إسلام ويب

مقدمة في الفقه - وزر المخلوقات في المخالفات [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من فعل المعصية والمخالفة الشرعية متأولاً في غير محل التأويل، أو لم يكن هو من أهل التأويل والاجتهاد؛ فإنه يأثم بفعله ذلك، ولا يعذره كونه متأولاً في ذلك، وذلك مثل المسائل المجمع عليها بين الأئمة، سواء على مشروعيتها كمشروعية إعفاء اللحية، أو على عدم مشروعيتها، فلا يحق لأحد أن يجتهد أو يتأول في القول بجواز حلق اللحية؛ لأنه لا يجوز التأويل والاجتهاد في مقابلة النص الشرعي.

    1.   

    الأحوال التي يأثم فيها صاحبها ولا يعذر إذا خرج من حكم الله وشرعه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا أرحم الراحمين. اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين. سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    إخوتي الكرام! كنا نتدارس أحوال الإنسان عندما ينحرف عن شرع ربنا الرحمن، وتقدم معنا قبل ذلك بيان الفروق بين شرع الخالق جل وعلا وشرع المخلوق، وقلت: إن ذلك يحتم علينا أن نأخذ بشرع ربنا وأن نبتعد بعد ذلك عن القوانين الوضيعة الوضعية، وهذا الأخذ -كما تقدم معنا- واجب حتمي لا مفر لنا منه، والإنسان إذا خرج عنه فله -كما تقدم- حالة من حالات ثلاث: إما أن يكون معذوراً، وإما أن يكون آثماً موزوراً، وإما أن يكون جاحداً مرتداً كفوراً.

    ولا يخرج أحوال الناس عندما ينحرفون عن شريعة رب الناس عن هذه الحالات الثلاث.

    والحالة الأولى إذا كنا من أهلها فهنيئاً لنا، والحالة الثانية إذا كنا من أصحابها فيرجى لنا الخير عند ربنا، وأما الحالة الثالثة فنستعيذ بالله منها ومن أهلها، ونسأل الله أن يحفظنا من الوقوع فيها، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    فالحالة الأولى: وهي أن يكون الإنسان معذوراً عندما ينحرف عن شرع ربنا الرحمن، فلا يصيب حكم الله، ولا يفعل ما أمر الله به، تقدم معنا أن له ثلاثة أحوال:

    أولها: أن يتأول فيما فيه مجال للتأويل، وهو من أهل التأويل، فأخطأ شرع الله الجليل، وأخطأ إصابة شرع الله الجليل، ففي هذه الحالة لا لوم عليه، ولا ذنب عليه، ولا معصية عليه، وهو معذور، وتقدم معنا أنه قد يوجه إليه اللوم أحياناً لوجود تقصير منه, لكن دون أن يكون عليه عقاب في العاجل أو في الآجل.

    الحالة الثانية: أن يكون جاهلاً بحكم الله، وهذا الجهل يشترط ألا يصاحبه إعراض عن شرع الله، ولا تقصير في تعلم دين الله، إنما -كما هو معلوم- لا يمكن لبشر أن يحيط بشرع الله جل وعلا، فطلب واجتهد وتعلم، لكن أخطأ بعد ذلك الفهم وما أصاب الحكم، فرحمة الله واسعة، يصحح له خطؤه ولا إثم عليه ولا ذنب.

    الحالة الثالثة: أن يُقسر وأن يكره على معصية الله عز وجل، ففي هذه الأحوال الثلاثة تقدم معنا أن الإنسان لا يقصد معصية الرحمن، والشارع قد عذره في هذه الأحوال الثلاثة، فلا إثم عليه، ولا ذنب عليه، ولا معصية عليه، وقد يوجه إليه اللوم أحياناً لوقوع تقصير منه في الجملة، والعلم عند الله جل وعلا.

    وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- تفصيل الكلام على هذه الأمور الثلاثة الحسان.

    عندنا الآن الحالة الثانية من أحوال من لم يحكم بما أنزل الرحمن، أو لم يحتكم إلى شريعة ذي الجلال والإكرام.

    الحالة الثانية: أن يكون الإنسان آثماً موزوراً، وقد يقصد المعصية في هذه الحالة، وقد لا يقصدها، لكن الشارع ما عذره، هناك لم يقصد المعصية قطعاً وجزماً لكن الشارع عذره، وسمح له في فعله، لكن هنا له حالتان: قد يقصد معصية الرحمن لكن دون استحلال لها كما سيأتينا، قصد المعصية وغلبته شهوته، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

    الحالة ثانية: ما قصد المعصية، فعل فعلاً لا يريد به معصية الله عز وجل، لكن الشارع ما أذن له في ذلك الفعل، ولا عذره فيه، ولا رخص له في فعله، فهو آثم موزور.

