إسلام ويب

مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مع تلك المنزلة العظيمة والمكانة السامية التي بلغها الإمام أبو حنيفة رحمه الله علماً وفقهاً وحفظاً وذكاءً كان كذلك من العباد الزهاد العاملين، وقد ضرب في ذلك أروع الأمثلة، فكان يقوم الليل كله، ويصوم كثيراً، ويقرأ القرآن ويختمه كل ليلة، وربما مرَّ على آية فجلس يرددها ويبكي حتى يطلع عليه الصبح، وكان رحمه الله كثيراً ما يلازم الصمت متفكراً متأملاً تأمل المؤمن الخائف الوجل من ربه تعالى، دائم الانكسار، معظماً لربه، محاسباً لنفسه، كثير التوبة والرجوع والاستغفار رحمه الله ورضي عنه.

    1.   

    عبادة الإمام أبي حنيفة رحمه الله وخشيته وخشوعه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس ترجمة موجزة لأئمة الإسلام، أصحاب المذاهب الأربعة الحسان، وقد بدأت بترجمة سيدنا أبي حنيفة النعمان ، رضي الله عنه وعن سائر علماء الإسلام، وقلت: سنتدارس ترجمته ضمن أربعة أمور:

    أولها: فيما يتعلق بنسبه وطلبه العلم لربه سبحانه وتعالى.

    وثاني الأمور: في ثناء العلماء عليه.

    وثالث الأمور: في طريقته في التفقه في الدين، وتقرير أحكام الشرع المبين، وقد مر الكلام على هذه الأمور الثلاثة مفصلاً في المواعظ الماضية.

    ووصلنا إلى الأمر الرابع الذي سنتدارسه في هذه الموعظة، وبه نختم الكلام على ترجمة هذا الإمام الهمام، عليه وعلى أئمتنا الرحمة والرضوان.

    الأمر الرابع: يتعلق بعبادته لربه، بديانته، بخشيته من الله سبحانه وتعالى وتعلقه به.

    إخوتي الكرام! كما تقدم معنا أن علماءنا أثنوا عليه فيما يتعلق بديانته، وحفظه، وفقهه رضي الله عنه وأرضاه، وتقدم معنا أيضاً بيان طريقته في الفقه في الدين، وأما فيما يتعلق بعبادته لرب العالمين فله في ذلك مقام عظيم.

    إن عبادة الله جل وعلا والتدين لله جل وعلا ينبغي أن تقوم على أمرين اثنين:

    الأمر الأول: تعظيم لله، إخلاص له سبحانه وتعالى، تعلق به، إنابة إليه.

    ثانيهما: شفقة على الخلق، رحمة بهم، إحسان إليهم.

    بهذين الأمرين تحصل الديانة التامة في الإنسان، إذا عظم الرحمن، وأشفق على أهل الإيمان, إذا جمع بين هذين الركنين فقد تمت ديانته، وهو من أولياء الله الصالحين الطيبين، يعبد الله ويرحم عباد الله.

    وهذان الأمران وجدا في سيدنا أبي حنيفة النعمان على وجه التمام حسب ما في وسع الإنسان، فاستمعوا لتقرير ذلك.

    قيامه بالليل وقراءته للقرآن

    أما صلته بالله فهي قوية قوية، يكثر من ذكر الله، ومن التعبد له، ومن الخلوة به في جوف الليل، والليل يخلو فيه المحبون مع حبيبهم، مع ربهم سبحانه وتعالى، فسيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه كان يسمى -كما تقدم معنا- الوَتَد، لكثر قيامه لربه، وعبادته لخالقه سبحانه وتعالى، نعته بذلك أئمتنا، وكان يلقب بذلك بين سلفنا، كما ذكر ذلك العبد الصالح أبو عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد الشيباني، توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين، وحديثه في الكتب الستة، ثقة ثبت إمام مبارك، قال: كان أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه يسمى بالوتِد أو الوتَد.

    وقلت: هو واحد الأوتاد، وهو ما يدق في الأرض أو في الجدار، ثم تربط به دابة أو تربط به الخيمة ويمسك به الخيمة وتِد وتَد، فكان كأنه شيء ثابت في الأرض مغروس فيها من كثرة انتصابه لعبادة ربه سبحانه وتعالى، وكان -كما هو ثابت عن طريق التواتر في جميع الكتب التي ترجمت له- يختم القرآن الذي هو كلام الله كل ليلة من أوله لآخره، وأحياناً يختمه في ركعة واحدة.

    أما في شهر رمضان فكان يختم القرآن في الليل مرتين، وفي غير شهر رمضان يختم القرآن كل ليلة مرة، وواصل الصوم في آخر حياته بحيث لم يفطر مدة ثلاثين سنة في نهار إلا في الأيام التي أوجب الله فيها الفطر من العيدين، وأيام التشريق، وما عدا هذا سرد الصوم ثلاثين سنة متتابعة.

    وأما قيام الليل فكما تقدم معنا: أنه كان لا يتوسد يمينه، وما اكتحلت عيناه بنوم في ليل مدة أربعين سنة رضي الله عنه وأرضاه، وقد يقول قائل: يعني هل يستغني الإنسان عن النوم؟ نقول: لا، لكن كما تقدم معنا أنه كان ينام نومة خفيفة وإغفاءة يسيرة بعد الظهر وهي نومة القيلولة، والجسم إذا ما استكثر من الطعام فيكفيه قليل من المنام، وهذا كان حال الصالحين في قديم الزمان رضوان الله عليهم أجمعين.

