ ليرشدك إلى نص الإمام في كتاب الأم, وأن هذا موجود في كتاب الأم, وأن الإمام النووي عندما نقل هذا عن الإمام الشافعي لم يتخرص وما افترى, ولا وهم ولا أخطأ، إنما هذا هو نص المذهب.

    فقولك: إنك في شك كبير من نسبة ذلك إليه، وهذه النسبة فيها نظر كان الواجب عليك أن تسأل شافعياً ممن يعيش معك في هذه الحياة, وأن تقول له: الإمام النووي نسب هذا إلى الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه, فأين نص الشافعي ؟ ليقال لك: هو في الأم في الجزء الأول صفحة اثنتين وثمانين ومائتين.

    رأي الحنفية في قراءة القرآن عند القبور

    وهذا الكلام الذي قرره الشافعية هو المقرر عند الحنفية في كتبهم كما هو في رد المحتار على الدر المختار في الجزء الثاني صفحة اثنتين وأربعين ومائتين, يقرر علماء الحنفية: أنه إذا جاء الإنسان إلى المقابر يسلم عليهم أولاً: ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ). وسيأتينا صيغ السلام ضمن مبحثنا إن شاء الله.

    قال الحنفية: ثم يقرأ ما تيسر من القرآن, ثم يدعو، وإنما يقرأ القرآن قبل الدعاء من أجل أن تنزل البركة والرحمة في ذلك المكان قبل دعائه، ومن أجل أن يكون ذلك أرجى لقبول دعائه. فيقرأ القرآن لحصول الرحمة والبركة في ذلك المكان, ثم يدعو, فيكون الدعاء أرجى للإجابة والقبول. هذا هو كلام الأئمة الحنفية في كتبهم.

    رأي المالكية في قراءة القرآن عند القبور

    وأما السادة المالكية رضوان الله عليهم أجمعين فالمنقول عن الإمام مالك رحمة الله عليه وعلى جميع أئمتنا كما في كتبهم وانظروا حاشية الدسوقي في الجزء الأول صفحة تسع وثمانين وثلاثمائة ينقلون عن الإمام مالك أن قراءة القرآن تكره عند القبور. وسبب الكراهة: كما يقول الإمام مالك عليه رحمة الله ورضوانه: المقصود من زيارة القبور أن تعلم ما قيل للميت وما انتهى إليه حاله, وأنت عما قريب ستصير إلى مثل حاله, فينبغي أن تعتبر, وإذا قرأت القرآن فأنت مأمور بالتفكر والتدبر والاعتبار عند قراءة القرآن, فكيف ستجمع بين الأمرين؟ بين الاعتبار بحال هؤلاء الموتى وبين التدبر والاعتبار عند قراءة القرآن.

    ولذلك لا تقرأ القرآن عند القبور؛ من أجل أن تتفكر في ما صار إليه من قبلك, وعما قريب أنت ستصير إلى ما صاروا إليه.

    أخي الكريم! أما تأملت أحوال الموتى, جثث هامدة, أما تأملت أحوالهم, وعما قريب سنصير إليهم, كم من حبيب تزوره وهو قريب منك, ولا تستطيع أن تراه ولا أن تكلمه.

    مقيم إلى أن يبعث الله خلقه لقاؤك لا يرجى وأنت قريب

    تزيد بلاء في كل يوم وليلة وتنسى كما تبلى وأنت حبيب

    كم من إنسان يدفن حبيباً لديه ويكثر من زيارته في أول الأمر ثم يتسلى عن حبه بعد ذلك.

    كما أن البلى يسري إليك رويداً رويداً ويأكل التراب والدود بدنك، هكذا الحب يبلى من قلوب محبيك وأنت حبيب.

    فإذا كان هذا هو المقصود يقول الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله: فيمتنع الإنسان عن القراءة, لا لأن القراءة لا تجوز عند القبر إنما ليعتبر بحال هؤلاء وبحاله الذي سيصير إليه.

    ولذلك قال أئمة المالكية: إن قرأ القرآن تسنناً فهذا لا يجوز ويمنع منه, أي: اعتقاداً لسنية القراءة في ذلك الوقت. السنة في الزيارة -كما يقول الإمام مالك - أن تعتبر, وإذا أردت أن تقرأ على أن هذا من شعائر الزيارة فلا يجوز.

    ثم بعد ذلك قالوا: إن قرأ دون اعتقاد السنية فهذا جائز -وهذا أصل المذهب كما قلت-، ثم جاء متأخرو المذهب كما في حاشية الدسوقي فنقل عن ابن رشد وعن أئمة المالكية المغاربة والأندلسيين: أنهم أجازوا قراءة القرآن على القبور؛ طلباً لنزول الرحمة والبركة على الأموات.

