إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. عبد الرحيم الطحان
  5. سلسلة مباحث النبوة
  6. مباحث النبوة - خلُق النبي صلى الله عليه وسلم مع أسرته

مباحث النبوة - خلُق النبي صلى الله عليه وسلم مع أسرتهللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ذا خلق عظيم ومعاملة رفيعة لجميع الناس، لم يؤتها أحد قط، خاصة مع أهله وأسرته، فقد كان رءوفاً رحيماً بهم، رفيقاً في معاملتهم، لم يضرب منهم امرأة ولا خادماً، وكان رفيقاً أشد الرفق بالعيال والصغار من أهله وأسرته، ولا غرو في ذلك فهو القائل: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).

    1.   

    بلوغ النبي صلى الله عليه وسلم الكمال والتمام في خلْقه وخُلُقه

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: إن الأمور التي تدل على صدق أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه في أنهم رسل الله حقاً وصدقاً، الأمور التي تدل على ذلك كثيرة وفيرة يمكن أن نجمعها في أربعة أمور:

    أولها: النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، في خلقه وخلقه.

    والأمر الثاني: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، والشريعة التي بعث بها وبلغها إلى الناس.

    والأمر الثالث: المعجزات التي أيده الله بها، والكرامات التي أكرمه الله بها.

    وآخر الأمور الأربعة: النظر إلى حال أصحابه، فهم صورةٌ لقائدهم ونبيهم وهاديهم على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

    إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الأول، وقد انتهينا من أحد شقيه مدارسةً وتفصيلاً وتحليلاً، ألا وهو النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في خلقه، فالله أعطى رسله الكرام على نبينا وعليهم جميعاً الصلاة والسلام أعطاهم الكمال في خلقهم، وفي خلقهم، فخلقهم أحسن خلق، جمع حلاوةً ومهابةً، وخلقهم أحسن خلق، جمع أيضاً مهابةً وحلاوةً عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    تقدم معنا -إخوتي الكرام- ما يتعلق ببيان خلق أنبياء الله ورسله، وبينت على سبيل التخصيص خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وأنه كان أفضل المخلوقات خلقاً، بهاءً وملاحةً عليه صلوات الله وسلامه.

    ثم انتقلنا بعد ذلك في الموعظة الماضية إلى دراسة الشق الثاني من الأمر الأول الذي نعرف به صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، والأمر الثاني: النظر إلى خلق النبي عليه الصلاة والسلام.

    وبينت في الموعظة الماضية أن الكمال كما حصل لجميع أنبياء الله ورسله في خلقهم، حصل لهم الكمال أيضاً في خُلُقهم، فنبينا عليه صلوات الله وسلامه على خلقٍ عظيم، وقلت: يستحيل الإحاطة بخلق نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه، كما يستحيل الإحاطة بجميع معاني القرآن العظيم، كما تقدم معنا الدلالة في أثر أمنا عائشة رضي الله عنها على هذه القضية في الموعظة الماضية.

    إخوتي الكرام! قلت: مع جزمنا باستحالة وقوفنا على كمال خلق النبي عليه الصلاة والسلام على وجه الإحاطة والاستقصاء والتمام والكمال، مع جزمنا بذلك، وأننا عندما نتكلم على خلقه، ونعرف فضائله عليه صلوات الله وسلامه في خلقه الحسن، فإننا نتعرف على قطرةٍ من بحر، كما هو الحال عندما نفسر كلام الله جل وعلا نفسره على حسب استطاعتنا، ولا يعلم المعنى على وجه التمام والكمال كما يليق بهذا الكلام إلا ربنا الرحمن، وهكذا لا يمكن لبشرٍ أن يحيط بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام على وجه التمام والكمال، لكن قلت: سنتدارس بعض الأمور التي يتضح لنا منها حسن خلق نبينا الرسول عليه صلوات الله وسلامه، والتي تقرر جلياً واضحاً أنه رسول الله حقاً وصدقاً عليه صلوات الله وسلامه.

    هذه الأمور -إخوتي الكرام- قلت: تنقسم إلى قسمين: فحسن الخلق إما أن يكون مع الحق، أو مع الخلق، وحسن الخلق تقدم معنا تعريفه باختصار وأنه: هيئةٌ راسخةٌ في النفس تصدر عنها الأفعال الحسنة بسهولةٍ من غير فكرٍ ولا روية، وهذه الأفعال الحسنة إما أن تكون مع الحق جل وعلا، وإما أن تكون مع الخلق، فسنتدارس خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه مع ربه ومع خلق الله سبحانه وتعالى.

    وقلت: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع الخلق يتضح بعدة أمورٍ لا بد من الكلام عليها كما ذكرت، أولها: خلقه مع أسرته أزواجه وآل بيته عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وخلقه مع أصحابه وأمته عليه وعلى أمته وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة صلوات الله وسلامه، وخلقه مع الملائكة الكرام عليه وعليهم جميعاً الصلاة والسلام، وخلقه مع أعدائه من شياطين الإنس والجن، كيف كان يعاملهم ويظهر حسن خلقه معهم عليه صلوات الله وسلامه، ومعاملته عليه صلوات الله وسلامه للحيوانات والجمادات.

    1.   

    أخلاق النبي مع أهل بيته من أظهر ما يدل على نبوته ورسالته

    كل هذا -إخوتي الكرام- لا بد من بحثه للوقوف على حسن خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فلنبدأ بما هو أظهر هذه الأمور للناس، وهو الذي يكشف بصورةٍ واضحة خلق الإنسان، وهذا الأمر يعين نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام ويقررها على وجه الكمال والتمام، ألا وهو خلقه مع أهله عليه صلوات الله وسلامه، وكما قلت سأبدأ بمدارسة خلقه مع المخلوقات قبل أن نتدارس خلقه مع رب الأرض والسموات، فهذا هو ما سوف نختم به الكلام على خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وماذا كان يبذل من معاملةٍ مع الله جل وعلا، يظهر فيها أنه عبدٌ لله حقاً وصدقاً، وأنه قام بمقتضى العبودية، ولم يقم بذلك كما قام به نبينا عليه الصلاة والسلام أحدٌ من البرية، فهو أكمل العباد عند الله جل وعلا في الخلق وفي الخلق، في معاملته مع العباد، وفي معاملته مع رب العباد على نبينا صلوات الله وسلامه.