    هذه الحالة -الثانية- أيضاً لها ثلاث حالات:

    أن يتأول فيما ليس محلاً للتأويل أو ليس هو من أهل التأويل

    الحالة الأولى: أن يتأول الإنسان فيما ليس من محل التأويل، أو أن يكون هو ليس من أهل التأويل, حالة لا يصلح التأويل فيها فتأول، مُنع من التأويل فيها، وعليه إذا تأول فقد أخطأ وعصى الله عز وجل وإن لم يقصد المعصية، هو ما قصد المعصية لكنه ما رُخص له أن يتأول في هذا الجانب، ولا أن يجتهد، هنا يواجه أمراً واضحاً ينبغي أن يقف عنده، أو أن المسألة فيها مجال للتأويل لكنه ليس من أهل التأويل، فتطفل عليها، وأعمل رأيه فيها، فإن أصاب أو أخطأ عليه إثم عند الله عز وجل؛ لأنه ليس من أهل التأويل في هذه المسألة، مع أنه ما قصد المعصية، لكنه انحرف عن شرع الله في هذه الحالة واجتهد وتأول فيما ليس من محل التأويل، أو فيما هو من محل التأويل لكنه ليس من أهل التأويل.

    ما هي الدائرة التي لا يجوز أن نجتهد فيها، وليست هي من محل التأويل؟ هذا الشق الأول من هذه الحالة؟

    إخوتي الكرام! قلت مراراً: عندنا في ديننا مسائل عليها إجماع، ومسائل فيها افتراق، هذه عليها اتفاق وهذه فيها اختلاف وافتراق، فما أجمع عليه أئمتنا فليس من محل التأويل، ولا يجوز أن نبحث فيه ونعيد النظر، وأن نجتهد، وتقدم معنا مراراً: أن إجماع أئمتنا حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، فما فيه إجماع وقطع فالمسألة واضحة ظاهرة، لا يجوز بعد ذلك أن نجتهد فيها، وأنت في هذا الاجتهاد لا تعذر عند الله عز وجل، فعليك إثم وإن لم تقصد المعصية.

    الاجتهاد والتأويل في مسألة حلق اللحية وحكم إعفائها

    مثال ذلك إخوتي الكرام: كما سأل بعض الإخوة الكرام في الموعظة الماضية عن موضوع اللحية، وقال: يجتهد الآن بعض المشايخ فيها ويقولون: إنها ليست من الشرع، أي: ليست مطلوبة في شرع الله عز وجل، لمَ؟ قال: يؤولون ويقولون: هذه عادة فعلها نبينا عليه الصلاة والسلام على حسب عادة قومه، فكانوا يعفون لحاهم فأعفى النبي عليه الصلاة والسلام لحيته مجاراة لقومه، وعلى حسب عادة قومه، فهذا كان فاشياً بين العرب، وما وُجد فيهم من يحلق لحيته، لكن ليس لها منزلة في دين الله عز وجل.

    قلت: هذا التأويل مردود، ومن قاله فعليه إثم عند ربنا الودود سبحانه وتعالى، وليس هذا من مجال التأويل.

    وحقيقة إخوتي الكرام! هذه المسألة فاشية بين أهل الإسلام، فأريد أن أنبه على وضعها باختصار دون بحث في حكم اللحية، فليس هذا وقت البحث في هذه المسألة، لكن هل الاجتهاد في هذه المسألة مقبول؟ وهذه المسألة حولها تشويش كثير, ففي بلاد الشام عندنا الذي ينتشر عند العوام أن اللحية شعار علماء الإسلام, العالم ينبغي أن يكون له لحية، وهذا عُرف -مع أنه خاطئ- لكنه أحسن من عُرف بعض البلاد كما هو في مصر، فليس هناك لحية لا لعالم ولا لغيره، حتى شيوخ الأزهر الكبار إلا الذين يلتزمون بدين العزيز القهار، وهؤلاء لا يدخلون في هذه القاعدة لا في مصر ولا في بلاد الشام، فما أريد أن يفسر الكلام خطأً، يعني لا ينسحب هذا على كل أحد، لكن العُرف هناك أن شيوخ الأزهر يرون أن اللحية ليست مطلوبة في شرع الله عز وجل، بل أحياناً بعضهم يشتط ويقول: تركها في هذا الزمان أولى؛ لأن اللحية صارت عنواناً على المبتدعة والمتنطعين والإرهابيين وما شاكل هذا، فنحن لئلا نتهم بأننا من ذلك الصنف نحلقها ونمشي بعد ذلك مع الجماعة، ويد الله مع الجماعة.

    أما الصالح فيهم ممن يتأول في هذه المسألة -وهو زائغ ضال، آثم عند ذي العزة والجلال- فيقول: إنها سنة عادة، وهذا يقوله كثير من مشايخ الأزهر الكبار، ولذلك لو دخل الإنسان إلى الأزهر مثلاً إلى كلية الشريعة وأصول الدين، يرى عجباً! يرى الشيخ يدرس التفسير والحديث والتوحيد وليس في وجهه شعرة توحد الله جل وعلا, طيب أنت تدرس التوحيد، وتدرس الحديث، وتدرس التفسير، وأحياناً يأتي معك حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ( عشر من الفطرة: إعفاء اللحية ) وأنت في صباح هذا اليوم اعتديت على لحيتك, يقولون: هذه سنة عادة، يعني ليست مطلوبة في الشرع لا على سبيل الترغيب ولا على سبيل الجزم.

    ولذلك -إخوتي الكرام- لا بد من بيان هذا الأمر:

    إعفاء اللحية أمر مشروع بالإجماع

    أولاً: هذه المسألة -أعني إعفاء اللحية- محل إجماع بين أهل الإسلام أنها مشروعة في دين الرحمن، وأنها مطلوبة ومرغب فيها، ومُن اعتدى عليها فقد أثم وعصى الله عز وجل، هذا لابد من وعيه، ولا بد من نشر هذا الحكم؛ لأن كثيراً من الناس يفعل هذه المعصية دون أن يعلم أنه عاص.