    قال الإمام الدسوقي في الحاشية، وهذا من كتب فقه المالكية، قال: وعلى هذا عمل المسلمين شرقاً وغرباً, أي: إذا زاروا المقابر يقرءون القرآن, ولا ينكر بعضهم على بعض ذلك.

    رأي الإمام أحمد في قراءة القرآن عند القبور

    وأما الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمة الله ورضوانه عليه فكان يرى ما يراه الإمام مالك في أول الأمر رضوان الله عليهم أجمعين من أن القراءة يمنع الإنسان منها؛ من أجل أن يتدبر ما آل إليه حال هؤلاء الناس وما سيصير إليه عما قريب, ثم لما قيل له: إن ابن عمر أوصى بذلك رضي الله عنهم أجمعين رجع عن قوله.

    وقصة رجوع الإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليه عن هذا القول وأنه يرى أن قراءة القرآن جائزة عند القبور نقلها أتباع مذهبه قاطبة، فقد نقلها شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء الثاني صفحة خمس وعشرين وأربعمائة, قال: وقد رجع الإمام أحمد عن ذلك رجوعاً أبان به عن نفسه, ونقلها الإمام ابن القيم في كتاب الروح وشيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله في مجموع الفتاوى.

    واسمعوا هذه القصة في رجوع الإمام أحمد بن حنبل رضوان الله عليهم أجمعين عن قوله.

    والقصة -كما يرويها الإمام الخلال في جامعه وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب قراءة القرآن عند القبور-: أن الإمام أحمد كان مع أصحابه في زيارة لمقابر المسلمين فرأى ضريراً يقرأ على القبور فنهاه, وقال: يا هذا! القراءة عند القبر بدعة، فقال له تلميذه محمد بن قدامة الجوهري : يا أبا عبد الله ! ما تقول في مبشر الحلبي ؟ -وهو الذي حدث بهذا الحديث لـيحيى بن معين أيضاً- فقال الإمام أحمد : ثقة، كتبت عنه؟ -الإمام أحمد يقول لـمحمد بن قدامة الجوهري : هذا ثقة، هل كتبت عنه؟- قال: نعم، حدثني مبشر الحلبي عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه قال: إذا مت -وذكر الأثر المتقدم- ووضعتموني في اللحد فسنوا علي التراب سناً, وقولوا قبل ذلك: بسم الله, وعلى ملة رسول الله عليه الصلاة والسلام، واقرأوا عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها؛ فإني سمعت ابن عمر يوصي بذلك ويستحبه. فقال الإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين: ارجع إلى الرجل فقل له: يقرأ, أي: إذا ثبت هذا عن شيخ المهاجرين عبد الله بن عمر رضوان الله عنهم أجمعين فما بقى كلام لي ولا لغيري.

    إخوتي الكرام! هذا هو المنقول عن الصحابة من مهاجرين وأنصار, وتبعهم على ذلك أئمتنا الأبرار الأخيار, فهل يصح القول بعد ذلك بأن هذا بدعة؟ لا ثم لا. والإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه الروح تعرض لهذه المسألة في أول الكتاب في صفحة عشرة يقول: وقد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا بأن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن، ولمن رأى بذلك قال عبد الحق : يروى أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة. وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولاً حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك.

    وهذا كلامه الذي ينقله الإمام ابن القيم هو الذي نقله أئمتنا عن الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله.

    وقال الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: رخص فيها -يعني: في القراءة على القبور- الإمام أحمد في الرواية الأخرى؛ لأنه بلغه أن ابن عمر أوصى أن يقرأ على قبره بفاتحة البقرة وخاتمتها، وروي عن بعض الصحابة قراءة سورة البقرة، فالقراءة عند الدفن مأثورة في الجملة.

    ويرويها الإمام الخلال في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي كتابه الجامع, وينقل هذا عنه الإمام ابن القيم أيضاً, يقول عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني وهو من أئمة الشافعية الكبار من تلاميذ الإمام الشافعي توفي سنة ستين ومائتين للهجرة عليهم جميعاً رحمة الله, وحديثه مخرج في صحيح البخاري والسنن الأربع، قال: سألت الشافعي عن القراءة عند القبر فقال: لا بأس بها.

    فـالشافعي يقرر هذا في كتابه وينقله عنه تلاميذه وينقله الخلال عن الزعفراني .

    وكما قلت: الخلال توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة, والزعفراني سنة ستين ومائتين, فبين وفاتهما وقت قصير, والإمام الخلال أدرك من حياة الإمام الزعفراني ستاً وعشرين سنة؛ لأنه ولد سنة أربع وثلاثين ومائتين للهجرة والإمام الخلال توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.