    الفضل والإحسان خير من العدل في الحياة الزوجية

    إخوتي الكرام! كما قلت: أظهر ما يعين حسن خلق الإنسان عندما يتعامل مع المخلوقات خصوص معاملته مع أهله، فهذا حقيقةً يظهر لك وضع الإنسان، وهل هو حسن الخلق أو في خلقه شراسةٌ وسوء؟ وكنت ذكرت في مواعظ سابقة أنه يوجد حالتان لا يستقيم فيهما العدل، وإذا تعامل الناس فيهما على حسب العدل، أو إذا وقعت المعاملة فيهما على حسب العدل فلن تحصل السعادة، ولن يحصل الارتياح، ولن يحصل السرور، فلا بد من المعاملة فيهما على حسب الفضل، أول هاتين الحالتين: الحياة الزوجية، إذا دخل العدل فيها وذهب الفضل، وكل واحدٍ يحاسب صاحبه على النقير والقطمير، فهذه حياة سوء، ولن يستريح فيها أحد الزوجين على الإطلاق، وكل من في البيت سيكون في نصب وشقاق، كل واحدٍ يحاسب صاحبه على كل صغيرة وكبيرة، هذا قد يكون في أمور المبايعات، عندما تشتري من الدكان تتحاسبون على النقير والقطمير، فيمكن أن يحصل حساب على الأمور التافهة الصغيرة بينك وبين غيرك في أمور المعاملات التي مبناها على المماسكة والمخاصمة والشح، وكل واحدٍ يريد أن يأخذ حقه كاملاً، أما الحياة الزوجية فهي مبنيةٌ على المساهلة والمسامحة، فإذا ما ظهر فيها حسن الخلق لن يظهر في غيرها حسن الخلق من بابٍ أولى، ومن عدم حسن الخلق في معاملته مع أسرته، فلن يحصل عنده حسن خلقٍ في معاملة لغيره من باب أولى.

    الحالة الثانية: الآخرة، كل من حوسب يوم القيامة بالعدل هلك وإلى جهنم وبئس المصير، فنسأل الله أن يعاملنا بفضله لا بعدله، وكل من حوسب ووضع الله عليه عدله فقد ألقاه على وجهه في نار جهنم، ولذلك فالجنة دار الفضل، والنار دار العدل، فلا يوجد ظلمٌ ولا جور في أفعال الله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، ما عذب أحدٌ إلا بعدل الله، وما نعم أحدٌ إلا بفضل الله، ما أحدٌ يدخل الجنة بعمله ولا يؤهله ذلك لدخولها مهما عمل، إنما هذا محض فضل من الله عز وجل، نعم، أهل الجنة يقتسمون الدرجات بعد ذلك بأعمالهم، هذا شيءٌ آخر، أما دخولها فهذه رحمة الله يرحم بها من يشاء، فنسأل الله أن يعاملنا بفضله وجوده وكرمه ورحمته في الآخرة، وأن يجعلنا ممن يتعاملون مع أهليهم وأولادهم وأصحابهم بالفضل أيضاً في هذه الحياة الدنيا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    المودة والرحمة بين الزوجين

    فالفضل -كما قلت- لا بد منه في الحياة الزوجية، ولا بد منه في ساحة الحساب، إذا وجد العدل وذهب الفضل في الحياة الزوجية صارت نكداً، وإذاً وجد العدل وذهب الفضل في محاسبة الله لعباده هلك العباد، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا الجانب في الحياة الزوجية في سورة الروم فقال جل وعلا: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، ليحصل السكن والاستقرار وهدوء النفس وراحة البال، (وجعل بينكم)، قوله: (بينكم)، إما أن يكون من باب التغليب، تغليب الأزواج من الذكور على الأزواج من النساء، أي: جعل بينكم يا معشر الأزواج من رجالٍ ونساء، وإما أن يكون المعطوف محذوفاً على المعطوف عليه المذكور، أي: وجعل بينكم وبينهن مودةً ورحمة.

    ثم قال بعد ذلك: (وجعل بينكم مودة) ولم يقل: حباً؛ لأن الود هو منتهى الحب، خالص الحب، تمام الحب، إذا كمل الحب يقال له: ود، فكأن الله جل وعلا يقول: ينبغي أن يحصل في الحياة الزوجية أتم أنواع الحب ألا وهو الود، (وجعل بينكم مودةً ورحمة)، ثم هذا الود أيضاً ينبغي أن يصاحبه رحمةٌ وحنوٌ وشفقةٌ ورقةٌ من أحد الزوجين على الآخر، (وجعل بينكم مودةً ورحمة)، رفق الراحم وعطفه بمن يرحمه ويحبه.

    وهذا هو المراد من الود والرحمة، ولا يصح قولٌ غير هذا، وأما ما نقل في بعض كتب التفسير أن ذلك كناية عن الوطء؛ لأنه يحصل بذلك الحب والود، وميل كل زوجٍ إلى زوجه، (ورحمة)، قال: إشارة إلى الولد؛ لأنه يتراحم الزوجان بسبب الولد، هذا كلامٌ باطل، وأبطل منه من قال: (وجعل بينكم مودةً) هذا للشابة، فيحصل بينها وبين زوجها مودة، (ورحمة) للعجوز الكبيرة، يعني: لا يوجد في قلبه محبة نحوها، لكنه يرحمها ويعطف عليها ولا يفارقها، هذا كلامٌ باطل.

    (وجعل بينكم مودةً) يا معشر الأزواج! جعل بينكم وبينهن هاتين الصفتين المعتبرتين، أي: أمركم بأن تحافظوا عليهما، (وجعل بينكم مودة) وهو منتهى الحب وخالصه وكماله وتمامه، ورحمة عطف الراحم على من يحبه ويرحمه وشفقته عليه، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].

    فإذا وجدت هاتان الصفتان استقرت الحياة الزوجية على وجه الكمال والتمام، فانتبه لحياة نبينا عليه الصلاة والسلام مع أزواجه في بيته عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    1.   

    رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأهل بيته

    ثبت في المسند والصحيحين، والحديث رواه أبو داود في السنن، ورواه الإمام مالك في الموطأ، والبيهقي في دلائل النبوة، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله), والحديث كما قلت في الصحيحين وغيرهما من رواية أمنا عائشة ، ورواه البزار والطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وانظروا رواية البزار ومعجم الطبراني الأوسط في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة خمس عشرة.

    إذاً: هذا خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله ومع غيرهم، لكن مع الأهل لهن هذا النصيب الأكبر، (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وما انتقم لنفسه عليه صلوات الله وسلامه قط)، هذا الأمر لا بد له من واقع عملي في الحياة الزوجية، فاستمع لكلام أمنا عائشة رضي الله عنها، ثبت في المسند وسنن أبي داود ، وكتاب دلائل النبوة للإمام البيهقي ، والحديث رواه مسلم في صحيحه، فهو صحيحٌ، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأةً ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله، وما نيل منه شيءٌ فينتقم من صاحبه)، سبحان الله! يموت نبينا عليه صلوات الله وسلامه عن تسع نسوة، ويجري بينهن أحياناً ما يجري في حياته مع أهله عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ثم بعد ذلك لا ينتقم لنفسه قط، طوال حياته ما ضرب بيده امرأة من نسائه عليه صلوات الله وسلامه، وسيأتينا حقيقة الرفق الذي كان يتحلى به هذا الرءوف الرحم على نبينا صلوات الله وسلامه، يعني بحيث لا يمكن أن يصل بشرٌ إلى هذا إلا اصطنعه الله لنفسه، ونشأه بعد ذلك تنشئةً خاصةً، وهذا هو الذي يحصل في أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    إذاً: ما ضرب عليه صلوات الله وسلامه شيئاً قط بيده لا امرأةً ولا خادماً إلا إذا جاهد في سبيل الله عليه صلوات الله وسلامه.