    إذاً: كان رحمه الله أربعين سنة لم يتوسد يمينه في ليل، ثلاثين سنة لم يفطر في نهار، يختم القرآن كل ليلة، وفي ليل رمضان يختم ختمتين رضي الله عنه وأرضاه.

    ما ورد عن بعض الأئمة أنهم كانوا يختمون القرآن في الليلة مرات عديدة

    هذا الذي نُقل عن سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه، شاركه في ذلك عدد من الصالحين الكرام وأئمة الإسلام، فكانوا يختمون في الليل ختمة أو ختمتين أو أكثر، يذكر الإمام الصالح شيخ الإسلام الإمام النووي في التبيان، في صفحة ست وأربعين، عن العبد الصالح سُليم بن عِتر، وهو من التابعين الكرام من قضاة مصر، أدرك سيدنا عمر بن الخطاب وسمع له خطبة في الجابية عندما جاء لفتح بيت المقدس رضي الله عنهم وأرضاهم، وروى عنه وعمن بعده، وكان من القضاة الطيبين المباركين في بلاد مصر، وتوفي سنة خمس وسبعين للهجرة، فقد عاصر كبار الصحابة، سيدنا عمر فمن بعده رضي الله عنه وأرضاه.

    ينقل الإمام الدارقطني في ترجمته: أن سليم بن عتر كان يختم كل ليلة ثلاث ختمات, يقرأ القرآن ثلاث مرات في كل ليلة، وهذا كما قلت في كتاب الإمام الدارقطني ينقله عنه الإمام الذهبي في السير، في ترجمة العبد الصالح سليم بن عتر، في الجزء الرابع، وكان أيضاً يختم ثلاث ختمات، ويباشر أهله ثلاث مرات في كل ليلة، عقيب كل ختمة يتصل بأهله ويغتسل ويشرع في الختمة الثانية، فلما توفي رضي الله عنه وأرضاه قالت زوجته: رحمك الله، كنت ترضي ربك وأهلك!

    قال الإمام النووي شيخ الإسلام في التبيان: وأكثر ما بلغنا من ختم القرآن أربع ختمات بالليل، وأربع ختمات بالنهار، هذا أكثر شيء، كان بعض الصالحين يختم القرآن ثماني مرات، أربع ختمات بالليل وأربع ختمات بالنهار، نُقل هذا عن العبد الصالح ابن الكاتب ، وهو أبو علي الحسن بن أحمد بن الكاتب، توفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة للهجرة، انظروا ترجمته في الرسالة القُشيرية، صفحة ست وعشرين وأربعمائة، وفي صفة الصفوة في الجزء الرابع صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، والبداية والنهاية للإمام ابن كثير في الجزء الحادي عشر صفحة ثمان وعشرين ومائتين، ونقل هذا الكلام عن شيخ الإسلام الإمام النووي الإمام ابن حجر في فتح الباري، وأقره وارتضاه ولم يعترض عليه، وأنه كان يختم هذا العبد الصالح ثماني ختمات أربعاً بالليل وأربعاً بالنهار, انظروا الفتح الجزء السادس صفحة خمس وخمسين وأربعمائة.

    والإمام ابن الكاتب من العلماء الربانيين، من علماء القرن الرابع للهجرة، كان يقول: إذا سكن الخوفُ القلبَ لم ينطق اللسان بما لا يعنيه. عبد صالح رضي الله عنه وعن أئمتنا.

    سر ما ورد عن الإمام أبي حنيفة وغيره من أنهم كانوا يختمون القرآن مرات في اليوم

    وهذا الذي وقع لسيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يختم ختمتين في ليل رمضان، ولـسليم بن عتر أنه كان يختم ثلاث ختمات في الليالي على الدوام، وللإمام ابن الكاتب أنه يختم أربع ختمات في الليل وأربع ختمات في النهار, هذا الذي وقع -إخوتي الكرام- من باب الكرامة, وهي المباركة في الوقت ونشر الزمان كما يسميه علماؤنا الكرام.

    قال الحافظ ابن حجر في كتابه الخيرات الحسان صفحة ثلاث وخمسين: خُرقت لهم العادة. وإلا -إخوتي الكرام- ثمان ختمات في اليوم ليلاً ونهاراً، تحتاج في الختمة الواحدة إلى ست ساعات على أقل تقدير مهما كان الإسراع في القراءة، وعليه حتى تختم ثماني ختمات تحتاج ثماناً وأربعين ساعة، أي: يومين متواصلين، هذا لو لم يأكل ولم يشرب ولم يتحرك، فكيف يختم ثماني ختمات في اليوم؟ كما قال الحافظ ابن حجر : أنه خرقت العادة لهم في الحفظ، وفي سهولة القراءة، وفي اتساع الزمن، وذلك من باب الكرامات فلا يُعترض عليه.