    ثم قال: وذكر الخلال عن الشعبي ، قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن.

    إخوتي الكرام! هذه هي أقوال أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين في هذه المسألة, فهل يصح بعد ذلك أن تقول: إنها بدعة, وأن فاعل ذلك مبتدع؟ لا ثم لا؛ لأنه تحتمله الأدلة وينقل عن سلفنا، ثم يوجد في هذا الحين من يبدع من يفعل ذلك ويصف هذا الفعل بالبدعة؟! فهذا شطط نحو رسم البدعة وحدها وإدخال في البدعة ما ليس منها.

    فكل ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل فقد خرج عن كونه بدعة.

    1.   

    مدى مشروعية قراءة القرآن عند القبور ومناقشة القائلين ببدعيتها

    إخوتي الكرام! وفي ختام الكلام على هذه المسألة أقول كلمة موجزة: إن القراءة ما أوجبها أحد، وما قال: إنها فرض, وليس في فعلها حرج، فإن فعلتها فقد أحسنت, وإلا فما عليك لوم, ودع الأمة في سعة، وإذا كانت نفسك لا ترتاح إلى هذا فما أحد أوجب ذلك عليك، لكن اترك أمة النبي عليه الصلاة والسلام في بحبوحة وسعة كما نقل عن سلفها وكما قرر أئمتها, ولا تصولن عليهم ما بين الحين والحين بالتبديع والتضليل والتخريف؛ وقد شهد لصحة فعلهم نصوص الشرع المطهر وفعل السلف الكرام، وقرر ذلك أئمة الإسلام.

    فينبغي أن تتسع صدورنا لهذا الأمر الذي قرره أئمتنا.

    كنت مرة في مدينة نبينا عليه صلوات الله وسلامه في زيارة موتى المسلمين من الصحابة فمن بعدهم رضوان الله عليهم أجمعين في البقيع, وحضرت جنازة دفنت بعد صلاة الفجر في البقيع الطيب المبارك, وبعد أن انصرف الناس وقف بعض أهل الموتى وأخرج مصحفاً يقرأ بصوت خافت, لا يسمعه من بجواره, فمر به بعض الناس وأنكر عليه, وقال: هذه بدعة، وهذا ضلال, وبدأ يتهجم عليه بالعبارات القاسية، والرجل خاف وقال: جزاك الله خيراً, ووضع المصحف في جيبه، مع أنه تلقى هذا الحكم من شيوخه, وهو على بينة من أمره, ولم يترك ما هو عليه، لكنه لا يريد أن يدخل مع هذا الرجل في جدال وقيل وقال، فبعد أن انصرف هؤلاء الرجال وكانوا ثلاثة وقد كادوا أن يصلوا إلى باب البقيع؛ ليخرجوا منه، وقف الرجل مكانه وأخرج المصحف وبدأ يقرأ فعادوا إليه فأسمعوه من الكلام الغليظ والسب ما لا ينبغي أن يقوله مسلم فكيف في مدينة النبي عليه الصلاة والسلام؟ فكيف مع الصحابة الكرام والموتى بعد ذلك من المسلمين في هذا المكان؟ وأنا أراقب المشهد من أوله إلى آخره، فدخلت معهم في الكلام, وقلت: إخوتي! لم تنكرون؟ قالوا: هذا بدعة وضلال ولا يجوز أن يفعل، قلت: ومن قال إنه بدعة؟ أعندكم دليل من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وكلام سلفنا في الزجر عن هذا؟ قالوا: أنت ما دليلك على الجواز؟ قلت: هذا منقول عن سلفنا, وفيه سعة إن شاء الله، قالوا: عمن نقل؟ قلت: نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما, والأثر ثابت عنه، قالوا: مذهب الصحابة ليس بحجة.

    قلت: قرره الإمام المبجل أحمد بن حنبل وعلى هذا المذهب الحنبلي بكامله: أن قراءة القرآن عند القبور جائزة، وهذا في المغني، قالوا: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه, والإمام أحمد ليس بحجة. قلت: ننتقل إلى القرن الثامن، إلى الإمام ابن تيمية الذي آلت أيضاً إليه أقوال السلف قال: إن القراءة عند القبور وقت الدفن مشروعة في الجملة ونقلت عن السلف, فقالوا: ابن تيمية ليس بحجة.