    وكيف يحصل هذا الضرب والانتقام للناس وفي قلبه ودٌ ورحمة، وهذا الأمر قد طولب به الناس، فكيف بإمام الأكياس وأفضل الناس عليه صلوات الله وسلامه؟! هل يتصور من هذا النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه أن يضرب امرأةً؟ لا يمكن أبداً، أو أن يضرب خادماً، أو أن يعنف، أو أن يوبخ من أجل حاجة نفس، أو مصلحةٍ دنيوية، أو أمرٍ لا محظور فيه؟! لا ثم لا، التعنيف يكون عندما تنتهك حرمات الله، أما أن يجري من الزوجة نحوه ما يجري، فهذه حياةٌ دنيوية، ولا بد من أن يتحمل كل واحدٍ صاحبه في الله جل وعلا.

    هذا حال النبي عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    خدمة النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه في بيته واشتغاله بمهنة أهله

    النبي عليه صلوات الله وسلامه هو خير خلق الله، وأفضل البشر على الإطلاق، وأفضل من الملائكة الكرام عليه صلوات الله وسلامه، فماذا كان يعمل في بيته، هل كان يخدمه أحد، أو يقوم بخدمة نفسه عليه صلوات الله وسلامه؟ اسمع لهذا الخلق العالي الرفيع الذي اتصف به نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه.

    ثبت في المسند وصحيح البخاري وسنن الترمذي عن الأسود بن يزيد رضي الله عنه قال: (قلت لأمنا عائشة رضي الله عنها: أخبريني ماذا يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في بيته)، يعني نحن نرى من خلقه خارج البيت عجباً، لكن في داخل البيت أخبريني ماذا يعمل؟ هذا الخلق الحسن الذي نحن اطلعنا عليه في الظاهر حتماً في الباطن أحسن منه، فماذا يعمل خير خلق الله، وأفضل رسل الله عليه صلوات الله وسلامه، إذا كان معك ومع نسائه في بيوته؟ (فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: كان يكون في مهنةِ أهله)، بكسر الميم وفتحها، أي: خدمة أهله، (كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، عليه صلوات الله وسلامه، يكون في مهنة أهله، يزاول أمور البيت داخل البيت، هذا هو النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه.

    وضحي لنا أكثر يا أمنا الطاهرة المباركة المطهرة، هذه المهنة ماذا تقصدين بها؟ ماذا كان يصنع؟ انتبه لهذه المهنة التي كان يقوم بها خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه في بيته لا كسلاً من نسائه، كما إذا كان بين أصحابه يقوم أيضاً عليه صلوات الله وسلامه بالعمل لا كسلاً من أصحابه، إنما هذا حسن خلقٍ منه عليه صلوات الله وسلامه، كل واحدةٍ تفديه بنفسها، وكل صحابيٍ يفديه بنفسه عليه صلوات الله وسلامه، لكن يأبى إلا أن يظهر هذا الحسن في خلقه عليه صلوات الله وسلامه، وأن يقوم بخدمة أهله وأصحابه عليه صلوات الله وسلامه.

    ثبت في المسند وصحيح ابن حبان ، والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي في الشمائل المحمدية على نبينا صلوات الله وسلامه، والبيهقي في دلائل النبوة، وإسناد الحديث صحيح عن أمنا عائشة أيضاً رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه)، (يفلي ثوبه)، أي: ينظفه عليه صلوات الله وسلامه، ويزيل عنه ما أصابه من أذى فهو الذي يتعهد ثوبه وينظفه.

    (ويحلب شاته)، الشاة الموجودة يقوم بحلبها عليه صلوات الله وسلامه بيده الشريفة، ولا يكلف نساءه بذلك، بل يخدم نفسه، إذا أراد أن يشرب لا يقول لزوجته: ناوليني قدحاً من ماء، إنما يقوم ويشرب عليه صلوات الله وسلامه، وإذا أراد حاجةً يقوم ويقضيها بنفسه، هذا هو خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، الذي يتقرب الحجر إلى الله بخدمته، ويتقرب إلى الله بالتبرك بفضلاته عليه صلوات الله وسلامه، ومع ذلك يأبى إلا أن يخدم نفسه، وأن يحلب شاته، وأن يفلي ثوبه، عليه صلوات الله وسلامه، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فمع أنه متزوج بتسع نسوة إلا أنه يأبى إلا أن يخدم نفسه في البيت ويتعهد أموره ولا يطلب هذا من أحد عليه صلوات الله وسلامه، هذا خلقه في بيته عليه صلوات الله وسلامه، فهل يتصور من هذا النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه أن يلوح بيده لخادمٍ أو امرأة؟ حاشا وكلا!

    وثبت في المسند وصحيح ابن حبان ، والأثر رواه البيهقي في دلائل النبوة أيضاً، وابن سعد في الطبقات، وإسناده حسن أيضاً، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويخيط ثوبه)، زاد ابن حبان في روايته: (ويرقع دلوه)، والدلو هو الذي يستقون به، إذا تخرق يرقعه ويخيطه بنفسه عليه صلوات الله وسلامه، وكذلك ثوبه يأخذ الإبرة ويرقع ذلك الثوب خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه.

    (ويخصف نعله) إذا احتاج النعل إلى غرز إلى تثبيت فهو الذي يفعل ذلك عليه صلوات الله وسلامه، هذا خلق النبي عليه الصلاة والسلام، مع أنه لو طلب من الصحابة الكرام، بل لو طلب لو علم الصحابة بحاجته لاستبقوا إلى خدمته، لكن يقوم عليه صلوات الله وسلامه بهذه الأمور لتظهر أخلاقه الحسنة الطيبة عليه صلوات الله وسلامه.

    وعنده أيضاً سرية عليه صلوات الله وسلامه، وعنده نساء، وعنده أمة، وعنده من يتطوع ويتبرك بخدمته من الصحابة، ثم هو لا يكلف أحداً بذلك، إذا تخرق الدلو قام برقعه، والثوب إذا انفتق قام بإصلاحه وخياطته، وقد أدركت بعض شيوخنا الكرام الطيبين الطاهرين وهو الشيخ عبد الرحمن زين العابدين ، وهو من آل البيت الكرام الطيبين الطاهرين على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه، عندما كان يدرسنا في الثانوية الشرعية، رأيته مرة انقطع أحد أزراره في الفصل، فأخرج إبرة من جيبه وبدأ يخيط ذلك الزر ويثبته مكانه، وأنا على يقين أنه يفعل هذا في بيته، فلو قدر أن هذا وقع له في بيته لا يكلف أحداً، بل هو الذي يخيط ثوبه، وهو الذي إذا انفتق يرقعه، مع أنه شيخٌ كبير وقور صالحٌ جليل، لكن يأخذ هذا الخلق من جده رسول الله عليه صلوات الله وسلامه.

    وفي كتاب الإكليل للإمام الحاكم كما ذكر هذا الحافظ في الفتح في الجزء الثاني صفحة ثلاثٍ وستين ومائة، زاد على الرواية المتقدمة عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (ولا رأيته ضرب بيده امرأةً ولا خادماً)، وتقدم معنا هذا في الروايات المتقدمة وهي ثابتة عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، هذا خلق النبي عليه الصلاة والسلام في بيته، وهو خير خلق الله، وأكرم الخلق على الله عليه صلوات الله وسلامه.