    التقيت مرة ببعض إخواننا في بعض المساجد في مصر وهو يلبس خاتم ذهب، فبعد أن انتهينا من الصلاة قلت: يا عم، هذا حرام، قال: حرام! قلت: حرام، هذا لا يجوز أن يلبسه الرجال، قال: سبحان الله! أنا ما حجيت إلا بالعافية، يقول: ما حججت إلا بالعافية، يعني بالصعوبة والمشقة على حسب القرعة التي تجري هناك، ثم بعد ذلك أعصي الله عز وجل! فرمى الخاتم وطرحه، إخوتي الكرام! يعلم الله أنه طرح الخاتم في المسجد، فقلت له: خذه ينتفع به النساء أو بعه ولا حرج، لكن أنت لا تلبسه.

    يقول: كيف ألبس شيئاً حرمه الله، وأنا ما حججت إلا بمشقة وكلفة، ومع ذلك ألبس الحرام! إخوتي الكرام! هذا حقيقة لا يوجد من يعلمه، بل أحياناً يرى خطيب الجمعة يلبس خاتم الذهب، ويرى من يصلي الصلوات الخمس يلبس خاتم الذهب، وأنا رأيت رئيس قسم العقيدة -دع ما دونه- وصار بعد ذلك عميداً في كلية أصول الدين، لا لحية ولا شارب، ويلبس خاتم الذهب، وكان يدرس التوحيد في الدراسات العليا في مكة المكرمة صانها الله وشرفها، هذا أمر عجيب حقيقة! لا لحية ولا شارب ويلبس خاتم الذهب! هذا ما يفعله في الظاهر، لو رآه الإنسان في غير مجال عمله ماذا يعمل، لرأى أشد من ذلك، يعني كما قلت ليس عليه صفة من صفات طلبة العلم.

    فكما قلت: العُرف في بلاد الشام أن اللحية لطلبة العلم وعلماء الإسلام، أما هناك فحتى المشايخ لا يلتزمون باللحية، فهذا أمر حقيقة فظيع منكر، والحمد لله أن الشباب من فضل الله عادوا إلى رشدهم، ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا في جميع أحوالنا، واتبعوا نبيهم على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وما قلدوا بعد ذلك ولا اتبعوا مَن يضللونهم باسم دين الله عز وجل، ممن يُحسبون على أنهم دعاة في شريعة رب الأرض والسموات.

    إخوتي الكرام! كما قلت: هذا أمر مجمع عليه، ومن حلق اللحية فقد عصى، هذا لا خلاف فيه، فإذا جاء إنسان وأوَّل فنقول: أوَّلت فيما ليس من مجال التأويل، فتأويلك من الأباطيل، هذا إذا كان من أهل التأويل، أما إذا لم يكن من أهل التأويل كحالنا فجمع بين بليتين: خالف ما أجمع عليه أئمتنا، ثم هو في الأصل لا يحق له أن يدلي بدلوه في هذه المسألة.

    إخوتي الكرام! أهل التأويل قد ذهبوا مع جيلنا النبيل، وأما نحن فما لنا بعد ذلك إلا أن نأخذ بما قرره أئمتنا، وأما أن نأتي لنجتهد من جديد فهذا ضلال بعيد.

    نقل من المذهب الحنفي يدل على حرمة الأخذ من اللحية فيما دون القبضة

    استمع مثلاً لمذهب من المذاهب الأربعة، وهو أول المذاهب، مذهب السادة الحنفية رضوان الله عليهم أجمعين، يقولون، وسائر المذاهب كذلك، كما في رد المحتار على الدر المختار، وهذا القول موجود أيضاً في فتح القدير للـكمال بن الهمام أيضاً عليهم جميعاً رحمات ذي الجلال والإكرام، في رد المحتار في الجزء الثاني، صفحة سبع عشرة وأربعمائة، يقول: الأخذ من اللحية -انتبه- الأخذ من اللحية وهي دون القُبضة -هذا ما يتكلم الآن على الحلق يتكلم على التقصير- الأخذ من اللحية وهي دون القبضة -والقبضة أن تضع يدك إلى منتهى الذقن، وليس فوقه، فما كان داخل القبضة فهذه هي القبضة لا يجوز أخذ شيء منها، وما زاد هذا الذي يرخص الأخذ منه عند الحنفية، يقول: الأخذ من اللحية وهي دون القبضة -يعني إذا كانت أقل من قبضة- الأخذ منها وهي دون القبضة، كما يفعله بعض المغاربة، ومخنثة الرجال، فهذا حرام لم يبحه أحد. ما هو؟ الأخذ مما ودون القبضة، قال: وأخذ كلها هو فعل يهود الهند ومجوس الأعاجم، أما استئصالها فهذا فعل يهود الهند. وهذا في زمنهم حقيقة فما كان يفعل هذا حتى العرب، إنما يهود الهند ومجوس الأعاجم هم الذين يستأصلون، أما الذي وُجد في زمن التابعين وأتباع التابعين فهو شيء من التقصير دون القبضة، فبحثوا فيه فقالوا: حرام، كما يفعله بعض المغاربة، اذهب الآن للمغاربة نادراً ترى شيخاً في المغرب له لحية، نادراً ما ترى إمام مسجد له لحية، وليس له لا لحية ولا شارب، ترى الوجه مثل المرأة!! سبحان ربي العظيم!