    فهذه كرامة، والكرامة شيء خارق للعادة يجريه الله على يد العبد الصالح، من أجل بيان درجته ورفعة قدره عند ربه سبحانه وتعالى، كما أن المعجزة شيء يجريه الله على يد النبي على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، فهل جرت العادة أن إنساناً يخرج من بيته إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السموات العلى، ثم يعود إلى بيت المقدس، ويجتمع مع الأنبياء الذين زاد عددهم على مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، وكل واحد يلقي خطبة، بدءاً من أبينا آدم وانتهاء بنبينا خير خلق ربنا على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه, كل واحد منهم يلقي خطبة، وآخرهم نبينا عليه الصلاة والسلام، مائة وأربعة وعشرون ألف نبي يلقون خطبة، وبعد أن يلقي نبينا عليه الصلاة والسلام خطبته ويبين ما منَّ الله به عليه، يقول سيدنا جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: بهذا فَضَلَكم محمد. على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ثم يعود إلى بيته وفراشه لا زال دافئاً من جسده الشريف، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, هذا يجري في جزء من الليل, والعقل لا يكذب، لكن العادة لم تقع بذلك، فإذا خُرقت العادة فيقال: هذه معجزة، إذا كانت على يد نبي، وإذا كانت على يد صالح ولي تقي يقال لها كرامة.

    وقد تقدم معنا خوارق العادات بأقسامها الست: من الإرهاص، والمعجزة، والكرامة، والمعونة، والاستدراج، والإهانة، فهذه كلها خوارق للعادات.

    إذاً: هذه كرامة كما قال الحافظ ابن حجر، وعليه فلا يعترض على ذلك، نُشر له الزمان بحيث وقع فيه شيء كثير لا يمكن أن يقع إلا في زمان طويل، وأنت ليس بإمكانك هذا مهما عملت، إذاً هذه كرامة خارجة عن العادة لها حكم خاص بها، فلا تدخل فيما جرت به العادة، وما ينبغي أن يلتزم الإنسان به، وعليه فلا يعترض على فعلهم بما ثبت عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال: (لن يفقه مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث)، وفي رواية: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)، والحديث في المسند، والسنن الأربعة، وسنن الدارمي من رواية سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم وأرضاهم.

    فحذار حذار أن يسمع هذا الكلام بعض أهل الشطط والهذيان في هذه الأيام، ويقول: أبو حنيفة النعمان مبتدع، لأنه يختم كل ليلة، وفي رمضان يختم مرتين، وسليم بن عتر أشد بدعة منه، وأما ابن الكاتب فهذا على تعبير بعض الناس لا يصدق العقل ذلك، وهذا مستحيل! يا عبد الله! لا تخرف، شتان بين خارق العادة وخارق العقل, خارق العقل مستحيل لا يمكن أن يقع، وشرائع الله لا تأتي به، ولا يمكن أن يتعارض منقول مع معقول، وشرائع العزيز الغفور تأتي بما تحار به العقول لا بما تحيله العقول, فحقيقة هذه حيرة أن يختم مرة كل ليلة, يختم مرتين، يختم ثلاث مرات! ثم مع هذا النشاط يتصل بأهله أيضاً ثلاث مرات، طيب هذا الليل كم مقداره؟

    إنه يجري علي وعليك وعلى الخلق، لكن هذا استثني بأن خرقت العادة في حقه، صار هذا الليل كأنه أسبوع بالنسبة لهذا العبد المبارك الصالح رضي الله عنه وأرضاه، بُورك له في الوقت, وفي سرعة القراءة, وفي الحفظ.

    ومثل هذا أيضاً ما كان يتمتع به كثير من الأئمة من الحفظ الخارق، وهذا جرى لعدد من أئمتنا، كالإمام البخاري والإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، يحضر المجلس فيقال في المجلس مائة حديث بالأسانيد، وهو جالس لا يكتب، كما فعل الإمام الزهري عندما حضر الأئمة ومنهم الإمام مالك، ثم قال: هذا ما أتلوه عليكم وما أحد يكتب منكم سوف يضيع، قالوا: عندنا من يعيد لك ما ذكرته، قال: من الذي يعيد؟ أنا الآن رويت بضعاً وأربعين حديثاً، -كما سيأتينا في ترجمة سيدنا الإمام مالك وهو الإمام الثاني- من الذي يعيد؟ فقام الإمام مالك وكان صغيراً شاباً، فأعاد على الإمام الزهري الأحاديث التي رواها بالترتيب والأسانيد، فبهت الإمام الزهري وقال: ما كنت أظن أن أحداً يحفظ كحفظي. يقول: كنت أظن أن هذه موهبة من الله لي خاصة، ما كنت أظن أن أرى هذا الإمام في درجتي.

    حقيقة -إخوتي الكرام- هذا أمر خارق للعادة، يحفظ مائة حديث يسمعها في مجلس، نحن إذا حفظنا الحديث الواحد بعد تكراره عشر مرات هذه كرامة لنا، لكن المشكلة إذا راجعناه عشر مرات وما حفظناه هذه هي البلية، نسأل الله العافية.