    1.   

    رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بعياله وبالصغار من أهله

    وأما رحمته بعياله وبالصغار من أسرته عليه صلوات الله وسلامه فحدث ولا حرج، ثبت في صحيح مسلم وكتاب دلائل النبوة للإمام البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله عليه الصلاة والسلام)، ويحق له ذلك؛ لأنه هو خير الخلق خلقاً عليه صلوات الله وسلامه، فينبغي أن يرحم العيال رحمةً لا تصدر من أحد إلا منه عليه صلوات الله وسلامه.

    رحمته بابنه إبراهيم

    قال: (ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان إبراهيم ) يعني: ولد نبينا الأمين عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه، وهو ولده من سريته مارية ، ( كان إبراهيم مسترضعاً في عوالي المدينة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينطلق لزيارة ابنه الصغير الذي لا زال في المهد ويرضع، يقول: فكنا ننطلق معه ونذهب، فكان يدخل البيت وإنه ليدخن ) يعني في البيت دخانٌ كثير، لم؟ قال: ( لأن ظئره كان قيناً )، يعني زوج المرأة المرضعة كان حداداً، والحداد يحتاج أن يوقد الكير والحطب، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدخل هذا البيت وإنه ليدخن، قال: ( فيأخذه -أي: يأخذ النبي عليه الصلاة والسلام ولده إبراهيم - فيقبله ثم يرجع )، يذهب يزور ولده في العوالي وهو صغير، لا يميز ولا يعي ولا يعقل، وإذا دخل إلى بيت هذا الحداد فيؤتى بهذا الغلام المبارك إبراهيم على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه، فيأخذه ويقبله، ثم يعيده إليه من أجل الرضاع، ثم يعود.

    قال أنس رضي الله عنه: فلما توفي إبراهيم قال النبي الأمين على نبينا وآل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه: (إن إبراهيم ابني، وإنه قد مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة)، (مات في الثدي) أي: مات وهو يرضع من ثدي هذه المرضع الطاهرة الطيبة المباركة زوجة هذا القين الحداد.

    إخوتي الكرام! نجزم قطعاً بأن أولاد الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه في الجنة إذا ماتوا قبل بلوغهم وتكليفهم، وهذا محل إجماع عند علماء الإسلام، بل المقرر عند أهل السنة -وهو الحق- أن أولاد المسلمين إذا ماتوا قبل بلوغهم وحنثهم وتكليفهم فهم في الجنة بفضل الله ورحمته، وأولاد الأنبياء كما قلت في الجنة، لكن أولاد الأنبياء محل إجماع إذا ماتوا قبل البلوغ، وأولاد المؤمنين هذا هو المعتمد عند أهل السنة، وهناك خلافٌ يسير من بعض العلماء الكرام من أهل السنة، لكن المعتمد عندهم -وهو الحق- أن أولاد المسلمين إذا ماتوا قبل البلوغ فهم في الجنة، دل على ذلك آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، لعل ذلك يأتينا إن شاء الله عند المبحث الثاني من مباحث التوحيد بعد مبحث النبوة، لكن كما قلت: أولاد الأنبياء إذا ماتوا قبل بلوغهم فهم في الجنة بالاتفاق، وأولاد المسلمين على القول المعتمد إذا ماتوا قبل البلوغ هم أيضاً في الجنة بفضل الله ورحمته.

    وقد ثبت في المسند وصحيح البخاري من رواية البراء بن عازب رضي الله عنه، والحديث رواه ابن ماجه في سننه عن ابن عباس ، ورواه ابن ماجه في سننه أيضاً عن الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين من رواية البراء وابن عباس والحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما توفي ابنه إبراهيم : (إن له مرضعاً في الجنة)، زاد الإمام أحمد في روايته في المسند: (وإنه صديق).

    مصير أولاد الأنبياء وأولاد المؤمنين إذا ماتوا قبل البلوغ والتكاليف

    وكما قلت: هذه الفضيلة كما تثبت لأولاد الأنبياء تثبت لأولاد المؤمنين إذا ماتوا قبل بلوغهم وتكليفهم على القول المعتمد الحق عند أهل السنة والجماعة، وقد وردت أحاديث كثيرة تقرر هذا وتدل عليه، منها ما رواه الطبراني في معجمه الكبير عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلاً كان يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعه ولده، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أتحبه؟ قال: أحبك الله يا رسول الله كما أحبه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله يحبني أكثر من محبتك لولدك)، يعني أنت تريد أن يحبني الله كما تحب أنت ولدك، لكن محبته لي أكثر، ثم فقد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل بعد فترة، ولا يقال: كيف تخلف عن الجماعة؟ لعله يسكن في جهةٍ من جهات المدينة المنورة ومعه مساجد في كل جهةٍ يصلون فيها، لكن كان يحضر باستمرار فانقطع فترةً عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يشهد الجماعة مع قومه وأصحابه، ( فسأل النبي عليه الصلاة والسلام عنه، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! مات ولده الذي كان يأتي به، فحزن عليه، فذهب إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: أما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش؟ قال: بلى رضيت )، إذا كان كذلك فلم الحزن؟

    وهذا كما ثبت لأولاد الأنبياء فهو ثابتٌ لأولاد المؤمنين، وقد ثبت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة، منها ما في المسند، وصحيح ابن حبان ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، والنسائي في السنن، ورواه البيهقي في سننه أيضاً، وأبو داود الطيالسي في مسنده من رواية معاوية بن قرة عن أبيه قرة رضي الله عنهم أجمعين، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفرٌ من أصحابه وفيهم رجلٌ له ابنٌ صغير، فكان يأتيه هذا الابن من خلفه فيأخذه أبوه ويجلسه بين يديه، ثم فقده النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترةٍ فسأل عنه، فقيل له: بنيه هو الذي كان يأتي به معه مات، فذهب إليه النبي عليه الصلاة والسلام وعزاه وقال: أيهما أحب عندك أن تمتع به عمرك؟ ) يعني: أن يعيش معك طول عمرك، وإذا مت يبقى حياً، ولا يموت هذا الولد قبلك، (أن تمتع به عمرك، أو ألا تأتي يوم القيامة إلى بابٍ من أبواب الجنة إلا وجدت ولدك قد سبقك إلى ذلك الباب يفتحه لك؟ قال: بل يسبقني إلى أبواب الجنة يفتحها، قال: لك ذلك)، زاد الحاكم في روايته، والإسناد كما قلت صحيحٌ كالشمس، قال: (يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! هذا له خاصة أو لنا كلنا؟ قال: بل لكلكم)، أي: من مات له ولد فإن الله يشفع هذا الولد في أبويه، ويكون سبباً في دخول أبويه الجنة بفضل الله ورحمته.