    أمر عجيب حقيقة! تراه أيضاً خطيب جمعة، وإماماً ومفتياً وهو بهذه الحالة! فهذا الاستئصال هو فعل يهود الهند ومجوس الأعاجم، والأخذ منها دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال، فهذا حرام لم يبحه أحد، هذا الحرام الذي لم يبحه أحد صار هو لحية الدعاة الملتزمين في هذا الزمن، إذا كان داعياً ملتزماً لحيته بمقدار أنملة أو دون ذلك، هذا إذا كان يعني من الملتزمين، وأما إذا كان من المتحللين فنسأل الله العافية والسلامة.

    ويقول الإمام أبو شامة رفع الله مقامه, المتوفى سنة خمس وستين وستمائة، كما نقل ذلك عنه الحافظ في الفتح، في الجزء العاشر صفحة إحدى وخمسين ثلاثمائة، يقول: حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نُقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها ويقصرونها. يقول: وُجد في هذا القرن -وهو القرن السادس والسابع- من يحلق لحيته، يقول: وهذا أشد مما كان عند المجوس أنهم يقصرون، وسيأتينا أن المجوس كانوا يقصرون وما كانوا يستأصلون، لكن يوفرون الشوارب، يقول: حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نُقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها.

    والإمام أبو شامة صاحب كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، من الأئمة الصالحين، وهو صاحب المرشد الوجيز، وله شرح للشاطبية من أحسن شروحها, انظروا ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى، في الجزء الثامن صفحة خمس وستين ومائة، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

    إذاً: هذا الأمر متفق عليه، وليس هو من المسائل التي يجوز أن يُعمل أهل التأويل فيها رأيهم واجتهادهم ليتأولوا ويستنبطوا, هذه مسألة منتهية، وهي مشروعة، وهي من الواجبات على الرجال المؤمنين، ينبغي أن يُعفوا لحاهم، ويحرم عليهم أن يأخذوا شيئاً منها إذا كانت دون القبضة، وما زاد على ذلك اختلف أئمتنا فيه، وما اختلف فيه أئمتنا ففيه سعة، بعضهم يرى أن الأحسن الأخذ كما هو عند الحنفية، وبعضهم يرى أن الأحسن الإعفاء والترك، كما قرره شيخ الإسلام الإمام النووي في شرح صحيح مسلم .

    ونُقل الأخذ عن سيدنا عمر وعن ابنه وعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، كما في فتح الباري، في الجزء العاشر صفحة خمسين وثلاثمائة، فهذه مسألة مرخص فيها وفيها سعة، الأخذ مما زاد على القبضة، أما إذا كانت قبضة فلا يجوز أخذ شيء منها، ومن باب أولى لا يجوز استئصالها، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام كثَّ اللحية، فلنقتدِ به، فمن رزقه الله لحية كثة عظيمة فليحمد الله, فقد شابه خير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    الأدلة على وجوب إعفاء اللحية وقص الشارب

    ثبت في صحيح مسلم ، وانظروا الحديث في شرح الإمام النووي على صحيح مسلم ، في الجزء الخامس عشر صفحة سبع وتسعين، عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية ).

    وثبت في مسند الإمام أحمد عن سيدنا علي ، وفي سنن النسائي عن سيدنا البراء بن عازب رضي الله عنهم أجمعين قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كث اللحية )، إذاً: فلنقتدِ به، ولنا فيه أسوة حسنة عليه صلوات الله وسلامه.

    إخوتي الكرام! كما قلت هذه المسألة لا افتراق فيها ولا خلاف فيها، هي من مسائل الاتفاق، من مسائل الإجماع، فمن أدخل اجتهاده فيها ليتأول فقد ضل وعصى الله عز وجل.

    استمع لبعض الأحاديث التي وردت تأمرنا بإعفاء لحانا، عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: ثبت في مسند الإمام أحمد ، وموطأ الإمام مالك ، والحديث في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه ، وهو في أعلى درجات الصحة، ورواه البيهقي ، وهو في غير ذلك من دواوين السنة، عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، أن نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قال: ( أحفوا الشوارب ) والإحفاء: هو المبالغة في القص، أي: قصوها قصاً شبيهاً بالحلق، ( أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى )، من أعفى يعفي إعفاء، أعفوا بمعنى: اتركوا، ويقال: اعفوا بهمزة الوصل على أنه من عفا، بمعنى: كثر، أعفى: ترك، وعفا: كثر وزاد، أعفوا: اتركوا، اعفوا، أي: كثروا ووفروا، كما سأتينا في بعض الروايات، وضخموا لحاكم، فإذا كانت كثة فاتركوها كذلك، ولا تأخذوا منها شيئاً.

    والحديث -إخوتي الكرام- رواه الإمام مسلم في صحيحه، والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في معاجمه الثلاثة، والإمام ابن عدي في الكامل، عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( جزوا الشوارب، وأوفوا اللحى )، من الإيفاء وهي: أن تكون كاملة ليست منقوصة، هناك (أعفوا) وهنا (أوفوا) وقوله: (جزوا الشوارب)، الجز: هو القص الشديد المبالغ فيه.