    قلت: من الحجة؟ قالوا: القرآن والسنة، فقلت: على العين والرأس، نعم ما تحتكمون إليه، لا نريد الصحابة على حسب قولكم ولا أئمة الإسلام من متقدمين ومتأخرين, بل كتاب وسنة، أنا وأنتم، فما الدليل على المنع؟ قالوا: قول الله في سورة يس: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]. قلت: ما وجه الاستشهاد بهذه الآية وأن قراءة القرآن ممنوعة؟ قالوا: نزل القرآن لإنذار الأحياء ولا يجوز أن نقرأه على الأموات. قلت: ما رأيكم لو قرأناه على المرضى من أجل أن يحصل الشفاء لهم؟ فأجاب واحد منهم قال: لا يجوز أن نقرأه على المرضى من أجل أن يحصل الشفاء لهم، قلت: يا عبد الله! أنت خالفت القرآن والسنة الآن في هذه الفتيا؛ أما قال الله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]؟ وأما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام -في الحديث الذي ذكرته آنفاً- ( وما أدراك أنها رقية ). وقد رقى أبو سعيد اللديغ بسورة الفاتحة، وأخذ ثلاثين رأساً من الغنم؟ فقال له من معه: هداك الله, يجوز قراءة القرآن للرقية.

    فقلت: يجوز أم لا؟ اثبتوا على قول، قال: يجوز، فقلت: إذاً: قول الله: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70]. نزل القرآن للإنذار ونزل للتبشير ونزل للاستشفاء به ولحصول البركة، فمن أعظم مقاصده إنذار الأحياء, ولكن ليس لذلك فقط فلم تستدلون بالآية التي لا دليل فيها على وهمكم?

    ولكن قلت لهم: هذا القول سبقكم به من سبقكم من المعاصرين في هذه الأيام, وأنتم ترددون كلامه تقليداً دون وعي ودون علم، فما وجه الاستدلال بهذه الآية على أنه لا يجوز قراءة القرآن على الموتى؟

    ثم قلت: إخوتي الكرام! اعرفوا قدركم, ففعل ينقل عن سلفنا ويقرره أئمتنا وبعد ذلك كل واحد منكم يرفع كلامه بين الموتى, ويقول: لا يجوز؟! اتقوا الله في أنفسكم.

    فقام واحد منهم وقال كلمة -لنرى إخوتي الكرام كيف ننحرف عن شريعة الله عندما لا نحكم شريعة الله في حياتنا, وكم من إنسان يدعو إلى السنة وإلى السلفية وقد نبذهما وراءه ظهرياً, وكم من إنسان يدعو إلى تحكيم القرآن وقد جعل القرآن وراء ظهره-.

    قال لي بعد ذلك: يا عبد الله! هذه بلادنا نفعل فيها ما شئنا, إن أعجبك وإلا -بعبارات قاسية- كذا وكذا، فقلت: غفر الله لي ولكم, جعلنا الله إخوة متحابين, إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].

    ثم بعد ذلك أنتم جئتم تفصلون المؤمنين إلى هذه الفواصل.

    يا عبد الله! كنا نتكلم في مسألة لو لم تسلموا بجوازها فغاية ما تقولون: إنني مبتدع, فإذا كنت مبتدعاً فإنني لا زلت ضمن دائرة الإسلام, وأنا مسلم وأنتم مسلمون، أما الآن انفصلنا فما بقى رباط بيننا، وقلت: يا إخوتي الكرام! كنا نتكلم ضمن الإسلام, وخرجنا الآن إلى الكفر.

    وأنا أقول: إن هذا القول الجاهلي لا يقره العاقلون الصالحون في مدينة نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ولا في أي مكان, فالمؤمنون إخوة, ونحن لا يحجز بين إخوتنا مع إخواننا شرقاً وغرباً لا حاجز ولا حد ولا قيد, و( من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله, فلا تخفروا الله في ذمته ).

    لكن انظر لمنطق الجاهلية؛ عدم التسليم لأئمة الإسلام, ثم يريد أن يرجع الأمة من أولها إلى آخرها لفهمه السقيم، ثم بعد ذلك كأنه يريد أن يخرج من حظيرة الدين، بلادنا وبلادك.

    إخوتي الكرام! لابد من أن نعي هذا الأمر, ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل خرج من رسم البدعة.

    وإذا لم نقل بهذا فسيبدع بعضنا بعضاً, ويلعن بعضنا بعضاً, ويريق بعضنا دماء بعض, فاتقوا الله في أنفسكم وفي أمة نبيكم عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    تلقين الميت بعد الدفن

    ويترتب على هذه المسألة مسألة التلقين, وهي: إذا مات الميت نقوم على قبره ونلقنه بما سأذكره إن شاء الله.

    الأدلة على مشروعية تلقين الميت بعد الدفن

    أما مسألة التلقين فقد ورد بها حديث ضعيف، وكما قال أئمتنا: في الفضائل يتسامح في الأحاديث الضعيفة, وهذا الحديث الضعيف شهد له شواهد صحيحة. هذا الدليل الأول.