    إخوتي الكرام! كما قلت: هذا هو المقرر عند أهل السنة، وما خالف في ذلك إلا قلة من سلفنا الكرام، وما قالوا: إنهم في النار، لكن قالوا: نتوقف، قال بهذا الحمادان: حماد بن زيد بن درهم ، وحماد بن سلمة بن دينار ، وقاله عبد الله بن المبارك ، لكن المعتمد وهو قول المذاهب الأربعة وهو الحق وهو قول أهل السنة، وهو الذي استقر عليه قولهم: أن أولاد المسلمين في جنات النعيم إذا ماتوا قبل بلوغهم وتكليفهم، بل يكونون سبباً في دخول أبويهم الجنة بفضل الله ورحمته.

    إذاً: إبراهيم ولد نبينا الأمين على نبينا وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه عندما مات وهو في الرضاعة، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة)، هذه رحمة نبينا عليه صلوات الله وسلامه بعياله وأسرته وأهله، ولدٌ صغير يذهب خير خلق الله عليه الصلاة والسلام لزيارته ويجلس في ذلك البيت وهو يدخن، وهو خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وما وطئ الأرض أحد أكرم على الله منه، وما سكن السماء أحدٌ أفضل من نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وهذا خلقه، وهذا تواضعه عليه صلوات الله وسلامه.

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان والعيال

    وثبت في تاريخ دمشق للإمام ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان والعيال)، والحديث رواه الإمام الطيالسي عن أنسٍ أيضاً قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً بالعيال)، والأثر رواه الإمام البيهقي أيضاً في دلائل النبوة عن أنس أيضاً رضي الله عنه وأرضاه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس مع صبي)، أي: من أكثر الناس مرحاً ومداعبةً وسروراً وملاعبةً مع الصبيان الصغار عليه صلوات الله وسلامه.

    وأخرج الحافظ الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة بسندٍ صحيحٍ عن أنسٍ أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاعب زينب بنت زوجه أم سلمة )، وهذه زينب هي بنت أبي سلمة ، وليست بنتاً للنبي عليه الصلاة والسلام، (وكان يقول لها: يا زوينب يا زوينب مراراً)، هذا هو خلق النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا حاله مع أهله عليه صلوات الله وسلامه.

    1.   

    مسكن النبي صلى الله عليه وسلم وبيان تواضعه

    وضع نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، لا بد من تحديد وضعه على وضع التمام والكمال مع أهله، ولا يتم هذا إلا ببيان ثلاثة أمور:

    أولها: بيان مسكن النبي عليه الصلاة والسلام، وأثاثه، أي: بيان أثاثه في ذلك المسكن.

    الأمر الثاني: ماذا كان يحصل في ذلك المسكن من طعامٍ وغذاء.

    الأمر الثالث: المعاملة التي كانت تجري من نبينا عليه الصلاة والسلام مع أزواجه وأهله عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، هذا كله لا زلنا في الأمر الأول وهو معاملته مع أهله، وأن نستنتج منها بعد ذلك أنه رسول الله عليه صلوات الله وسلامه، وأن هذه المعيشة في هذا البيت لا يمكن أن تصدر إلا من نبي، لا بد من إيضاحها بهذه الأمور الثلاثة بعد هذا البيان العام: إيضاح حجره ومسكنه، وماذا في ذلك المسكن من أثاث، وعيشته وطعامه وماذا كان يتغذى هو وأهله عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ومعاملته لأهله، وماذا كان يجري بينه وبينهن عليه وعليهم صلوات الله وسلامه.

    وإذا انتهينا من هذا -كما وعدت سابقاً- أتكلم في موعظةٍ كاملةٍ عن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، ولمحة موجزة عن كل واحدةٍ منهن رضي الله عنهن وعليهن صلوات الله وسلامه، وسوف نتكلم عن هذا عند مدارسة الحكمة من زواج نبينا عليه الصلاة والسلام لهؤلاء النسوة على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه.

    إخوتي الكرام! أما مسكن النبي عليه الصلاة والسلام فهو مسكن من جعل الدنيا معبراً ولم يتخذها قراراً ومقراً، جعل مسكنه مسكن المسافر الذي يستظل تحت شجرة ثم يفارقها، هذا مسكن النبي عليه صلوات الله وسلامه، وإياك ثم إياك أن تظن أن هذا بخلاً منه، فهو أجود خلق الله، وما عرفت الحياة مخلوقاً أكرم من نبينا صلى الله عليه وسلم، وإياك إياك أن تظن أن هذا لأنه لم يتيسر له المال، فقد ملك ما لم يملكه أحدٌ وجاد به في سبيل الله، وقد عرض الله عليه أن يجعل له بطحاء مكة ذهباً فرفض، وطلب أن يكون عبداً يجوع يوماً ويشبع يوماً عليه صلوات الله وسلامه، إنما هذا السكن اختاره، لأن الدنيا من أولها لآخرها دار سفر، ومكان عبور ننتقل منها إلى الآخرة، نسأل الله أن يجعل انتقالنا منها إلى رضوانه ودار كرامته بفضله ورحمته، فلا يصلح أن يستقر الإنسان فيها، وأن يركن إليها، وأن يبني ويشيد، وأن يزخرف وينجد، إذا وقع البشر في هذا فهذا نقصٌ فيهم، فلا يمكن أن يقع في هذا خير البشر، وسيد البشر، وأفضل البشر عليه صلوات الله وسلامه.

    الدنيا -إخوتي الكرام- دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له، كما أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، والحديث في المسند وكتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي ، وإسناد الحديث جيد كما قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة ثمانٍ وسبعين ومائة، وقد صحح إسناده الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة ثمانٍ وثمانين ومائتي، عن أمنا عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له)، زاد البيهقي في روايته: (ومال من لا مال له).

    إذاً: ما يتخذها داراً وقراراً إلا من ليس له عند الله من نصيب، ليس له عند الله خلاق، هذا الذي يركن إلى الدنيا ويؤمل فيها ويستقر ويطمئن، إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8] .

    إذاً: الاطمئنان إلى هذه الحياة والركون إليها، وعمارة البيوت المحكمة المزخرفة المزركشة ليس هذا من أخلاق المؤمنين، فكيف سيكون هذا من أخلاق خير خلق الله أجمعين على نبينا صلوات الله وسلامه؟!

    إذاً: ما ترك فخامة الدور وتوسعتها وزخرفتها بخلاً، ولا عجزاً وفقراً عليه صلوات الله وسلامه، بل تركه اختياراً؛ لأن هذا لا يليق به، لا يليق بمن يذهب عما قريب إلى لقاء الله الكريم سبحانه وتعالى.