    وفي رواية في صحيح مسلم: ( جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى )، والإرخاء: هو التطويل، أن تكون مسترخية طويلة تملأ الصدر إن كانت كذلك.

    وهذا الحديث رُوي عن عدة من الصحابة، وهو يصل إلى درجة الاستفاضة إن لم يتواتر، أما كون نبينا عليه الصلاة والسلام كان له لحية، والصحابة الكرام كذلك فهذا متواتر مقطوع به معلوم من الدين بالضرورة.

    هاتان روايتان لهذا الحديث، رواية سيدنا أبي هريرة وابن عمر أوليس كذلك، الرواية الثالثة: عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، في معجم الطبراني الأوسط، انظروها في المجمع في الجزء الخامس صفحة تسع وتسعين ومائة.

    والرواية الرابعة: عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه في مسند البزار ، ورواها الطحاوي في شرح معاني الآثار، وانظروها في المجمع في المكان المتقدم، وفي جمع الجوامع في الجزء الأول صفحة ست وعشرين، وثبت الحديث من رواية سيدنا أبي أمامة -وهي رواية خامسة- في مسند الإمام أحمد ، ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى، وثبت الحديث أيضاً من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، في كتاب الكامل للإمام ابن عدي ، كما في جمع الجوامع في الجزء الأول صفحة ست وعشرين.

    هذه ست ورايات عن ستة من الصحابة، فيها الأمر بإعفاء اللحية عن نبينا، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    إخوتي الكرام! هذه الأحاديث انتبهوا إلى ثلاثة أمور فيها:

    الأمر الأول: فيما يتعلق بلفظ الشارب، وردت ألفاظ الحديث على خمسة أنحاء بخمسة أشكال:

    أولها: أحفوا، من الإحفاء وهو القص الذي يشبه الحلق.

    والثانية: قصوا.

    والثالثة: جزوا.

    والرابعة: أنهكوا، من أنهك، أو: انهكوا من نهك، همزة وصل أو قطع، والإنهاك هو المبالغة أيضاً في القص.

    واللفظ الخامس: خذوا من الشوارب.

    وأما فيما يتعلق باللحية -وهو الأمر الثاني- فقد ورد أيضاً على خمسة أنحاء وأشكال:

    الأول: (أعفوا) كما تقدم معنا، من أعفا أو من عفا، أعفوا أو اعفوا، الثاني: (أرخوا) اللفظ الثالث (أرجئوا) ( جزوا الشوارب، وأرجئوا اللحى )، يعني: أخروها عن الجز وعن القص ولا تستعملوا فيها المقص ولا الموس، الرواية الرابعة (أوفوا) الرواية الخامسة (وفروا).

    وجوب مخالفة المشركين في حلق اللحية

    وأما الأمر الثالث الذي ينبغي أن ننتبه له فهو في المخالفة، فقد ورد في بعض الروايات: ( خالفوا المشركين )، وفي بعض الروايات: ( خالفوا أهل الشرك )، وفي رواية ثالثة: ( خالفوا المجوس )، وفي رواية رابعة: ( خالفوا أهل الكتاب )، وفي رواية خامسة: ( لا تشبهوا باليهود ولا النصارى )، ورواية أبي أمامة التي ذكرتها وقلت: إنها في المسند، ومعجم الطبراني الكبير، وفي السنن الكبرى للإمام البيهقي ، عن سيدنا أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلنا: ( يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم -جمع عثنون وهي اللحية- ويوفرون سبالهم ) جمع سبلة وهو الشارب، ويطلق السبلة أيضاً على الشعر الزائد، وقوله: (عثانينهم) جمع عثنون وهي اللحية، كما في النهاية في غريب الحديث في الجزء الثالث، صفحة ثلاث وثمانين ومائة، فكان أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم، وهكذا يفعل المجوس وأهل الشرك، ونحن نخالف هؤلاء قاطبة.

    وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( خالفوا أهل الكتاب، وفروا عثانينكم، وقصوا سبالكم )، والحديث إسناده صحيح مع الأحاديث المتقدمة، وقد أخبرنا نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أن إعفاء اللحية من الفطرة، من الجِبلة الطبيعية للإنسان، وهذا من دين ربنا الرحمن، إعفاء اللحية من الفطرة، وعليه: من اعتدى عليها فقد شذ وغيَّر خلقته، وأطاع عدوه في قوله كما أخبر الله عنه: (( وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ))[النساء:119]، هذا الشيطان الذي قال ذلك وتوعد العباد بأنهم سيطيعونه.

    ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ، والحديث في السنن الأربعة، وسنن الدارقطني ، والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، ورواه الإمام ابن خزيمة في صحيحه، والطحاوي في شرح معاني الآثار، والإمام أبو عوانة في مستخرجه في صحيحه، وإسناد الحديث صحيح، والحديث صحيح صحيح، فهو في صحيح مسلم ، من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم -جمع بُرجمة وهي عقد الأصابع من الخلف من ظهر اليد- ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء )، يعني: الاستنجاء، وهذا أطيب الطيب، أن يستنجي الإنسان بالماء، وأطيب الطيب الماء كما كان يقول العرب، أن تزيل الروائح الكريهة عنك، وأما بعد ذلك فإن وجدت بخوراً أو لم تجد فهذه نافلة، لكن الماء لا بد من أن تتعهد نفسك، وأما طيب مع روائح منتنة فلا ينفع ولا يؤثر، فإن أطيب الطيب الماء.