    وقصة الإمام البخاري لما امتُحن في مائة حديث، والله -يا إخوتي الكرام- إنه لمن حق البخاري على أهل الإسلام الذين رأوه والذين حضروا هذه المناظرة وهذا الاستحضار العجيب والحفظ الغريب أن يلحسوه -لا أن يقبلوه- من رأسه إلى رجليه رضي الله عنه وأرضاه، مائة حديث تُعطى لعشرة، وتجعل أسانيد هذه الأحاديث لأحاديث أخرى، ويُتلاعب فيها، ثم يقوم الأول ويروي متوناً بعشرة أسانيد ليست لهذه المتون، فيورد عشرة أحاديث، ويقول البخاري عن الأول إلى العاشر: لا أعرفه لا أعرفه، أي: بهذا الإسناد، ويقوم الثاني ويورد العشرة الأخرى، وهكذا إلى أن اكتملت مائة حديث, الذين ما يعرفون القصة قالوا: سبحان الله! هذا الذي يقولون عنه أمير المؤمنين في الحديث، وجِهبذ المحدثين، مائة حديث عُرضت عليه ما عرف واحداً منها! والذين يعرفون القصة قالوا: حقيقة هذا هو الإمام المتثبت من حفظه، وهو وارث النبي عليه الصلاة والسلام، فبعد أن انتهى العشرة قال للأول: قم، أنت عشرة أحاديثك متونها كذا كما ذكرت وأسانيدها في العشرة الثانية التي أرادها ذاك، استمع، فأعاد أسانيد تلك المتون بأسانيد هذه المتون إلى مائة حديث على الترتيب، عشرة كل واحد يعيد إليه متونه بالأسانيد التي فُرقت على متون أخرى.

    يا إخوتي الكرام! أريد أن أعلم هل جرت العادة به؟ هل هو موجود في عرف البشر؟ أو هذه منحة إلهية ربانية اختص بها من شاء، والله جل وعلا يهب ما يشاء لمن يشاء، وهو واسع الفضل والمغفرة سبحانه وتعالى.

    فهذا -إخوتي الكرام- لابد من وعيه، فهذه كرامة، وإذا كانت كرامة صار لها حكم خاص، حكم استثنائي، لا تدخل تحت أحكامنا, نعم، أنا وأنت لو أردنا أن نقرأ القرآن في أقل من ثلاث فلن نفقهه؛ لأننا سنصل إلى درجة الهذرمة, فعشرة أجزاء إذا أردنا أن نقرأها قراءة متوسطة تحتاج منا إلى أربع ساعات، وإذا أردنا أن نقرأ ختمة بكاملها تحتاج إلى عشر ساعات، أو إلى هذرمة بحيث تتداخل الحروف مع بعضها، ولا يسمع ولا يعي الناس ما يقول.

    فأنا وأنت لنا حكم خاص، وهو في الذي أمرنا به نبينا خير الناس، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه بقوله: (لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)، أما ذاك فكما قلت: له ما يناسبه، نشر الله له الزمان، يقرأ قراءة مترسلة وبتأنٍ وتمهل يخشع له الحجر، كما كان أئمتنا يصفون قراءة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، لكن الزمان يبارك له بحيث ينتهي من الختمة وما طلع الفجر، وفي رمضان ينتهي من الختمتين وما طلع الفجر، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، هذا ما أشار إليه الحافظ ابن حجر في الخيرات الحسان.

    وهذه الكرامة في هذا الأمر ليست بأغرب ولا أعجب من الكرامة التي حصلت للبخاري وللإمام مالك ولغيرهما من أئمة الإسلام، من سيلان الأذهان، وهذا الحفظ العجيب الذي يحار فيه الإنسان.

    خشوع أبي حنيفة وبكاؤه عند قراءة القرآن

    إخوتي الكرام! هذا حال سيدنا أبي حنيفة النعمان، أربعين سنة ما توسد يمينه، ولا اكتحلت عيناه بنوم، أربعين سنة ما نام فيها في ليل، ويختم القرآن كل ليلة، وأحياناً بعد أن يختم يقف عند بعض الآيات -كما ورد في ترجمته عند عدد من الأئمة- يرددها إلى طلوع الفجر وهو يبكي, تمر بعض الآيات يكون لها إشارة خاصة، ودلالة قوية، تباشر قلبه، فيبكي ويخشع، ويعيدها، ويكررها، ويرددها حتى يطلع الفجر.

    وقد أورد أئمتنا في كتب التراجم من ذلك آيات كثيرة رددها سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه في كتب التراجم، سأقتصر على آيتين، كان أحياناً بعد الختمة يردد هذه الآية إلى طلوع الفجر:

    الآية الأولى: من سورة القمر: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]، كان يرددها بعض الليالي إلى طلوع الفجر، كما في عقود الجمان صفحة أربع وعشرين ومائتين، والخيرات الحسان صفحة إحدى وخمسين، وجزء مناقب سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه للإمام الذهبي صفحة ثلاث وعشرين، وغير ذلك، كان رحمه الله يقرأ: وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ * أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:41-45] فإذا وصل إلى هذه الآية يقف عندها ويكررها إلى أن يطلع الفجر: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]، لأنها تذكر ذلك اليوم، يوم يجعل الولدان شيباً، وقد تقدم معنا كلام سيدنا أبي علي الفضيل بن عياض : لو خُير بين أن يعيش كلباً وألا يبعث لاختار هذا؛ لأن هول البعث يقطع القلوب، إذا كان في ذلك اليوم العصيب الرهيب يفر الإنسان من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وترى كل أمة جاثية، أنبياء الله ورسله على نبينا وأنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه, كل واحد ينادي: نفسي نفسي، ويصل الأمر بنبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أنه يسأل نفسه ولا يسأل عن أمه مريم التي ولدته، عليها وعلى سائر الصديقين رضوان رب العالمين!

    لذلك كان يكرر هذه الآية ويبكي إلى أن يطلع الفجر رضي الله عنه وأرضاه، يحيي الليل بهذه الآية.