    ثبت في المسند وسنن الترمذي ، والحديث قال عنه الترمذي : حسن، وقد أقر الإمام المنذري في الترغيب والترهيب تحسين الترمذي ، فنقل تحسين الترمذي ووافقه عليه في الجزء الرابع صفحة ثلاثٍ وخمسين ومائة، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرض لي ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً)، وبطحاء مكة هو مسيلٌ واسع فيه دقاق الحصى، أي: حصى دقيقة، وهو الذي يقال له: الأبطح، وهو مكانٌ معروف، (عرض لي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت -بكسر الميم وضمها- تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك)، فكان هذا إذاً اختيار من نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه. ‏

    فراش النبي صلى الله عليه وسلم في حجرات أزواجه

    يروي الإمام البيهقي في دلائل النبوة في الجزء الأول صفحة خمسٍ وأربعين وثلاثمائة، عن أمنا عائشة رضي الله عنها: ( أن امرأةً من الأنصار دخلت على بيت نبينا المختار عليه الصلاة والسلام، فرأت فراش النبي عليه الصلاة والسلام عباءةً مثنية فذهبت إلى بيتها وأتت بفراشٍ حشوه الصوف، وقالت: ينام على هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام )، رسول الله عليه الصلاة والسلام سيدنا أفضلنا حبيبنا، هو أولى أن ينام على هذا الفراش، أتت بفراش حشوه الصوف، ( فجاء النبي عليه الصلاة والسلام ودخل على أمنا عائشة وقال: ما هذا يا عائشة ؟! فذكرت له ما حصل، فقال: رديه يا عائشة ، قالت: يا رسول الله عليه الصلاة والسلام! ولم؟ إنه أعجبني، ويعجبني أن يكون هذا في البيت، فقال عليه الصلاة والسلام: رديه يا عائشة -ثلاث مرات- فو الله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة )، لا تظني أنني ما أحضر إلى بيتي هذا من أجل قلةٍ أو بخل، فلو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة، رديه، فبيت النبوة لا يصلح أن يحصل فيه تنعم وركون إلى الدنيا، ورسول الله عليه الصلاة والسلام لا يريد ذلك.

    وسيأتينا في بيت حفصة رضي الله عنها عندما ثنت له العباءة الخشنة أربع ثنيات، فكره ذلك وقال: أعيدوه كما كان، عباءة من ثنيتين تكفي لينام عليها عليه صلوات الله وسلامه، هذا حاله مع أهله وأسرته عليه صلوات الله وسلامه، فليس هذا من باب البخل، ولا من باب الإعدام والفقر، لكن هذا من باب الاختيار، وأن هذه الحياة الدنيا فانية زائلة، والتمتع بها ينقص درجة الإنسان عند الله وإن كان عليه كريماً، وقد عير الله الكفار فقال في حقهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].

    وصف حجرات النبي صلى الله عليه وسلم

    إخوتي الكرام! حجر نبينا عليه الصلاة والسلام التي سنتحدث عن وصفها إنما ذلك اختياراً منه لهذه المواصفات؛ لأنه ينبغي أن تكون هكذا بيوت الأنبياء والرسل عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فما وصف حجره عليه صلوات الله وسلامه؟

    روى الإمام ابن حبان في كتاب الثقات وأبو نعيم في الحلية عن الحسن البصري وهو مرسل والإسناد صحيحٌ إلى الحسن ، قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة. ما شيد أبنية، ولا أقام عمارات، يقول: وكنت إذا دخلت إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ضربت بيدي إلى السقف، إذا مددت يدي أنال السقف، وأما الجدران فكانت من جريد النخل المطلي بالطين، وأما حجم الحجر، فكل حجرةٍ إذا رفعت يدك تنال السقف، وإذا مددت رجلك تنال الجدار، هذه حجر خير خلق الله، وأفضل خلق الله عليه صلوات الله وسلامه: جريد النخل مطلي بطين، ثم الحجرة إن رفعت يدك نلت السقف، وإذا مددت رجلك تصيب الجدار كما سيأتينا هذا مقرراً بأدلةٍ صحيحة في بيان بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، هذه هي بيوت النبي صلى الله عليه وسلم التسعة ولعلها لا تساوي حجم مجلس من مجالسنا، بل ولا حجم غرفة واسعة من غرفنا، ولو أن إنساناً أراد أن يمسكها من أولها إلى آخرها وأن يهزها لسقطت، لأنها من جريد النخل، هذه هي بيوت خير خلق الله، وبقي فيها حتى لقي ربه، بل بقيت على هذه الشاكلة إلى سنة ثمانٍ وثمانين للهجرة -كما سيأتينا- حتى نقضت وأدخلت إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام.

    وكانت أمنا عائشة رضي الله عنها تقول، والأثر رواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، وانظروا مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة ثمانٍ وخمسين ومائتين، وفي إسناده شيءٌ من الضعف، لكن المعنى صحيحٌ ثابتٌ قطعاً وجزماً كما ستسمعون، ففيه سليمان بن أبي كريمة قال عنه الهيثمي في المجمع: ضعيف، وبذلك حكم الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الرابع صفحة ثلاثين ومائتين على الأثر بالضعف، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: من سره أن ينظر إلى رسول الله عليه صلوات الله وسلامه. يعني: ممن جاء بعده إذا أراد أن ينظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يعني ما وصفه؟ من سره أن ينظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فلينظر إلى شاحبٍ مشمرٍ لم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة، رفع له علمٌ فشمر إليه، اليوم المضمار وغداً السباق، والغاية الجنة أو النار.

    قول أمنا عائشة رضي الله عنها: من سره أن ينظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلينظر إلى شاحبٍ مشمر. الشاحب: هو الذي تغير لونه من هزاله وضعفه، لشدة جده واجتهاده في عبادة ربه، لكن هذا الهزال ليس فيه ضعف، بل هو هزال جد ونشاط، ولذلك شمر في طاعة الله جل وعلا، لكن ترى عليه ذبولاً في بدنه عليه صلوات الله وسلامه، وهي تجعل هذا مثالاً له، فليس البدن بحال السمن، والانتفاخ، كما هو حال الذين يكثرون من الطعام والشراب، شاحبٍ، أي: هزيل الجسم ضعيف، عنده جد واجتهاد في طاعة رب العباد.

    كأنه رفع له علمٌ عليه صلوات الله وسلامه فشمر إليه، أي: غاية وهدف من أجل أن يستبق الناس إليها، فبدأ يشمر ويسبق الناس للوصول إلى ذلك العلم، اليوم المضمار، المضمار: هو المكان الذي تضمر فيه الخيل من أجل أن تستعد للسباق، فكأن أمنا عائشة تقول: إنما هذه الدنيا من أجل أن يستعد الإنسان للفوز، وأين يكون السباق والفوز؟ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، اليوم المضمار، يعني: المسابقة، والمنافسة، وغداً السباق، والغاية الجنة أو النار.

    ضيق حجرات النبي صلى الله عليه وسلم

    إخوتي الكرام! هذه هي بيوت نبينا عليه الصلاة والسلام، حجر صغيرة ضيقة، وسقف واطيةٌ قصيرة، ثبت في المسند والصحيحين، والحديث في سنن أبي داود والنسائي وموطأ الإمام مالك ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فضممت رجلي، فإذا قام بسطتهما، ثم تعتذر عن فعلها وتقول: ولم يكن يومئذٍ في البيوت مصابيح)، النبي عليه الصلاة والسلام يقوم الليل وأهله يقومون، لكن شتان بين قيامه وقيامهم، فيوقظهم عليه صلوات الله وسلامه قبيل السحر، أما هو فيظل متهجداً، وزوجته نائمة معترضة بينه وبين القبلة، فإذا صلى يطيل القراءة عليه صلوات الله وسلامه، يقرأ أحياناً البقرة والنساء وسورة آل عمران في الركعة الواحدة في قيام الليل، فإذا جاء ليسجد وأمنا عائشة ما تنتبه تكون أحياناً مستغرقة في النوم، فيغمزها النبي عليه الصلاة والسلام في رجلها، أي: ينبهها بيده من أجل أن تضم رجليها لأجل أن يضع جبهته على الأرض ليسجد.