    والدليل الثاني: فعل السلف في التلقين.

    فانتبه لهذه المسألة التي تترتب على المسألة الأولى!

    أما الحديث إخوتي الكرام! فقد رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، ورواه ابن منده في كتاب الروح، ورواه الإمام الخلال أيضاً عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دفنتم الميت فليقم أحدكم عند رأسه وليقل: يا فلان ابن فلان! فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه يجلس قاعداً, ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة! فيقول: أرشدنا رحمك الله, ولكنكم لا تسمعون, ثم ليقل بعد الثالثة: يا عبد الله! اذكر ما خرجت عليه من الدنيا أنك تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -عليه الصلاة والسلام-, وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالقرآن إماماً, فإذا قيل له ذلك، يقول منكر ونكير لبعضهما: ماذا قعودنا عند رجل قد لقن حجته؟ فيفارقانه ويكون الله حجيجه دونهما ). فالله هو الذي يتولى الجواب, وهو الذي يثبت الميت بعد ذلك في القبر.

    هذا الأثر إخوتي الكرام! إسناده ضعيف كما قرر أئمتنا, وقال الحافظ في تلخيص الحبير الجزء الثاني صفحة ثلاث وأربعين ومائة: إسناده صالح, قال: وقواه الضياء المقدسي في أحكامه, ثم قال: وله شواهد. وهذا هو ما قرره أئمة الإسلام كالإمام النووي وابن القيم وابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله.

    ومن شواهد هذا الأثر ما سأذكره.

    الشاهد الأول: ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه في حال احتضاره وكان التابعون والصحابة معه في حال السياق, ( فبكى رضي الله عنه طويلاً وكثيراً, ثم حول وجهه إلى الجدار وهو يبكي, فقال له ولده عبد الله : يا أبتاه! ما يبكيك؟ أليس قد بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فأقبل على الحاضرين بوجهه وقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام, ثم قال: كنت على أطباق ثلاث -الحالة الأولى التي كان عليها- يقول: رأيتني أشد الناس بغضاً للنبي عليه الصلاة والسلام, وكنت أتمنى أن أتمكن منه لأقتله قال: ثم جعل الله الإسلام في قلبي فجئت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! مد يدك لأبايعك, فمد النبي عليه الصلاة والسلام يده، فقبضت يدي, قال: ما لك يا عمرو ؟! قلت: يا رسول الله! -عليه الصلاة والسلام- أريد أن أشترط. قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي ما مضى من حياتي -جاهلية تزيد على عشرين سنة يقاتل النبي عليه الصلاة والسلام, وأسلم في العام الثامن من الهجرة بعد بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام بواحدة وعشرين سنة- قال: يا عمرو ! أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله؟ قال عمرو بن العاص : فما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان أحد أحلى في عيني منه, والله ما استطعت أن أملأ عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له, ولو قيل لي صفه لما استطعت أن أصفه؛ لأنني لم أملأ عيني من النبي عليه الصلاة والسلام, فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة -هذه الحالة الثانية- قال: ثم ولينا أعمالاً ما أدري حالنا فيها -وهي الحالة الثالثة التي يتصف بها عمرو رضي الله عنه وأرضاه- ثم قال لولده وللحاضرين: إذا أنا مت فلا يصحبني نار ولا نائحة, وإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سناً, ثم أقيموا عند قبري -وهذا في صحيح مسلم - قدر ما ينحر جزور ويوزع لحمها؛ حتى أستأنس بكم, وأنظر بماذا أراجع به رسل ربي ). أي: بعد الدفن أقل شيء تقيمون عند قبري بمقدار ذبح الجزور وتوزيع لحمها, وهذا أقل ما يكون ساعة, وإذا جلس الناس هذه الساعة ماذا سيفعلون؟ هل سيتكلمون في حديث الدنيا؟ أم أنهم يقرءون القرآن، ويصلون على النبي عليه الصلاة والسلام، ويسألون له التثبيت، ويدعون له.

    قال شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين عليه رحمات رب العالمين في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن في الجزء الرابع صفحة سبع وثلاثين وأربعمائة: وهذا الأثر عن عمرو بن العاص له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام, فنحن نجزم ضرورة بأن النبي عليه الصلاة والسلام أعلم أمته وأصحابه أن الميت يستأنس بأصحابه عندما يكونون حوله. هذا كلام عمرو لا يمكن أن يقول هذا من قبل رأيه, إنما هذا تلقاه من النبي عليه الصلاة والسلام, وهذا له حكم الرفع؛ لأنه لا يجوز لصحابي أن يتكلم في مغيب عن طريق رأيه واجتهاده وتخرصه, فكأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأمته: إذا دفن الميت فاجلسوا عنده وأقيموا هذا المقدار من أجل أن يستأنس بكم ومن أجل أن يحصل له تثبيت بحضوركم. كيف لا, وقد كنا نصلي عليه ونطلب له الشفاعة فلنواصل هذه الشفاعة بعد ذلك, ورحمة الله جل وعلا واسعة. هذا الشاهد الأول, وهو في المسند وصحيح مسلم .