    آية ثانية من سورة الطور، وهذا أيضاً مذكور في الكتب المتقدمة، وهي قوله تعالى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27-28]، كان يقرأ كلام الله سبحانه وتعالى عما يحصله المؤمنون الصالحون في جنات النعيم بجوار الحي القيوم: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:17-26]، أي: خائفين وجلين، قلوبنا تتقطع، الواحد مع أهله يبكي ويخشع، يتذكرون الآخرة وحر النار.

    وهذا كان يجري مع سلفنا بكثرة، فهذا سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه كما في المستدرك بسند صحيح وغير ذلك، كان متكئاً في حجر زوجه، وزوجته تلاعبه وتداعبه وهو متكئ في حجرها، فيبكي فتبكي ببكائه، ويبكي أهل البيت لبكائهما، فيقول لها: ما الخبر علامَ تبكي؟ تقول: رأيتك بكيت فبكيت، وأنت ما الذي أبكاك؟ قال: تذكرت هذه الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، هو في حجر زوجته، تلاعبه ويلاعبها، وقلبه في الآخرة، عند ربه هل هو يعني في جنة أو في نار، يتذكر قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، هذه الذي يتذكرها يُخلع قلبه.

    وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:25-26]، والإشفاق: من شدة الخوف مع تعظيم للمخوف منه سبحانه وتعالى، إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26] فكانت النتيجة: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، فالله جل وعلا لا يجمع على عبده أمنين، ولا يجمع عليه خوفين، فإذا أمن هنا خاف هناك، وإذا خاف هنا أمن هناك، كان رحمه الله إذا وصل إلى هذه الآية: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] يكررها ويبكى رضي الله عنه وأرضاه.

    استحباب ترديد الآية للتدبر والخشوع وما ورد عن الأئمة في ذلك

    وهذا الذي كان يفعله سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، مستحب عندنا في شريعة ربنا، كما قرر ذلك الكرام البررة أئمتنا.

    قال شيخ الإسلام الإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن، صفحة سبع وستين: باب استحباب ترديد الآية للتدبر، يستحب للقارئ أن يردد الآية وأن يكررها ليتدبرها وليتعظ بها، ثم ذكر حديثاً عزاه إلى سنن النسائي وابن ماجه، وهو فيهما، لكن رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند، وابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن مردويه في تفسيره، والحديث إسناده صحيح كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، في الجزء الأول صفحة تسع وثمانين ومائتين، عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية يرددها: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118])، وفي بعض روايات الحديث: (قام عليه الصلاة والسلام بهذه الآية يرددها، يركع بها ويسجد) يعني: لا يقرأ غيرها، في كل ركعة يقرؤها ما شاء الله ثم يركع ويسجد، فإذا قام قرأها ما شاء الله، يردد هذه الآية نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام ليلة كاملة، فهذا مروي عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، واستحبه أئمتنا.

    وهذه الآية الثانية التي رددها سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، رددها جم غفير من سلفنا، منهم سيدتنا المباركة السيدة القانتة أسماء بنت خير الصديقين سيدنا أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها وعن سائر الصحابة والصديقين رضوان الله عليهم أجمعين.

    وأثرها رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد، والإمام ابن أبي شيبة في المصنف، والإمام ابن المنذر: أن أسماء رضي الله عنها وأرضاها قرأت هذه الآية الكريمة، فبدأت تعيدها، وتكررها، وتستعيذ بالله وتدعو: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، تعيد هذه الآية، وتكررها، فتستعيذ بالله من عذاب السموم، وتدعو الله جل وعلا أن ينجيها من النار وسخطه.

    وورد أيضاً عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة أخت سيدتنا أسماء رضي الله عنهم وأرضاهم، وأثرها رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في المصنف، والإمام ابن أبي حاتم في تفسيره والبيهقي في شعب الإيمان، وابن مردويه في التفسير، انظروا الأثر في الجزء السادس صفحة عشرين ومائة من الدر المنثور: أن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها عندما قرأت هذه الآية قالت: (اللهم من علينا وقنا عذاب السموم).

    ولذلك ذكر شيخ الإسلام الإمام النووي في التبيان: أن أمنا أسماء رددت هذه الآية، وأمنا الصديقة المباركة عائشة رضي الله عنهم أجمعين رددت هذه الآية، ونبينا عليه الصلاة والسلام ردد الآية المتقدمة من سورة المائدة، ولسيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين أسوة بمن سبقه من نبينا عليه الصلاة والسلام ومن بعده من صحابته الكرام الطيبين، رضوان الله عليهم أجمعين.

    وكان تلميذ سيدنا أبي حنيفة، وهو الإمام العظيم الذي أخذ عن إمام عظيم وأخذ عنه إمام عظيم، الفضيل بن عياض كان كثيراً ما يحيي ليله بهذه الآية، التي كان يقرؤها شيخه ويكررها في ليله: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27-28].

    روى الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، في الجزء الأول صفحة ست وثلاثين وثلاثمائة، والقصة في السير في الجزء الثامن صفحة ثلاثين وأربعمائة، في ترجمة سيدنا أبي علي الفضيل بن عياض، وتقدم معنا أنه توفي سنة سبع وثمانين ومائة، وحديثه في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه رضي الله عنه وأرضاه، وهو شيخ الإسلام وإمام الحرم المكي في ذلك الزمان رضي الله عنه وأرضاه.