    قال مصعب بن شيبة -أحد رواة الحديث- ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة, يقول: لعلها المضمضة، وفيما يظهر أنها هي؛ لأنه ذكر الاستنشاق فالمضمضة إذاً من خصال الفطرة في الوضوء، وهكذا عندما ينظف الإنسان فمه ويتمضمض ويزيل الروائح الكريهة، فإن هذا من الفطرة.

    الشاهد من هذه الخصال العشر: هو إعفاء اللحية.

    وعليه إخوتي الكرام! فمن اجتهد في هذا الأمر فقد اجتهد فيما ليس من محل الاجتهاد، فاجتهاده ضلال وفساد، وليس هذا من التأويل، إنما هو من التخريف والأباطيل، وعليه فلا يعذر عند الله الجليل، فهو آثم وإن لم يقصد المعصية؛ لأن هذا ليس من محل الاجتهاد، فالمسألة -كما قلت- عليها الاتفاق.

    التهاون في إعفاء اللحية من قبل كثير ممن ينتسبون للعلم والدين

    وحقيقة -إخوتي الكرام- كثير من المسلمين -وأنا على علم قطعي بذلك- يفعلون هذه المعصية دون علم منهم أنها معصية، يرى أن هذه من شعار المسنين والقضاة والمشايخ الكبار، أما هو عامي يعمل في مزرعة هل يعفي لحيته، يقولون له: تمشيخت، صرت شيخاً وهو ليس بشيخ, وهذا من العرف الجاهلي الذي نعيشه، وحقيقة الناس يتبعون صنفين: يتبعون أمراءهم ويتبعون علماءهم، فإذا حلق هذان الصنفان لحاهم فإن الناس يقتدون بهذين الصنفين، وحلق الأمراء للحاهم يتبع حلق العلماء للحاهم، فهؤلاء هم الأصل الذين يمثلون الشريعة الغراء، وهم خلفوا نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قال عليه الصلاة والسلام: ( صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء )، وصلاح الأمراء وفسادهم بصلاح العلماء وفسادهم، هذا لابد من وعيه أيضاً، وإذا صلح العالم أصلح الله به العباد والبلاد، وإذا فسد فإن الفساد سيتوسع، يعني: عندما يرى الناس خطيب الجمعة يحلق لحيته، وإمام المسجد يحلق لحيته، ماذا سيقولون؟ سيقولون: المسألة ليست ضرورية.

    لما كنت في السعودية كان وزير الأوقاف السابق يحلق لحيته، فبعض المسئولين الكبار كنت معهم في زيارة كلمتهم، فقال لي: يا شيخ! وزير الأوقاف يحلق لحيته، وحقيقة ما كان له أن يحلق ولا شعرة في وجهه توحد رب العالمين سبحانه وتعالى، فقلت: يا عبد الله! ما رأيت إلا هذا الوزير تقتدي به في هذه المسألة، ما لك وله، أولاً عندنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، والصحابة الكرام، وبعد ذلك المذاهب الأربعة ما أحد رخص في ذلك، ثم عندك مشايخ البلاد ما أكثرهم، كل هؤلاء تعاميت عنهم وجئت فقط إلى وزير الأوقاف يحلق لحيته، ستحلق أنت أيضاً لحيتك! يا عبد الله! حقيقة هذا ضلال.

    لكن كما قلت صار مجال لأن يدخل الشيطان على قلوب العوام، يقول: إذا كان وزير الأوقاف يحلق لحيته فهذا الذي هو مسئول عن الشرع في هذه البلاد، إذاً هذه ليست من الدين، يعني غاية ما يقال: مباحة، إنها عادة من العادات الحسان، من فعلها أحسن وإلا فلا حرج عليه, هذا ضلال إخوتي الكرام، وكما قلت حقيقة هذا التأويل الذي هو من الخرافات والأباطيل انتشر عند كثير من الناس.

    كنت مرة في بعض المساجد في مصر في صلاة الظهر، فلما جاء الإمام ليصلي بنا إذا به يلبس بنطلون وقميص على آخر طراز كما يقال، ثم دخل إلى حجرة خاصة بجوار المنبر ولبس الجبة الواسعة، ووضع العمة، لكن لا يوجد لحية، على كل حال صلى بنا على هذه الحالة، فلما انتهينا وكنا مجموعة من الإخوة، قلنا له: إذا سمحت نريد نجلس بعد الصلاة دقائق نتحدث، فرحب بنا وفتح صدره، فقبل أن نبدأه بدأنا، يعني: قبل أن نبدأ نحن لنصحه بدأنا هو بزيغه، قال: أنتم لمَ تقصون شواربكم ما توفرونها؟ وله شارب مفتول ولا لحية له.

    قلنا: يا عبد الله! نحن جلسنا معك لنكلمك في أمر، وإذا بك فاتحتنا في نفس الأمر، أنت تعيب علينا قص الشارب, السنة أن نقص الشارب، قال: لا، هذه مُثلة، الذي يقص شاربه يعزر، قلنا: وحلق اللحية؟ قال: مفيهاش حاجة!! قلنا: كيف حلق اللحية ما فيها حاجة، وقص الشارب مُثلة؟! قال: هذه علامة الرجالة، الرجل له شارب، أما هذه اللحية أبداً، قلنا: يا عبد الله! رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي هو إمامنا أَمَا كان له لحية كثة؟ قال: نعم، لكن عادة قومه، وعادة قومنا الآن ما لهم لحى, اللحى هذه لا نطالب بها، لكن الشوارب هذه ضرورية؛ لأنها علامة الرجال، وجلسنا نبحث معه طويلاً ولكن لا فائدة.