    والشاهد الثاني: رواه الإمام أبو داود والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن والبزار وصححه الحاكم وأقره عليه الذهبي ، وقال الإمام النووي في المجموع: إسناده جيد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف على شفير القبر, وقال: استغفروا لأخيكم وسلوا الله له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل ). والحديث إسناده صحيح كالشمس وضوحاً وسطوعاً.

    إذاً: عندما نلقنه هذا من جملة تثبيته، فذاك الأثر الذي إسناده ليس بالقائم -و ابن حجر يقول: إسناده صالح- يشهد له أثر عمرو , ويشهد له حديث عثمان رضي الله عنهم أجمعين. ونقل مثل هذا آثار كثيرة عن سلفنا الكرام, رواها سعيد بن منصور وغيره في سننه, بأنه يحصل تثبيت للميت عند جلوس الناس حوله, وعند تلقينهم له لا إله إلا الله، وربي الله وديني الإسلام ونبي محمد عليه الصلاة والسلام.

    أقوال الأئمة في مشروعة تلقين الميت بعد الدفن

    إخوتي الكرام! هذا الأمر الذي نقل عن هؤلاء السلف ويشهد لذلك الحديث نقل أيضاً عن السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, وقرروه واستحبوه.

    فهذا الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الرابع والعشرين صفحة تسع وتسعين ومائتين يقول: وهذا التلقين فعله أبو أمامة من الصحابة وفعله واثلة بن الأسقع رضي الله عنهم أجمعين وغيرهما.

    والتحقيق -هذا كلام الإمام ابن تيمية بالحرف- أنه جائز.

    وقال مثل هذا في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم في صفحة ست وعشرين وثلاثمائة: بأن التلقين جائز, نقل عن السلف الكرام, وهذا الذي اختاره - كما قال- أكثر الحنابلة وقرره علماء الإسلام.

    وهذا هو الموجود في المغني, ونقله عن القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب ، وهذا هو الذي قرره شيخ الإسلام الإمام النووي عليهم جميعاً رحمة الله، وهو الذي قرره الإمام ابن القيم في كتاب الروح, فقال رحمة الله ورضوانه عليه في صفحة ثلاث عشرة، قال كلاماً ينبغي أن نعيه في هذه الأيام؛ لنرى حال من يبدع من يفعل ذلك ويتهجم على سلفنا الكرام.

    يقول الإمام ابن القيم : ويدل على هذا -أي: أن الميت يستبشر بزيارة الحي ويسمعه ويسمع ما يجري حوله- ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميت في قبره, ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً, وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه, واحتج عليه بالعمل -أي: الإمام أحمد يستحسن التلقين ويقول: عمل المسلمين عليه-, ويروى فيه حديث ضعيف ذكره الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة -وكما قلت: رواه ابن منده ورواه الخلال وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله-. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول: يا فلان ابن فلان! فإنه يسمع ولا يجيب, ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة! الثانية فإنه يستوي قاعداً, ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة! يقول: أرشدنا رحمك الله, ولكنكم لا تسمعون, فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام, وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يتأخر كل واحد منهما, ويقول: انطلق بنا, ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته, ويكون الله حجيجه دونهما ). فهذا الحديث -هذا كلام الإمام ابن القيم عليه رحمة الله- وإن لم يثبت: -أي: من حيث السند- فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير نكير كاف في العمل به، وما أجرى الله العادة قط بأن أمة أطبقت -في مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولاً وأوفرها معارف- على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك, ولا ينكره منها منكر, بل سنه الأول للآخر, ويقتدي فيه الآخر بالأول.

    ثم ذكر الشواهد له من أثر عثمان الذي تقدم معنا وأثر عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين.

    وهذا إخوتي الكرام! هو الذي قرره أئمة الإسلام, يقول الإمام النووي في المجموع وفي الروضة وفي الأذكار: هذا التلقين استحبه جماعة كثيرون من أصحابنا، قال الإمام ابن الصلاح : هو المختار وهو الذي نعمل به, ثم قال: روينا فيه حديثاً -وهو حديث أبي أمامة الذي تقدم معنا- وليس إسناده بالقائم, لكن اعتضد بشواهد وبعمل أهل الشام قديماً، قلت -القائل هو الإمام النووي-: وإن كان الحديث ضعيفاً فيستأنس به, وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب, وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث, منها حديث: ( سلوا الله له التثبيت )، ومنها وصية عمرو . وهما أثران صحيحان, ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يقتدى به وإلى الآن.