    لما حج هارون الرشيد ومعه حاجبه الفضل بن الربيع، قال الفضل: وجد هارون الرشيد في بعض الليالي في قلبه قسوة، فقال لحاجبه الفضل بن الربيع : خذني إلى من يعظني في هذا الليل، وأَكْرِم بهذا الأمير والخليفة، الذي يجد قسوة في قلبه في الليل عند مناجاة ربه، يعني: قام ليناجي ربه، فرأى أن القلب متحجر، والعين لا تدمع، والقلب لا يخشع، فقال: لابد من موعظة، فقال لحاجبه: خذني إلى بعض الزهاد العباد الأولياء في هذا الليل ليعظوني لعله تعود إلى قلبي الحياة، هذا حال أمير المؤمنين في ذلك الزمان, فأخذه حاجبه الفضل بن الربيع إلى سيدنا الفضيل بن عياض، قال: لما اقتربا من بيته سمعاه يتلو هذه الآية ويبكي: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26-27] يكررها ويبكي يصلي بها، فانتظرا حتى أنهى ركعتين يصليهما ويكرر هذه الآية ما شاء الله، ثم يصلي ركعتين ويكررها، فانتظرا حتى سلم، وطرقا الباب، فقال: من؟ قال الفضل بن الربيع: أجب أمير المؤمنين، قال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ ظلام الليل، أريد أن أعبد رب العالمين، قال: أليس له عليك حق الطاعة؟ قال: بلى، قال: افتح الباب، ففتح الباب، وأطفأ السراج وتوارى في زاوية من زوايا الحجرة، فبحثا عنه فأول ما وقعت عليه يد هارون قبل الفضل بن الربيع، ويد الخلفاء كأيدينا في هذه الأيام، نحن الآن مثل الخلفاء والأمراء نسأل الله أن يتوب علينا، الأيدي ناعمة ما فيها تلك الخشونة التي في أيدي الزهاد والعباد، من كثرة الشحم واللحم والدهن، وما شاكل هذا, لما وقعت يد هارون على يد الفضيل بن عياض صاح، كأنه لدغه عقرب، وقال: أُوَّه، يا هارون ! يد ناعمة لو نجت من عذاب الله.

    قال الفضل بن الربيع: فقلت: الآن يصدر كلام نقي من قلب تقي من الفضيل بن عياض ويعظ هارون، فجلس بعد ذلك معه في هذه الحجرة، فبدأ يعظه وهارون يبكي، ولما انتهى من الموعظة وأراد أن يخرج قال له: هل عليك دين؟ قال: نعم، دين لربي، الويل لي إن سألني عنه يوم القيامة أو حاسبني عليه، قال: ما أسألك عن دين الله، أسألك عن دين العباد، هل عليك دين؟ الخليفة زارك وينبغي أن يكرمك ويقدم لك هدية، قال: ما أمرنا الله بهذا، أمرنا أن نعبده كما أمر، وأمرنا أن نصدقه كما أخبر، وقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57]، فالرزق من الله سيأتي لكل دابة، والعبادة أمر من الله ينبغي أن نقوم بها، فكيف أرفع حاجتي إليك وأنت مثلي؟ قال: لابد من جائزة وهدية، قال: ردها على من ظلمته, أنت عليك مظالم كثيرة، رد هذه الأموال على من ظلمته، فقال: يا أبا علي ما أزهدك! قال: أنت أزهد مني يا أمير المؤمنين، أنا زهدت في دنيا لا تسوى عند الله جناح بعوضة، وأنت زهدت في جنة عرضها السموات والأرض، بما تقوم به من ظلم، ولا تقف عند حدود الله جل وعلا، فازداد هارون في البكاء، فقال الفضل بن الربيع: أشفِق على أمير المؤمنين، قال: ويحكم! تقتلونه أنتم -أي في مساعدته على الباطل- ثم تقولون لي: أشفق عليه، فخرج هارون بعد ذلك ومعه حاجبه، فجاء أهل البيت لما سمعوا الكلام والصلة والهدية وألف دينار، فقالوا: نحن في حاجة وما عندنا في البيت خبز نأكله، هلا أخذت الصلة والهدية، قال: والله ما مثلي معكم إلا كمثل أناس كان عندهم جمل يثنون عليه، وينتفعون به، فلما كبر ذبحوه وأكلوا لحمه، وأنتم كذلك. يعني: طول حياتي أقدم لكم وأتعب، وفي النهاية ستدخلونني مداخل السوء, فلما سمع هارون وحاجبه هذا الكلام قال: لعله الآن يتغير قلبه ويرضى، فاستأذن ثانية، وجاء وكلمه وعرض عليه، قال: فأعرض عنه الفضيل بن عياض وما أجابه بشيء، ما أجابه بكلمة على الإطلاق.

    فجاءت امرأة من نساء البيت وقالت: يا هذان! آذيتما هذا الإنسان -تقصد أبا علي الفضيل بن عياض رضي الله عنه وأرضاه- اخرجا يعني: لا داعي للإلحاح والإحراج، فخرج هارون ومن معه، وهو أمير المؤمنين في ذلك الزمان.

    الشاهد: أن أبا علي الفضيل بن عياض كان يكرر في ظلام الليل هذه الآية: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27].