    تقول: فإذا قام مددتهما، ثم تقول: التمسوا لي عذراً، فلم يكن يومئذٍ في البيوت مصابيح، لو كانت البيوت منورة وكنت أعلم متى يسجد النبي عليه الصلاة والسلام لاحتطت وضممت رجلي قبل أن يسجد عليه صلوات الله وسلامه.

    وفي بعض الروايات: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا معترضةٌ بينه وبين القبلة كاعتراض الجنائز)، كأنها جنازة يصلى عليها، وهذا كله من صغر البيت وضيقه، وإلا لو كان هناك مسافة واسعة لصلى في مكان آخر عليه صلوات الله وسلامه، هذه حجر خير خلق الله، رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    إخوتي الكرام: وصف الحجر ينبغي أن نعيه؛ لأنه سيترتب عليه بعد ذلك معيشة في تلك الحجر لا يصبر عليها إلا من علم أنه رسول الله حقاً وصدقاً عليه صلوات الله وسلامه، وليس صبراً فقط، بل لا يفرح بها ويسر غاية السرور إلا من علم أن صاحب هذه الحجر هو رسول العزيز الغفور على نبينا صلوات الله وسلامه.

    هدم حجرات النبي في عهد الوليد بن عبد الملك وإدخالها في المسجد

    إخوتي الكرام! هذه هي بيوت نبينا عليه الصلاة والسلام، وليتها بقيت كما كانت ليرى المسلمون كيف كان يعيش نبيهم عليه صلوات الله وسلامه، وإذ قد فاتنا رؤيتها فلا أقل من أن نعلم خبرها ووصفها وشأنها، هذه الحجر تغيرت -كما قلت- سنة ثمانٍ وثمانين للهجرة، فنقضت وأدخلت حجر النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك ، والإمام الطبراني أورد هذا في تاريخه في حوادث سنة ثمانٍ وثمانين، وهكذا الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، وانظروا البداية في الجزء التاسع صفحة أربعٍ وسبعين، وفيه أن الوليد بن عبد الملك حين كان خليفة المسلمين إذ ذاك في بلاد الشام كتب إلى أمير المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، وكان الأمير عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين، كتب إليه بأن يستشير أهل المدينة العلماء والوجهاء فيما عزم عليه من توسعة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام كما وسعه عمر ، ثم ذو النورين رضي الله عنهم أجمعين، وأن يجعل المسجد مائتي ذراع من كل جهةٍ طولاً وعرضاً، وأن يزيد فيه، وأن يدخل حجر النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد، فجمع عمر بن عبد العزيز الفقهاء والوجهاء في المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، واستشارهم وعرض عليهم فأبوا أعظم إباء وردوا ذلك وقالوا: اترك حجر النبي صلى الله عليه وسلم وبيوته كما كان يسكنها ليراها الحجاج والزائرون والمسافرون فيعلموا كيف كان يعيش نبيهم، حتى يعلموا أن نبيهم عليه الصلاة والسلام ما كان يبني كبناء الفراعنة والأكابرة.

    هذه الحجر التي بنيت من جريد النخل، وطليت بالطين لتكون عبرة وموعظة، حتى إذا رآها الإنسان يذرف دماً لا دمعاً، كيف كان يعيش هذا النبي عليه الصلاة والسلام! فكتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بن عبد الملك وقال: لقد رفض أهل المدينة قاطبةً، وما أقروا الفكرة، وقالوا: ينبغي أن تترك حجر النبي عليه الصلاة والسلام كما كانت، فأرسل إليه كتاباً آخر يعزم عليه أن يفعل، وألا يبالي بمعارضة أحد، فعزم عمر على ذلك، وأتى بالعمال ونقض الحجر الشريفة على نبينا وآل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه، ثم بعد ذلك ضمها في المسجد، يقول الإمام الطبري وابن كثير عليهم جميعاً رحمة الله: فما رئي في المدينة أكثر باكياً من يومئذٍ، بكى أهل المدينة كبكائهم يوم موت النبي عليه الصلاة والسلام، عند هدم هذه الحجر وضمها إلى المسجد، هذه الحجر التي كان يعيش فيها خير خلق الله، ويشع منها النور، طمست معالمها وذهبت.

    ثبت في صحيح البخاري وهو أصح الكتب بعد كتاب الله، والأثر رواه الإمام الآجري في كتاب صفة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، عن هشام بن عروة قال: لما سقط الحائط وهدمت هذه الحجر، وأرادوا أن يدخلوها في المسجد، بدت لهم قدم من هذه القبور الثلاثة من قبر النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبيه أبي بكر وعمر، بدت لهم قدم من بعض القبور، والإمام البخاري أورد هذا في كتاب الجنائز وبوب عليه: باب قبر النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر، فارتاع عمر بن عبد العزيز ، وتقطع قلبه خوفاً، خشية أن تكون هذه القدم قدم النبي عليه الصلاة والسلام، فجمع أهل المدينة وقال لهم: ماذا ترون؟ فقال هشام بن عروة رضي الله عنه وأرضاه: أيها الأمير! والله ما هي بقدم النبي عليه الصلاة والسلام، إنها قدم عمر، هذه القدم لعمر، وهذا قبر عمر رضي الله عنهم وأرضاهم، فسري عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه.

    ولما هدمت الجدران، وذهب شيءٌ من التراب من هذه القبور الثلاثة الطيبة الطاهرة، أراد عمر رضي الله عنه وأرضاه أن يقوم بنفسه ليعيد التراب إلى هذه القبور الطاهرة التي انحسر عنها ما فوقها من تراب عندما حصلت هذه التوسعة، فقال رجاء بن حيوة رضي الله عنه وأرضاه، وهو من أئمة التابعين، توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين للهجرة، من الأئمة الربانيين، قال: أيها الأمير! إذا قمت سيقوم الناس كلهم، فمر أحداً يقوم ليكفيك ذلك، قال رجاء بن حيوة : وما قلت له ذلك إلا رجاء أن يكلفني بنقل التراب إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبيه أبي بكر وعمر، لكن ما حصلت له أمنيته، فقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وأرضاهم لغلامه: قم فأعد هذا التراب مكانه، وغلامه اسمه مزاحم ، يا مزاحم ! قم فأصلحها، فقام وأعاد التراب كما كان.