    وشيخنا المبارك في أضواء البيان بعد أن بحث في هذه المسألة، ونقل نصوص أئمة الإسلام في قرابة ثلاث صفحات في مشروعية التلقين واستحبابه قال: وإيضاح كون الشواهد تشهد للتلقين أن نقول: حقيقة التلقين مركب من أمرين:

    الأول: كون الميت يسمع ما يقال عنده.

    والثاني: كون الميت ينتفع بالتلقين.

    قال: وكل من الأمرين ثابت في الجملة.

    أما أن الميت يسمع ما يجري حوله فهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة ولا ينكره إلا مكابر ضال, فقد ثبت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود والنسائي من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الميت إذا قبر وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم, فيأتيه ملكان فيجلسانه, ويقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم -محمد عليه الصلاة والسلام-؟ فأما المؤمن فيقول: هو عبد الله ورسوله, آمنا به واتبعناه، فيقولان له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة, فيراهما معاً، وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، أقول ما قال الناس, فيقولان: لا دريت ولا تليت, فيضربانه بمطرقة معهما بين أذنيه يصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين ). والشاهد في الحديث: يسمع قرع النعال.

    والحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود عن البراء بن عازب : ( يسمع خفق نعالهم ). ورواه الإمام أحمد أيضاً والبزار والطبراني في معجمه الأوسط، وفي صحيح ابن حبان أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين: أن الميت يسمع خفق النعال وقرع النعال. فإذا سمع الميت قرع النعل ألا يسمع صوت الفم إذا لقناه وقلنا: يا عبد الله! اذكر ما خرجت عليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ أليس الذي يسمع قرع نعلك يسمع صوت فمك؟ إنه يسمع هذا من باب أولى.

    والأمر الثاني: انتفاع الميت بالتلقين، فهل ينتفع؟

    قال شيخنا: كل من الأمرين ثابت في الجملة، فإذا شرع لنا نبينا عليه الصلاة والسلام الدعاء له بالتثبيت وقلنا: إن الحديث صحيح، فلماذا هذا؟ لينتفع به, وليحصل الخير له، فإذا كنا نسأل الله له التثبيت وينتفع بسؤالنا فلنلقنه وينتفع بتلقيننا، فكما انتفع بذلك القول ينتفع بهذا القول، وكما سمع قرع النعال يسمع صوت الفم، كل من الأمرين ثابت -كما قلت- في الجملة, فعلام الإنكار؟

    وأريد أن أعلم -إخوتي الكرام- أي بدعة تحصل لو أن الإنسان عندما يقبر وقف الحاضرون وقالوا هذا الكلام الموجز بهذا الكلام المحكم، يا عبد الله! اذكر ما خرجت عليه من الدنيا, أنك تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ أي بدعة؟ وأي لفظ فيه محظور؟

    والله إن هذا الكلام إذا لم ينفعه فلن يضره, ولم يرتكب أحد من الحاضرين حرجاً، وأنا أعجب غاية العجب كيف ترك الناس هذا من أثر لفظ ينتشر هنا وهناك ولا صحة له! وهذا الذي قرره أئمتنا وهذا الموجود في كتب علمائنا, وهذا الذي نقل عن سلفنا رحمة الله عليهم أجمعين.

    وإذا كان شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية بعد أن آلت إليه هذه الأقوال يقول: هذا والتحقيق أنه جائز، يأتيك من يأتيك في هذه الأيام ويقول: وإن قال الإمام ابن تيمية إن التلقين جائز فهو بدعة.

    نقول له: قال الإمام ابن تيمية جائز أو لم يقل ما لنا علاقة به، لكن هل ورد نهي عن ذلك؟

    إخوتي الكرام! نسأل الله أن يلهمنا رشدنا, وأن يحسن ختامنا؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    وأما المسألة الثالثة التي تتعلق أيضا بزيارة القبور: ألا وهي سماع الموتى وانتفاعهم بما يجري حولهم من خيرات وطاعات فأترك الكلام عليه للموعظة الآتية؛ لتحقيق الكلام واستعراض أدلة القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام التي تقرر هذا القول.

    أسأل الله إن أحيانا أن يحيينا على الإسلام, وإن أماتنا أن يتوفانا على الإيمان؛ إنه رحيم رحمن ذو الجلال والإكرام.

    أقول هذا القول وأستغفر الله.