    يقول أبو علي الفضيل بن عياض رضي الله عنه وأرضاه: إذا قرِح القلب دمعت العين. يعني: إذا كان في القلب قرحة وهو مجروح فإن العين تدمع، والقلب إذا كان قاسياً لا جروح فيه ولا خشية فمن أين ستدمع العين؟ فالعين تدمع عندما يكون القلب فيه ما فيه من الليونة والجروح التي دائماً يتذكر بها غفلته ووقوفه بين يدي ربه سبحانه وتعالى.

    ملازمة الإمام أبي حنيفة للصمت

    إخوتي الكرام! كان هذا العبد الصالح، أعني سيدنا أبا حنيفة فقيه الملة وأفقه الأمة, كان يلازم الصمت، وهذه صفة من صفات أولياء الله، (ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليصمت) صمت سكوت لا يتكلم إلا فيما فيه فائدة.

    يروي شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر في كتابه الانتقاء، وهذا موجود في غير ذلك من الكتب التي ترجمت لهذا الإمام المبارك, انظروا الانتقاء صفحة إحدى وثلاثين ومائة، عن شريك بن عبد الله النخعي ، وهو إمام مبارك صدوق، تغير حفظه لما ولي القضاء، لما صار قاضياً صار في حفظه شيء من التقصير، وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع كما في تقريب التهذيب، توفي سنة سبع وسبعين ومائة، روى له البخاري تعليقاً ومسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة، قال شريك بن عبد الله: كان أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه طويل الصمت، دائم الفكر، قليل المجادلة.

    وفي بعض الكتب: قليل المجالسة، واجمع بينهما فلا يجادل ولا يجالس كثيراً إلا بمقدار، فيما ينفع أو ينتفع به، ينفع غيره أو ينتفع هو، وكما قيل:

    لقاء الناس ليس يفيد شيئاً سوى الهذيان من قيل وقال

    فأقلل من لقاء الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح حال

    قال: قليل المجادلة، قليل المجالسة، قليل المحادثة للناس، دقيق النظر في الفقه، لطيف الاستخراج في العلم، إن كان الطالب فقيراً أغناه، من مساعدته وصلته؛ لأنه كان يتَّجر وينفق على طلبة العلم، فإذا تعلم الطالب قال له: وصلت إلى الغنى الأكبر بمعرفة الحلال والحرام، يقول: ما يوجد أحد أغنى منك، الآن أنت خليفة النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    انكسار أبي حنيفة وتعظيمه لربه ومحاسبته لنفسه

    وبلغ من عبادته لربه وانكساره له ومحاسبته لنفسه، وانظروا لحال الفقهاء السابقين وانظروا لحالنا معشر الحمقى الطائشين في هذا الحين: يروي شيخ الإسلام الإمام الصيمري في كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه، والأثر في عقود الجمان صفحة ثمان وعشرين ومائتين، وفي غير ذلك من الكتب التي ترجمت لسيدنا أبي حنيفة النعمان، يروي هؤلاء كلهم: أن سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه كان إذا أشكلت عليه مسألة بُحثت مع الأصحاب فأشكل الاهتداء فيها إلى الصواب، أشكل عليهم فهمها وجوابها والتماس الحكم لها، إذا أشكل عليه مسألة يقول: ما أوتيتم إلا بذنب، أنا بيني وبين ربي ذنوب وفي عيوب، لأجل هذا ما وُفقنا للسداد والصواب، فيقف عن المباحثة ولا أحد يتكلم، فيكثر من الاستغفار، وللالتجاء للعزيز القهار، وأحياناً يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين فيستغفر فيهما كثيراً ويبكي، وقلَّ أن يفعل هذا إلا ويُفتح عليه، إما قبل الصلاة أو في الصلاة، إما قبل أن يصلي يستغفر وفُتح عليه، أو قام وتوضأ وهو في الصلاة فُتح عليه وجاء وقد عرف الجواب، فإذا فُتح عليه قال: الحمد لله لعله تِيب عليَّ، لعل الله تاب علي حتى علمنا وفقهنا وبصرنا وأرشدنا.

    نُقل هذا إلى الإمام العظيم الفضيل بن عياض رضي الله عنه وأرضاه، الذي أخذ عن الإمام العظيم أبي حنيفة، وأخذ عنه إمام عظيم الإمام الشافعي، فبكى، وقال: قلت ذنوبه فعرف من أين أُتي، وكثرت ذنوبنا فاسود قلبنا، فلا نتبصر ولا نهتدي. هذا لما أشكل عليه شيء عرف أنه يوجد في القلب شيء من الغبش، والثوب الأبيض أدنى شيء يظهر فيه، والمرآة الصافية يعكرها أدنى شيء من الشوائب، وهنا قلب منور، قلب أزهر، إذا وجد شائبة فإنه يتعكر، فإذا ما هُدي للسداد والصواب يقول هذا بذنوبي، قفوا، أنا الآن شيخ الحلقة وأديرها وما هدينا إلى الجواب في هذه المسألة، بيني وبين ربي تقصير، فلابد من المصالحة، فيستغفر الله ويلجأ إليه، وإذا ما حصل الفتح توضأ وصلى وقرع باب العليم الحكيم، فيفتح عليه في حال مناجاة لرب العالمين سبحانه وتعالى.

    هذا هو حال الصالحين إخوتي الكرام! علم، مع فقه، مع عبادة، مع زهد، مع محاسبة للنفس، والتجاء إلى الله جل وعلا.