    نعم إخوتي الكرام! والله إن إعادة التراب ووضعه فوق هذه القبور الثلاثة شرفٌ ما بعده شرف، تمناه رجاء بن حيوة رضي الله عنه وأرضاه، وكان أئمتنا يقولون فيه كما قال مسلمة بن عبد الملك : بــعبادة بن نسي وبـرجاء بن حيوة ، وبـعدي بن عدي ننصر على الأعداء وينزل الله الغيث من السماء رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

    إخوتي الكرام! هذه القبور بعد ذلك دخلت في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بني عليها بعد ذلك ما يفصلها عن المسجد؛ لئلا يصلي الناس إليها، وهذا الذي فعله الوليد بن عبد الملك حتماً خطأ من جهات كثيرة:

    أولاً: هو أول من زخرف المساجد في الإسلام كما قال أئمتنا الكرام، أول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك ، يقول هذا الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الأول صفحة أربعين وخمسمائة في كتاب الصلاة في صحيح البخاري باب بنيان المسجد: أول من زخرفها الوليد بن عبد الملك ، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وقد سكت كثيرٌ من أهل العلم عن الإنكار في ذلك الوقت خشية حصول الفتنة، ثم تغييره حجر النبي عليه الصلاة والسلام، وإدخاله لها في المسجد أيضاً خطأٌ آخر، وكما قلت: أنكر وجهاء المدينة والفقهاء والذرية الطاهرة المطهرة على نبينا وآل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه، أنكروا على الوليد هذا، لكنه ما استجاب فنقض الحجر وأدخلها في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وحاله كما قال عنه الإمام الذهبي في السير: كان قليل العلم، وكانت نهمته في البناء، هو الذي بنى المسجد الكبير في دمشق الذي يعرف بمسجد بني أمية، وعمل فيه من الزخرفة ما عمل، وهو مع ما فيه -كما قال أئمتنا- فيه جوانب من أمور الخير والصلاح، فكان يكرم العلماء، ويحترمهم، وكان يعطف على الأيتام ويساعدهم، وكان فيه أيضاً عفةٌ واستقامةٌ، ومن مناقبه أنه كان يقول: والله لولا أن الله ذكر اللواط في كتابه لما شعرت أن هذه المعصية تقع، وأن هذه الفعلة تفعل، يقول: لا يمكن أن يدور في عقل الإنسان أن هذه الفاحشة يفعلها البشر، لكن عندما أخبر الله بها، وأن أمةً من الأمم فعلتها صدقنا، لكن لا يتصور أن بشراً يفعل هذه الفاحشة المنكرة، ففيه صفاتٌ طيبة، والإمام الذهبي بعد أن ترجمه قال: الله يسامحه. نسأل الله أن يغفر للمسلمين أجمعين، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.

    إخوتي الكرام! هذا فيما يتعلق بحجر نبينا عليه الصلاة والسلام، وأما ما كان فيها من أثاث فلا بد من بيانه قبل الانتقال إلى بيان غذاء النبي وآله وأسرته عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ثم بعد ذلك ننتقل إلى معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لنسائه، وماذا يتصور الإنسان من أثاث في هذه الحجرة التي لا تزيد على مترين في مترين في ارتفاع مترين؟ سيأتينا ما كان في حجر خير خلق الله عليه الصلاة والسلام من أثاث في هذه البيوت الطيبة الطاهرة، وقد اختار ذلك لما له عند الله جل وعلا من كرامةٍ وفضلٍ، نسأل الله أن يجمعنا معه في جنات النعيم، وأن يشفعه فينا يوم الدين، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.

    رجاء بن حيوة وذكر بعض ما حدث له مما يبين خطر الواشين

    إخوتي الكرام! قبل أن أذكر ما يتعلق بأثاث حجر النبي عليه الصلاة والسلام، والكلام سيأخذ وقتاً أتركه للموعظة الآتية، إنما عند خبر رجاء بن حيوة وهو كما قلت: ثقةٌ فقيه، من أئمة الخير والصلاح والرشد والفضيلة، حديثه مخرجٌ في صحيح مسلم ، وأخرج حديثه البخاري تعليقاً في صحيحه، وأهل السنن الأربعة، له قصة جرت مع بعض الناس في زمنه، أحب أن أذكرها لنعتبر بها من أجل أن نعلم أن الفساد والمفسدين لا تخلو منهم بقعةٌ في أي وقت، ونسأل الله أن يحفظنا من شياطين الإنس والجن، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وكيف أن كثيراً من الناس يسمعون أشياء فيفسرونها على حسب ما يحلو لهم، وينقلون هذا لغيرهم من أجل الإفساد والإرجاف، وهذا موجودٌ من الزمن القديم.

    يقول الإمام الذهبي في السير في الجزء الرابع صفحة إحدى وستين وخمسمائة في ترجمة هذا العبد الصالح: عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كنا مع رجاء بن حيوة ، فتذاكرنا شكر النعم، فقال: ما أحدٌ يقوم بشكر نعمةٍ، يعني: ما يستطيع أحدٌ أن يشكر المنعم جل وعلا على نعمه، يقول: وخلفنا رجلٌ على رأسه كساء، فقال: ولا أمير المؤمنين؟ يعني: أمير المؤمنين أيضاً لا يشكر الله على نعمه؟ فقلنا: وما ذكر أمير المؤمنين هنا وإنما هو رجلٌ من الناس؟ قال: فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: أتيتم أن صاحب الكساء لصاحب فساد، فإن دعيتم فاستحلفتم فاحلفوا، يعني: أننا ما تكلمنا على أمير المؤمنين ولا طعنا فيه، قال: فما علمنا إلا بحرسيٍ من الحراس والشرطة قد أقبل عليه فقال: هيه يا رجاء ! يذكر أمير المؤمنين فلا تحتج له؟ قال: قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرتم شكر النعم، وقلتم: ما أحدٌ يقوم بشكر نعمة، فقيل لكم: ولا أمير المؤمنين؟ فقلت: أمير المؤمنين رجلٌ من الناس، فقال رجاء : لم يكن ذلك، ولا انتقصناك، ولا تكلمنا عليك، قال: آلله؟ قلت: والله، قال: فأمر بذلك الرجل الساعي فضرب سبعين سوطاً، فخرجت وهو متلوثٌ بدمه، فقال: هذا وأنت رجاء بن حيوة ! قلت: سبعون سوطاً في ظهرك خير من دم مؤمن.

    قال ابن جابر : فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلسٍ يقول ويتلفت: احذروا صاحب الكساء. نسأل الله أن يكفينا شر الفساد والمفسدين، ولا أقصد -إخوتي الكرام- بهذا من ينقلون الكلام أحياناً إلى المسئولين فقط، فكم من المفسدين يأخذ كلاماً ويفسره كما يريد، ويأخذ منه نتائج، ثم بعد ذلك ينقله إلى الناس، فأحياناً قد تستعرض مسألةً وتقررها على حسب الأدلة، وعندما تذكر في هذه المسألة تخطئة من أخطأ، يأتيك بعض الناس بعد ذلك ويعمل حول هذا شغباً وفساداً ووشايةً وضلالاً، وهذا موجود -كما قلت- في العصر الأول، وكان رجاء بن حيوة يقول: احذروا صاحب الكساء، ونسأل الله أن يكفينا شر أهل البلاء من السفيهات والسفهاء، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756293897