    1.   

    ضوابط في إطلاق البدعة على بعض العبادات

    الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين, وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيراً, وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    إخوتي الكرام! لوضع الأمر في نصابه وفي موضعه ما كان بدعة نقول: إنه بدعة، وما ورد النهي عنه فلا يجوز لأحد أن يبيحه، ولكن ما احتملته الأدلة الشرعية وقاله علماء الشريعة الإسلامية فتأدب معهم سواء فعلت ذلك أو لم تفعل، فما كان منكراً ننكره وإن فعله من فعل, وقد نلتمس عذرا للفاعل؛ لنسقط اللوم عنه لا لنحتج بفعله.

    فاستمع لما يقوله أئمتنا نحو هذا الحكم الموجز: القبر لا يجوز أن يجصص, ولا أن يبنى عليه, ولا يجوز أن يكتب عليه, وقد ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام فلا كلام لمتكلم بعد ذلك.

    ثبت في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد والسنن الأربع والحديث في المستدرك وسنن البيهقي ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر, وأن يبنى عليه, وأن يقعد عليه ). فلا يجوز أن يجصص, ولا أن يبنى عليه, ولا أن يقعد على القبر.

    وزاد أهل السنن والحاكم في المستدرك والبيهقي والطحاوي : ( وأن يكتب عليه ). فلا يجوز الكتابة على القبر, وما يكتب من آيات قرآن ومن مواعظ ومن أبيات أشعار كل هذا بدعة وضلال، فما كان بدعة فهو بدعة, وما لا يدخل في رسم البدعة لابد من أن نقف عند حدنا.

    انتبه لكلام الحاكم في المستدرك ولتعليق أئمتنا على كلامه! قال الحاكم بعد أن ذكر هذا الحديث قال: وهذه أسانيد صحيحة وليس العمل عليها؛ فإنه لم يزل يكتب على قبور أئمة المسلمين في الشرق والغرب.

    كأنه يريد أن يقول: هذه الأحاديث وإن نهت عن الكتابة على القبر فقد كتب على قبور أئمتنا، فإذاً: ليس العمل على هذه الأحاديث, نقول: لا ثم لا.

    قال الذهبي معلقاً: قلت: ما قلت طائلاً -أي: ما قلت كلاما معتبراً له وزن يقبل- ما قلت طائلاً, وهل فعل ذلك صحابي؟ هل هذا الفعل فعله أحد الصحابة الكرام، إنما فعل ذلك بعض التابعين ممن لم يبلغهم النهي, واقتدى بهم بعض المتأخرين, فإذا فعل هذا ممن لم يبلغه النهي فغاية ما نقول: إن شاء الله لا يعاقب؛ لأنه ما يعلم النهي, لكن هذا الفعل لا يجوز، أما أن يقال: هذا كتب على قبور أئمة المسلمين فليس العمل إذاً على ما ثبت عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، لا ثم لا.

    وكما قلت: نزن بالقسطاس المستقيم، فلا بد من التفريق بين ما هو بدعة وما قال أئمتنا إنه بدعة، وهذا ما هو مقرر في كتب المذاهب الأربعة, فلا يكتب على القبر, ولا يرفع ولا يبنى ولا يجصص, وعليه إذا قال قائل: كتب على قبور بعض أئمة المسلمين نقول: ما قلت طائلاً, إما أنه فعل هذا بغير علمه, ولو قدر أنه أوصى أن يكتب شيء على قبره لعله ما علم النهي, أو علمه ونسيه وذهل عنه, فهو إن شاء الله معذور، لكن لا يقتدى به في هذا العمل المرذول، هذا عمل يخالف شريعة النبي عليه الصلاة والسلام فلا يعول على عمل أحد أياً كان.

    فلا بد من التفريق بين ما شهد له الدليل وقال به إمام جليل وبين ما نهانا عنه نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه ثم فعل في العصور المتأخرة, فلا يجوز أن نحتج بفعل المتأخرين لنلغي كلام نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام.

    وكما قلت: نزن الأمور بالقسطاس المستقيم, فما ضاد السنة الثابتة وألغاها فهو بدعة ضلال ممن صدر، نعم قد يكون لفاعله عذر عند ربه, لكن نحكم على هذا الفعل بأنه بدعة وبأنه لا يجوز, وبذلك -كما قلت- نكون من المقتصدين المعتدلين, لا نفرط ولا نفرط.

    نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يلهمنا رشدنا, وأن يجعل هوانا تبعاً لشرع نبينا عليه الصلاة والسلام، وأن يرزقنا كلمة الحق في الغضب والرضا، وأن يرزقنا القصد في الغنى والفقر؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً. والحمد لله رب العالمين.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756012136