    حتى قال لنا: أبداً اللحية ليست من الشرع، والذي يدخلها في الشرع هذا ضال، هذه عادة من العادات وتغير العرف، لكن الشارب هذا لا بد منه، الشارب علامة الرجال.

    فقلت لبعض الإخوة: يكفينا عند هذا الحد، ما في داعي للاسترسال أكثر من ذلك، وبعد ذلك هو إذا خرج سيعمل في مرقص أو في سينما، العلم عند الله جل وعلا، ما أحد يعلم، لكن ما في داعي أن نسترسل في البحث أكثر من هذا، ما دمنا نبحث معه في الأدلة وهو يقول: أبداً، هذه كانت في وقت في عرف وزال هذا العرف، وهو إمام مسجد كبير، وصلينا وراءه وهو بهذه الحالة، ثم بعد ذلك تركنا وذهب للحجرة وطرح الجبة والعمة وخرج بالسرعة، كما يقال: غربي.

    فحقيقة عندما يرى العوام هذا سيقتدون به على أنها ليست من الدين، ولذلك لا بد من نشر هذا، وكم من معصية في هذا الحين تفعل اقتداء بالعلماء، وطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه، والويل لمن إذا مات بقيت ذنوبه.

    كذلك موضوع التلفاز الذي انتشر في البيوت، الذي يبوء بإثمه في الأصل هم علماء السوء، الذين أدخلوا هذا أولاً إلى بيوتهم، وأمر آخر خرجوا فيه وهو الفتوى، فلما وُجد هذا الأمر الناس سيقتدون حتماً.

    وأخبرني بعض إخواننا من الإخوة الكرام الطيبين لما كنا في أبها لم يكن في بيته تلفاز, ولما بدأ يظهر هو في التلفاز يلقي مواعظ دينية، قال له أهله: نريد أن ننظر إليك ونستمع حديثك، هذا أقل شيء، لو كان حراماً فكيف تظهر فيه؟ يقول: يا عباد الله! أنا من أجل دعوة، قالوا: لا يمكن أبداً، أنت بين أمرين إما أن تقاطعهم وإما أن تشتري لنا هذا الجهاز لننظر إليك، وهم على صواب حقيقة، فاشترى بعد ذلك هذا الجهاز، هذا غير نساء الآخر الذي ذكرت سابقاً, اشترى هذا الجهاز وتورط فيه، من الذي أوقع العامة حقيقة؟ نحن، وإلا فهذا هو جهاز مفسدة، وما وُضع في بلاد المسلمين لنفعهم أبداً، إنما مصيدة، والمصيدة يوضع فيها قطعة جبن قطعة خيار من أجل أن تمسك العصفور، وأما إن لم تضع فيها شيئاً فلن يقترب منها العصفور، وعليه فعندما يظهر فيها شيء نافع، هذا هو مصيدة لما هو ضار.

    وقد تقدم معنا كلام الحسن بن صالح بن حي : الشيطان يفتح على الإنسان تسعة وتسعين باباً من الخير ليطيعه في باب من الشر.

    والتلفاز على العكس: تسعة وتسعون باب من الشر، وباب من الخير، ولو كان فيه تسعة وتسعون باباً من الخير لأغلقت بباب الشر الذي ستنظر إليه، فكيف والأمر بالعكس! وعليه فهو مصيدة، وهذا كله يفعله العوام تقليداً لنا.

    مسئولية العلماء والمصلحين في اقتداء الناس بهم

    فلذلك إخوتي الكرام! أنتم طلبة العلم اتقوا الله في أنفسكم، الذين توجهون الأمة، أولاً توجيه بالعمل، ثم بالقول، باستمرار، وبالتحذير، وهم حقيقة سوف يتوجهون، ويقولون: إذا كان حراماً فكيف نعصي الله؟ نحن نصلي ونذهب بعد ذلك ننظر إلى ما حرم الله، والله أمرنا أن نرعى أسرنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، كيف بعد ذلك نزج بهم في أتون الفساد ومحاربة رب العباد، في هذه الليالي الطويلة عندما يجلسون على هذه المسلسلات الخبيثة اللعينة الهزيلة.

    إخوتي الكرام! لا بد من وعي هذا الأمر، وهذا الأمر قد فشا حقيقة لفساد صنف من الناس، وهم من يحسبون على أنهم علماء ودعاة، عندما يقوم خطيب الجمعة ولحيته ما تمسك بملقط، فإن الناس بين أمرين: سوف يقولون إذا كان الخطيب لحيته ما تمسك بملقط فمن عداه لا حرج عليهم إذا حلقوها، وكما يقال: العالِم زلته يزل بها عالَم.