    إخوتي الكرام! هذا له أثر عظيم، وهذا كان عند سائر أئمتنا، الأئمة الأربعة ومن قبلهم ومن بعدهم من أئمة الهدى، حسن صلتهم بالله هذا أمر مقطوع به، قبل علمهم وفقههم وبحثهم ونظرهم كانت هناك صلة قوية برب البرية سبحانه وتعالى، وهذا له أثر كبير، فإن الله يسددهم، فإذا كانوا أولياءه سيتولاهم رب العالمين سبحانه وتعالى.

    انظروا لهذا الكلام المحكم الذي يقوله تلميذ سيدنا أبي حنيفة وهو أبو يوسف رضي الله عنه وأرضاه، في حق قاضٍ عظيم مبارك من القضاة الذين يلي أمرهم الإمام أبو يوسف فهو قاضي القضاة.

    والخبر مروي في الجواهر المضية، في الجزء الثاني صفحة أربعين ومائة، ورُوي قريب منه في سير أعلام النبلاء في ترجمة هذا العبد الصالح الذي سأذكره، في الجزء التاسع صفحة اثنتين وعشرين، وهو حفص بن غياث ، من تلاميذ سيدنا أبي حنيفة الكبار، مثل أبي يوسف رضي الله عنهم وأرضاهم.

    كان أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه يقول لـحفص بن غياث: أنت وأصحابك مسارُّ قلبي. أي: أنتم تسرون قلبي، توفي سنة خمس وتسعين ومائة، بعد خمس وأربعين سنة من وفاة سيدنا أبي حنيفة، وحديثه في الكتب الستة، ثقة فقيه رضي الله عنه وأرضاه، قال أئمتنا في نعته: هو آخر القضاة في الكوفة، قال الإمام الذهبي: أي: آخر القضاة الأكابر، ما جاء بعده من هو في درجته رضي الله عنه وأرضاه.

    لما ولي القضاء يقول أئمتنا: ولي من قِبل هارون دون أن يعرض هذا على قاضي القضاة، على أبي يوسف ، فكأن أبا يوسف رضي الله عنه وأرضاه وجد في قلبه شيئاً، وقال: سأحصي على حفص النوادر، يعني الأقضية الغريبة التي سيقضي بها، فتركه يقضي فترة، ثم طلب منه أن يحضر السجلات التي يُسجل فيها القضاء، فتأمل أبو يوسف أقضيته من أولها لآخرها فبكى، ثم قال: حفص ونظراؤه يعانون مثل أبي يوسف. هؤلاء يقومون في الليل، لن يتخلى عنهم ربنا في النهار، من أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، حفص ونظراؤه يعانون بقيام الليل, أنا قلت: سأمسك عليه نوادر، هذا من أولياء الله.

    وكان كما في ترجمته في السير، قال: أحسب أن حفصاً أراد الله فوفقه الله، أراد بعلمه رب العالمين، فوفقه الله وسدده، وألهمه رشده، وجعل قضاءه سديداً صائباً، ما وجد عليه قاضي القضاة ملاحظة، لقد أراد وجه الله فسدده رب العالمين سبحانه وتعالى.

    إخوتي الكرام! ذكر أن هارون الرشيد دعاه ودعا وكيع بن الجراح ليوليهما القضاء، أما حفص فقَبِل، وقال: والله ما قبلت القضاء إلا بعد أن أُحلت لي الميتة -مضطر- وعليَّ من الديون ما عليَّ ولا يعلم بحالي إلا ربي، وكان يقول أيضاً مع ذلك: لأن يدخل الإنسان أصبعه في عينه فيقتلعها فيرمي بها، خير له من أن يكون قاضياً. يقول هذا وهو الذي يعاني بقيام الليل، وهو الصالح الذي يجهر بالحق رضي الله عنه وأرضاه، وأما وكيع فوضع أصبعه على عينه، وقال: يا أمير المؤمنين! والله ما أبصرت بها من سنة، وهو يقصد ما أبصر بأصبعه، وذلك ليتخلص، يعني كأنه يريد أن يقول: أنا لا أبصر الخصوم ولا أميز, قال: والله ما أبصرت بها من سنة، قال: اخرج، وأما هذا فاستدعاه لتولية القضاء فقبل، وكان يعتذر ويقول: لقد أحلت لي الميتة، فهجره من هجره من الصالحين؛ لأنه ولي القضاء بذلك الحين رضي الله عنه وأرضاه، وهو مع ذلك لم يتوله إلا للضرورة، ويسدد بقيامه بالليل، ويحكم بالحق، ومع ذلك هو يقول: إذا ابتعد الإنسان عن هذا الأمر فهو أسلم لدينه وأحسن لنفسه.

    وهكذا كان سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، كما كان أئمتنا يقولون: الفوائد تنزل في ظلام الليل، في جنح الليل..

    يا رجال الليل جدوا رب سوط لا يرد

    ما يقوم الليل إلا من له عزم وجد

    قد مضى الليل وولى وحبيبي قد تجلى

    إخوتي الكرام! هذا بعض تعظيمه لربه، وصلته بالله القوية، وهكذا أيضاً له شفقة على عباد الله وعلى الرعية، رضي الله عنه وأرضاه، وكما قلت: أن دين الله تعظيم لله، وشفقة على خلق الله.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755830143