    يقول أئمتنا: إذا توسع العالم في المباحات توسع الناس في المكروهات، وإذا توسع العالم في المكروهات وفعلها وقع الناس والعامة في المحرمات، وإذا وقع العالم في الحرام كفر الناس، يعني دائماً هم سيتفلتون أكثر من تفلته، إذا كان هو سيقع في موبقة هم سيكفرون، وإذا وقع في صغيرة هم سيقعون في كبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    اللحية -كما قلت- البحث فيها ليس من مجال التأويل، وليس غرضي أن أبحث الآن في أدلة وجوبها وهيئتها, عقوبة حالقها إن كان في الدنيا وإن كان في الآخرة، هذا ليس هو بحثنا، إنما من باب التمثيل، ومن جاء واجتهد في هذه المسألة وإن لم يقصد المعصية فقد عصى شاء أم أبى؛ لأن هذه المسألة ليست من مسائل التأويل، هذه قطعية فلا دخل فيها لعقل أحد من البرية.

    إخوتي الكرام! حقيقة كما قلت: إن هذا الأمر من الفطرة، وقد كان قوم سيدنا الأحنف بن قيس ، وهو من المخضرمين وما رأي نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتوفي سنة سبع وستين وقيل سنة اثنتين وسبعين، وحديثه في الكتب الستة، وهو من أمراء جيوش سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين، انظروا ترجمته الطيبة في السير، في الجزء الرابع صفحة ست وثمانين، هو أحد من يُضرب بحلمه وسؤدده المثل، وهو الذي يقول الكلمة المأثورة المحكمة: عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين ثم يتكبر! خرج من أبيه، ثم خرج من أمه، يا عبد الله! بعد ذلك تتكبر! خرجت من مجرى البول مرتين وبعد ذلك تتكبر، اعرف قدرك.

    هذا الحليم الرزين الذي حلمه أثبت من الجبال الرواسي، لم يكن له لحية، كان كوسجاً، وسمي بـالأحنف واسمه الضحاك ؛ لأنه كان في ساقيه في رجليه حنف وهو ميل وتقوس إلى الداخل، ولذلك كانت أمه عندما تلاعبه في صغره تقول:

    والله لولا حنف برجله وقلة أخشى عليه من نسله

    ما كان في صبيانكم من مثله

    (من قلة نسله) قيل: كان له خصية واحدة رضي الله عنه وأرضاه، تقول: لولا قلة أخشاها في نسله أخشى ألا ينجب كما ينجب من له خصيتان، وهذا لا يضر في الإنجاب على الإطلاق، مرة كان بعض الأولاد عندي خصيته واحدة والثانية معلقة ما نزلت، دخلت إلى بعض الأطباء فقال لي: لا تقلق تنزل بعد فترة، وإذا ما نزلت تجرى له عملية أو يبقى كما هو طبيعي، ثم قال لي: إن هتلر زعيم العالم في زمنه كان عنده خصية واحدة، قلت: ما تعرفون إلا هتلر ؟ لمَ لا تقولون الأحنف بن قيس ؟ يعني: هتلر فقط الذي هو زعيم العالم هو الذي يُذكر في هذه المناسبة أن له خصية واحدة، لمَ لا تذكرون سيدنا الأحنف بن قيس ؟ نجهل أحوال أئمتنا، وأما ذاك فنحفظه على ألسنتنا، قال: لا تحزن، زعيم العالم كانت له خصية واحدة.

    على كل حال: هذا مثال للحالة الأولى فيما ليس هو من محل التأويل.

    عدم صحة التأويل إذا كان المتأول ليس من أهل التأويل

    الشق الثاني للحالة الأولى: إذا كانت المسألة من محل التأويل، وفيها مجال للتأويل، لكن المتأول ليس من أهل التأويل، ليس من أهل الاجتهاد، فلا يحق له أن يدلي بدلوه، وإذا تكلم في هذه المسألة فهو عاص لله جل وعلا.

    ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحديث رواه الطبري في تفسيره، والبغوي في معالم التنزيل، أي: في تفسيره وفي شرح السنة، وحسنه، وفي إسناده الإمام عبد الأعلى بن عامر الثعلبي ، صدوق يهم يخرج له أهل السنن الأربعة، وحديثه إن شاء الله في درجة الحسن، وقد تقدم معنا من حسنه من الترمذي والبغوي رضي الله عنهم أجمعين.

    ولفظ الحديث: عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار )، ليس هو بأهل لأن يتكلم، فتكلم وفسر وأدلى بدلوه، فهذا آثم أصاب أو أخطأ، فإن أخطأ حصل إثمين وعقوبتين، أخطأ الصواب، وخالف شرع الكريم الوهاب، ولا يحق له أن يجتهد، وإن أصاب فعليه إثم؛ لأنه أثم في اجتهاده وليس من أهل الاجتهاد وإن أصاب الحق؛ لأن هذه الإصابة ليست مقصودة، وإذا أصاب مرة سيخطئ مئات المرات.

    والحديث -إخوتي الكرام- أيضاً رواه الإمام أحمد بلفظ آخر في المسند، وهكذا الترمذي في السنن وحسنه، والبغوي في معالم التنزيل، والطبري في تفسيره أيضاً، عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين بلفظ، والحديث مرفوع إلى نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: ( من قال في القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار )، وفي رواية في المسند: ( من كذب في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار ).

    إذاً: هذه الحالة الأولى التي يأثم فيها الإنسان، وهي إذا كانت المسألة ليست من محل التأويل، أو أن الإنسان ليس من أهل التأويل.

    نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن ينفعنا بما سمعنا، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756248013